الكتاب: الديارات
    المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد، المعروف بالشابشتي (المتوفى: 388هـ)
    [الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع]

بطاقة الكتاب   ||   إخفاء التشكيل

دير درمالس
هذا الدير في رقة باب الشماسية ببغداد، قرب الدار التي بناها الديلمي أحمد بن بويه، بباب الشماسية. وموقعه أحسن موقع. وهو نزه كثير البساتين والأشجار. وبقربه أجمة قصب. وهو كبير، آهل برهبانه وقسانه والمتبتلين فيه. وهو من البقاع المعمورة بالقصف، والمقصود بالتنزه والشرب.
وأعياد النصارى ببغداد، مقسومة على ديارات معروفة، منها أعياد الصوم: فالأحد الأول منه: عيد دير العاصية، وهو على ميل من سمالو.
والأحد الثاني: دير الزريقية.
والأحد الثالث: دير الزندورد.
والأحد الرابع: دير درمالس هذا. وعيده أحسن عيد، يجتمع نصارى بغداد إليه، ولا يبقى أحد ممن يحب اللهو والخلاعة إلا تبعهم. ويقيم الناس فيه الأيام، ويطرقونه في غير الأعياد.
ولأبي عبد الله بن حمدون النديم، فيه:
يا دير درمالس ما أحسنك ... ويا غزال الدير ما أفتنك
لئن سكنت الدير يا سيدي ... فإنّ في جوف الحشا مسكنك
ويحك يا قلب، أما تنتهي ... عن شدة الوجد بمن أحزنك
ارفق به، بالله، يا سيدي ... فإنه من حينه مكّنك
وكان من خبر هذا الشعر، ما ذكره أحمد بن خالد الصريفيني، قال: كنا عند أبي عبد الله بن حمدون، في الوقت الذي نفاه فيه المتوكل. فتذاكرنا الديارات، وطيبها وحسنها في الأعياد، واجتماع الناس بها. فقال: قد، والله، شهيتني لحضور هذه المواضع، والتفرج فيها، والتسلي بها، فأي دير منها قد حضر عيده؟ قلت: دير درمالس، وغداً عيده! قال: فعلى بركة الله. فأعددت جميع ما يحتاج إليه ويصلح لمثله، وبكرنا إلى الدير، ونظرنا إلى اجتماع الناس وتعييدهم. وانصرف من انصرف، وأقمت معه في الدير ذلك اليوم ومن غده. وجلسنا منه مجلساً يشرف على تلك البساتين والمزارع. فشرب، وطابت نفسه وطرب، وحضره من أحداث الموضع من كان يقضي لنا الحاجة ويجيئنا بالطرفة والتحية. فشغف بهم، واستطاب وقته معهم، وقال الأبيات المتقدمة.
وكان سبب نفي المتوكل له، أن الفتح بن خاقان، كان يعشق شاهك، خادم المتوكل، واشتهر الأمر فيه حتى بلغه. وله فيه أشعار، منها:
أشاهك، ليلي مذ هجرت طويل ... وعيني دماً بعد الدموع تسيل
وبي منك، والرحمن، ما لا أطيقه ... وليس إلى شكوى إليك سبيل
أشاهك، لو يجزى المحبّ بودّه ... جزيت، ولكن الوفاء قليل
وكان أبو عبد الله، يسعى فيما يحبه الفتح، فعرف المتوكل الخبر، فاستدعى أبا عبد الله وقال له: إنما أردتك وأدنيتك لتنادمني، ليس لتقود على غلماني! فأنكر ذلك، وحلف يميناً حنث فيها، فطلق من كانت حرةً من نسائه، وأعتق من كانت مملوكة، ولزمه حج ثلاثين سنة، فكان يحج كل عام.
قال: فأمر المتوكل بنفيه إلى تكريت، فأقام بها أياماً. ثم جاءه زرافة في الليل على البريد، فبلغه ذلك، فظن أنه يعني المتوكل لما شرب بالليل وسكر، أمر بقتله، فاستسلم لأمر الله. فلما دخل عليه، قال: جئت في شيء ما كنت أحب أن أجيء في مثله! قال: وما هو؟ قال: أمر أمير المؤمنين بقطع أذنك! وقال: قل له: لست أعاملك إلا كما يعامل الفتيان! فرأى ذلك أسهل مما ظنه من القتل. فقطع غضروف أذنه من خارج، ولم يستقصه، وجعله في كافور معه، وانصرف. وبقي منفياً. ثم حدر أبو عبد الله إلى بغداد، إلى منزله. فأقام به مدة. قال أبو عبد الله: فلقيت إسحق بن إبراهيم الموصلي، بعدما كف بصره. فسألني عن أخبار الناس والسلطان. فأخبرته ثم شكوت إليه غمي بقطع أذني. فجعل يسليني ويعزيني، ثم قال لي: من المتقدم اليوم عند أمير المؤمنين والخاص من ندمائه؟ فقلت له: محمد بن عمر البازيار. فقال لي: ومن هذا الرجل؟ وما مقدار أدبه وعلمه؟ فقلت: أما أدبه، فلا أدري، ولكني أخبرك بما سمعت منه منذ قريب: حضرنا الدار يوم عقد المتوكل لأولاده الثلاثة، فدخل مروان بن أبي الجنوب بن أبي حفصة، فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
بيضاء في وجناتها ... وردٌ، فكيف لنا بشمه

(1/1)

الصفحة السابقة   ||   الصفحة التالية
بداية الكتاب    ||   محرك البحث