صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)

الصفحة السابقة   //   الصفحة التالية
 

الكتاب : البداية والنهاية
مصدر الكتاب : الإنترنت
[ ترقيم الكتاب موافق للمطبوع ]

البصرة فمات بدار فيها، ويقال إنه مات بالمعركة، وإن عليا لما دار بين القتلى رآه فجعل يمسح عن وجهه التراب وقال: رحمة الله عليك أبا محمد، يعز علي أن أراك مجدولا تحت نجوم السماء، ثم قال: إلى الله أشكو عجري وبجري، والله لوددت أني كنت مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
ويقال إن الذي رماه بهذا السهم مروان بن الحكم، وقال لابان بن عثمان: قد كفيتك رجالا من قتلة عثمان، وقد قيل إن الذي رماه غيره، وهذا عندي أقرب، وإن كان الاول مشهورا الله أعلم.
وكان يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، ودفن طلحة إلى جانب الكلا وكان عمره ستين سنة، وقيل بضعا وستين سنة، وكان آدم، وقيل أبيض، حسن الوجه كثير الشعر إلى القصر أقرب وكانت غلته في كل يوم ألف درهم.
وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبيه أن رجلا رأى طلحة في منامه وهو يقول: حولوني عن قبري فقد أذاني الماء، ثلاث ليال، فأتى ابن عباس فأخبره - وكان نائبا على البصرة - فأشتروا له دارا بالبصرة بعشرة آلاف درهم فحولوه من قبره إليها، فإذا قد أخضر من جسده ما يلي الماء، وإذا هو كهيئة يوم أصيب، وقد وردت له فضائل كثيرة.
فمن ذلك ما رواه أبو بكر بن أبي عاصم: حدثنا الحسن بن علي بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، حدثني أبي عن جده عن موسى بن طلحة عن أبيه قال: سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد طلحة الخير، ويوم العسرة طلحة الفياض.
ويوم حنين طلحة الجود، وقال أبو يعلى الموصلي: ثنا أبو كريب، ثنا يونس عن ابن بكر عن طلحة بن يحيى عن موسى وعيسى ابني طلحة عن أبيهما أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا لاعرابي جاء يسأل عمن قضى نحبه فقالوا: سل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله في المسجد فأعرض عنه ثم سأله فأعرض عنه ثم اطلعت من باب المسجد وعلي
ثياب خضر فقال رسول الله: " أين السائل " ؟ قال ها أنا ذا فقال: " هذا ممن قضى نحبه " وقال أبو القاسم البغوي: ثنا داود بن رشيد ثنا مكي ثنا علي بن ابراهيم ثنا الصلت بن دينار عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من أراد أن ينظر إلى شهيد يمشي على رجليه فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله " (1) وقال الترمذي: حدثنا أبو سعيد الاشج ثنا أبو عبد الرحمن بن منصور العنزي - اسمه النضر - ثنا عقبة بن علقمة اليشكري سمعت علي بن أبي طالب يقول: سمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " طلحة والزبير جاراي في الجنة " (2) وقد روي من غير وجه
__________
(1) أخرجه الترمذي في المناقب ح 3739 ص 5 / 644 وقال أبو عيسى هذا حديث غريب لا نعرفه ألا من حديث الصلت وقد تكلم بعض أهل العلم في الصلت بن دينار وفي صالح بن موسى الصلحي (من ولد طلحة) من قبل حفظهما.
وانظر ابن سعد 3 / 218 - 219.
(2) الترمذي في المناقب ح 3741 ص 5 / 644 - 645.
(*)

(7/276)


