صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)

الصفحة السابقة   //   الصفحة التالية
 

الكتاب : العواصم من القواصم
المؤلف : القاضي أبو بكر العربي
الطبعة : الأولى
الناشر : وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية
تاريخ النشر : 1419هـ
عدد الصفحات : 288
عدد الأجزاء : 1
مصدر الكتاب : موقع الإسلام
http://www.al-islam.com
[ ضمن مجموعة كتب من موقع الإسلام ، ترقيمها غير مطابق للمطبوع ، وغالبها مذيلة بالحواشي ]

وقد روي أن عثمان جيء إليه بالأشتر ، فقال له : يريد القوم منك إما أن تخلع نفسك ، أو تقص منها ، أو يقتلوك! فقال : أما خلعي فلا أترك أمة محمد بعضها على بعض . وأما القصاص ، فصاحباي قبلي لم يقصا من أنفسهما ، ولا يحتمل ذلك بدني (1) .
وروي أن رجلا قال له : نذرت دمك . قال : خذ جبتي . فشرط فيها شرطة بالسيف أراق منه دمه ، ثم خرج الرجل وركب راحلته وانصرف في الحين (2) .
_________
(1) هذا الخبر في تاريخ الطبري (5 : 117 - 118) ، وفي البداية والنهاية (7 : 184) ، وفي أنساب الأشراف للبلاذري (5 : 92) .
(2) هذا الخبر في كتاب (التمهيد) للإمام أبي بكر الباقلاني ص 216 . وأعجب من ذلك ما رواه الطبري (5 : 137 - 138) أن عمير بن ضابئ البرجمي وكميل بن زياد النخعي حضرا إلى المدينة ليغتالا عثمان تنفيذا لقرار اتخذوه في الكوفة مع بقية عصابتهم ، فلما وصلا إلى المدينة نكل عمير ، وترصد كميل للخليفة حتى مر به ، فلما التقيا ارتاب منه عثمان ، ووجأ وجهه فوقع على استه ، فقال لعثمان : أوجعتنى يا أمير المؤمنين ، قال عثمان : أولست بفاتك؟! قال : لا والله الذي لا إله إلا هو . فاجتمع الناس وقالوا : نفتشه يا أمير المؤمنين فقال : لا . قد رزق الله العافية ، ولا أشتهي أن أطلع منه على غير ما قال . ثم قال لكميل : ((إن كان كما قلت فاقتد مني (وجثا) فوالله ما حسبتك إلا تريدني)) وقال : ((إن كنت صادقا فأجزل الله ، وإن كنت كاذبا فأذل الله)) وقعد له على قدميه وقال ((دونك!)) فقال كميل : ((تركت)) . أيها القارئ الكريم ، إن هذا الموقف ليس موقف خليفة فضلا عمن دونه ، بل هو موقف المتخلقين بأخلاق الأنبياء . على أن الله يمهل ولا يهمل . فقد جاء الحجاج بعد أربعين سنة فقتل ضابئا وقتل كميلا بما أراداه في هذا الحادث من الفتك برجل خلق قلبه من رحمة الله ، و(إن الله ليملي للظالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته) .

(1/111)


ولقد دخل عليه ابن عمر ، فقال [ له عثمان ] : انظر ما يقول هؤلاء ، يقولون : اخلع نفسك أو نقتلك ، قال له [ ابن عمر ] : أمخلد أنت في الدنيا؟ قال : لا ، قال : هل يزيدون على أن يقتلوك؟ قال : لا . قال : هل يملكون لك جنة أو نارا؟ قال : لا . قال : فلا تخلع قميص الله عنك ، فتكون سنة ، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه (1) .
_________
(1) أورد البلاذري هذا الخبر في أنساب الأشراف (5 : 76) من حديث نافع عن ابن عمر . وقبل أن يفتي ابن عمر لخليفته بذلك ويدعوه إلى هذه التضحية النبيلة كان عثمان على بينة من ذلك ونور من الله ، فقد أخرج ابن ماجه في مقدمة سننه (رقم 112 الباب 11 ج ص 41) من حديث النعمان بن بشير عن أم المؤمنين عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعثمان : ((يا عثمان إن ولاك الله هذا الأمر يوما فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي قمصك الله فلا تخلعه)) يقول ذلك ثلاث مرات . وفي مسند الإمام أحمد (ج 6 الطبعة الأولى : ص 75 و 86 و 114 و 149) حديث عائشة هذا بألفاظ مختلفة يرويه عنها ابن أختها عروة بن الزبير والنعمان بن بشير وغيرهما .

(1/112)


وقد أشرف عليهم عثمان ، واحتج عليهم بالحديث الصحيح في بنيان المسجد وحفر بئر رومة ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم حين رجف بهم أحد . وأقروا له به في أشياء ذكرها (1) .
وقد ثبت أن عثمان أشرف عليهم وقال : أفيكم ابنا محدوج ؟ أنشدكما الله ألستما تعلمان أن عمر قال : إن ربيعة فاجر أو غادر وإني والله لا أجعل فرائضهم وفرائض قوم جاءوا من مسيرة شهر ، وإنما مهر أحدهم عند طبيبه . وإني زدتهم في غزاة واحد خمسمائة ، حتى ألحقتهم بهم؟ قالوا : بلى .
قال : أذكركما الله ألستما تعلمان أنكما أتيتماني فقلتما ، إن كندة أكلة رأس ، وإن ربيعة هي الرأس ، وإن الأشعث بن قيس قد أكلهم فنزعه واستعملتكما؟ قالا : بلى .
قال ، اللهم إنهم كفروا معروفي ، وبدلوا نعمتي ، فلا ترضهم عن إمامهم ولا ترض إماما عنهم .
_________
(1) انظر في مسند الإمام أحمد (1 : 59 الطبعة الأولى رقم 420 الطبعة الثانية) حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن . وسنن النسائي (2 : 124 - 125) وجامع الترمذي (4 : 319 - 320) * وفي مسند أحمد (1 : 70 الطبعة الأولى رقم 511 الطبعة الثانية من حديث الأحنف بن قيس التميمي . وسنن النسائي مطولا ومختصرا (2 : 65 - 66 و 123 - 124) * وفي تاريخ الطبري (5 : 225) من حديث أبي سعيد مولى أبي سيد الأنصاري .

(1/113)


وقد روى عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : كنت مع عثمان في الدار فقال : أعزم على كل من رأى أن عليه سمعا وطاعة إلا كف يده وسلاحه (1) . ثم قال : قم يا ابن عمر - وعلى ابن عمر سيفه متقلدا - فأخبر به الناس (2) .
فخرج ابن عمر و[ الحسن بن ] علي . ودخلوا فقتلوه (3) .
_________
(1) الذي يدل عليه مجموع الأخبار عن موقف عثمان من أمر الدفاع عنه أو الاستسلام للأقدار ، هو أنه كان يكره الفتنة ، ويتقي الله في دماء المسلمين . إلا أنه صار في آخر الأمر يود لو كانت لديه قوة راجحة يهابها البغاة ، فيرتدعون عن بغيهم ، بلا حاجة إلى استعمال السلاح للوصول إلى هذه النتيجة . وقبل أن تبلغ الأمور مبلغها عرض عليه معاوية أن يرسل إليه قوة من جند الشام تكون رهن إشارته ، فأبى أن يضيق على أهل دار الهجرة بجند يساكنهم (الطبري 5 : 101) . وكان لا يظن أن الجرأة تبلغ بفريق من إخوانه المسلمين إلى أن يتكالبوا على دم أول مهاجر إلى الله في سبيل دينه . فلما تذاءب عليه البغاة واعتقد أن الدفاع عنه تسفك فيه الدماء جزافا ، عزم على كل من له عليهم سمع وطاعة أن يكفوا أيديهم وأسلحتهم عن مزالق العنف . والأخبار بذلك مستفيضة في مصدر أوليائه وشانئيه . على أنه لو ظهرت في الميدان قوة منظمة ذات هيبة تقف في وجوه البغاة ، وتضع حدا لغطرستهم ، لارتاح عثمان لذلك وسر به ، مع ما هو مطمئن إليه من أنه لن يموت إلا شهيدا .
(2) في البداية والنهاية (7 : 182) عن (مغازي ابن عقبة) أن ابن عمر لم يلبس سلاحه إلا يوم الدار في خلافة عثمان ، ويوم أراد نجدة الحروري أن يدخل المدينة مع الخوارج أيام عبد الله بن الزبير .
(3) في تاريخ الطبري (5 : 129) : كان آخر من خرج عبد الله بن الزبير أمره عثمان أن يصير إلى أبيه بوصيته التي كتبها استعدادا للموت ، أمره أن يأتي أهل الدار (أي المدافعين عنه في ساحة القصر) فيأمرهم بالانصراف إلى منازلهم . فخرج عبد الله بن الزبير آخرهم ، فما زال يدعى بها ويحدث الناس عن عثمان بآخر ما مات عليه ، وإنما أوصى عثمان إلى الزبير لأن الزبير كان محل الثقة من كبار الصحابة . روى الحافظ ابن عساكر (5 : 362) أن سبعة من الصحابة أوصوا به : عثمان وعبد الرحمن بن عوف ، وابن مسعود ، والمقداد ، ومطيع بن الأسود ، وأبو العاص بن الربيع ، فكان ينفق على أيتامهم من ماله ، ويحفظ لهم أموالهم .

(1/114)


وجاء زيد بن ثابت فقال له : إن هؤلاء الأنصار بالباب يقولون : إن شئت كنا أنصار الله [ مرتين ] . قال [ عثمان ] لا حاجة بي في ذلك، كفوا (1) .
وقال له أبو هريرة : اليوم طاب الضرب معك. قال : عزمت عليك لتخرجن (2) .
وكان الحسن بن علي آخر من خرج من عنده ، فإنه جاء الحسن والحسين وابن عمر وابن الزبير ومروان ، فعزم عليهم في وضع سلاحهم وخروجهم ، ولزوم بيوتهم .
فقال له ابن الزبير ومروان : نحن نعزم على أنفسنا لا نبرح . ففتح عثمان الباب ودخلوا عليه في أصح الأقوال (3) .
فقتله المرء الأسود (4) .
وقيل : أخذ ابن أبي بكر بلحيته ، وذبحه كنانة (5) ، وقيل : رجل من أهل مصر يقال له حمار (6) ، فسقطت قطرة من دمه على المصحف على قوله : { فسيكفيكهم } فإنها ما حكت إلى الآن .
_________
(1) أورده البلاذري في أنساب الأشراف (5 : 73) من حديث ابن سيرين ، وأخرج الحافظ ابن عساكر عن مؤرخ الصدر الأول موسى بن عقبة الأسدي (الذي قال فيه الإمام مالك : عليكم بمغازي ابن عقبة ، فإنه ثقة ، وهي أصح المغازي) أن أبا حبيبة الطائي (وهو ممن يروي عنهم أبو داود والنسائي والترمذي) قال : لما حصر عثمان جاء بنو عمرو بن عوف إلى الزبير فقالوا يا أبا عبد الله نحن نأتيك ثم نصير إلى ما تأمرنا به (أي من الدفاع عن أمير المؤمنين) قال أبو حبيبة : فأرسلنى الزبير إلى عثمان فقال : أقرئه السلام وقل ((يقول لك أخوك : إن بني عمرو بن عوف جاءوني ووعدوني أن يأتوني ثم يصيروا إلى ما أمرتهم به . فإن شئت أن آتيك فأكون رجلا من أهل الدار يصيبني ما يصيب أحدهم ، فعلت . وإن شئت انتظرت ميعاد بني عمرو فأدفع بهم عنك فعلت)) قال أبو حبيبة : فدخلت عليه - أي على عثمان - فوجدته على كرسي ذي ظهر ووجدت رياطا مطروحة ومراكن مغلوة ، ووجدت في الدار الحسن بن علي ، وابن عمر وأبا هريرة ، وسعيد بن العاص ، ومروان بن الحكم ، وعبد الله بن الزبير ، فأبلغت عثمان رسالة الزبير ، فقال : ((الله أكبر ، الحمد لله الذي عصم أخي . قل له : إنك إن تأت الدار تكن رجلا من المهاجرين ، حرمتك حرمة رجل ، وغناؤك غناء رجل . ولكن انتظر ميعاد بني عمرو بن عوف فعسى الله أن يدفع بك)) . قال : فقام أبو هريرة فقال : أيها الناس ، لقد سمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((تكون بعدي فتن وأحداث)) فقلت : وأين النجاء منها يا رسول الله؟ قال : ((الأمير وحزبه)) وأشار إلى عثمان . فقال القوم : ائذن لنا فلنقاتل ، فقد أمكنتنا البصائر . فقال [ عثمان ] : ((عزمت على أحد كانت لي عليه طاعة ألا يقاتل)) . قال: فبادر - أي سبق - الذين قتلوا عثمان ميعاد بني عمرو بن عوف فقتلوه (وانظر الخبر مختصرا في كتاب ((نسب قريش)) للزبيري ص 103) . وبنو عمرو بن عوف قبيلة كبيرة من الخزرج ، أحد فرعي الأنصار ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عند وصوله إلى المدينة مهاجرا من مكة نزل ضيفا عليهم ثلاثة أيام ثم انتقل إلى بني النجار .
(2) هذا الخبر في تاريخ الطبري (5 : 129) .
(3) أصل هذا الخبر في تاريخ الطبري (5 : 128) عن سيف بن عمر التميمي عن أشياخه .
(4) كذا في مطبوعة الجزائر . والذي في تاريخ الطبري (5 : 125) ((الموت الأسود)) ، والأصول التي طبع عليها تاريخ الطبري أصح من الأصول التي طبع عليها كتابنا في الجزائر ، ومن الثابت أن ابن سبأ كان من ثوار مصر عند مجيئهم من الفسطاط إلى المدينة (الطبري 5 : 103 - 104) وهو في كل الأدوار التي مثلها كان شديد الحرص على أن يعمل من وراء ستار ، فلعل ((الموت الأسود)) اسم مستعار له أراد أن يرمز به ليتمكن من مواصلة دسائسه لهدم الإسلام .
(5) هو كنانة بن بشر بن عتاب التجيبي قائد إحدى الفرق المصرية الأربع وكان قبل ذلك أحد الذين التفوا بعمار بن ياسر في الفسطاط ليجعلوه سبئيا ، وهو أول داخل إلى دار عثمان بالشعلة من النفط ليحرق باب الدار ، وهو الذي اخترط السيف ليضعه في بطن أمير المؤمنين ، فوقته زوجته نائلة فقطع يدها واتكأ بالسيف عليه في صدره ، وكانت عاقبة التجيبي القتل مخذولا في المعركة التي نشبت في مصر بين محمد بن أبي بكر وعمرو بن العاص سنة 38 . وقد تحرف ((كنانة)) في مطبوعة الجزائر برسم ((رومان)) ومطبوعة الجزائر كثيرة التحريف .
(6) لم أر هذا الاسم فيمن اجترءوا على ارتكاب الجريمة العظمى ، ولعل النساخ حرفوا اسم سودان بن ((حمران)) ، أو اسم عمرو بن ((الحمق)) .

(1/115)


وروي أن عائشة رضي الله عنها قالت : ((غضبت لكم من السوط ولا أغضب لعثمان من السيف!؟ استعتبتموه حتى إذا تركتموه كالقند المصفى ، ومصتموه موص الإناء ، وتركتموه كالثوب المنقى من الدنس ثم قتلتموه (1) .
قال مسروق (2) : فقلت لها : ((عملك ، كتبت إلى الناس تأمرينهم بالخروج عليه)) . فقالت عائشة : ((والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت إليهم سوادا في بياض)) . قال الأعمش : فكانوا يرون أنه كتب على لسانها (3) .
وقد روي أنه ما قتله أحد إلا أعلاج من أهل مصر .
قال القاضي أبو بكر (رحمه الله) : فهذا أشبه ما روي في الباب وبه يتبين - وأصل المسألة سلوك سبيل الحق - أن أحدا من الصحابة لم يسع عليه ، ولا قعد عنه . ولو استنصر ما غلب ألف أو أربعة آلاف غرباء عشرين ألفا بلديين أو أكثر من ذلك ، ولكنه ألقى بيده إلى المصيبة (4) .
_________
(1) قالت ذلك أول مرة عند وصولها إلى المدينة عائدة من الحج ، فاجتمع إليها الناس وخطبت فيهم خطبة بليغة وردت هذه الجملة في آخرها (الطبري 5 : 165 -166) . والموص : الغسل بالأصابع . والقند : عسل قصب السكر إذا جمد .
(2) هو من أئمة التابعين المقتدى بهم ، توفي سنة 63 . وهو الذي قال لعمار بالكوفة قبل يوم الجمل : يا أبا اليقظان علام قتلتم عثمان؟ قال : على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا. فقال مسروق : والله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به ، ولئن صبرتم لكان خيرا للصابرين (الطبري 5 : 187) .
(3) كما كتب على لسان علي ولسان عثمان .
(4) لأنه اختار بذلك أهون الشرين فآثر التضحية بنفسه على توسيع دائرة الفتنة وسفك دماء المسلمين ، وعثمان افتدى دماء أمته بدمه مختارا فما أحسن الكثيرون منا جزاءه ، وإن أوربا وأمريكا تعبدان بشرا بزعم الفداء ولم يكن فيه مختارا .

