الكتاب: في ظلال القرآن
    المؤلف: سيد قطب إبراهيم حسين الشاربي (المتوفى: 1385هـ)
    الناشر: دار الشروق - بيروت- القاهرة
    الطبعة: السابعة عشر - 1412 هـ
    [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]

بطاقة الكتاب   ||   إخفاء التشكيل

أنعامهم لتشرب من الماء ووجد هناك امرأتين تمنعان غنمهما عن ورود الماء. والأولى عند ذوي المروءة والفطرة السليمة، أن تسقي المرأتان وتصدرا بأغنامهما أولا، وأن يفسح لهما الرجال ويعينوهما.
ولم يقعد موسى الهارب المطارد، المسافر المكدود، ليستريح، وهو يشهد هذا المنظر المنكر المخالف للمعروف.
بل تقدم للمرأتين يسألهما عن أمرهما الغريب:
«قالَ: ما خَطْبُكُما؟» .
«قالَتا: لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ» ..
فأطلعتاه على سبب انزوائهما وتأخرهما وذودهما لغنمهما عن الورود. إنه الضعف، فهما امرأتان وهؤلاء الرعاة رجال. وأبوهما شيخ كبير لا يقدر على الرعي ومجالدة الرجال! وثارت نخوة موسى- عليه السّلام- وفطرته السليمة. فتقدم لإقرار الأمر في نصابه. تقدم ليسقي للمرأتين أولا، كما ينبغي أن يفعل الرجال ذوو الشهامة. وهو غريب في أرض لا يعرفها، ولا سند له فيها ولا ظهير. وهو مكدود قادم من سفر طويل بلا زاد ولا استعداد. وهو مطارد، من خلفه اعداء لا يرحمون. ولكن هذا كله لا يقعد به عن تلبية دواعي المروءة والنجدة والمعروف، وإقرار الحق الطبيعي الذي تعرفه النفوس:
«فَسَقى لَهُما» ..
مما يشهد بنبل هذه النفس التي صنعت على عين الله. كما يشي بقوته التي ترهب حتى وهو في إعياء السفر الطويل. ولعلها قوة نفسه التي أوقعت في قلوب الرعاة رهبته أكثر من قوة جسمه. فإنما يتأثر الناس أكثر بقوة الأرواح والقلوب.
«ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ» ..
مما يشير إلى أن الأوان كان أوان قيظ وحر، وأن السفرة كانت في ذلك القيظ والحر.
«فَقالَ: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» ..
إنه يأوي إلى الظل المادي البليل بجسمه، ويأوى إلى الظل العريض الممدود. ظل الله الكريم المنان. بروحه وقلبه: «رب. إني لما أنزلت إلي من خير فقير» . رب إني في الهاجرة. رب إني فقير. رب إني وحيد. رب إني ضعيف. رب إني إلى فضلك ومنك وكرمك فقير محووج.
ونسمع من خلال التعبير رفرفة هذا القلب والتجاءه إلى الحمى الآمن، والركن الركين، والظل الظليل.
نسمع المناجاة القريبة والهمس الموحي، والانعطاف الرفيق، والاتصال العميق: «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» ..
وما نكاد نستغرق مع موسى- عليه السّلام- في مشهد المناجاة حتى يعجل السياق بمشهد الفرج، معقبا في التعبير بالفاء، كأنما السماء تسارع فتستجيب للقلب الضارع الغريب.
«فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ. قالَتْ: إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا» ..
يا فرج الله: ويا لقربه ويا لنداه! إنها دعوة الشيخ الكبير استجابة من السماء لدعوة موسى الفقير. دعوة للإيواء والكرامة والجزاء على الإحسان. دعوة تحملها: «إِحْداهُما» وقد جاءته «تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ» مشية الفتاة الطاهرة الفاضلة العفيفة النظيفة حين تلقى الرجال. «عَلَى اسْتِحْياءٍ» . في غير ما تبذل ولا تبرج ولا تبجح ولا إغواء. جاءته لتنهي إليه دعوة في أقصر لفظ وأخصره وأدله، يحكيه القرآن بقوله: «إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ

(5/2686)

الصفحة السابقة   ||   الصفحة التالية
بداية الكتاب    ||   محرك البحث