عن علي أنه قال: إني لارجو أن أكون أنا وطلحة والزبير وعثمان ممن قال الله * (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين) * [ الحجر: 47 ] وقال حماد بن سلمة عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب أن رجلا كان يقع في طلحة والزبير وعثمان وعلي رضي الله عنهم فجعل سعد ينهاه ويقول: لا تقع في إخواني فأبى فقام فصلى ركعتين ثم قال: اللهم إن كان سخطا لك فيما يقول، فأرني فيه اليوم آية واجعله للناس عبرة.
فخرج الرجل فإذا ببختي يشق الناس فأخذه بالبلاط فوضعه بين كركرته والبلاط فسحقه حتى قتله.
قال سعيد بن المسيب: فأنا رأيت الناس يتبعون سعدا ويقولون: هنيئا لك أبا إسحاق أجيبت دعوتك.
والزبير بن العوام بن خويلد ابن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة أبو عبد الله القرشي الاسدي، وأمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم قديما وعمره خمس عشرة سنة، وقيل أقل وقيل أكثر، هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة
فآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين سلمة بن سلامة بن وقش، وقد شهد المشاهد كلها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاحزاب " من يأتينا بخبر القوم ؟ فقال: أنا، ثم ندب الناس فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير " (1) ثبت ذلك من رواية زر عن علي، وثبت عن الزبير أنه قال: " جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه يوم بني قريظة " وروي أنه أول من سل سيفا في سبيل الله، وذلك بمكة حين بلغ الصحابة أن رسول الله قد قتل فجاء شاهرا سيفه حتى رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشام سيفه، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وصحب الصديق فأحسن صحبته، وكان ختنه على ابنته أسماء بنت الصديق، وابنه عبد الله منها أول مولود ولد للمسلمين بعد الهجرة، وخرج مع الناس إلى الشام مجاهدا فشهد اليرموك فتشرفوا بحضوره، وكانت له بها اليد البيضاء والهمة العلياء، اخترق جيوش الروم وصفوفهم مرتين من أولهم إلى آخرهم، وكان من جملة من دافع عن عثمان وحاجف عنه، فلما كان يوم الجمل ذكره علي بما ذكره به فرجع عن القتال وكر راجعا إلى المدينة، فمر بقوم الاحنف بن قيس - وكانوا قد انعزلوا عن الفريقين - فقال قائل يقال له الاحنف: ما بال هذا جمع بين الناس حتى إذا التقوا كر راجعا إلى بيته ؟ من رجل يكشف لنا خبره ؟ فاتبعه عمرو بن جرموز وفضالة بن حابس ونفيع في طائفة من غواة بني تميم فيقال إنهم لما ادركوه تعاونوا عليه حتى قتلوه ويقال بل أدركه عمرو بن جرموز فقال له عمرو: إن لي إليك حاجة فقال: ادن ! فقال مولى الزبير، واسمه عطية - إن معه سلاحا فقال: وإن، فتقدم إليه فجعل يحدثه وكان وقت الصلاة فقال له الزبير: الصلاة فقال: الصلاة فتقدم الزبير ليصلي بهما فطعنه
__________
(1) طبقات ابن سعد 3 / 105 وسيرة ابن هشام 3 / 3 - 10 وانظر الاصابة 2 / 545 وهامشها 2 / 580.
(*)

(7/277)