(1/116)


وقد اختلف العلماء فيمن نزل به مثلها : هل يلقي بيده ، أو يستنصر (1) ؟ وأجاز بعضهم أن يستسلم ويلقي بيده اقتداء بفعل عثمان وبتوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في الفتنة (2) .
قال القاضي أبو بكر (رحمه الله) : ولقد حكمت بين الناس فألزمتهم الصلاة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لم يك يرى في الأرض منكر ، واشتد الخطب على أهل الغصب ، وعظم على الفسقة الكرب ، فتألبوا وألبوا ، وثاروا إلي ، فاستسلمت لأمر الله ، وأمرت كل من حولي ألا يدفعوا عن داري ، وخرجت على السطوح بنفسي فعاثوا علي ، وأمسيت سليب الدار ، ولولا ما سبق من حسن المقدار لكنت قتيل الدار (3) .
_________
(1) من سياسة الإسلام أن يختار المرء في كل حالة أقلها شرا وأخفها ضررا ، فإذا كانت للخير قوة غالبة تقمع الشر وتضيق دائرته فالإسلام يهدي إلى قمع الشر بقوة الخير بلا تردد . وإن لم يكن للخير قوة غالبة تقمع الشر وتضيق دائرته - كما كانت الحال في موقف أمير المؤمنين عثمان من البغاة عليه - فمصلحة الإسلام في مثل ما جنح إليه عثمان أعلى الله مقامه في دار الخلود .
(2) وهو قوله صلى الله عليه وسلم على ما رواه الإمام البخاري في كتاب المناقب (ك 61 ب 25 - ج 4 ص 177) وفي كتاب الفتن (ك 92 ب 9 - ج 8 ص 92) من صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم ، والقائم فيها خير من الماشي ، والماشي فيها خير من الساعي . ومن يشرف لها تستشرفه ، ومن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به)) . وأعلن أبو موسى الأشعري في الكوفة قبل وقعة الجمل أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم (الطبري 5 : 188) .
(3) أشرنا إلى ظروف هذا الحادث في ترجمة المؤلف أول هذا الكتاب (ص 26) .

(1/117)


وكان الذي حملني على ذلك ثلاثة أمور : أحدها وصاية النبي صلى الله عليه وسلم المتقدمة (1) ، والثاني الاقتداء بعثمان ، الثالث سوء الأحدوثة التي فر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي (2) . فإن من غاب عني ، بل من حضر من الحسدة معي ، خفت أن يقول : إن الناس مشوا إليه مستغيثين به فأراق دماءهم .
وأمر عثمان كله سنة ماضية ، وسيرة راضية . فإنه تحقق أنه مقتول بخبر الصادق له بذلك ، وأنه بشره بالجنة على بلوى تصيبه ، وأنه شهيد (3) .
وروي أنه قال له في المنام : إن شئت نصرتك ، أو تفطر عندنا الليلة (4) .
_________
(1) وقد نقلناها آنفا من حديث أبي هريرة في صحيح البخاري ، ومن حديث أبي موسى في الكوفة قبل وقعة الجمل .
(2) وذلك لما قال ابن سلول في غزوة بني المصطلق ((إذا رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)) ، فأراد عمر أن يقتله فمنعه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ((لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)) .
(3) تقدم بيان ذلك في ص 55 و 56 .
(4) هذه الرواية لابن أبي الدنيا من حديث عبد الله بن سلام في البداية والنهاية (7 : 182 - 183) ، ومن طريق آخر عنه في أنساب الأشراف للبلاذري (5 : 82) وفي مسند أحمد (1 : 72 الطبعة الأولى ، رقم 526 الثانية) من حديث مسلم أبي سعيد مولى عثمان قال: إن عثمان أعتق عشرين مملوكا ، ودعا بسراويل فشدها عليه ولم يلبسها في جاهلية ولا إسلام ، وقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم البارحة في المنام ورأيت أبا بكر وعمر ، إنهم قالوا لي : ((اصبر ، فإنك تفطر عندنا القابلة)) . ثم دعا بمصحف فنشره بين يديه ، فقتل وهو بين يديه . وروى الإمام أحمد هذا الحديث عن نائلة زوجة عثمان (1 : 73 رقم 536) بقريب من هذا . وفي البداية والنهاية (7 : 182) من حديث أيوب السختياني عن نافع عن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، ومن طرق أخرى متعددة . وانظر تاريخ الطبري (5 : 125) .

(1/118)


وقد انتدبت المردة والجهلة إلى أن يقولوا : إن كل فاضل من الصحابة كان عليه مشاغبا مؤلبا ، وبما جرى عليه راضيا . واخترعوا كتابا فيه فصاحة وأمثال كتب عثمان به مستصرخا إلى علي . وذلك كله مصنوع ليوغروا قلوب المسلمين على السلف الماضين والخلفاء الراشدين (1) .
قال القاضي أبو بكر : فالذي ينخل من ذلك أن عثمان مظلوم ، محجوج بغير حجة (2) . وأن الصحابة برآء من دمه بأجمعهم ، لأنهم أتوا إرادته وسلموا له رايه في إسلام نفسه .
_________
(1) هذه الكتب المصنوعة والأخبار المبالغ فيها أو المكذوبة شحنت بها أسفار الأخبار وكتب الأدب . ولتمييز الحق فيها من الباطل طريقان : أحدهما طريق أهل الحديث في ألا يقبلوا إلا الأخبار المسندة إلى أشخاص بأسمائهم ثم يستعرضون أحوال هؤلاء الأشخاص فيقبلون من صادقهم ، ويضربون وجه الكذاب بكذبه . والطريق الثاني طريق علماء التاريخ وهو أن يعرضوا كل خبر على سجيا من يخبر عنه، ويقارنوه بسيرته، وهل هو ممن ينتظر وقوعه ممن نسب إليه ويلائم المعروف من سابقته وأخلاقه أم لا. وتمحيص تاريخنا يحتاج إلى هاتين الطريقتين معا يقوم بهما علماء راسخون فيهما .
(2) كما تبين في هذا الكتاب بأسانيده القاطعة وانظر كتاب (التمهيد) للإمام أبي بكر الباقلاني (ص 220 - 227) .

(1/119)


ولقد ثبت - زائدا إلى ما تقدم عنهم - أن عبد الله بن الزبير قال لعثمان : إنا معك في الدار عصابة مستبصرة ينصر الله بأقل منهم . فأذن لنا . فقال : أذكر الله رجلا أراق لي دمه (أو قال دما) (1) .
وقال سليط بن أبى سليط : نهانا عثمان عن قتالهم ، فلو أذن لنا لضربناهم حتى نخرجهم عن أقطارها (2) .
وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة : كنت مع عثمان في الدار فقال : أعزم على كل من رأى أن لي عليه سمعا وطاعة إلا كف يده وسلاحه ، فإن أفضلكم غناء من كف يده وسلاحه (3) .
وثبت أن الحسن والحسين وابن الزبير وابن عمر ومروان كلهم شاك في السلاح حتى دخلوا الدار ، فقال عثمان : أعزم عليكم لما رجعتم فوضعتم أسلحتكم ولزمتم بيوتكم (4) .
_________
(1) ولما بدأ حجاج بيت الله يعودون إلى المدينة كان أول المسرعين منهم المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي الصحابي ، فأدرك عثمان قبل أن يقتل ، وشهد المناوشة على باب دار عثمان ، فجلس على الباب من داخل وقال : ما عذرنا عند الله إن تركناك ونحن نستطيع ألا ندعهم حتى نموت . وكان أول من برز للبغاة المهاجمين وقاتل حتى قتل . وخرج معه لقتالهم الحسن بن علي بن أبي طالب وهو يقول في تسفيه عمل البغاة : لا دينهم ديني ولا أنا منهم حتى أسير إلى طمار شمام أي : إلى جبل أشم لا ينجو من سقط منه . وخرج معهما محمد بن طلحة بن عبيد الله - وكان يعرف بالسجاد لكثرة عبادته - وهو يقول : أنا ابن من حامى عليه بأحد ورد أحزابا على رغم معد انظر تاريخ الطبري (5 : 128 - 129) .
(2) رواه الحافظ ابن عبد البر في الاستيعاب (2 : 118 - 119 هامش الإصابة) من حديث ابن سيرين عن سليط . وأورده الحافظ ابن حجر مختصرا في الإصابة (2 : 72) .
(3) وفي تاريخ الطبري (5 : 127) أن عثمان دعا عبد الله بن عباس فقال له : اذهب فأنت على الموسم (أي على إمارة الحج) فقال ابن عباس : «والله يا أمير المؤمنين لجهاد هؤلاء أحب إلي من الحج» . فأقسم عليه لينطلقن ، فانطلق ابن عباس على الموسم تلك السنة .
(4) وفي البداية والنهاية (7 : 181) : كان الحصار مستمرا من أواخر ذي القعدة إلى يوم الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة . فلما كان قبل ذلك بيوم ، قال عثمان للذين عنده في الدار من المهاجرين والأنصار - وكانوا قريبا من سبعمائة ، فيهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين ومروان وأبو هريرة وخلق من مواليه ولو تركهم لمنعوه - : ((أقسم على من لي عليه حق أن يكف يده وأن ينطلق إلى منزله)) قال لرقيقه ((من أغمد سيفه فهو حر)) ، فبرد القتال من داخل ، وحمي من خارج . حتى كانت الساعة التي تم فيها للشيطان ما سعى له وتمناه فانتدب للخليفة رجل من البغاة فدخل عليه البيت فقال : اخلعها وندعك ، فقال : ((ويحك)) والله ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام ، ولا تغنيت ، ولا تمنيت ، ولا وضعت يميني على عورتي مذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولست خالعا قميصا كسانيه الله عز وجل . وأنا على مكاني حتى يكرم الله أهل السعادة ويهين أهل الشقاء (الطبري 5 : 130) . ويكفي لبيان ما كان لهذه الفاجعة الكبرى من الأثر في النفوس ما نقله البلاذري في أنساب الأشراف (5 : 103) عن المدائني عن سلمة بن عثمان عن علي بن زيد عن الحسن قال : دخل علي يوما على بناته وهن يمسحن عيونهن فقال : ما لكن تبكين؟ قلن : نبكي على عثمان . فبكى وقال : ابكين .....

(1/120)


فلما قضى الله من أمره ما قضى ، ومضى في قدره ما مضى ، علم أن الحق لا يترك الناس سدى ، وأن الخلق بعده مفتقرون إلى خليفة مفروض عليهم النظر فيه . ولم يكن بعد الثلاثة كالرابع قدرا وعلما وتقى ودينا ، فانعقدت له البيعة . ولولا الإسراع بعقد البيعة لعلي لجرى على من بها من الأوباش ما لا يرقع خرقه . ولكن عزم عليه المهاجرون والأنصار ، ورأى ذلك فرضا عليه ، فانقاد إليه (1) .
_________
(1) في تاريخ الطبري (5 : 155) عن سيف بن عمر التميمي عن أشياخه قالوا : بقيت المدينة بعد قتل عثمان خمسة أيام وأميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه : يأتي المصريون عليا فيختبئ منهم ويلوذ بحيطان المدينة (أي يختبئ في بساتينها) فإذا لقوه باعدهم وتبرأ من مقالتهم مرة بعد مرة . ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه . فأرسلوا إليه حيث هو رسلا فباعدهم وتبرأ من مقالتهم ... فبعثوا إلى سعد بن أبي وقاص وقالوا : إنك من أهل الشورى فرأينا فيك مجتمع . فأقدم نبايعك . فبعث إليهم : وإني وابن عمر خرجنا منها ، فلا حاجة لي فيها . ثم إنهم أتوا ابن عمر عبد الله فقالوا : أنت ابن عمر فقم بهذا الأمر . فقال : إن لهذا الأمر انتقاما ، والله لا أتعرض له فالتمسوا غيري . وأخرج الطبري (5 : 156) عن الشعبي قال : أتى الناس عليا وهو في سوق المدينة وقالوا له : ابسط يدك نبايعك . قال : لا تعجلوا ، فإن عمر كان رجلا مباركا ، وقد أوصى بها شورى ، فأمهلوا يجتمع الناس ويتشاورون . فارتد الناس عن علي . ثم قال بعضهم : إن رجع الناس إلى أمصارهم بقتل عثمان ولم يقم بعده قائم بهذا الأمر لم نأمن اختلاف الناس وفساد الأمة . فعادوا إلى علي ، فأخذ الأشتر بيده ، فقبضها علي . فقال : أبعد ثلاثة؟ أما والله لئن تركتها لتعصرن عينيك عليها حينا . فبايعته العامة . وأهل الكوفة يقولون : أول من بايعه الأشتر . وروى سيف عن أبي حارثة محرز العبشمي وعن أبي عثمان يزيد بن أسيد الغساني قالا : لما كان يوم الخميس -على رأس خمسة أيام من مقتل عثمان- جمعوا أهل المدينة ، فوجدوا سعدا والزبير خارجين ووجدوا طلحة في حائط له ... فلما اجتمع لهم أهل المدينة قال لهم أهل مصر : أنتم أهل الشورى وأنتم تعقدون الإمامة وأمركم عابر على الأمة ، فانظروا رجلا تنصبونه ونحن لكم تبع . فقال الجمهور : علي بن أبي طالب نحن به راضون .... فقال علي : دعوني والتمسوا غيري ... فقالوا : ننشدك الله ، ألا ترى الفتنة ، ألا تخاف الله؟ فقال : إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ، وإن تركتموني ، فإنما أنا كأحدكم ، إلا أني أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم ، ثم افترقوا على ذلك واتعدوا الغد (أي يوم الجمعة) : فلما أصبحوا من يوم الجمعة حضر الناس المسجد ، جاء علي حتى صعد المنبر فقال : ((يا أيها الناس عن ملأ وأذن . إن هذا أمركم ، ليس لأحد فيه حق إلا أن أمرتم . وقد افترقنا بالأمس على أمر . فإن شئتم قعدت لكم وإلا فلا أجد على أحد)) فقالوا ((نحن على ما فارقناك عليه بالأمس)) . وهذه الوقائع على بساطتها تدل على أن بيعة علي كانت كبيعة إخوانه من قبل جاءت على قدرها وفي إبانها ، وأنها مستمدة من رضا الأمة في حينها ، لا من وصية سابقة مزعومة ، أو رموز خيالية موهومة .

(1/121)


وعقد له البيعة طلحة ، فقال الناس : بايع عليا يد شلاء ، والله لا يتم هذا الأمر (1) .
فإن قيل : بايعا مكرهين (2) . قلنا : حاشا لله أن يكرها ، لهما ولمن بايعهما . ولو كانا مكرهين ما أثر ذلك ، لأن واحدا أو اثنين تنعقد البيعة بهما وتتم ، ومن بايع بعد ذلك فهو لازم له ، وهو مكره على ذلك شرعا . ولو لم يبايعا ما أثر ذلك فيهما ، ولا في بيعة الإمام (3) .
وأما من قال يد شلاء وأمر لا يتم ، فذلك ظن من القائل أن طلحة أول من بايع ، ولم يكن كذلك (4) .
فإن قيل : فقد قال طلحة : ((بايعت واللج على قفي )) (5) . قلنا : اخترع هذا الحديث من أراد أن يجعل في ((القفا)) لغة ((قفي)) كما يجعل في ((الهوى)) : ((هوي)) وتلك لغة هذيل لا قريش (6) فكانت كذبة لم تدبر .
وأما قولهم ((يد شلاء)) لو صح فلا متعلق لهم فيه ، فإن يدا شلت في وقاية رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم لها كل أمر ، ويتوقى بها من كل مكروه (7) . وقد تم الأمر على وجهه ، ونفذ القدر بعد ذلك على حكمه وجهل المبتدع ذلك فاخترع ما هو حجة عليه .
_________
(1) قائل هذه الكلمة حبيب بن ذؤيب . رواه الطبري (5 : 153) عن أبي المليح الهذلي .
(2) يعني طلحة والزبير .
(3) القاضي ابن العربي يقرر هنا الحكم الشرعي في عقد البيعة ، لا على أنه رأي له . وللإمام أبي بكر الباقلاني كلام سديد في (التمهيد) ص 231 . وانظر ص 167 - 169 من كتاب (الإمامة والمفاضلة) لابن حزم المدرج في الجزء الرابع من كتابه (الفصل) .
(4) وقد علمت أن أهل الكوفة يقولون إن الأشتر كان أول من بايع . ولو كانت يد طلحة هي الأولى في البيعة لكانت أعظم بركة ، لأنها يد دافعت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويد الأشتر لا تزال رطبة من دم إمامه الشهيد المبشر بالجنة .
(5) أي : والسيف على قفاي ، لحالة الإرهاب التي كانت سائدة على المدينة بعد مقتل أمير المؤمنين عثمان .
(6) بل هي أبعد عن لغة قريش من لهجة هذيل ، فقد قال ابن الأثير في النهاية (مادة لجج) أنها لغة طائية ، يشددون ياء المتكلم .
(7) كان طلحة من العصابة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت يوم أحد حين انهزم المسلمون ، فصبروا ولزموا . ورمى مالك بن زهير الجشمي بسهم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم - وكان لا يخطئ رميه - فاتقاه طلحة بيده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان ذلك سبب الشلل في يده من خنصره . وأقبل رجل من بني عامر يجر رمحا على فرس كميت أغر مدججا من الحديد يصيح : أنا أبو ذات الودع دلوني على محمد . فضرب طلحة عرقوب فرسه ، فاكتسعت . ثم تناول رمحه فلم يخطئ به عن حدقته ، فخار كما يخور الثور ، فما برح طلحة واضعا رجله على خده حتى مات . قالت بنتاه - عائشة وأم إسحاق - : جرح أبونا يوم أحد أربعا وعشرين جراحة في جميع جسده ، وقد غلبه الغشي ، وهو مع ذلك محتمل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كسرت رباعيتاه يرجع به القهقرى ، كلما أدركه أحد من المشركين قاتل دونه حتى أسنده إلى الشعب . فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا رأى طلحة : ((من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله)) رواه أبو نعيم الأصبهاني . وكان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال : ذاك يوم كان يوم طلحة . وسمع علي بن أبي طالب رجلا يقول بعد يوم الجمل : ومن طلحة؟ فزبره علي وقال : إنك لم تشهد يوم أحد ، لقد رأيته وإنه ليحترس بنفسه دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن السيوف لتغشاه وإن هو إلا جنة بنفسه لرسول الله صلى الله عليه وسلم . أخرج الحافظ ابن عساكر (7 : 78) من طريق ابن مندة عن طلحة قال : سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد (طلحة الخير) ، وفي غزوة العسرة (طلحة الفياض) ويوم حنين (طلحة الجود) .

(1/122)


فإن قيل : بايعوه على أن يقتل قتلة عثمان . قلنا : هذا لا يصح في شرط البيعة ، وإنما يبايعونه على الحكم بالحق ، وهو أن يحضر الطالب للدم ، ويحضر المطلوب ، وتقع الدعوى ، ويكون الجواب ، وتقوم البينة ، ويقع الحكم . فأما على الهجم عليه بما كان من قول مطلق ، أو فعل غير محقق ، أو سماع كلام ، فليس ذلك في دين الإسلام (1) .
قالت العثمانية : تخلف عنه من الصحابة جماعة ، منهم سعد بن أبي وقاص ، ومحمد بن مسلمة ، وابن عمر ، وأسامة بن زيد وسواهم من نظرائهم .
قلنا : أما بيعته فلم يتخلف عنها . وأما نصرته فتخلف عنها قوم منهم من ذكرتم ، لأنها كانت مسألة اجتهادية ، فاجتهد كل واحد وأعمل نظره وأصاب قدره (2) .
_________
(1) وانظر (التمهيد) للباقلاني ص 231 و 235 و 236 : وحقيقة موقف علي من قتلة عثمان عند البيعة له كانوا هم المسئولين على زمام الأمر في المدينة وفي حالة الإرهاب التي كانت سائدة يومئذ لم يكن في استطاعة علي ولا غيره أن يقف منهم مثل موقف الصحابة من عبيد الله بن عمر لما قتل الهرمزان . مع الفارق العظيم بين دم أمير المؤمنين الخليفة الراشد ، والأسير الحربي المجوسي الذي قال إنه أسلم بعد وقوعه في الأسر . ولما انتقل علي من المدينة إلى العراق ليكون على مقربة من الشام انتقل معه قتلة عثمان ولا سيما أهل البصرة والكوفة منهم ، فلما صاروا في بصرتهم وكوفتهم في معقل قوتهم وعنجهية قبائلهم ، ولا شك أن عليا أعلن البراءة منهم وأراد أن يتفق مع أصحاب الجمل على ما يمكن الاتفاق عليه في هذا الشأن ، فأنشب قتلة عثمان القتال بين معسكر علي ومعسكر أصحاب الجمل ، وتمكن أصحاب الجمل من قتل البصريين من قتلة عثمان إلا واحدا من بني سعد بن زيد مناة بن تميم حمته قبيلته ، فلما اتسعت الأمور وسفكت الدماء كان علي في موقف يحتاج فيه إلى بأس هؤلاء المعروفين بأنهم من قتلة عثمان وفي مقدمتهم الأشتر وأمثاله ، وأن كثيرين منهم انقلبوا على علي بعد ذلك وخرجوا عليه معتقدين كفره . ويقول علماء السنة والمؤرخون : إن الله كان بالمرصاد لقتلة عثمان ، فانتقم منهم بالقتل والنكال واحدا بعد واحد ، حتى الذين طال بهم العمر إلى زمن الحجاج كانت عاقبتهم سفك دمائهم جزاء بما قدمت أيديهم والله أعدل الحاكمين .
(2) وانظر (التمهيد) للباقلاني ص 233 - 234 .

(1/123)


قاصمة
روى قوم أن البيعة لما تمت لعلي استأذن طلحة والزبير عليا في الخروج إلى مكة (1) . فقال لهما علي : لعلكما تريدان البصرة والشام . فأقسما ألا يفعلا (2) .
وكانت عائشة بمكة (3) .
وهرب عبد الله بن عامر عامل عثمان على البصرة إلى مكة ، ويعلى بن أمية عامل عثمان على اليمن .
فاجتمعوا بمكة كلهم ، ومعهم مروان بن الحكم . واجتمعت بنو أمية ، وحرضوا على دم عثمان ، وأعطى يعلى لطلحة والزبير وعائشة أربعمائة ألف درهم ، وأعطى لعائشة ((عسكرا)) جملا اشتراه باليمن بمائتي دينار . فأرادوا الشام ، فصدهم ابن عامر وقال : لا ميعاد لكم بمعاوية ، ولي بالبصرة صنائع ، ولكن إليها .
_________
(1) وممن استأذنه في الخروج إلى مكة عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وسبب ذلك أن عليا لما تمت له البيعة عزم على قتال أهل الشام . وندب أهل المدينة إلى الخروج معه فأبوا عليه ، فطلب عبد الله بن عمر وحرضه على الخروج معه فقال : إنما أنا رجل من أهل المدينة إن خرجوا خرجت على السمع والطاعة ، لكن لا أخرج للقتال في هذا العام ، ثم تجهز ابن عمر وخرج إلى مكة (ابن كثير 7 : 230) وكان الحسن بن علي مخالفا لأبيه في أمر الخروج لمقاتلة أهل الشام ومفارقته المدينة كما ترى فيما بعد .
(2) قول علي لهما وقسمهما له من زيادات مرتكبي (القاصمة) ورواتها .
(3) ذهبت إليها وأمهات المؤمنين لما قطع البغاة الماء عن أمير المؤمنين عثمان وأخذ يستسقي الناس ، فجاءته أم حبيبة بالماء فأهانوها ، وضربوا وجه بغلتها ، وقطعوا حبل البغلة بالسيف (الطبري 5 : 127) ، فتجهز أمهات المؤمنين إلى الحج فرارا من الفتنة (ابن كثير 7 : 229) .

(1/124)


فجاءوا إلى ماء الحوأب (1) ، ونبحت كلابه ، فسألت عائشة فقيل لها : هذا ماء الحوأب . فردت خطامها عنه ، وذلك لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « أيتكن صاحبة الجمل الأدبب (2) ، التي تنبحها كلاب الحوأب؟ » فشهد طلحة والزبير أنه ليس هذا ماء الحوأب ، وخمسون رجلا إليهما (3) ، وكانت أول شهادة زور دارت في الإسلام (4) .
_________
(1) الحوأب من مياه العرب على طريق البصرة . قاله أبو الفتوح نصر بن عبد الرحمن الإسكندري فيما نقله عنه ياقوت في معجم البلدان . وقال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم : ماء قريب من البصرة ، على طريق مكة إليها . سمي بالحوأب بنت كلب بن وبرة القضاعية .
(2) الأدبب : الأدب (أظهر الإدغام لأجل السجعة) ، والأدب : كثير وبر الوجه . قاله ابن الأثير في النهاية .
(3) لم يشهدوا ، ولم تقل عائشة ، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم . وسنبين ذلك في موضعه من (العاصمة) ص 161 - 162 .
(4) شهادة الزور تصدر عن رعاع لا يخافون الله كأبي زينب وأبي المورع كما تقدم في ص 96 - 97 ، وتصدر عمن يزعم لنفسه أنه قادر على خلق شخصية لم يخلقها الله كالذي اخترع اسم ثابت مولى أم سلمة كما تقدم في ص 91 ، وأما طلحة والزبير - المشهور لهما بالجنة من نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى - فكانا أسمى أخلاقا وأكرم على أنفسهما وعلى الله من أن يشهدا الزور . وهذه الفرية عليهما من مبغضي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست أول فرية لهم في الإسلام ، ولا آخر ما يفترونه من الكذب عليه وعلى أهله .

(1/125)


وخرج علي إلى الكوفة (1) ، وتعسكر الفريقان والتقوا (2) ، وقال عمار - وقد دنا من هودج عائشة - : ما تطلبون؟ قالوا : نطلب دم عثمان .
قال : قتل الله في هذا اليوم الباغي والطالب بغير الحق (3) .
والتقى علي والزبير ، فقال له علي : أتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : « إنك تقاتلني » ؟ فتركه ورجع . وراجعه ولده ، فلم يقبل . وأتبعه الأحنف من قتله (4) .
ونادى علي طلحة من بعد : ما تطلب؟ قال : دم عثمان . قال : قاتل الله أولانا بدم عثمان . ألم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله » وأنت أول من بايعني ونكث (5) .
_________
(1) خرج من المدينة في آخر شهر ربيع الآخر سنة 36 ، ليكون على مقربة من الشام . وكان ابنه الحسن يود لو بقي والده بالمدينة فيتخذها دار خلافته كإخوانه الثلاثة قبله فلا يبرحها (الطبري 5 : 171 وانظر 5 : 163) وقد سلك علي من المدينة إلى العراق طريق الربذة وفيد والثعلبية والأساود وذي قار . ومن الربذة أرسل إلى الكوفة محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر فرجعا إليه وهو في ذي قار بأن أبا موسى وأهل الحجى من الكوفيين يرون القعود ، فأرسل الأشتر وابن عباس ، ثم أرسل ابنه الحسن وعمارا لاستمالة القوم إليه . وبينما هو في الطريق أنشب عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة القتال مع أصحاب الجمل . وفي الأساود جاءه خبر مصرع حكيم بن جبلة وقتلة عثمان . ثم جاء عثمان بن حنيف إلى علي وهو في الثعلبية منتوف اللحية ومغلوبا على أمره . وفي ذي قار أقام على معسكره ، ثم سار بمن معه إلى البصرة وفيها أصحاب الجمل .
(2) بعد وصول علي إلى ذي قار وقيام القعقاع بن عمرو بمساعي التفاهم تقدم علي بمن معه إلى البصرة فأسرع قتلة عثمان إلى إحباط مساعي الإصلاح بإنشاب القتال .
(3) كان الفريقان يطلبان التفاهم وجمع الكلمة ، أما الباغي فهم قتلة عثمان ، وقد قتلهم الله جميعا إلا واحدا منهم ، وسيأتي بيانه .
(4) الذي قتل الزبير عمير بن جرموز وفضالة بن حابس ونفيع التميمي . والأحنف أتقى لله من أن يأمرهم بقتله ، بل سمعوه يتذمر من قتال المسلمين بعضهم مع بعض فلحقوا بالزبير فقتلوه (الطبري 5 : 198) .
(5) كان طلحة أصدق إيمانا وأسمى أخلاقا من أن يبايع وينكث . وإنما كان يريد جمع الكلمة للنظر في أمر قتلة عثمان ، استجاب علي لهذه الدعوة كما سيأتي ص 156 ، ولكن الذين جنوا على الإسلام أول مرة بالبغي على عثمان كانوا أعداء الله مرة أخرى بإنشاب القتال بين هذين الفريقين من المسلمين .

(1/126)


عاصمة
أما خروجهم إلى البصرة فصحيح لا إشكال فيه .
ولكن لأي شيء خرجوا؟ لم يصح فيه نقل ، ولا يوثق فيه بأحد لأن الثقة لم ينقله ، وكلام المتعصب لا يسمع . وقد دخل على المتعصب من يريد الطعن في الإسلام واستنقاض الصحابة .
فيحتمل أنهم خرجوا خلعا لعلي لأمر ظهر لهم (1) ، وهو أنهم بايعوا لتسكين الثائرة ، وقاموا يطلبون الحق .
ويحتمل أنهم خرجوا ليتمكنوا من قتلة عثمان (2) .
ويمكن أنهم خرجوا في جمع طوائف المسلمين ، وضم نشرهم ، وردهم إلى قانون واحد حتى لا يضطربوا فيقتتلوا . وهذا هو الصحيح ، لا شيء سواه ، وبذلك وردت صحاح الأخبار .
فأما الأقسام الأولى فكلها باطلة وضعيفة :
أما بيعتهم كرها فباطل قد بيناه (3) .
وأما خلعهم فباطل ؛ لأن الخلع لا يكون إلا بنظر من الجميع ، فيمكن أن يولى واحد أو اثنان ، ولا يكون الخلع إلا بعد الإثبات والبيان (4) .
وأما خروجهم في أمر قتلة عثمان ، لأن الأصل قبله تأليف الكلمة ، ويمكن أن يجتمع الأمران (5) .
_________
(1) وهذا الاحتمال بعيد عن هؤلاء الأفاضل الصالحين ، ولم يقع منهم ما يدل عليه ، بل الحوادث كلها دلت علي نزاهتهم عنه . وإلى هذا ذهب الحافظ ابن حجر في فتح الباري (13 - 41 : 42) فنقل عن كتاب (أخبار البصرة) لعمر بن شبة قول المهلب : «إن أحدا لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا عليا في الخلافة ، ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة » .
(2) وهذا ما كانوا يذكرونه ، إلا أنهم يريدون أن يتفقوا مع علي على الطريقة التي يتوصلون بها إلي ذلك . وهذا ما كان يسعى به الصحابي المجاهد القعقاع بن عمرو ، ورضي به الطرفان كما سيأتي .
(3) في ص 143 - 144 .
(4) انظر (التمهيد) للباقلاني ص 211 - 212 وص 232 في موضوع الخلع .
(5) واجتماع الأمرين هو الذي كاد يقع ، لولا أن السبئيين أحبطوه . فأصحاب الجمل جاءوا في قتلة عثمان ، ولم يجيئوا إلا لذلك . إلا أنهم أرادوا أن يتفاهموا عليه مع علي ؛ لأن التفاهم معه أول الوسائل للوصول إلي ما جاءوا له .

(1/127)


ويروى أن في تغيبهم (1) قطع الشغب بين الناس . فخرج طلحة والزبير وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم رجاء أن يرجع الناس إلي أمهم فيرعوا حرمة نبيهم . واحتجوا عليها (2) بقول الله تعالي : { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } ، (النساء : 114) . وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم في الصلح وأرسل فيه . فرجت المثوبة ، واغتنمت القصة ، وخرجت حتى بلغت الأقضية مقاديرها .
وأحس بهم أهل البصرة ، فحرض من كان بها من المتألبين على عثمان الناس ، وقالوا : اخرجوا إليهم حتى تروا ما جاءوا إليه . فبعث عثمان بن حنيف حكيم بن جبلة (3) فلقي طلحة والزبير بالزابوقة ، فقتل حكيم (4) ، ولو خرج مسلما مستسلما لا مدافعا لما (5) أصابه شيء . وأي خير كان له في المدافعة ، وعن أي شيء كان يدافع؟ وهم ما جاءوا مقاتلين ولا ولاة ، وإنما جاءوا ساعين في الصلح ، راغبين في تأليف الكلمة ، فمن خرج إليهم ودافعهم وقاتلهم دافعوا عن مقصدهم ، كما يفعل في سائر الأسفار والمقاصد .
_________
(1) أي تغيب طلحة والزبير وعائشة عن المدينة .
(2) لما أقنعوها بالخروج إلى البصرة .
(3) عثمان بن حنيف أنصاري من الأوس ، كان عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أحد الشبان الأوسيين الخمسة عشر الذين انضموا إلي عبد عمرو بن صيفي عند خروجه إلى مكة مغاضبا النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان عبد عمرو يسمى في الجاهلية الراهب فسماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاسق (الطبري 3 : 16) . والظاهر أن عثمان بن حنيف عاد من مكة وأسلم قبل وقعة أحد لأنها أول مشاهده (الإصابة 2 : 459) وتزعم الشيعة أنه شاغب على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بكر الصديق في أول خلافته (تنقيح المقال للمامقاني 1 : 198) وأعتقد أن هذا من كذبهم عليه ، وقد تولى لعمر مساحة أرض العراق وضرب الجزية والخراج على أهلها ، فلو صح ما زعموه من شغبه على أبي بكر لتنافى هذا مع استعمال عمر له ، إلا أن يكون تاب . ولما بويع لعلي آخر سنة 35 واختار ولاته في بداية سنة 36 ولى عثمان بن حنيف على البصرة (الطبري 5 : 161) . ولما وصل أصحاب الجمل إلى الخفير على أربعة أميال من البصرة أرسل إليهم عثمان بن حنيف عمران بن حصين الخزاعي صاحب راية النبي صلى الله عليه وسلم على خزاعة يوم الفتح ليعلم له علمهم ، فلما عاد إليه وذكر له حديثه مع أصحاب الجمل قال له عثمان بن حنيف : أشر علي يا عمران . فقال له: إني قاعد فاقعد . فقال عثمان : بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين علي ، وأشار عليه هشام بن عامر الأنصاري - أحد الصحابة المجاهدين الفاتحين - بأن يسالمهم حتى يأتي أمر علي ، فأبى عثمان بن حنيف ونادى في الناس ، فلبسوا السلاح ، وأقبل عثمان على الكيد (الطبري 5 : 174 - 175) ، وكانت العاقبة فشله وخروج الأمر من يده إلي أيدي أصحاب الجمل . ووقع ابن حنيف في أسر الجماهير فنتفت لحيته ، ثم أنقذه أصحاب الجمل منهم فانسحب إلى معسكر علي في الثعلبية ثم في ذي قار . هذا هو عثمان بن حنيف وموقفه من أصحاب الجمل . أما حكيم بن جبلة فالقارئ يعلم أنه من قتلة أمير المؤمنين عثمان ، وقد تقدم التعريف به في (ص 115 - 116) .
(4) الزابوقة : موضع قريب من البصرة كانت فيه وقعة الجمل في دورها الأول بعد أن خطب طلحة والزبير وعائشة في المربد . أما مصرع حكيم بن جبلة فكان بعد المعارك الأولى التي انتهت بغلبة أصحاب الجمل واستيلائهم على الحكم في البصرة ، فتمرد حكيم بن جبلة على هذه الحالة الجديدة وقاتل مع ثلاثمائة من أعوانه حتى قتل .
(5) أي مقاتلا .