عمرو بن جرموز فقتله ويقال بل أدركه عمرو بواد يقال له وادي السباع وهو نائم في القائلة فهجم عليه فقتله وهذا القول هو الاشهر، ويشهد له شعر امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل وكانت آخر من تزوجها وكانت قبله تحت عمر بن الخطاب فقتل عنها وكانت قبله تحت عبد الله بن
أبي بكر الصديق فقتل عنها فلما قتل الزبير رثته بقصيدة محكمة المعنى فقالت: غدر ابن جرموز بفارس بهمة * يوم اللقاء وكان غر معرد يا عمرو لو نبهته لوجدته * لا طائشا رعش الجنان ولا اليد ثكلتك أمك أن ظفرت بمثله * ممن بقي ممن يروح ويغتدي (1) كم غمرة قد خاضها لم يثنه * عنها طرادك يا بن فقع العردد (2) والله ربي إن قتلت لمسلما * حلت عليك عقوبة المتعمد ولما قتله عمرو بن جرموز فاجتز رأسه وذهب به إلى علي ورأى أن ذلك يحصل له به حظوة عنده فاستأذن فقال علي: لا تأذنوا له وبشروه بالنار، وفي رواية أن عليا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بشر قاتل ابن صفية بالنار " ودخل ابن جرموز ومعه سيف الزبير فقال علي: إن هذا السيف طال ما فرج الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال إن عمرو بن جرموز لما سمع ذلك قتل نفسه، وقيل بل عاش إلى أن تأمر مصعب بن الزبير، على العراق فاختفى منه، فقيل لمصعب: إن عمرو بن جرموز هاهنا مختف، فهل لك فيه ؟ فقال: مروه فليظهر فهو آمن، والله ما كنت لاقيد للزبير منه فهو أحقر من أن أجعله عدلا للزبير، وقد كان الزبير ذا مال جزيل وصدقات كثيرة جدا، لما كان يوم الجمل أوصى إلى ابنه عبد الله فلما قتل وجدوا عليه من الدين ألفي ألف ومائتا ألف فوفوها عنه، وأخرجوا بعد ذلك ثلث ماله الذي أوصى به ثم قسمت التركة بعد ذلك فأصاب كل واحدة من الزوجات الاربع من ربع الثمن ألف ألف ومائتا ألف (3) درهم، فعلى هذا يكون مجموع ما قسم بين الورثة ثمانية وثلاثين ألف ألف وأربعمائة ألف والثلث الموصى به تسعة عشر ألف ألف ومائتا ألف فتلك الجملة سبعة وخمسون ألف ألف وستمائة ألف والدين المخرج قبل ذلك ألفا ألف ومائتا ألف فعلى هذا يكون جميع ما تركه من الدين والوصية والميراث تسعة وخمسين ألف ألف وثمانمائة ألف وإنما نبهنا على هذا لانه وقع في صحيح البخاري ما فيه نظر ينبغي أن ينبه له.
والله أعلم.
وقد جمع ماله هذا بعد الصدقات الكثيرة والماثر الغزيرة مما أفاء الله عليه من الجهاد ومن
خمس الخمس ما يخص أمه منه، ومن التجارة المبرورة من الخلال المشكورة، وقد قيل إنه كان له
__________
(1) في ابن سعد: ثكلتك أمك هل ظفرت بمثله * فيمن مضى فيما تروح وتغتدي (2) في ابن سعد القردد، والقردد: ما ارتفع من الارض.
(3) في طبقات ابن سعد: ومائة ألف.
(*)

(7/278)


ألف مملوك يؤدون إليه الخراج، فربما تصدق في بعض الايام بخراجهم كلهم رضي الله عنه وأرضاه، وكان قتله يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وقد نيف على الستين بست أو سبع وكان أسمر ربعة من الرجال معتدل اللحم خفيف اللحية رضي الله عنه.
وفي هذه السنة اعني سنة ست وثلاثين ولى علي بن أبي طالب نيابة الديار المصرية لقيس بن سعد بن عبادة، وكان على نيابتها في أيام عثمان عبد الله بن سعد بن أبي سرح فلما توجه أولئك الاحزاب من خوارج المصريين إلى عثمان وكان الذي جهزهم إليه مع عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء محمد بن أبي حذيفة بن عتبة، وكان لما قتل أبوه باليمامة أوصى به إلى عثمان، فكفله ورباه في حجره ومنزله وأحسن إليه إحسانا كثيرا ونشأ في عبادة وزهادة، وسأل من عثمان أن يوليه عملا فقال له: متى ما صرت أهلا لذلك وليتك، فتعتب في نفسه على عثمان فسأل من عثمان أن يخرج إلى الغزو فأذن له، فقصد الديار المصرية وحضر مع أميرها عبد الله بن سعد بن أبي سرح غزوة الصواري كما قدمنا، وجعل ينتقص عثمان رضي الله عنه وساعده على ذلك محمد بن أبي بكر، فكتب بذلك ابن أبي سرح إلى عثمان يشكوهما إليه فلم يعبأ بهما عثمان ولم يزل ذلك دأب محمد بن أبي حذيفة حتى استنفر أولئك إلى عثمان فلما بلغه أنهم قد حصروا عثمان تغلب على الديار المصرية وأخرج منها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وصلى بالناس فيها، فلما كان ابن أبي سرح ببعض الطريق جاءه الخبر بقتل أمير المؤمنين عثمان فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وبلغه أن عليا قد بعث على إمرة مصر قيس بن سعد بن
عبادة، فشمت بمحمد بن أبي حذيفة، إذ لم يمتع بملك الديار المصرية سنة، وسار عبد الله بن سعد إلى الشام إلى معاوية فأخبره مما كان من أمره بديار مصر، وأن محمد بن أبي حذيفة قد استحوذ عليها، فسار معاوية وعمرو بن العاص ليخرجاه منها لانه من أكبر الاعوان على قتل عثمان، مع أنه كان قد رباه وكفله وأحسن إليه، فعالجا دخول مصر فلم يقدرا فلم يزالا يخدعانه حتى خرج إلى العريش في ألف رجل فتحصن بها، وجاء عمرو بن العاص فنصب عليه المنجنيق حتى نزل في ثلاثين من أصحابه فقتلوا، ذكره محمد بن جرير.
ثم سار إلى مصر قيس بن سعد بن عبادة بولاية من علي، فدخل مصر في سبعة نفر، فرقي المنبر وقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: بسم الله الرحمن الرحيم ! من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم فإني أحمد الله كثيرا الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن الله بحسن صنيعه وتقديره وتدبيره اختار الاسلام دينا لنفسه وملائكته ورسله، وبعث به الرسل إلى عباده وخص به من انتخب من خلقه، فكان مما أكرم الله به هذه الامة، وخصهم به من الفضيلة أن بعث محمدا صلى الله عليه وسلم يعلمهم الكتاب والحكمة والفرائض والسنة، لكيما يهتدوا، وجمعهم لكيما يتفرقوا، وزكاهم لكي يتطهروا، ووفقهم لكيلا يجوروا.
فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله إليه،