(1/128)


فلما واصلوا إلى البصرة تلقاهم الناس بأعلى المربد مجتمعين (1) ، حتى لو رمي حجر ما وقع إلا على رأس إنسان . فتكلم طلحة (وتكلم الزبير ) وتكلمت عائشة رضي الله عنهم (2) .
وكثر اللغط (3) وطلحة يقول ((أنصتوا!)) فجعلوا يركبونه ولا يتصنتون ، فقال ((أف ، أف . فراش نار ، وذباب طمع)) . وانقلبوا على غير بيان (4) .
وانحدروا إلى بني نهد ، فرماهم الناس بالحجارة حتى نزلوا الجبل (5) والتقى طلحة والزبير وعثمان بن حنيف - عامل علي على البصرة - وكتبوا بينهم أن يكفوا عن القتال ، ولعثمان دار الإمارة والمسجد وبيت المال ، وأن ينزل طلحة والزبير من البصرة حيث شاءا ، ولا يعرض بعضهم لبعض حتى يقدم علي (6) .
_________
(1) مربد البصرة : موضع كانت تقام فيه سوق الإبل خارج البلد ، ثم صارت تكون فيه مفاخرات الشعراء ومجالس الخطباء . ثم اتسع عمران البصرة فدخل المربد في العمران فكان من أجل شوارعها ، وسوقه من أجل أسواقها ، وصار محلة عظيمة سكنها الناس . ولما انحطت منزلة البصرة وهرم عمرانها تضاءلت فأمسى المربد بائنا عنها حتى كان بينه وبين البصرة في زمن ياقوت ثلاثة أميال ، والمربد خراب . كالبلدة المفردة في وسط البرية . وكان موضع البصرة يومئذ قريبا من موضع ضاحيتها الزبير في أيامنا هذه .
(2) كان أصحاب الجمل في ميمنة المربد ، وعثمان بن حنيف ومن معه في ميسرته ، وقد لخص الطبري (5 : 175) خطب طلحة والزبير وعائشة راويا ذلك عن سيف بن عمر التميمي عن شيوخه ، وهم أعرف الإخباريين بحوادث العراق .
(3) لأن الذين في الميسرة كانوا يقولون تعليقا على خطبتي طلحة والزبير : فجرا وغدرا ، وقالا الباطل ، وأمرا به . قد بايعا ثم جاءا يقولان ما يقولان . والذين كانوا في الميمنة يقولون : صدقا ، وبرا ، وقالا الحق ، وأمرا بالحق ، وتحاثى الناس وتحاصبوا وأرهجوا . إلا أنه لما انتهت عائشة من خطبتها ثبت الذين مع أصحاب الجمل على موالاتهم لهم ، وافترق أصحاب عثمان بن حنيف فرقتين فقالت فرقة : صدقت والله وبرت وجاءت بالمعروف ، وقال الآخرون : كذبتم ما نعرف ما تقولون . فتحاثوا وتحاصبوا وأرهجوا .
(4) لما رأت عائشة ما يفعل أنصار عثمان بن حنيف انحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقتين لابن حنيف حتى وقفوا في موضع آخر . ومال بعض الذين كانوا مع ابن حنيف إلى عائشة وبقي بعضهم مع عثمان بن حنيف (الطبري 5 : 175) .
(5) حفظ لنا الطبري (5 : 176 - 177) وصفا دقيقا نقله سيف بن عمر التميمي عن شيخيه محمد بن عبد الله بن سواد بن نويرة وطلحة بن الأعلم الحنفي عن الموقف السلمي لأصحاب الجمل في هذه الوقعة ، وإسراف حكيم بن جبلة في إنشاب القتال . قالا : وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا حتى انتهوا إلى مقبرة بني مازن ثم حجز الليل بين الفريقين . وفي اليوم التالي انتقل أصحاب الجمل إلى جهة دار الرزق ، وأصبح عثمان بن حنيف وحكيم بن جبلة فجددا القتال ، وكان حكيم يطيل لسانه بسب أم المؤمنين ، ويقتل من يلومه على ذلك من نساء ورجال ، ومنادي عائشة يدعو الناس إلى الكف عن القتال فيأبون ، حتى إذا مسهم الشر وعضهم نادوا أصحاب عائشة إلى الصلح .
(6) ونص كتاب الصلح في تاريخ الطبري (5 : 177) ولما بلغ عليا ما وقع كتب إلى عثمان بن حنيف يصفه بالعجز . وجمع طلحة والزبير الناس وقصدوا المسجد وانتظروا عثمان بن حنيف فأبطأ ولم يحضر ، ووقعت فتنة في المسجد من رعاع البصرة أتباع حكيم بن جبلة ، وكان لها رد فعل من أناس ذهبوا إلى عثمان بن حنيف ليحضروه فتوطأه الناس وانتفوا شعر وجهه ، أمرهم بذلك مجاشع بن مسعود السلمي زعيم هوازن وبني سليم والأعجاز من قبائل البصرة (الطبري 5 : 178) .

(1/129)


وروي أن حكيم بن جبلة عارضهم حينئذ . فقتل بعد الصلح (1) وقدم علي البصرة (2) ، وتدانوا ليتراءوا (3) ، فلم يتركهم أصحاب الأهواء ، وبادروا بإراقة الدماء . واشتجر الحرب ، وكثرت الغوغاء على البوغاء . كل ذلك حتى لا يقع برهان ، ولا يقف الحال على بيان ، ويخفى قتلة عثمان . وإن واحدا في الجيش يفسد تدبيره ، فكيف بألف؟! .
_________
(1) وبيان ذلك في تاريخ الطبري (5 : 179 - 182) وانظر كتابنا هذا ص 116 .
(2) فنزل مكانا منها يسمى الزاوية . وكان أصحاب الجمل نازلين مكانا منها يسمى الفرضة .
(3) عند موضع قصر عبيد الله بن زياد ، وكان ذلك يوم الخميس في النصف من جمادى الآخرة سنة 36 (الطبري 5 : 199) . وكان الصحابي الجليل القعقاع بن عمرو التميمي قد قام بين الفريقين بالوساطة الحكيمة المعقولة ، فاستجاب له أصحاب الجمل وأذعن علي لذلك ، وبعث علي إلى طلحة والزبير يقول : ((إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فننظر في هذا الأمر)) ، فأرسلا إليه : ((إنا على ما فارق عليه القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس)) . قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (7 : 239) : فاطمأنت النفوس وسكنت واجتمع كل فريق بأصحابه من الجيشين فلما أمسوا بعث علي عبد الله بن عباس إليهم ، وبعثوا محمد بن طلحة السجاد إلى علي وعولوا جميعا على الصلح ، وباتوا بخير ليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية . وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة باتوها قط ، قد أشرفوا على الهلكة . وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها ، حتى اجتمعوا على إنشاب الحرب في السر ، واستسروا بذلك خشية أن يفطن بما حاولوا من الشر . فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم جيرانهم ، وانسلوا إلى ذلك الأمر انسلالا (وانظر مع ذلك الموضع من تاريخ ابن كثير تاريخ الطبري 5 : 202 - 203 ومنهاج السنة 2 : 185 و 3 : 225 و 341 والمنتقى منه للذهبي 223 و 404) . وهكذا أنشبوا الحرب بين علي وأخويه الزبير وطلحة ، فظن أصحاب الجمل أن عليا غدر بهم وظن علي أن إخوانه غدروا به ، وكل منهم أتقى لله من أن يفعل ذلك في الجاهلية ، فكيف بعد أن بلغوا أعلى المنازل من أخلاق القرآن .

(1/130)


وقد روي أن مروان لما وقعت عينه في الاصطفاف على طلحة قال : لا نطلب أثرا بعد عين ، ورماه بسهم فقتله (1) . ومن يعلم هذا إلا علام الغيوب ، ولم ينقله ثبت .
وقد روي [ أنه ] أصابه سهم بأمر مروان ، لا أنه رماه (2) .
وقد خرج كعب بن سور بمصحف منشور بيده يناشد الناس أن يريقوا دماءهم (3) فأصابه سهم غرب فقتله (4) ، ولعل طلحة مثله ، ومعلوم أنه عند الفتنة وفي ملحمة القتال يتمكن أولو الإحن والحقود ، من حل العرى ونقض العهود . وكانت آجالا حضرت ، ومواعيد انتجزت (5) .
_________
(1) آفة الأخبار رواتها . وفي العلوم الإسلامية علاج آفة الكذب الخبيثة ، فإن كل راوي خبر يطالبه الإسلام بأن يعين مصدره على قاعدة «من أين لك هذا؟» . ولا تعرف أمة مثل هذه الدقة في المطالبة بمصادر الأخبار كما عرفه المسلمون ، ولا سيما أهل السنة منهم . وقد أشاد بهذه المزية لعلماء السنة الدكتور أسد رستم في كتابه (مصطلح التاريخ) . وهذا الخبر عن طلحة ومروان «لقيط» لا يعرف أبيه ولا صاحبه . وما دام لم ينقله ثبت بسند معروف عن رجال ثقات فإن للقاضي ابن العربي أن يقول بملء فيه . ومن يعلم هذا إلا علام الغيوب؟!.
(2) وهذا الزعم كالزعم السابق في ص150 عن الزبير أن الأحنف هو الآمر بقتله .
(3) كعب بن سور الأزدي أول قضاة المسلمين على البصرة ، ولاه أمير المؤمنين عمر . قال الحافظ ابن عبد البر : كان مسلما في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه لم يره .
(4) قال الحافظ ابن عساكر (7 : 85) في ترجمة طلحة : وقالت عائشة لكعب بن سور الأزدري : «خل يا كعب عن البعير ، وتقدم بكتاب الله فادعهم إليه ، ودفعت إليه مصحفا وأقبل القوم وأمامهم السبئية يخافون أن يجري الصلح ، فاستقبله كعب بالمصحف ، وعلي من خلفهم يزعهم ويأبون إلا إقداما . فلما دعاهم كعب رشقوه رشقا واحدا فقتلوه ثم راموا أم المؤمنين . . . فكان أول شيء أحدثته حين أبوا أن قالت : »يا أيها الناس ، العنوا قتلة عثمان وأشياعهم« وأقبلت تدعو ، وضج أهل البصرة بالدعاء . وسمع علي الدعاء فقال : ما هذه الضجة؟ فقالوا : عائشة تدعوا ويدعوا الناس معها على قتلة عثمان وأشياعهم . فأقبل علي يدعوا وهو يقول : »اللهم العن قتلة عثمان وأشياعهم« قلت : وهكذا اشترك صالحو الفريقين في لعن قتلة أمير المؤمنين الشهيد المظلوم في الساعة التي كان فيها قتلة عثمان ينشبون القتال بين صالحي المسلمين .
(5) نقل الحافظ ابن عساكر (7: 86-87) قول الشعبي: رأى علي بن أبي طالب طلحة ملقى في بعض الأودية، فنزل فمسح التراب عن وجهه ثم قال: «عزيزي علي أبا محمد أن أراك مجدلا في الأودية وتحت نجوم السماء. إلى الله أشكى عجري وبجري» (قال الأصمعي: أي سرائري وأحزاني التي تجول في جوفي). وقالت: «ليتني مت قبل هذا الموت بعشرين سنة». وقال أبو حبيبة مولى طلحة : دخلت أنا وعمران بن طلحة على علي بعد الجمل، فرحب بعمران وأدناه وقال: «إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك من الذين قال فيهم ( ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ) ، وكان الحارث الأعور (*) جالسا في ناحية فقال : »الله أعدل من أن نقتلهم ويكونوا إخواننا في الجنة«، فقال له علي: »قم إلى أبعد أرض الله وأسحقها، فمن هو ذا إن لم أكن أنا وطلحة في الجنة؟« وذكر محمد بن عبد الله أن عليا تناول دواة فحذف بها يريده بها فأخطأه. وقال له ابن الكواء (**) »الله أعدل من ذلك« فقام إليه علي بدرة فضربه وقال له »أنت- لا أم لك- وأصحابك تنكرون هذا؟!«. (*) هو الحارث بن عبد الله الهمداني الحوثي أبو زهير الكوفي الأعور أحد كبار الشيعة . قال عنه الشعبي وابن المديني : كذاب . قلت وإنما كان يدفعه إلى الكذاب تحزبه وتشيعه ، فالحزبية والتشيع والتصعيب المذهبي من مدارج الباطل ، والإسلام دين الاعتدال والإنصاف والصدق وأن تقول بالحق ولو على نفسك . (**) ابن الكواء: عبد الله بن أبي أوفى الشكري أحد القائمين بالفتنة على عثمان وبعد صفين والتحكيم كان على رأس الخوارج على علي. فلما حاجهم علي وابن عباس رجع إلى علي قبل وقعة النهروان.

(1/131)


فإن قيل : لم خرجت عائشة رضي الله عنها وقد قال صلى الله عليه وسلم لهن في حجة الوداع « هذه ثم ظهور الحصر » (1) . قلنا : حدث حديثين امرأة ، فإن أبت فأربعة . يا عقول النسوان ألم أعهد إليكم ألا ترووا أحاديث البهتان ، وقدمنا لكم على صحة خروج عائشة البرهان (2) ، فلم تقولون ما لا تعلمون؟ وتكررون ما وقع الانفصال عنه كأنكم لا تفهمون؟ { إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون } .
_________
(1) في مسند أحمد (2 : 446 الطبعة الأولى) من حديث صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حج بنسائه قال ((إنما هي هذه الحجة ثم الزمن ظهور الحصر)) . وفيه (5 : 218 الطبعة الأولى) من حديث واقد بن أبي واقد الليثي عن أبيه أنه صلى الله عليه وسلم قال لنسائه في حجته ((هذه ثم ظهور الحصر)) ، وحديث أبي واقد في باب فرض الحج من كتاب المناسك بسنن أبي داود (ك 11 ب 1) . والحصر جمع حصير ، أي لزوم المنزل . ونقله الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (5 : 215) على أنه إشارة نبوية إلى أنه صلى الله عليه وسلم ينعى لهن نفسه ، وأن هذه آخر حجة له صلى الله عليه وسلم ، وليس فيه أمر منه بأن لا يزيلن الحصر إلى حج أو مصلحة أو إصلاح بين الناس . فاستشهاد أعداء الصحابة بهذا الحديث على المنع مطلقا عده القاضي ابن العربي من البهتان ، لأنه استشهاد به لغير ما أراده النبي صلى الله عليه وسلم .
(2) روى الإمام ابن حزم في بحث ((وجوه الفضل والمفاضلة)) من كتاب (الإمامة والمفاضلة) المدرج في الجزء الرابع من (الفصل) ص 134 عن شيخه أحمد بن محمد الخوزي عن أحمد بن الفضل الدينوري عن محمد بن جرير الطبري أن علي بن أبي طالب بعث عمار بن ياسر والحسن بن علي إلى الكوفة إذ خرجت أم المؤمنين إلى البصرة ، فلما أتياها اجتمع إليهما الناس في المسجد ، فخطبهم عمار ، وذكر لهم خروج عائشة أم المؤمنين إلى البصرة ثم قال لهم : ((إني أقول لكم ، ووالله إني لأعلم أنها زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هي زوجته في الدنيا ، ولكن الله ابتلاكم بها لتطعيوها أو لتطيعوه)) فقال له مسروق (ابن الأجدع الهمداني) أو أبو الأسود (الدؤلي) : ((يا أبا اليقظان فنحن مع من شهدت له بالجنة دون من لم تشهد له)) فسكت عمار! .

(1/132)


وأما الذي ذكرتم من الشهادة على ماء الحوأب ، فقد بؤتم في ذكرها بأعظم حوب (1) . ما كان قط شيء كما ذكرتم ، ولا قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الحديث ، ولا جرى ذلك الكلام ، ولا شهد أحد بشهادتهم ، وقد كتبت شهاداتكم بهذا الباطل وسوف تسألون (2) .
_________
(1) الحوب : الإثم .
(2) تقدم في ص 148 بيان موضع الحوأب . وأن الكلام الذي نسبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وزعموا أن عائشة ذكرته عند وصولهم إلى ذلك الماء ليس له موضع في دواوين السنة المعتبرة . وقد رأينا خبره عند الطبري (5 : 170) فرأيناه يرويه عن إسماعيل بن موسى الفزاري (وهو رجل قال فيه ابن عدي : أنكروا منه الغلو في التشيع) ، ويرويه هذا الشيعي عن علي بن عابس الأزرق (قال عنه النسائي : ضعيف) وهو يرويه عن أبي الخطاب الهجري (قال الحافظ ابن حجر في تقريب التهذيب : مجهول) وهذا الهجري المجهول يرويه عن صفوان بن قبيصة الأحمسي (قال عنه الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال : مجهول) . هذا هو خبر الحوأب . وقد بني على أعرابي زعموا أنهم لقوه في طريق الصحراء ومعه جمل أعجبهم فأرادوا أن يكون هو جمل عائشة فاشتروه منه وسار الرجل معهم حتى وصلوا إلى الحوأب فسمع هذا الكلام ورواه ، مع أنه هو نفسه - أي الأعرابي صاحب الجمل - مجهول الاسم ولا نعرف عنه إن كان من الكذابين أو الصادقين . ويظهر لي أنه ليس من الكذابين ولا من الصادقين ، لأنه من أصله - كالثاني عشر - موهوم لم يخلق ، ولأن جمل عائشة واسمه ((عسكر)) جاء به يعلى بن أمية من اليمن وركبته عائشة من مكة إلى العراق ، ولم تكن ماشية على رجليها حتى اشتروا لها جملا من هذا الأعرابي الذي زعموا أنهم قابلوه في الصحراء ، وركبوا على لسانه هذه الحكاية السخيفة ليقولوا إن طلحة والزبير - المشهود لهما بالجنة ممن لا ينطق عن الهوى - قد شهدا الزور . ولو كنا نستجيز نقل الأخبار الواهية لنقلنا في معارضة هذا الخبر خبرا آخر نقله ياقوت في معجم البلدان (مادة حوأب) عن سيف بن عمر التميمي أن المنبوحة من كلاب الحوأب هي أم زمل سلمى بنت مالك الفزارية التي قادت المرتدين ما بين ظفر والحوأب فسباها المسلمون ووهبت لعائشة فأعتقتها ، فقيلت فيها هذه الكلمة . وهذا الخبر ضعيف والخبر الذي أورده عن عائشة أضعف منه . وما برح الكذب بضاعة يتجر بها الذين لا يخافون الله .

(1/133)


قاصمة
ودارت الحرب بين أهل الشام وأهل العراق (1) : هؤلاء يدعون إلى علي بالبيعة وتأليف الكلمة على الإمام ، وهؤلاء يدعون إلى التمكين من قتلة عثمان ويقولون : لا نبايع من يؤوي القتلة (2) .
وعلي يقول لا أمكن طالبا من مطلوب ينفذ فيه مراده بغير حكم ولا حاكم . ومعاوية يقول : لا نبايع متهما أو قاتلا له ، وهو أحد من يطلب فكيف نحكمه أو نبايعه ، وهو خليفة عدا وتسور .
وذكروا في تفاصيل ذلك كلمات آلت إلى استفعال رسائل (3) واستخراج أقوال ، وإنشاء أشعار ، وضرب أمثال تخرج عن سيرة السلف ، يقرها الخلف وينبذها الخلف (4) .
_________
(1) في موضع يسمى (صفين) بقرب الرقة على شاطئ الفرات آخر تخوم العراق وأول أرض الشام . سار إليها علي بجيوشه في أواخر ذي القعدة سنة 36 .
(2) لما انتهى علي من حرب الجمل وسار من البصرة إلى الكوفة فدخلها يوم الاثنين 12 من رجب ، أرسل جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية في دمشق يدعوه إلى طاعته . فجمع معاوية رءوس الصحابة وقادة الجيوش وأعيان أهل الشام واستشارهم فيما يطلب علي ، فقالوا : لا نبايعه حتى يقتل قتلة عثمان ، أو يسلمهم إلينا . فرجع جرير إلى علي بذلك ، فاستخلف علي على الكوفة أبا مسعود عقبة بن عامر وخرج منها فعسكر بالنخيلة أول طريق الشام من العراق ، وقد أشار عليه ناس بأن يبقى في الكوفة ويبعث غيره إلى الشام فأبى . وبلغ معاوية أن عليا تجهز وخرج بنفسه لقتاله فأشار عليه رجاله أن يخرج هو أيضا بنفسه ، فخرج الشاميون نحو الفرات من ناحية صفين ، وتقدم علي بجيوشه إلى تلك الجهة . وكان جيش علي في مائة وعشرين ألفا وجيش معاوية في تسعين ألفا ، وبدأ القتال في ذي الحجة سنة 36 بمناوشات ومبارزات ، ثم تهادنوا في المحرم سنة 37 واستؤنف القتال بعده ، وقتل في هذه الحرب سبعون ألفا ، وكانت الوقائع 90 وقعة في 110 أيام ، وامتازت هذه الحرب بنبل الشجاعة في القتال ، ونبل التعامل والاتصال عند التهادن والراحة . ثم كتب التحكيم يوم 13 صفر سنة 37 على أن يعلن الحكمان حكمهما في رمضان بدومة الجندل بمكان منها يسمى أذرح .
(3) أي انتحالها زورا ولا أصل لها . وأكثر ما تجد ذلك فيما يرويه أخباريو الشيعة عن رواة مجهولين أو كذابين . وأخفهم وطأة أبو مخنف لوط بن يحيى ، قال عنه الحافظ الذهبي : « أبو مخنف أخباري تالف ، لا يوثق به ، تركه أبو حاتم وغيره» . وقال فيه ابن عدي : «شيعي محترق صاحب أخبارهم» ثم جاء بعده آخرون منهم كانوا شرا على تاريخ الإسلام من لوط هذا . فأفسدوا على الأمة معرفتها بماضيها .
(4) الخلف (بفتح الخاء وسكون اللام) : الطالح . وفي التنزيل ( فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ) . والخلف (بفتح الخاء واللام) : الصالح . ومنه الحديث «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ».

(1/134)


عاصمة
أما وجود الحرب بينهم فمعلوم قطعا ، وأما كونه بهذا السبب فمعلوم كذلك قطعا ، وأما الصواب فيه فمع علي ، لأن الطالب للدم لا يصح أن يحكم ، وتهمة الطالب للقاضي لا توجب عليه أن يخرج عليه ، بل يطلب [ الحق ] عنده ، فإن ظهر له قضاء وإلا سكت وصبر ، فكم من حق يحكم الله فيه . وإن لم يكن له دين فحينئذ يخرج عليه ، فيقوم له عذر في الدنيا (1) .
ولئن اتهم علي بقتل عثمان فليس في المدينة أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا وهو متهم به ، أو قل معلوم قطعا أنه قتله لأن ألف رجل جاءوا لقتل عثمان لا يغلبون أربعين ألفا (2) .
وهبك أن عليا وطلحة والزبير تضافروا على قتل عثمان ، فباقي الصحابة من المهاجرين والأنصار ومن اعتد فيهم وضوى إليهم ماذا صنعوا بالقعود عن نصرته؟
_________
(1) وجود قتلة عثمان في معسكر علي حقيقة لا يماري أحد فيها ، بل إن الأشتر وهو من رءوس البغاة على عثمان كان أكبر مسعر للحرب بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين في معسكر علي والذين في معسكر معاوية . ولما طالب علي معاوية ومن معه من الصحابة والتابعين أن يبايعوه احتكموا إليه في قتلة عثمان وطلبوا منه أن يقيم حد الله عليهم أو أن يسلمهم إليهم فيقيموا عليهم حد الله . وقد اعتذرنا عن أمير المؤمنين علي في هامش ص146 بأن قتلة عثمان لما صاروا مع علي في العراق صاروا في معقل قوتهم وعنجهية قبائلهم ، فكان علي يرى- بينه وبين نفسه- أن قتلهم يفتح عليه بابا لا يستطيع سده بعد ذلك . وقد انتبه لهذه الحقيقة الصحابي الجليل القعقاع بن عمرو التميمي وتحدث بها مع أم المؤمنين عائشة وصاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة والزبير فأذعنوا له وعذروا عليا ووافقوا على التفاهم معه على ما يوصلهم إلى الخروج من هذه الفتنة ، فما لبث قتلة عثمان أن أنشبوا الحرب بين الفريقين . فالمطالبون بإقامة حد الله على قتلة عثمان معذورون لأنهم يطالبون بحق ، سواء كانوا من أصحاب الجمل ، أو من أهل الشام . وتقصير علي في إقامة حد الله كان عن ضرورة قائمة ومعلومة . ولكن إذا كانت حرب البصرة ناشئة عن إنشاب قتلة عثمان الحرب بين الفريقين الأولين ، فقد كان من مصلحة الإسلام أن لا تنشب حرب صفين بين الفريقين الآخرين . وكان سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي كارها خروج أبيه من المدينة إلى العراق لما يخشاه من نشوب الحرب مع أهل الشام ، وهم جبهة الإسلام العسكرية في الجهاد والفتوح . ولو أن عليا لم يتحرك من الكوفة استعدادا لهذا القتال لما حرك معاوية ساكنا . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2 : 219) : «لم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداء» وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال 249 و251 و262 . ومع ذلك فإن هذه الحرب المثالية هي الحرب الإنسانية الأولى في التاريخ التي جرى فيها المتحاربان معا على مبادئ الفضائل التي يتمنى حكماء الغرب لو يعمل بها في حروبهم ولو في القرن الحادي والعشرين . وإن كثيرا من قواعد فقه الحرب في الإسلام لم تكن لتعلم وتدون لولا وقوع هذه الحرب ، ولله في كل أمر حكمة .
(2) ليس في أهل السنة رجل واحد يتهم عليا بقتل عثمان ، لا في زماننا ولا في زمانه . وقد مضى الكلام على ذلك في هذا الكتاب . وكل ما في الأمر وجود قتلة عثمان مع علي ، وموقف علي منهم ، وعذره بينه وبين الله في موقفه هذا . فنحن جميعا على رأي القعقاع بن عمرو بأن موقف علي موقف ضرورة . غير أن الحمقى من إخباري الشيعة دسوا على علي أخبارا تشعر بغير ما كان في قلبه من المحبة والرضا والموالاة والتأييد لعثمان أثناء محنته ، فأساءوا بذلك إلى علي من حيث يريدون الإساءة إلى عثمان . أما معاوية وفريقه فلم يذكروا عليا في أمر البغي على عثمان إلا لمناسبة انضواء قتلة عثمان إليه واستعانته بهم . فقتلة عثمان هم الذين أساءوا إلى الإسلام وإلى عثمان وإلى علي أيضا . فالله حسيبهم . ولو أن كل المسلمين كانوا كعبد الرحمن بن خالد بن الوليد في حزمه- قبل أن تستفحل الفتنة ويفلت الزمام من أيدي العقلاء- لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه .

(1/135)


ولا يخلو أن يكون لأنهم رأوا أولئك طلبوا حقا وفعلوا حقا ، فهذه شهادة قائمة على عثمان فلا كلام لأهل الشام . وإن كانوا قعدوا عنه استهزاء بالدين ، وأنهم لم يكن لهم رأي في الحال ، ولا مبالاة عندهم بالإسلام ولا فيما يجري فيه من اختلال ، فهي ردة ليست معصية . لأن التهاون بحدود الدين وإسلام حرمات الشريعة للتضييع كفر ، وإن كانوا قعدوا لأنهم لم يروا أو يتعدوا حد عثمان وإشارته فأي ذنب لهم فيه؟ وأي حجة لمروان - وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين وابن عمر وأعيان العشرة معه في داره يدخلون إليه ويخرجون عنه في الشكة والسلاح - والطالبون ينظرون؟ ولو كان لهم بهم قوة أو أووا إلى ركن شديد لما مكنوا أحدا أن يراه منهم ولا يداخله ، وإنما كانوا نظارة ، فلو قام في وجوههم الحسن والحسين وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير ما جسروا ، ولو قتلوهم ما بقي على الأرض منهم حي .
ولكن عثمان سلم نفسه ، فترك ورأيه . وهي مسألة اجتهاد كما قدمنا (1) .
_________
(1) في ص 137 ، وانظر هامش ص 132 .

(1/136)


وأي كلام كان يكون لعلي - لما تمت له البيعة - لو حضر عنده ولي عثمان وقال له : إن الخليفة قد تمالأ عليه ألف نسمة حتى قتلوه ، وهم معلومون . ماذا كان يقول إلا : اثبت ، وخذ ، وفي يوم كان يثبت إلا أن يثبتوا هم أن عثمان كان مستحقا للقتل (1) .
وبالله لتعلمن يا معشر المسلمين أنه ما كان يثبت على عثمان ظلم أبدا ، وكان يكون الوقت أمكن للطالب ، وأرفق في الحال ، أيسر وصولا إلى المطلوب (2) .
والذي يكشف الغطاء في ذلك أن معاوية لما صار إليه الأمر لم يمكنه أن يقتل من قتلة عثمان أحدا إلا بحكم ، إلا من قتل في حرب بتأويل ، أو دس عليه فيما يقال (3) . حتى انتهى الأمر إلى زمن الحجاج ، وهم يقتلون بالتهمة لا بالحقيقة (4) . فتبين لكم أنهم ما كانوا في ملكهم يفعلون ما أصبحوا له يطلبون .

_________
(1) المؤلف معترف بأن الإثبات كان في متناول اليد ، لأن الجريمة مشهودة والمجرمون أعلنوا فيها فجورهم فلم يتكتموا . ولكن كيف يكون التنفيذ ، ومن الذي يقوم به ومدينة الرسول مستكينة تحت وطأة الإرهاب؟ ومن ذا الذي يضمن لعلي حياته إذا أصدر هذا الحكم؟ أليس هؤلاء هم الذين تداولوا في قتله لما عقدوا مؤتمرهم في ذي قار بعد خطبة علي التي ألقاها على الغرائر قبيل مصيره إلى البصرة (الطبري 5 : 165) ألم يسخط الأشتر على أمير المؤمنين علي بعد وقعة الجمل لأنه ولى ابن عمه عبد الله بن عباس على البصرة ولم يولها الأشتر ، ففارقه غاضبا ، ولحق به علي فتلافى ما يكون منه من الشر (الطبري 5 : 194) ، وانظر هامش 119 من هذا الكتاب) . والخوارج على علي ألم ينبتوا من هذه النواة؟ ولما قتل علي ألم يقتل بمثل السلاح الذي قتل به عثمان؟
(2) كان يكون الوقت أمكن للطالب لو وجدت في المدينة القوة التي كان يتمناها عثمان . ويقال إن قوة من جند الشام كانت خرجت من دمشق قاصدة المدينة ، فلما جاءها خبر شهادة أمير المؤمنين عثمان رجعت من الطريق ، فبقيت المدينة خاضعة لقتلة عثمان حتى بعد البيعة لعلي ، وهم إن نزلوا على أحكام هذه البيعة فيما لا ضرر منه عليهم لا ريب أنهم ينقلبون وحوشا ضارية لو صدرت عليهم أحكام الله بإقامة الحدود فيما ارتكبوا من جرم شنيع .
(3) إن سطوة الله وعدله الأعلى نزلا بأكثر قتلة عثمان فلم يبق منهم في ولاية معاوية إلا المشرد الخائف الباحث عن حجر يختبئ فيه ، وبزوال سطوتهم وتقليص شرهم فلم يبق بمعاوية حاجة إلى تتبعهم .
(4) يشير المؤلف إلى حادثة عمير بن ضابئ وكميل النخعي ، وقد تقدم خبرهما في (ص 129 - 130) .

(1/137)


والذي تثلج به صدوركم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الفتن وأشار وبين ، وأنذر بالخوارج وقال : « تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق » (1) فبين أن كل طائفة [ منهما ] تتعلق بالحق ، ولكن طائفة علي أدنى إليه (2) . وقال تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين } ، [ سورة الحجرات : 9 ] فلم يخرجهم عن ((الإيمان)) بالبغي بالتأويل ، ولا سلبهم اسم ((الأخوة)) بقوله بعده { إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم } ، [ الحجرات : من الآية 10 ] .
وقال صلى الله عليه وسلم في عمار : « تقتله الفئة الباغية » (3) .
وقال في الحسن : « ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين » ، فحسن له خلعه نفسه وإصلاحه (4) .
وكذلك يروى أنه أذن - في الرؤيا - لعثمان في أن يستسلم ويفطر عنده الليلة (5) .
_________
(1) في صحيح مسلم (ك 12 ج 150 - ج 3 ص 113) من حديث أبي سعيد الخدري : ((تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق)) .
(2) أهل السنة المحمدية يدينون لله على أن عليا ومعاوية ، ومن معها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا جميعا من أهل الحق ، وكانوا مخلصين في ذلك . والذي اختلفوا فيه إنما اختلفوا عن اجتهاد ، كما يختلف المجتهدون في كل ما يختلفون فيه . وهم - لإخلاصهم في اجتهادهم - مثابون عليه في حالتي الإصابة والخطأ ، وثواب المصيب أضعاف ثواب المخطئ ، وليس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر معصوم عن أن يخطئ وقد يخطئ بعضهم في أمور ويصيب في أخرى ، وكذلك الآخرون . أما من مرق عن الحق في إثارة الفتنة الأولى على عثمان فلا يعد من إحدى الطائفتين اللتين على الحق وإن قاتل معها والتحق بها ، لأن الذين تلوثت أيديهم ونياتهم وقلوبهم بالبغي الظالم على أمير المؤمنين عثمان - كائنا من كانوا - استحقوا إقامة الحد الشرعي عليهم سواء استطاع ولي الأمر أن يقيم عليهم هذا الحد أو لم يستطع . وفي حالة عدم استطاعته فإن مواصلتهم تسعير القتال بين صالحي المسلمين كلما أحسوا منهم بالعزم على الإصلاح والتآخي - كما فعلوا في وقعة الجمل وبعدها - يعد إصرارا منهم على الاستمرار في الإجرام ما داموا على ذلك ، فإذا قلنا إن الطائفتين كانتا من أهل الحق فإنما نريد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا في الطائفتين ومن سار معهم على سنته صلى الله عليه وسلم من التابعين ، ونرى أن عليا المبشر بالجنة أعلى مقاما عند الله من معاوية خال المؤمنين وصاحب رسول رب العالمين ، وكلاهما من أهل الخير . وإذا اندس فيهم طوائف من أهل الشر فإن من يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره . نقل الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (7 : 277) عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الشعباني قاضي إفريقية المتوفى سنة 56 كان رجلا صالحا من الآمرين بالمعروف - وذكر أهل صفين - فقال : ((كانوا عربا يعرف بعضهم بعضا في الجاهلية ، فالتقوا في الإسلام معهم على الحمية وسنة الإسلام ، فتصابروا ، واستحيوا من الفرار ، وكانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء وهؤلاء في عسكر هؤلاء ، فيستخرجون قتلاهم فيدفنونهم)) ، قال الشعبي : ((هم أهل الجنة ، لقي بعضهم بعضا ، فلم يفر أحد من أحد)) .
(3) قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لما كانوا يبنون المسجد ، فكان الناس ينقلون لبنة لبنة وعمار ينقل لبنتين لبنتين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فيه هذه الكلمة على ما رواه أبو سعيد الخدري لعكرمة مولى ابن عباس ولعلي بن عبد الله بن عباس . والخبر في كتاب الجهاد والسير من صحيح البخاري (ك 56 ب 17 - ج 3 ص 207) . وقد كان معاوية يعرف من نفسه أنه لم يكن منه البغي في حرب صفين ، لأنه لم يردها ، ولم يبتدئها ، ولم يأت لها إلا بعد أن خرج علي من الكوفة وضرب معسكره في النخيلة ليسير إلى الشام كما تقدم في ص 162 - 163 ، ولذلك لما قتل عمار قال معاوية ((إنما قتله من أخرجه)) وفي اعتقادي الشخصي أن كل من قتل من المسلمين بأيدي المسلمين منذ قتل عثمان فإنما إثمه على قتلة عثمان لأنهم فتحوا باب الفتنة . ولأنهم واصلوا تسعير نارها ، لأنهم الذين أوغروا صدور المسلمين بعضهم على بعض ، فكما كانوا قتلة عثمان فإنهم كانوا القاتلين لكل من قتل بعده ، ومنهم عمار ومن هم أفضل من عمار كطلحة والزبير ، إلى أن انتهت فتتهم ، بقتلهم عليا نفسه وقد كانوا من جنده وفي الطائفة التي كان قائما عليها . فالحديث من أعلام النبوة , والطائفتان المتقاتلتان في صفين كانتا من المؤمنين . وعلي أفضل من معاوية . وعلي ومعاوية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن دعائم دولة الإسلام ، وكل ما وقع من الفتن فإثمه على مؤرثي نارها لأنهم السبب الأول فيها ، فهم الفئة الباغية التي قتل بسببها كل مقتول في وقعتي الجمل وصفين وما تفرع عنهما .
(4) سيأتي الكلام على هذا عند الكلام على الصلح بين الحسن ومعاوية .
(5) مضى الكلام على ذلك في ص 138 - 139 .