(7/279)


صلوات الله وسلامه عليه وبركاته ورحمته، ثم إن المسلمين استخلفوا بعده أميرين صالحين، عمالا بالكتاب [ والسنة ]، وأحسنا السيرة ولم يعدوا السنة ثم توفاهما الله فرحمهما الله، ثم ولى بعدهما وال أحدث أحداثا، فوجدت الامة عليه مقالا فقالوا، ثم نقموا عليه فغيروا، ثم جاؤوني فبايعوني فأستهدي الله بهداه وأستعينه على التقوى، ألا وإن لكم علينا العمل بكتاب الله وسنة رسول الله، والقيام عليكم بحقه والنصح لكم بالغيب والله المستعان وحسبنا الله ونعم الوكيل، وقد بعثت إليكم قيس بن سعد بن عبادة [ أميرا ] (1) فوازروه وكاتفوه وأعينوه على الحق، وقد أمرته بالاحسان إلى محسنكم والشدة على مريبكم والرفق بعوامكم وخواصكم، وهو ممن أرضى هديه
وأرجو صلاحه ونصيحته أسأل الله لنا ولكم عملا زاكيا وثوابا جزيلا ورحمة واسعة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وكتب عبد الله بن أبي رافع في صفر سنة ست وثلاثين قال: ثم قال قيس بن سعد فخطب الناس ودعاهم إلى البيعة لعلي، فقام الناس فبايعوه، واستقامت له طاعة بلاد مصر سوى قرية منها يقال لها خربتا (2)، فيها ناس قد أعظموا قتل عثمان - وكانوا سادة الناس ووجوههم وكانوا في نحو من عشرة آلاف وعليهم رجل يقال له يزيد بن الحارث المدلجي - وبعثوا إلى قيس بن سعد فوادعهم، وكذلك مسلمة بن مدلج الانصاري تأخر عن البيعة فتركه قيس بن سعد ووادعه، ثم كتب معاوية بن أبي سفيان - وقد استوثق له أمر الشام بحذافيره - إلى أقصى بلاد الروم والسواحل وجزيرة قبرص أيضا تحت حكمه وبعض بلاد الجزيرة كالرها وحران وقرقيسيا وغيرها، وقد ضوى إليها الذين هربوا يوم الجمل من العثمانية، وقد أراد الاشتر انتزاع هذه البلاد من يد نواب معاوية، فبعث إليه عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ففر منه الاشتر، واستقر أمر معاوية على تلك البلاد فكتب إلى قيس بن سعد يدعوه إلى القيام بطلب دم عثمان وأن يكون مؤازرا له على ما هو بصدده من القيام في ذلك، ووعده أن يكون نائبه على العراقين إذا تم له الامر مادام سلطانا فلما بلغه الكتاب - وكان قيس رجلا حازما - لم يخالفه ولم يوافقه بل بعث يلاطف معه الامر وذلك لبعده عن علي وقربه من بلاد الشام وما مع معاوية من الجنود، فسالمه قيس وتاركه ولم يواقعه على ما دعاه إليه ولا وافقه عليه: فكتب إليه معاوية: إنه لا يسعك معي تسويقك بي وخديعتك لي ولابد أن أعلم أنك سلم أو عدو - وكان معاوية حازما أيضا - فكتب إليه بما صمم عليه: إني مع علي إذ هو أحق بالامر منك فلما بلغ ذلك معاوية بن أبي سفيان يئس منه (3) ورجع ثم أشاع بعض أهل الشام أن
__________
(1) نص الكتاب في الطبري 5 / 227 وما بين معكوفين من الطبري.
(2) كذا بالاصل والطبري، وفي الكامل 3 / 269 خرنبا.
قال ياقوت: خرنبا خطأ وخربتا كور من كور مصر وهو حوالي الاسكندرية وهو الآن خراب لا يعرف (معجم البلدان).
(3) انظر الطبري 5 / 228 - 229 والكامل 3 / 269 - 270 نصوص الكتب المتبادلة بين قيس بن سعد ومعاوية بن
أبي سفيان.
(*)