(1/138)


فهذه كلها أمور جرت على رسم النزاع ، ولم تخرج عن طريق من طرق الفقه ، ولا عدت سبيل الاجتهاد الذي يؤجر فيه المصيب عشرة والمخطئ أجرا واحدا (1) .
وما وقع من روايات في كتب التاريخ - عدا ما ذكرنا - فلا تلتفتوا إلى حرف منها ، فإنها كلها باطلة .
_________
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2 : 219 - 220) : ((ولم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداء ، بل كان من أشد الناس حرصا على ألا يكون قتال ، وكان غيره أحرص على القتال منه . وقتال صفين للناس فيه أقوال : فمنهم من يقول كلاهما كان مجتهدا مصيبا ، كما يقول ذلك كثير من أهل الكلام والفقه والحديث ممن يقول : كل مجتهد مصيب ، ويقول : كانا مجتهدين . وهذا قول كثير من الأشعرية والكرامية والفقهاء وغيرهم ، وهو قول كثير من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم ، وتقول الكرامية : كلاهما إمام مصيب ، ويجوز نصب إمامين للحاجة . ومنهم من يقول : بل المصيب أحدهما لا بعينه ، وهذا قول طائفة منهم . ومنهم من يقول : علي هو المصيب وحده ومعاوية مجتهد مخطئ ، كما يقول ذلك طوائف من أهل الكلام والفقهاء أهل المذاهب الأربعة . وقد حكى هذه الأقوال الثلاثة أبو عبد الله حامد من أصحاب الإمام أحمد وغيره . ومنهم من يقول : كان الصواب ألا يكون قتال ، وكان ترك القتال خيرا للطائفتين ، فليس في الاقتتال صواب ، ولكن علي كان أقرب إلى الحق من معاوية ، والقتال قتال فتنة ، ليس بواجب ولا مستحب ، وكان ترك القتال خيرا للطائفتين مع أن عليا كان أولى بالحق ، وهذا قول أحمد وأكثر أهل الحديث وأكثر أئمة الفقهاء ، وهو قول أكابر الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وهو قول عمران بن حصين رضي الله عنه وكان ينهى عن بيع السلاح في ذلك القتال ويقول : هو بيع السلاح في الفتنة . وهو قول أسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وابن عمر وسعد بن أبي وقاص وأكثر من بقي من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم . ولهذا كان من مذهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة فإنه قد ثبت فضائلهم ووجبت موالاتهم ومحبتهم)) .

(1/139)


قاصمة التحكيم
وقد تحكم الناس في التحكيم فقالوا فيه ما لا يرضاه الله . وإذا لحظتموه بعين المروءة - دون الديانة - رأيتم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدم الدين ، وفي الأقل جهل متين .
والذي يصح من ذلك ما روى الأئمة كخليفة بن خياط (1) والدارقطني (2) : أنه لما خرج الطائفة العراقية مائة ألف والشامية في سبعين أو تسعين ألفا ونزلوا على الفرات بصفين ، اقتتلوا في أول يوم - وهو الثلاثاء - على الماء فغلب أهل العراق عليه (3) .
ثم التقوا يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر سنة [ سبع وثلاثين ] ويوم الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت (4) ، ورفعت المصاحف من أهل الشام ، ودعوا إلى الصلح ، وتفرقوا على أن تجعل كل طائفة أمرها إلى رجل حتى يكون الرجلان يحكمان بين الدعويين بالحق ، فكان من جهة علي أبو موسى (5) ، ومن جهة معاوية عمرو بن العاص .

_________
(1) هو الإمام الحافظ أبو عمرو خليفة بن خياط العصفري البصري ، أحد أوعية العلم ، ومن شيوخ الإمام البخاري . قال عنه ابن عدي : هو صدق مستقيم الحديث من متيقظي رواة السنة . توفي سنة 240 .
(2) هو الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني (306 - 385) كان مع جلالته في الحديث من أئمة فقهاء الشافعية ، وله تقدم في الأدب ورواية الشعر . وجاء من بغداد إلى مصر ليساعد ابن خنزابة وزير كافور على تأليف مسنده فبالغ الوزير في إجلاله . قال الحافظ عبد الغني بن سعيد ((أحسن الناس كلاما على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة : علي بن المديني في وقته ، وموسى بن هارون القيسي في وقته . والدارقطني في وقته)) .
(3) لم يكن القتال على الماء جديا ، وقد قال عمرو بن العاص يومئذ : «ليس من النصف أن نكون ريانين وهم عطاش» . والذين تظاهروا في الجيش الشامي بمنع العراقيين عن الماء أرادوا أن يذكروهم بمنع الماء عن أمير المؤمنين عثمان في عاصمة خلافته وهو الذي اشترى بئر رومة من ماله ليستقي منه إخوانه المسلمون وبعد اشتراكهم في الماء تناوشوا شهر ذي الحجة من سنة 36 ثم تهادنوا شهر المحرم من سنه 37 ، ووقعت وقائع شهر صفر التي سيشير إليها المؤلف .
(4) وكانت تسمى ((ليلة الهرير)) اقتتل الناس فيها حتى الصباح .
(5) وكان آخر العهد بأبي موسى عندما كان واليا على الكوفة ، وجاء دعاة علي يحرضون الكوفيين على لبس السلاح والالتحاق بجيش علي استعدادا لما يريدونه من قتال مع أصحاب الجمل في البصرة ، ثم مع أنصار معاوية في الشام . فكان أبو موسى يشفق على دماء المسلمين أن تسفك بتحريض الغلاة ، ويذكر أمة محمد صلى الله عليه وسلم بقول نبيهم في الفتنة ((القاعد فيها خير من القائم)) فتركه الأشتر يحدث الناس في المسجد بالحديث النبوي ، وأسرع إلى دار الإمارة فاحتلها . فلما عاد إليها أبو موسى منعه الأشتر من الدخول وقال له : اعتزل إمارتنا . فاعتزلهم أبو موسى واختار الإقامة في قرية يقال لها عرض بعيدا عن الفتن وسفك الدماء . فلما شبع الناس من سفك الدماء واقتنعوا بأن أبا موسى كان ناصحا في نهيهم عن القتال طلبوا من علي أن يكون أبو موسى هو ممثل العراق في أمر التحكيم ، لأن الحالة التي كان يدعو إليها هي التي فيها الصلاح فأرسلوا إلى أبي موسى وجاءوا به من عزلته .

(1/140)


وكان أبو موسى رجلا تقيا فقيها عالما حسبما بيناه في كتاب (سراج المريدين) ، وأرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن مع معاذ ، وقدمه عمرو وأثنى عليه بالفهم (1) . وزعمت الطائفة التاريخية الركيكة أنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعا في القول ، وأن ابن العاص كان ذا دهاء وأرب حتى ضربت الأمثال بدهائه تأكيدا لما أرادت من الفساد ، اتبع في ذلك بعض الجهال بعضا وصنفوا فيه حكايات . وغيره من الصحابة كان أحدق منه وأدهى ، وإنما بنوا على أن عمرا لما غدر أبا موسى في قصة التحكيم صار له الذكر في الدهاء والمكر .
وقالوا : إنما لما اجتمع بأذرح من دومة الجندل (2) ، وتفاوضا ، اتفقا على أن يخلعا الرجلين (3) . فقال عمرو لأبي موسى : اسبق بالقول . فتقدم فقال : إني نظرت فخلعت عليا عن الأمر ، وينظر المسلمون لأنفسهم ، كما خلعت سيفي هذا من عنقي - أو من عاتقي - وأخرجه من عنقه فوضعه في الأرض . وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال : إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر (4) كما أثبت سيفي هذا في عاتقي . وتقلده . فأنكر أبو موسى . فقال عمرو : كذلك اتفقنا . وتفرق الجمع على ذلك من الاختلاف .
_________
(1) واختصه بكتابه الشهير في القضاء وآدابه وقواعده .
(2) أذرح : قرية من أعمال الشراة تقع في منطقة بين أراضي شرقي الأردن والمملكة السعودية في الأطراف الجنوبية من بادية الشام .
(3) من الحقائق ما إذا أسيء التعبير عنه وشابته شوائب المغالطة يوهم غير الحقيقة فينشأ عن ذلك الاختلاف في الحكم عليه . ومن ذلك حادثة التحكيم وقول المغالطين إن أبا موسى وعمرا اتفقا على خلع الرجلين ، فخلعهما أبو موسى ، واكتفى عمرو بخلع علي دون معاوية . وأصل المغالطة من تجاهل المغالطين أن معاوية لم يكن خليفة ، ولا هو ادعى الخلافة يومئذ حتى يحتاج عمرو إلى خلعها عنه . بل إن أبا موسى وعمرا اتفقا على أن يعهدا بأمر الخلافة على المسلمين إلى الموجودين على قيد الحياة من أعيان الصحابة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم . واتفاق الحكمين على ذلك لا يتناول معاوية لأنه لم يكن خليفة ولم يقاتل على الخلافة وإنما كان يطالب بإقامة الحد الشرعي على الذين اشتركوا في قتل عثمان . فلما وقع التحكيم على إمامة المسلمين ، واتفق الحكمان على ترك النظر فيها إلى كبار الصحابة وأعيانهم تناول التحكيم شيئا واحدا هو الإمامة . أما التصرف العملي في إرادة البلاد التي كانت تحت يد كل من الرجلين المتحاربين فبقي كما كان : علي متصرف في البلاد التي تحت حكمه ، ومعاوية متصرف في البلاد التي تحت حكمه ، فالتحكيم لم يقع فيه خداع ولا مكر ، ولم تتخلله بلاهة ولا غفلة . وكان يكون محلا للمكر أو الغفلة لو أن عمرا أعلن في نتيجة التحكيم أنه ولى معاوية إمارة المؤمنين وخلافة المسلمين ، وهذا ما لم يعلنه عمرو ، ولا ادعاه معاوية ، ولم يقل به أحد في الثلاثة عشر قرنا الماضية . وخلافة معاوية لم تبدأ إلا بعد الصلح مع الحسن بن علي ، وقد تمت بمبايعة الحسن لمعاوية ، ومن ذلك اليوم فقط سمي معاوية أمير المؤمنين . فعمرو لم يغالط أبا موسى ولم يخدعه ، لأنه لم يعط معاوية شيئا جديدا ، ولم يقرر في التحكيم غير الذي قرره أبو موسى . ولم يخرج عما اتفقا عليه معا ، فبقيت العراق والحجاز وما يتبعهما تحت يد من كانت تحت يده من قبل ، وبقيت الشام وما يتبعها تحت يد من كانت تحت يده من قبل ، وتعلقت الإمامة بما سيكون من اتفاق أعيان الصحابة عليها ، وأي ذنب لعمرو في أي شيء مما وقع؟ إن البلاهة لم تكن من أبي موسى ، ولكن ممن يريد أن يفهم الوقائع على غير ما وقعت عليه . فليفهمها كل من شاء كما يشاء . أما هي فظاهرة واضحة لكل من يراها كما هي .
(4) أي أمر؟ إن كان الاستمرار في إدارة البلاد التي تحت يده ، فإن هذا الأمر ماض على معاوية وعلي معا ، فكل منهما باق في الحكم على ما تحت يده . وإن كان المراد بالأمر أمر الإمامة العامة وإمارة المؤمنين فإن معاوية لم يكن إماما - أي خليفة - حتى يثبته عمرو كما كان . وقد أوضحنا هذه الحقيقة في الفقرة السابقة . وهذه هي نقطة المغالطة التي هزأ بها مؤرخو الإفك المفترى فسخروا بجميع قرائهم وأوهموهم بأن هناك خليفتين أو أميرين للمؤمنين ، وأن الاتفاق بين الحكمين كان على خلعهما معا ، وأن أبا موسى خلع الخليفتين تنفيذا للاتفاق ، وأن عمرا خلع أحدهما وأبقى الآخر خليفة خلافا للاتفاق ، وهذا كله كذب وإفك وبهتان . والذي فعله عمرو وهو نفس الذي فعله أبو موسى لا يفترق عنه قط في نقير ولا قطمير وبقي أمر الإمامة والخلافة أو غمارة المؤمنين معلقا على نظر أعيان الصحابة ليروا فيه رأيهم متى شاءوا وكيف شاءوا . وإذا كانت هذه الخطوة الثانية لم تتم فما في ذلك تقصير من أبي موسى ولا من عمرو ، فهما قد قاما بمهمتهما بحسب ما أدى إليه اجتهادهما واقتناعهما ولو لم تكلفهما الطائفتان معا بأداء هذه المهمة لما تعرضا لها ، ولا أبديا رأيا فيها . ولو كان موقف أبي موسى في هذا الحادث التاريخي العظيم موقف بلاهة وفشل لكان ذلك سبة عليه في التاريخ . وإن الأجيال التي بعده فهمت موقفه على أنه من مفاخره التي كتب الله له بها النجاح والسداد ، حتى قال ذو الرمة الشاعر يخاطب حفيده بلال بن أبي بردة بن أبي موسى : أبوك تلافى الدين والناس بعدما تشاءوا وبيت الدين منقطع الكسر فشد إصار الدين أيام أذرح ورد حروبا قد لقحن إلى عقر .

(1/141)


عاصمة
قال القاضي أبو بكر (رضي الله عنه) : هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط . وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة ، ووضعته التاريخية للملوك ، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع (1) .
وإنما الذي روى الأئمة الثقات الأثبات أنهما لما اجتمعا للنظر في الأمر - في عصبة كريمة من الناس منهم ابن عمر ونحوه - عزل عمرو معاوية (2) .
_________
(1) إن التاريخ الإسلامي لم يبدأ تدوينه إلا بعد زوال بني أمية وقيام دول لا يسر رجالها التحدث بمفاخر ذلك الماضي ومحاسن أهله . فتولى تدوين تاريخ الإسلام ثلاث طوائف : طائفة كانت تنشد العيش والجدة من التقرب إلى مبغضي بني أمية بما تكتبه وتؤلفه . وطائفة ظنت أن التدوين لا يتم ، ولا يكون التقرب إلى الله ، إلا بتشويه سمعة أبي كبر وعمر وعثمان وبني عبد شمس جميعا . وطائفة ثالثة من الإنصاف والدين- كالطبري وابن عساكر وابن الأثير وابن كثير- رأت أن من الإنصاف أن تجمع أخبار الإخباريين من كل المذاهب والمشارب- كلوط بن يحيى الشيعي المحترق ، وسيف بن عمر العراقي المعتدل- ولعل بعضهم اضطر إلى ذلك إرضاء لجهات كان يشعر بقوتها ومكانتها . وقد أثبت أكثر هؤلاء أسماء رواة الأخبار التي أوردها ليكون الباحث على بصيرة من كل خبر بالبحث عن حال راويه . وقد وصلنا إلى هذه التركة لا على أنها هي تاريخنا ، بل على أنها مادة غزيرة للدرس والبحث يستخرج منها تاريخنا ، وهذا ممكن وميسور إذا تولاه من يلاحظ مواطن القوة والضعف في هذه المراجع ، وله من الألمعية ما يستخلص به حقيقة ما وقع ويجردها عن الذي لم يقع ، مكتفيا بأصول الأخبار الصحيحة مجردة عن الزيادات الطارئة عليها . وإن الرجوع إلى كتب السنة ، وملاحظات أئمة الأمة . مما يسهل هذه المهمة . وقد آن لنا أن نقوم بهذا الواجب الذي أبطأنا فيه كل الإبطاء ، وأول من استيقظ في عصرنا للدسائس المدسوسة على تاريخ بني أمية العلامة الهندي الكبير الشيخ شبلي النعماني في انتقاده لكتاب جرجي زيدان ، ثم أخذ أهل الألمعية من المنصفين في دراسة الحقائق ، فبدأت تظهر لهم وللناس منيرة مشرقة ، ولا يبعد- إذا استمر هذا الجهاد في سبيل الحق- أن يتغير فهم المسلمين لتاريخهم ويدركوا أسرار ما وقع في ماضيهم من معجزات.
(2) أي بتقريره مع أبي موسى أن إمامة المسلمين يترك النظر فيها إلى أعيان الصحابة.

(1/142)


ذكر الدارقطني بسنده إلى حضين بن المنذر (1) : لما عزل عمرو معاوية جاء [ أي حضين بن المنذر ] فضرب فسطاطه قريبا من فسطاط معاوية ، فبلغ نبأه معاوية ، فأرسل إليه فقال : إنه بلغني عن هذا [ أي عن عمرو ] كذا وكذا (2) ، فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه ، فأتيته فقلت : أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى كيف صنعتما فيه؟ قال : قد قال الناس في ذلك ما قالوا ، والله ما كان الأمر على ما قالوا (3) ، ولكن قلت لأبي موسى : ما ترى في هذا الأمر؟ قال أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض . قلت : فأين تجعلني أنا ومعاوية ؟ فقال : إن يستعن بكما ففيكما معونة ، وإن يستغن عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما قال : فكانت هي التي فتل معاوية منها نفسه : فأتيته فأخبرته [ أي فأتى حضين معاوية فأخبره ] أن الذي بلغه عنه كما بلغه . فأرسل إلى أبي الأعور الذكواني (4) فبعثه في خيله ، فخرج يركض فرسه ويقول : أين عدو الله أين هذا الفاسق؟ .
_________
(1) قال الدارقطني : حدثنا إبراهيم بن همام ، حدثنا أبو يوسف الفلوسي وهو يعقوب بن عبد الرحمن بن جرير ، حدثنا الأسود بن شيبان ، عن عبد الله بن مضارب عن حضين بن المنذر (وحضين من خواص علي الذين حاربوا معه).
(2) أي عزله عليا ومعاوية ، وتفويضه الأمر إلى كبار الصحابة.
(3) أي أنهما لم يعزلا ، لم يوليا ، ولكن تركا الأمر لأعيان الصحابة.
(4) هو أبو الأعور السلمي (وذكوان قبيلة من سليم) واسمه عمرو بن سفيان ، كان من كبار قواد معاوية . وفي حرب صفين طلب الأشتر أن يبارزه فترفع أبو الأعور السلمي عن ذلك لأنه لم ير الأشتر من أنداده . انظر المنتقى من منهاج الاعتدال ص264 .

(1/143)


قال أبو يوسف (1) : أظنه قال ((إنما يريد حوباء نفسه)) فخرج [ عمرو ] إلى فرس فسطاط فجال في ظهره عريانا ، فخرج يركضه نحو فسطاط معاوية وهو يقول ((إن الضجور قد تحتلب العلبة ، يا معاوية إن الضجور قد تحتلب العلبة (2) )) فقال معاوية ((أجل ، وتربذ الحالب فتدق أنفه ، وتكفأ إناءه (3) )) .
قال الدارقطني - وذكر سند عدلا (4) : ربعي عن أبي موسى أن عمرو بن العاص قال : ((والله لئن كان أبو بكر وعمر تركا هذا المال وهو يحل لهما منه شيء لقد غبنا ونقص رأيهما . وايم الله ما كانا مغبونين ولا ناقصي الرأي . ولئن كانا امرأين يحرم عليهما هذا المال الذي أصبناه بعدهما لقد هلكنا . وايم الله ما جاء الوهم إلا من قبلنا (5) )) .
فهذا كان بدء الحديث ومنتهاه . فأعرضوا عن الغاوين ، وازجروا العاوين وعرجوا عن سبيل الناكثين ، إلى سنن المهتدين . وأمسكوا الألسنة عن السابقين إلى الدين .
_________
(1) أي الفلوسي راوي هذا الخبر عن الأسود بن شيبان عن عبد الله بن مضارب عن حضين.
(2) الضجور : الناقة التي ترغو وتعربد عند الحلب . و«قد تحلب الضجور العلبة» مثل ، ومعناه : إن الناقة التي ترغو قد تحلب ما يملأ العلبة ، وهي قدح ضخم يحلب فيه اللبن . يضربونه للسيئ الخلق قد يصاب منه الرفق واللين ، وللبخيل قد يستخرج منه المال .
(3) ربذت يده بالقداح أي خفت : والربذ خفة القوائم في المشي ، وخفة الأصابع في العمل . وفلان ذو ربذات : أي ذو فلتات وكثير السقط في كلامه .
(4) قال حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم ودعلج بن أحمد قالا : حدثنا محمد بن أحمد بن النضر ، حدثنا معاوية بن عمرو ، حدثنا زائدة ، عن عبد الله بن عمر ، عن ربعي . . . إلخ وربعي هو ابن حراش العبسي أبو مريم الكوفي .
(5) أورد المؤلف هذا الخبر للدلالة على ورع عمرو ومحاسبته لنفسه وتذكيرها بسيرة السلف .

(1/144)


وإياكم أن تكونوا يوم القيامة من الهالكين بخصومة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد هلك من كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خصمه . ودعوا ما مضى فقد قضى الله ما قضى . وخذوا لأنفسكم الجد فيما يلزمكم اعتقادا وعملا . ولا تسترسلوا بألسنتكم فيما لا يعينكم مع كل ناعق اتخذ الدين هملا ، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا . ورحم الله الربيع بن خثيم (1) فإنه لما قيل له : قتل الحسين ! قال : أقتلوه؟ قالوا : نعم . فقال : { قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون } (الزمر : 46) . ولم يزد على هذا أبدا . فهذا العقل والدين ، والكف عن أحوال المسلمين ، والتسليم لرب العالمين .
_________
(1) هو من تلاميذ عبد الله بن مسعود وأبي أيوب الأنصاري وعمرو بن ميمون ، وأخذ عنه الإمام الشعبي وإبراهيم النخعي وأبو بردة . قال له ابن مسعود : لو رآك النبي صلى الله عليه وسلم لأحبك . توفي سنة 64 .

(1/145)


قاصمة
فإن قيل : إنما يكون ذلك في المعاني التي تشكل ، وأما هذه الأمور كلها فلا إشكال فيها ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على استخلاف علي بعده فقال : « أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي » (1) ، [ وقال ] : « اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله » (2) ، فلم يبق بعد هذا خلاف لمعاند .
فتعدى عليه أبو بكر واقتعد في غير موضعه .
ثم خلفه في التعدي عمر .
ثم رجي أن يوفق عمر للرجوع إلى الحق ، فأبهم الحال ، وجعلها شورى قصرا للخلاف ، للذي سمع النبي صلى الله عليه وسلم .
ثم تحيل ابن عوف حتى ردها عنه إلى عثمان .
ثم قتل عثمان لتسوره على الخلافة وعلى أحكام الشريعة ، وصار الأمر إلى علي بالحق الإلهي النبوي ، فنازعه من عاقده ، وخالف عليه من بايعه ، ونقض عهده من شده .
وانتدب أهل الشام إلى الفسوق في الدين ، بل الكفر (3) .
_________
(1) في كتاب المغازي من صحيح البخاري (ك 64 ب 78 - ج 5 ص 129) وفي فضائل الصحابة من صحيح مسلم (ك 44 ح 31 - ج 7 ص 120 من حديث سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليا فقال علي : أتخلفني في الصبيان والنساء؟ قال : ((ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي بعدي)) . وانظر المناقشة في هذا الحديث بين السيد عبد الله بن الحسين السويدي سنة 1156 وبين الملاباشي علي أكبر شيخ علماء الشيعة ومجتهديهم في زمن نادر شاه في كتاب (مؤتمر النجف) ص 25 - 27 طبع السلفية .
(2) في مسند أحمد (1 : 84 ، 88 ، 118 ، 119 ، 152 الطبعة الأولى رقم 641 ، 670 ، 950 ، 961 ، 1310 . وفي 4 : 281 ، 368 ، 370 ، 372 الطبعة الأولى و 5 : 347 ، 366 ، 370 ، 419 الطبعة الأولى) . وانظر تفسير الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب لهذا الحديث في ص 185 - 186 ، وسيأتي كلام المؤلف على الحدثين في ص 192 .
(3) كل هذه الفقرات من هذيان مرتكبي ((القاصمة)) وشيعتهم . وقد أجاب المؤلف في ((العاصمة)) التالية مدحضا سخافاتهم ، ولكن اتسع عليه ميدان القول ففاقه الكلام عن موقف أهل الشام من هذه الفتن التي وقعت في الإسلام . وقد رأيت في ص 121 قول ابن الكواء أحد زعماء الفتنة وهو يصف أشباهه في الأمصار الكبرى : ((وأما أهل الأحداث من أهل الشام فأطوع الناس لمرشدهم ، وأعصاهم لمغويهم)) . وإذا كان أهل الأحداث في الشام هكذا على ما شهد به زعيم من زعماء الفتنة ، فإن أهل العافية والإيمان منهم قد شهد لهم أمير المؤمنين علي فيما نقله ابن كثير في البداية والنهاية (8 : 20) عن عبد الرزاق بن همام الصنعاني أحد الأئمة الأعلام الحفاظ ، عن شيخه معمر بن راشد البصري وهو أيضا من الأعلام ، عن الزهري مدون السنة وشيخ الأئمة ، أن عبد الله بن صفوان الجمحي قال : قال رجل من صفين ((اللهم العن أهل الشام)) فقال له علي : ((لا تسب أهل الشام)) فإن بها الأبدال ، فإنها بها الأبدال ، فإن بها الأبدال)) وروي هذا الحديث من وجه آخر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وروى أبو إدريس الخولاني وهو من أعلام حملة السنة والشريعة ومن شيوخ الحسن البصري وابن سيرين ومكحول وأضرابهم أن أبا الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((بينا أنا نائم رأيت الكتاب احتمل من تحت رأسي ، فظننت أنه مذهوب به ، فأتبعه بصري فعمد به إلى الشام . وإن الإيمان - حين تقع الفتنة - بالشام)) . وروى هذا الحديث من الصحابة - غير أبي الدرداء - أبو أمامة وعبد الله بن عمرو بن العاص . وللمقارنة بين أهل الشام والذين كانوا يحاربون ننقل عن ابن كثير (7 : 325) خبر الأعمش بن عمرو بن مرة بن عبد الله بن الحارث عن زهير بن الأرقم قال : خطبنا علي يوم جمعة فقال ، نبئت أن بسرا قد طلع اليمن ، وإني والله لأحسب أن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم وما يظهرون عليكم إلا بعصيانكم إمامكم وطاعتهم إمامهم ، وبخيانتكم وأمانتهم وإفسادكم في أرضكم وإصلاحهم . وقد بعثت فلانا فخان وغدر وبعثت فلانا فخان وغدر وبعث المال إلى معاوية . لو ائتمنت أحدكم على قدح لأخذ علاقته . اللهم سئمتهم وسئموني ، وكرهتهم وكرهوني . اللهم فأرحهم مني وأرحني منهم . بهذا وصف علي جيشه وشيعته وبعكسه في الفضائل وصف أهل الشام الذين اضطروا إلى أن يقفوا من طائفته موقف المحارب . وليس بعد وصف علي لأهل الشام بالطاعة والأمانة والإصلاح ، إلا الضرب بهذه القنبلة في وجوه واصفيهم بالكفر والفسوق في الدين .

(1/146)


وهذه حقيقة مذهبهم (1) ، أن الكل عندهم كفرة (2) ، لأن من مذهبهم التكفير بالذنوب (3) . وكذلك تقول هذه الطائفة التي تسمى بالإمامية : إن كل عاص بكبيرة كافر (4) على رسم القدرية (5) ، ولا أعصى من الخلفاء المذكورين (6) ومن ساعدهم على أمرهم ، وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحرص الناس على دنيا ، وأقلهم حمية على دين ، وأهدمهم لقاعدة وشريعة (7) .
_________
(1) أي حقيقة مذهب الشيعة وأعداء الصحابة .
(2) يستثنون منهم - بعد علي وبعض آله - سلمان الفارسي وأبا ذر والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وأبا الهيثم بن التيهان وسهل بن حنيف وعبادة بن الصامت وأبا أيوب الأنصاري وخزيمة بن ثابت وأبا سعيد الخدري . وبعض الشيعة يرى أن الطيبين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عددا من هؤلاء .
(3) ومن مذهبهم أن عليا وأحد عشر من آله معصومون عن الخطأ ، وأنهم مصدر تشريع . ويقبلون التشريع الذي ينسبه إليهم رواة يشترط فيهم التشيع والموالاة ، وإن عرفهم الناس بما ينافي الصدق أو يناقض ما هو معلوم من الدين بالضرورة .
(4) ومدلول الكبيرة عندهم غير مدلولها عند المسلمين .
(5) أي الذين ينكرون القدر . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة (2 : 24) : ((كان قدماء الشيعة متفقين في دولة بني بويه)) . ثم فجروا وجعلوا (الغلو) من ضروريات مذهبهم من زمن الدولة الصفوية إلى الآن .
(6) وهم أبو بكر وعمر وعثمان .
(7) ومع ذلك يوجد فيمن ينتمي إلى الأزهر ، وإلى السنة ، من يوالي دار التقريب بين المذاهب التي تأسست في القاهرة بعد الحرب العالمية الثانية ، ويتسلى بصرف بقية عمره في الاختلاف إليها وتبادل التقية مع القائمين عليها .

(1/147)


عاصمة
قال القاضي أبو بكر ( رضي الله عنه ) : يكفيك من شر سماعه ، فكيف التململ به . خمسمائة عام عدا إلى يوم مقالي هذا - لا ننقص منها يوما ولا نزيد يوما - وهو مهل شعبان سنة ست وثلاثين وخمسمائة وماذا يرجى بعد التمام إلا النقص؟ .
ما رضيت النصارى واليهود في أصحاب موسى وعيسى ما رضيت الروافض في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين حكموا عليهم بأنهم قد اتفقوا على الكفر والباطل (1) . فما يرجى من هؤلاء ، وما يستبقى منهم؟ وقد قال الله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا } ، (النور : 55) (2) ، وهذا قول صدق ، ووعد حق . وقد انقرض عصرهم ولا خليفة فيهم ولا تمكين ، ولا أمن ولا سكون ، إلا في ظلم وتعد وغصب وهرج وتشتيت وإثارة ثائرة .
_________
(1) أخرج الحافظ ابن عساكر (4 : 165) أن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب قال لرجل من الرافضة . ((والله لئن أمكننا الله منكم لنقطعن أيديكم وأرجلكم ، ثم لا نقبل منكم توبة)) . فقال له رجل : لم لا تقبل منهم توبة؟ قال : نحن أعلم بهؤلاء منكم . إن هؤلاء إن شاءوا صدقوكم ، وإن شاءوا كذبوكم وزعموا أن ذلك يستقيم لهم في (التقية) . ويلك! إن التقية هي باب رخصة للمسلم ، إذا اضطر إليها وخاف من ذي سلطان أعطاه غير ما في نفسه يدرأ عن ذمة الله ، وليست باب فضل ، إنما الفضل في القيام بأمر الله وقول الحق . وايم الله ما بلغ من التقية أن يجعل بها لعبد من عباد الله أن يضل عباد الله)) ....
(2) انظر ص 51 - 53 .

(1/148)


وقد أجمعت الأمة على أن النبي صلى الله عليه وسلم ما نص على أحد يكون من بعده (1) . وقد قال العباس لعلي - فيما روى عنه عبد الله ابنه - قال عبد الله بن عباس : خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه ، فقال الناس : يا أبا حسن ، كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أصبح بحمد الله بارئا . فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب فقال له : أنت والله بعد ثلاث عبد العصا . وإني لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوفى من وجعه هذا . إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت . اذهب بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلنسأله : فيمن يكون هذا الأمر بعده ، فإن كان فينا علمنا ذلك وإن كان في غيرنا علمنا فأوصى بنا . فقال علي : إنا والله لئن سألناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعناها لا يعطيناها الناس بعده ، وإني والله لا أسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) .
قال القاضي أبو بكر ( رضي الله عنه ) : رأي العباس عندي أصح ، وأقرب إلى الآخرة ، والتصريح بالتحقيق . وهذا يبطل قول مدعي الإشارة باستخلاف علي ، فكيف أن يدعى فيه نص ؟ ! .
_________
(1) نقل الحافظ ابن عساكر (4 : 166) عن الحافظ البيهقي حديث فضيل بن مرزوق أن الحسن المثني بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب سئل فقيل له : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من كنت مولاه فعلي مولاه))؟ فقال : ((بلى : ولكن والله لم يعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الإمارة والسلطان . ولو أراد ذلك لفصح لهم به ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أنصح للمسلمين . ولو كان الأمر كما قيل لقال : يا أيها الناس هذا ولي أمركم والقائم عليكم من بعدي ، فاسمعوا له وأطيعوا . والله لئن كان الله ورسوله اختار عليا لهذا الأمر وجعله القائم للمسلمين من بعده ثم ترك علي أمر الله ورسوله ، لكان علي أول من ترك أمر الله ورسوله)) . ورواه البيهقي من طرق متعددة في بعضها زيادة وفي بعضها نقصان والمعنى واحد .
(2) رواه البخاري في كتاب المغازي من صحيحه (ك 64 ب 83 - ج 5 ص 140 - 141) . ونقله ابن كثير في البداية والنهاية (5 : 227 و 251) من حديث الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك عن ابن عباس . ورواه الإمام أحمد في مسنده (1 : 263 و 325 و 2374 و 2999) .

(1/149)


فأما أبو بكر ، فقد « جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه . قالت له : فإن لم أجدك - كأنها تعني الموت - قال : تجدين أبا بكر » (1) .
« وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر وقد وقع بينه [ أي بين عمر ] وبين أبي بكر كلام ، فتعمر وجه النبي صلى الله عليه وسلم (2) ، حتى أشفق من ذلك أبو بكر ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " هل أنتم تاركو لي صاحبي ( مرتين ) . إني بعثت إليكم فقلتم : كذبت ، وقال أبو بكر : صدقت . إلا إني أبرأ إلى كل خليل من خلته » (3) " .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لو كنت متخذا في الإسلام خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا . ولكن أخي ، وصاحبي » (4) " .
وقد اتخذ الله صاحبكم خليلا . لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر (5) .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « بينما أنا نائم رأيتني على قليب (6) عليها دلو ، فنزعت منها ما شاء الله ، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين (7) وفي نزعه ضعف والله يغفر له ، ثم استحالت غربا (8) ، فأخذها ابن الخطاب ، فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع عمر ، حتى ضرب الناس بعطن » (9) .
_________
(1) في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري ( ك 62 ب 5 - ج 4 ص 191 ) من حديث جبير بن مطعم قال : أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه . قالت : أرأيت إن جئت ولم أجدك - كأنها تقول الموت - قال صلى الله عليه وسلم : « إن لم تجديني فأتي أبا بكر ».
(2) تمعر وجهه : تغير ، وذهب ما كان فيه من النضارة ، وإشراق اللون .
(3) في كتاب مناقب الصحابة من صحيح البخاري ( ك 62 ب 5 - ج 4 ص 192 ) عن أبي الدرداء مطولا .
(4) في الباب المذكور من كتاب مناقب الصحابة في صحيح البخاري ( ج 4 ص 191 ) من حديث عكرمة عن ابن عباس .
(5) في هذه الجملة اضطراب ونقص . وانظر لهذا المعنى حديث أبي سعيد الخدري في ذلك الموضع من صحيح البخاري ( ج 4 ص 190 - 191 ) ، وحديث ابن عباس في مسند أحمد ( 1 : 270 رقم 2432 ) ، والبداية والنهاية ( 5 : 229 و230 ) .
(6) القليب : البئر غير المطوية .
(7) الذنوب : الدلو العظيمة إذا ملئت ماء . وابن أبي قحافة هو أبو بكر .
(8) أي ثم عظمت فصارت كالدلو الواسعة التي تتخذ من جلد الثور لكبرها.
(9) أي حتى اتخذ الناس حولها مبركا لإبلهم لغزارة مائها ، والحديث في ذلك الموضوع من صحيح البخاري ( ج 4 ص 193 ) من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.

(1/150)


وقد ثبت أن « النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحدا وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، فرجف بهم : فقال : " اثبت أحد ، فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان » (1) .
وقال صلى الله عليه وسلم : « لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء ، فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر » (2) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها في مرضه : « ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابا ، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول : أنا أولى . ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر » (3) .
_________
(1) في كتاب فضائل الصحابة من صحيح مسلم ( ك 62 ب 5 - ج 4 ص 197 ) من حديث قتادة عن أنس بن مالك .
(2) في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري ( ك 62 ب 6 - ج 4 ص 200 ) من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة.
(3) في مسند أحمد ( 6 : 144 الطبعة الأولى ) من حديث الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة ، وانظر المسند أيضا ( 6 : 47 و106 ) وطبقات ابن سعد 3 ( 1 : 127 ) ومسند أبي داود الطيالسي : الحديث 1508.