(7/280)


قيس بن سعد يكاتبهم في الباطن ويمالئهم على أهل العراق، وروى ابن جرير أنه جاء من جهته كتاب مزور بمبايعته معاوية والله أعلم بصحته (1).
ولما بلغ ذلك عليا فاتهمه وكتب له أن يغزوا أهل خربتا الذين تخلفوا عن البيعة، فبعث إليه يعتذر إليه بأنهم عدد كثير، وهم وجوه الناس.
وكتب إليه: إن كنت إنما أمرتني بهذا لتختبرني لانك اتهمتني، فابعث على عملك بمصر غيري، فبعث علي على إمرة مصر الاشتر النخعي، فسار إليها الاشتر النخعي فلما بلغ القلزم شرب شربة من عسل فكان فيها حتفه فبلغ ذلك أهل الشام فقالوا: إن لله جندا من عسل، فلما بلغ عليا مهلك الاشتر بعث محمد بن أبي بكر على إمرة مصر، وقد قيل وهو الاصح إن عليا ولى محمد بن أبي بكر بعد قيس بن سعد، فارتحل قيس إلى المدينة، ثم ركب هو وسهل بن حنيف إلى علي فاعتذر إليه قيس بن سعد فعذره علي، وشهدا معه صفين كما سنذكره، فلم يزل محمد بن أبي بكر بمصر قائم الامر مهيبا بالديار المصرية، حتى كانت وقعة صفين، وبلغ أهل مصر خبر معاوية ومن معه من أهل الشام على قتال أهل العراق، وصاروا إلى التحكيم فطمع أهل مصر في محمد بن أبي بكر واجترأوا عليه وبارزوه بالعداوة فكان من أمره ما سنذكره وكان عمرو بن العاص قد بايع معاوية على القيام بطلب دم عثمان، وكان قد خرج من المدينة حين أرادوا حصره لئلا يشهد مهلكه، مع أنه كان متعتبا عليه بسبب عزله له عن ديار مصر وتوليته بدله عليها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فتسرح عن المدينة على تغضب فنزل قريبا من الاردن، فلما قتل عثمان صار إلى معاوية فبايعه على ما ذكرنا.
في وقعة صفين بين أهل العراق وبين أهل الشام قد تقدم ما رواه الامام أحمد عن إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن محمد بن سيرين.
أنه قال: " هاجت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرات الالوف فلم يحضرها منهم مائة، بل لم
يبلغوا ثلاثين " وقال الامام أحمد: حدثنا أمية بن خلد قال لشعبة إن أبا شيبة روى عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: " شهد صفين من أهل بدر سبعون رجلا، فقال: كذب أبو شيبة، والله لقد ذاكرنا الحكم في ذلك فما وجدناه شهد صفين من أهل بدر غير خزيمة بن ثابت ؟ وقد قيل أنه شهدها من أهل بدر سهل بن حنيف، وكذا أبو أيوب الانصاري.
قاله شيخنا العلامة ابن تيمية في كتاب الرد على الرافضة - وروى ابن بطة باسناده عن بكير بن الاشج أنه قال: أما إن رجالا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم.
__________
(1) راجع نص هذا الكتاب المختلق على قول الطبري في تاريخه 5 / 230.
(*)