(1/151)


وقال ابن عباس : « إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، وإني أرى الليلة في المنام ظلة تنطف السمن والعسل ، فأرى الناس يتكففون بأيديهم ، فالمستكثر والمستقل . وأرى سببا واصلا من السماء إلى الأرض فأراك أخذت به فعلوت ، [ ثم أخذ به رجل آخر فعلا به ، ثم أخذ به رجل آخر فعلا به ] ، ثم أخذ به رجل آخر فانقطع ، ثم وصل له فعلا » ( وذكر الحديث ) . ثم عبرها أبو بكر فقال : وأما السبب الواصل من السماء إلى الأرض فالحق الذي أنت عليه ، فأخذته فيعليك الله . ثم يأخذ به رجل آخر بعدك فيعلو به ، ثم يأخذه رجل آخر فيعلو به ، ثم يأخذه رجل آخر فينقطع به ثم يوصل فيعلو به (1) .
وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم : « من رأى منكم رؤيا فقال رجل : أنا رأيت ، كأن ميزانا نزل من السماء ، فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت . ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر . ووزن عمر وعثمان فرجح عمر . ثم رفع الميزان . فرأينا الكراهية في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم » (2) .
_________
(1) في كتاب التعبير من صحيح البخاري ( ك 91 ب 47 - ج 8 ص 83 - 84 ) من حديث عبد الله بن عباس ، وفي كتاب الرؤيا من صحيح مسلم ( ك 47 ح 17 - ج 7 ص 55 - 56 ) من حديث ابن عباس ، وفي مسند أحمد ( 1 : 236 الطبعة الأولى رقم 2113 ) من حديث ابن عباس .
(2) في كتاب السنة من سنن أبي داود ( ك 39 ب 8 ح 4634 ) من حديث أبي بكرة . وفي كتاب الرؤيا من جامع الترمذي ( الباب 10 ) من حديث أبي بكرة أيضا . وانظر في مسند أحمد ( 5 : 259 ) الطبعة الأولى حديث أبي أمامة عن رجحان كفة أبي بكر بكفة فيها جميع الأمة . . . إلخ .

(1/152)


وهذه الأحاديث جبال في البيان ، وجبال في السبب إلى الحق لمن وفقه الله . ولو لم يكن معكم - أيها السنية - إلا قوله تعالى : { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار } ( التوبة من الآية 40 ) فجعلها (1) في نصيف ، وجعل أبا بكر في نصيف آخر وقام معه جميع الصحابة .
_________
(1) أي الأمة .

(1/153)


وإذا تبصرتم هذه الحقائق فليس يخفى منها حال الخلفاء في خلالهم وولايتهم وترتيبهم خصوصا وعموما . وقد قال الله تعالى : { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا } ( سورة النور : من الآية 55 ) . وإذا لم ينفذ هذا الوعد في الخلفاء فلمن ينفذ ؟ وإذا لم يكن فيهم فبمن يكون ؟ والدليل عليه انعقاد الإجماع أنه لم يتقدمهم في الفضيلة أحد إلى يومنا هذا ، ومن بعد مختلف فيه ، وأولئك مقطوع بهم ، متيقن إمامتهم ، ثابت نفوذ وعد الله لهم ، فإنهم ذبوا عن حوزة المسلمين ، وقاموا بسياسة الدين . قال علماؤنا : ومن بعدهم تبع لهم من الأئمة الذين هم أركان الملة ، ودعائم الشريعة ، الناصحون لعباد الله ، الهادون من استرشد إلى الله . فأما من كان من الولاة الظلمة فضرره مقصور على الدنيا وأحكامها .

(1/154)


وأما حفاظ الدين فهم الأئمة العلماء الناصحون لدين الله ، وهم أربعة أصناف :
الصنف الأول : حفظوا أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم بمنزلة الخزان لأقوات المعاش .
الصنف الثاني : علماء الأصول : ذبوا عن دين الله أهل العناد وأصحاب البدع ، فهم شجعان الإسلام ، وأبطاله المداعسون عنه في مآزق الضلال (1) .
الصنف الثالث : قوم ضبطوا أصول العبادات ، وقانون المعاملات وميزوا المحللات من المحرمات ، وأحكموا الخراج والديات ، وبينوا معاني الأيمان والنذور ، وفصلوا الأحكام في الدعاوى ، فهم - في الدين - بمنزلة الوكلاء المتصرفين في الأموال .
الصنف الرابع : تجردوا للخدمة ، ودأبوا على العبادة ، واعتزلوا الخلق . وهم - في الآخرة - كخواص الملك في الدنيا .
وقد أوضحنا في كتاب ( سراج المريدين ) في القسم الرابع من علوم القرآن أي المنازل أفضل من هؤلاء الأصناف ، وترتيب درجاتهم .
قال القاضي أبو بكر ( رضي الله عنه ) : وهذه كلها إشارات أو تصريحات أو دلالات أو تنبيهات . ومجموع ذلك يدل على صحة ما جرى ، وتحقيق ما كان من العقلاء .
_________
(1) المداعسة : المطاعنة ، والمدافعة .

(1/155)


ونقول - بعد هذا البيان - على مقام آخر : لو كان هنالك نص على أبي بكر أو على علي ، لم يكن بد من احتجاج علي به ، أو يحتج له به غيره من المهاجرين والأنصار . فأما حديث غدير خم (1) فلا حجة فيه ، لأنه إنما استخلفه في حياته على المدينة كما استخلف موسى هارون في حياته - عند سفره للمناجاة - على بني إسرائيل . وقد اتفق الكل من إخوانهم اليهود على أن موسى مات بعد هارون فأين الخلافة ؟ .
وأما قوله « اللهم وال من والاه » فكلام صحيح ، ودعوة مجابة وما يعلم أحد عاداه إلا الرافضة ، فإنهم أنزلوه في غير منزلته ، ونسبوا إليه ما لا يليق بدرجته . والزيادة في الحد نقصان من المحدود . ولو تعدى عليها أبو بكر ما كان المتعدي وحده ، بل جميع الصحابة - كما قلنا - لأنهم ساعدوه على الباطل .
ولا تستغربوا هذا من قولهم ، فإنهم يقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان مداريا لهم ، معنيا بهم على نفاق وتقية . وأين أنت من قول النبي صلى الله عليه وسلم « حين سمع قول عائشة رضي الله عنها : مروا عمر فليصل بالناس " إنكن لأنتن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر فليصل بالناس » (2) " .
وما قدمنا من تلك الأحاديث (3) .
_________
(1) الذي مضى في القاصمة ص 181 ، وانظر في ص 185 - 186 تفسير الحسن المثنى لهذا الحديث .
(2) صحيح البخاري ( ك 10 ب 39 و46 و67 و70 - ج 1 ص 161 - 162 و165 ، و174 - 176 ) من حديث عائشة وأبي موسى الأشعري .
(3) في ص 187 - 190 .

(1/156)


لقد اقتحموا عظيما ، ولقد افتروا كبيرا . وما جعلها عمر شورى إلا اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأبي بكر ، إذ قال : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني ، وإن لم أستخلف فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستخلف (1) " فما رد هذه الكلمات أحد . وقال : " أجعلها شورى في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض (2) . وقد رضي الله عن أكثر منهم ، ولكنهم كانوا خيار الرضا ، وشهد لهم بالأهلية للخلافة .
وأما قولهم تحيل ابن عوف حتى ردها لعثمان ، فلئن كانت حيلة ولم يكن سواها فلأن الحول ليس إليه (3) . وإذا كان عمل العباد حيلة أو كان القضاء بالحول ، فالحول والقوة لله . وقد علم كل أحد أنه لا يليها إلا واحد ، فاستبد عبد الرحمن بن عوف بالأمر - بعد أن أخرج نفسه - على أن يجتهد للمسلمين في الأسد والأشد ، فكان كما فعل ، وولاها من استحقها ، ولم يكن غيره أولى منه بها ، حسبما بينا في مراتب الخلافة من ( أنوار الفجر ) (4) وفي غيره من [ كتب ] الحديث .
_________
(1) في كتاب الإمارة من صحيح مسلم ( ك 33 ح 11 و12 - ج 6 ص 4 - 5 ) من حديث عروة بن الزبير عن ابن عمر ، ومن حديث سالم عن ابن عمر . وفي مسند أحمد ( 1 : 43 رقم 299 ) عن عروة عن ابن عمر ، و( 1 : 46 رقم 322 ) عن حميد بن عبد الرحمن عن ابن عباس ، و( 1 : 47 رقم 332 ) عن الزهري عن سالم عن ابن عمر.
(2) من حديث عمرو بن ميمون المطول في كتاب فضائل الصحابة من صحيح البخاري ( ك 62 ب 8 ج 4 ص 204 - 207 ) ، وانظر كتابنا هذا ص 52 - 53.
(3) بل إلى الله . وإن الله هو الموفق لابن عوف وسائر إخوانه الصحابة حتى كانوا في ذلك الموقف على ما أراده الله لهم من صفاء النية وإخلاص القصد والعمل لله وحده . فكان من اختيار خليفة عمر في حادث الشورى مثلا أعلى للنفس الإنسانية عندما تكون في أعلى مراتب النبل ، والتجرد عن جميع خواطر الهوى.
(4) هو التفسير الكبير لابن العربي في ثمانين مجلدا . تكلمنا عليه في ص 27 .

(1/157)


وقتل عثمان ، فلم يبق على الأرض أحق بها من علي ، فجاءته على قدر ، في وقتها ومحلها . وبين الله على يديه من الأحكام والعلوم ما شاء الله أن يبين . وقد قال عمر : " لولا علي لهلك عمر " (1) ، وظهر من فقهه وعلمه في قتال أهل القبلة - من استدعائهم ومناظرتهم ، وترك مبادرتهم ، والتقدم إليهم قبل نصب الحرب معهم وندائه : لا نبدأ بالحرب . ولا يتبع مول ، ولا يجهز على جريح ، ولا تهاج امرأة ، ولا نغنم لهم مالا - وأمره بقبول شهادتهم ، والصلاة خلفهم ، حتى قال أهل العلم : لولا ما جرى ما عرفنا قتال أهل البغي .
وأما خروج طلحة والزبير فقد تقدم بيانه (2) .
وأما تكفيرهم للخلق ، فهم الكفار ، وقد بينا أحوال أهل الذنوب التي ليس منها سب في غير ما كتاب ، وشرحناها في كل باب .
_________
(1) هذا مع قول النبي صلى الله عليه وسلم فيه « أول من يصافحه الحق عمر » ، وقوله صلى الله عليه وسلم « إن الله وضع الحق على لسان عمر يقول به » وقوله صلى الله عليه وسلم « لو كان من بعدي نبي لكان عمر » .
(2) وأنه كان خروجا للتفاهم والتعاون على إقامة الحدود الشرعية في مقتل أمير المؤمنين عثمان ، انظر ص 150 - 152 .

(1/158)


فإن قيل : فقد قال العباس في علي ما رواه الأئمة أن العباس وعليا اختصما عند عمر في شأن أوقاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال العباس لعمر : يا أمير المؤمنين ، أقض بيني وبين هذا الظالم الكاذب الآثم الجائر (1) . فقال الرهط لعمر : يا أمير المؤمنين ، اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر . فقال عمر : أنشدكم الله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض ، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا نورث ، ما تركنا صدقة » يريد بذلك نفسه ؟ قالوا : قد قال ذلك . فأقبل على العباس وعلي فقال : أنشدكما الله ، هل تعلمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك ؟ قالا : نعم . قال عمر : إن الله خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره ، فعمل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته ، ثم توفي ، فقال أبو بكر : أنا ولي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبضها سنتين في إمارته فعمل فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأنتما تزعمان أن أبا بكر كاذب غادر خائن (2) ، والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق ... وذكر الحديث .
_________
(1) تقدم في ص 49 - 50 ذكر هذه التقاضي بين العباس وعلي عند أمير المؤمنين عمر من حديث مالك بن أوس بن الحدثان النصري في صحيح البخاري . قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري ( ك 57 ب 1 - ج 6 ص 125 ) : زاد شعيب ويونس : « فاستب علي وعباس » وفي رواية عقيل عن ابن شهاب في الفرائض : « اقض بيني وبين هذا الظالم . استبا » وفي رواية جويرية « وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن » وقال الحافظ : ولم أر في شيء من الطرق أنه صدر من علي في حق العباس شيء ، بخلاف ما يفهم من قوله في رواية عقيل « استبا » . واستصوب المازري صنيع من حذف هذه الألفاظ من هذا الحديث وقال : لعل الرواة وهم فيها وإن كانت محفوظة ، فأجود ما تحمل عليه أن العباس قالها دلالا على علي ، لأنه كان عنده بمنزلة الولد ، فأراد ردعه عما يعتقد أنه مخطئ فيه .
(2) قال الحافظ ابن حجر ( 6 : 125 ) : وكان الزهري يحدث به تارة فيصرح ، وتارة فيكني ، وكذلك مالك ، وقد حذف ذلك في رواية بشر بن عمر عنه عند الإسماعيلي وغيره ، وهو نظير ما سبق من قول العباس لعلي . . . إلخ.

(1/159)


قلنا : أما قول العباس لعلي فقول الأب للابن ، وذلك على الرأي محمول ، وفي سبيل المغفرة مبذول ، وبين الكبار والصغار - فكيف الآباء والأبناء - مغفور موصول ، وأما قول عمر أنهما اعتقدا أن أبا بكر ظالم خائن غادر ، فإنما ذلك خبر عن الاختلاف في نازلة وقعت من الأحكام ، رأى فيها هذا رأيا ورأى فيها أولئك رأيا ، فحكم أبو بكر وعمر بما رأيا ، ولم ير العباس وعلي ذلك . ولكن لما حكما سلما لحكمهما كما يسلم لحكم القاضي في المختلف فيه . وأما المحكوم عليه فرأى أنه قد وهم ، ولكن سكت وسلم .
فإن قيل : إنما يكون ذلك في أول الحال - والأمر لم يظهر - إذ كان الحكم باجتهاد ، وأما [ بعد أن ] أدى هذا الحكم إلى منع فاطمة والعباس الميراث بقول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا نورث ما تركناه صدقة » وعلمه أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه العشرة وشهدوا به ، فبطل ما قلتموه (1) .
_________
(1) انظر ص 48 - 51 .

(1/160)


قلنا : يحتمل أن يكون ذلك في أول الحال - والأمر لم يظهر بعد - فرأيا أن خبر الواحد في معارضة القرآن والأصول والحكم المشهور في الزمن لا يعمل به حتى يتقرر الأمر ، فلما تقرر سلما وانقادا ، بدليل ما قدمنا من الحديث الصحيح إلى آخره ، فلينظر فيه . وهذا أيضا ليس بنص في المسالة ، لأن قوله : « لا نورث ، ما تركناه صدقة » يحتمل أن يكون : لا يصح ميراثنا ، ولا أنا أهل له ، لأنه ليس لي ملك ، ولا تلبست بشيء من الدنيا فينتقل إلى غيري عني . ويحتمل " لا نورث " حكم ، وقوله " ما تركناه صدقة " حكم آخر معين أخبر به أنه قد أنفذ ذلك مخصوصا بما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، وكان له سهمه مع المسلمين فيما غنموا بما أخذوه عنوة . ويحتمل أن يكون " صدقة " منصوبا على أن يكون حالا من المتروك . إلى هذا أشار أصحاب أبي حنيفة ، وهو ضعيف ، وقد بيناه في موضعه . بيد أنه يأتيك في هذا أن المسألة مجرى الخلاف ، ومحل الاجتهاد ، أنها ليست بنص من النبي صلى الله عليه وسلم فتحتمل التصويب والتخطئة من المجتهدين والله أعلم .

(1/161)


قاصمة
ثم قتل علي . قالت الرافضة : فعهد إلى الحسن ، فسلمها الحسن إلى معاوية ، فقيل له " مسود وجوه المؤمنين (1) " وفسقته جماعة من الرافضة ، وكفرته طائفة لأجل ذلك .
_________
(1) من عناصر إيمان الرافضة - بل العنصر الأول في إيمانهم - اعتقادهم بعصمة الحسن وأبيه وأخيه ، وتسعة من ذرية أخيه . ومن مقتضى عصمتهم - وفي طليعتهم الحسن بعد أبيه - أنهم لا يخطئون ، وأن كل ما صدر عنهم فهو حق ، والحق لا يتناقض . وأهم ما صدر عن الحسن بن علي بيعته لأمير المؤمنين معاوية ، وكان ينبغي لهم أن يدخلوا في هذه البيعة ، وأن يؤمنوا بأنها الحق لأنها من عمل المعصوم عندهم . لكن المشاهد من حالهم أنهم كافرون بها . ومخالفون فيها لإمامهم المعصوم . ولا يخلو هذا من أحد وجهين : فإما أنهم كاذبون في دعوى العصمة لأئمتهم الاثني عشر فينهار دينهم من أساسه ، لأن عقيدة العصمة لهم هي أساسه ، ولا أساس له غيرها . وإما أن يكونوا معتقدين عصمة الحسن ، وأن بيعته لمعاوية هي من عمل المعصوم ، لكنهم خارجون على الدين ، ومخالفون للمعصوم فيما جنح إليه وأراد أن يلقى الله به . ويتواصون بهذا الخروج على الدين جيلا بعد جيل ، وطبقة بعد طبقة ، ليكون ثباتهم على مخالفة الإمام المعصوم عن إصرار وعناد ومكابرة وكفر . ولا ندري أي الوجهين يطوح بهم في مهاوي الهلكة أكثر مما يطوح بهم الوجه الآخر ، ولا ثالث لهما . فالذين قالوا منهم إن الحسن « مسود وجوه المؤمنين » لا يحمل كلامهم إلا على أنه « مسود وجوه المؤمنين بالطاغوت » أما المؤمنون بنبوة جد الحسن صلى الله عليه وسلم فيرون صلحه مع معاوية وبيعته له من أعلام النبوة ، لأنها حققت ما تنبأ به صلى الله عليه وسلم في سبطه سيد شباب أهل الجنة من أنه سيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين كما سيأتي بيانه . وكل الذين استبشروا بهذه النبوة وبهذا الصلح يعدون الحسن « مبيض وجوه المؤمنين ».

(1/162)


الصفحة السابقة   //   الصفحة التالية