(7/281)


وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه لما فرغ من وقعة الجمل ودخل البصرة وشيع أم المؤمنين عائشة لما أرادت الرجوع إلى مكة، سار من البصرة إلى الكوفة قال أبو الكنود عبد الرحمن بن عبيد فدخلها علي يوم الاثنين لثنتي عشرة (1) ليلة خلت من رجب سنة ست وثلاثين فقيل له: انزل بالقصر الابيض، فقال: لا ! إن عمر بن الخطاب كان يكره نزوله فأنا أكرهه لذلك، فنزل في الرحبة وصلى في الجامع الاعظم ركعتين، ثم خطب فحثهم على الخير ونهاهم عن الشر، ومدح أهل الكوفة في خطبته هذه، ثم بعث إلى جرير بن عبد الله - وكان على همذان من زمان عثمان - وإلى الاشعث بن قيس - وهو على نيابة أذربيجان من زمان عثمان - أن يأخذا البيعة على من هنالك من الرعايا ثم يقبلا إليه، ففعلا ذلك.
فلما أراد علي رضي الله عنه أن يبعث إلى معاوية رضي الله عنه يدعوه إلى بيعته قال جرير بن عبد الله: أنا أذهب إليه يا أمير المؤمنين فإن بيني وبينه ودا، فآخذ لك منه البيعة، فقال الاشتر: لا تبعثه يا أمير المؤمنين فإني أخشى أن يكون هواه معه.
فقال علي: دعه، وبعثه وكتب معه كتابا إلى معاوية يعلمه باجتماع المهاجرين والانصار على بيعته (2)، ويخبره بما كان في وقعة الجمل، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس.
فلما انتهى إليه جرير بن عبد الله أعطاه الكتاب فطلب معاوية عمرو بن العاص ورؤوس أهل الشام فاستشارهم فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان، أو أن يسلم إليهم قتلة عثمان، وإن لم يفعل
قاتلوه ولم يبايعوه حتى يقتل قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
فرجع جرير إلى علي فأخبره بما قالوا، فقال الاشتر: يا أمير المؤمنين ألم أنهك أن تبعث جريرا ؟ فلو كنت بعثتني لما فتح معاوية بابا إلا أغلقته.
فقال له جرير: لو كنت ثم لقتلوك بدم عثمان.
فقال الاشتر: والله لو بعثتني لم يعيني جواب معاوية ولاعجلنه عن الفكرة، ولو أطاعني قبل لحبسك وأمثالك حتى يستقيم أمر الامة، فقام جرير مغضبا وأقام بقرقيسيا، وكتب إلى معاوية يخبره بما قال وما قيل له، فكتب إليه معاوية يأمره بالقدوم عليه وخرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من الكوفة عازما على الدخول إلى الشام فعسكر بالنخيلة (3) واستخلف على الكوفة أبا مسعود عقبة بن عامر البدري الانصاري وكان قد أشار عليه جماعة بأن يقيم بالكوفة ويبعث الجنود وأشار آخرون أن يخرج فيهم بنفسه، وبلغ معاوية أن عليا قد خرج بنفسه فاستشار عمرو بن العاص فقال له: أخرج أنت أيضا بنفسك، وقام عمرو بن العاص في الناس فقال: إن صناديد أهل الكوفة والبصرة قد تفانوا يوم الجمل، ولم يبق مع علي إلا شرذمة قليلة من الناس، ممن قتل، وقد قتل الخليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، فالله
__________
(1) كذا بالاصل ومروج الذهب والاخبار الطوال، وفي فتوح ابن الاعثم 2 / 347: لستة عشر يوما خلت...(2) في فتوح ابن الاعثم 2 / 352: أن علي كتب كتابا إلى معاوية وأرسله مع الحجاج بن عمرو بن غزية الانصاري وذلك قبل إرساله جرير بن عبد الله إلى معاوية.
وانظر كتاب علي إلى معاوية مع جرير بن عبد الله في الاخبار الطوال ص 157.
وفتوح ابن الاعثم 2 / 374.
(3) النخيلة: تصغير نخلة، موضع قرب الكوفة على سمت الشام (معجم البلدان).
(*)

(7/282)


الله في حقكم أن تضيعوه، وفي دمكم أن تطلوه، وكتب إلى أجناد الشام فحضروا، وعقدت الالوية والرايات للامراء، وتهيأ أهل الشام وتأهبوا، وخرجوا أيضا إلى نحو الفرات من ناحية صفين - حيث يكون مقدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه - وسار علي رضي الله عنه بمن معه من الجنود من النخيلة قاصدا أرض الشام.
قال أبو إسرائيل عن الحكم بن عيينة: وكان في جيشه ثمانون بدريا ومائة وخمسون ممن بايع تحت الشجرة (1).
رواه ابن ديزيل.
وقد اجتاز في طريقه
براهب فكان من أمره ما ذكره الحسين بن ديزيل في كتابه فيما رواه عن يحيى بن عبد الله الكرابيسي عن نصر بن مزاحم عن عمر بن سعد حدثني مسلم الاعور عن حبة العرني قال: لما أتى علي الرقة نزل بمكان يقال له البلبخ على جانب الفرات فنزل إليه راهب من صومعته فقال لعلي: إن عندنا كتابا توارثناه عن آبائنا كتبه أصحاب عيسى بن مريم عليهما السلام، أعرضه عليك ؟ فقال علي: نعم ! فقرأ الراهب الكتاب: " بسم الله الرحمن الرحيم الذي قضى فيما قضى وسطر فيما سطر، وكتب فيما كتب انه باعث في الاميين رسولا منهم يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ويدلهم على سبيل الله، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الاسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل شرف، وفي كل صعود وهبوط، تذل ألسنتهم بالتهليل والتكبير، وينصره الله على كل من ناوأه فإذا توفاه الله اختلفت أمته ثم اجتمعت فلبثت بذلك ما شاء الله ثم اختلفت ثم يمر رجل من أمته بشاطئ هذا الفرات يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويقضي بالحق ولا ينكس الحكم، الدنيا أهون عليه من الرماد أو قال التراب - في يوم عصفت فيه الريح - والموت أهون عليه من شرب الماء، يخاف الله في السر، وينصح في العلانية، ولا يخاف في الله لومة لائم، فمن أدرك ذلك النبي من أهل البلاد فآمن به كان ثوابه رضواني والجنة، ومن أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره فإن القتل معه شهادة " ثم قال لعلي: فأنا أصاحبك فلا أفارقك حتى يصيبني ما أصابك.
فبكى علي ثم قال: الحمد لله الذي لم يجعلني عنده نسيا منسيا، والحمد لله الذي ذكرني عنده في كتب الابرار، فمضى الراهب معه وأسلم فكان مع علي حتى أصيب يوم صفين، فلما خرج الناس يطلبون قتلاهم قال علي: اطلبوا الراهب، فوجدوه قتيلا، فلما وجدوه صلى عليه ودفنه واستغفر له.
وقد بعث علي بين يديه زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثمانية آلاف، ومعه شريح بن هاني، في أربعة آلاف، فساروا في طريق بين يديه غير طريقة، وجاء علي فقطع دجلة من جسر منبج وسارت المقدمتان، فبلغهم أن معاوية قد ركب في أهل الشام ليلتقي أمير المؤمنين عليا فهموا بلقياه فخافوا من قلة عددهم بالنسبة إليه، فعدلوا عن طريقهم وجاؤوا ليعبروا من عانات (2) فمنعهم أهل
__________
(1) في فتوح ابن الاعثم 2 / 450: مائتان وخمسون.
(2) عانات: موضع من أرياف العراق، قال الخليل: مما يلي ناحية الجزيرة تنسب إليه الخمر الجيدة (معجم ما استعجم).
(*)

(7/283)


عانات فساروا فعبروا من هيت ثم لحقوا عليا - وقد سبقهم - فقال علي: مقدمتي تأتي من ورائي ؟ فاعتذروا إليه مما جرى لهم، فعذرهم ثم قدمهم أمامه إلى معاوية بعد أن عبر الفرات فتلقاهم أبو الاعور عمرو بن سفيان السلمي في مقدمة أهل الشام فتواقفوا، ودعاهم زياد بن النضر أمير مقدمة أهل العراق، إلى البيعة فلم يجيبوه بشئ فكتب إلى علي بذلك فبعث إليهم علي الاشتر النخعي أميرا، وعلى ميمنته زياد، وعلى ميسرته شريح، وأمره أن لا يتقدم إليهم بقتال حتى يبدأوه بالقتال، ولكن ليدعهم إلى البيعة مرة بعد مرة، فإن امتنعوا فلا يقاتلهم حتى يقاتلوه ولا يقرب منهم قرب من يريد الحرب، ولا يبتعد منهم ابتعاد من يهاب الرجال (1)، ولكن صابرهم حتى آتينك فأنا حثيث السير وراءك إن شاء الله، فتحاجزوا يومهم ذلك، فلما كان آخر النهار حمل عليهم أبو الاعور السلمي وبعث معه بكتاب الامارة على المقدمة مع الحارث بن جهمان الجعفي، فلما قدم الاشتر على المقدمة امتثل ما أمره به علي، فتواقف هو ومقدمة معاوية وعليها أبو الاعور السلمي فثبتوا له واصطبروا لهم ساعة ثم انصرف أهل الشام عند المساء، فلما كان الغد تواقفوا أيضا وتصابروا فحمل الاشتر فقتل عبد الله بن المنذر التنوخي - وكان من فرسان أهل الشام - قتله رجل من أهل العراق يقال له ظبيان بن عمارة التميمي، فعند ذلك حمل عليهم أبو الاعور بمن معه، فتقدموا إليهم وطلب الاشتر من أبي الاعور أن يبارزه فلم يجبه أبو الاعور إلى ذلك، وكأنه رآه غير كفء له في ذلك والله أعلم.
وتحاجز القوم عن القتال عند إقبال الليل من اليوم الثاني، فلما كان صباح اليوم الثالث أقبل علي رضي الله عنه في جيوشه، وجاء معاوية رضي الله عنه في جنوده، فتواجه الفريقان وتقابل الطائفتان فبالله المستعان، فتواقفوا طويلا.
وذلك بمكان يقال له: صفين وذلك في أوائل ذي الحجة، ثم عدل علي رضي الله عنه فارتاد لجيشه منزلا، وقد كان معاوية سبق
بجيشه فنزلوا على مشرعة الماء في أسهل موضع وأفسحه، فلما نزل علي نزل بعيدا من الماء، وجاء سرعان أهل العراق ليردوا من الماء فمنعهم أهل الشام، فوقع بينهم مقاتلة بسبب ذلك، وقد كان معاوية وكل على الشريعة أبا الاعور السلمي، وليس هناك مشرعة سواها، فعطش أصحاب علي عطشا شديدا فبعث علي الاشعث بن قيس الكندي في جماعة ليصلوا إلى الماء فمنعهم أولئك وقال: موتوا عطشا كما منعتم عثمان الماء، فتراموا بالنبل ساعة، ثم تطاعنوا بالرماح أخرى، ثم تقاتلوا بالسيوف بعد ذلك كله، وأمد كل طائفة أهلها، حتى جاء الاشتر النخعي من ناحية العراقيين وعمرو بن العاص من ناحية الشاميين، واشتدت الحرب بينهم أكثر مما كانت، وقد قال رجل من أهل العراق - وهو عبد الله بن عوف بن الاحمر الازدي - وهو يقاتل: خلوا لنا ماء الفرات الجاري * أو اثبتوا بجحفل جرار لكل قرم مشرب تيار (2) * مطاعن برمحه كرار
__________
(1) في الطبري: البأس.
(2) في الطبري والكامل: لكل قرم مستميت شاري.
(*)

(7/284)


* ضراب هامات العدى مغوار * (1) ثم ما زال أهل العراق يكشفون الشاميين عن الماء حتى أزاحوهم عنه وخلوا بينهم وبينه، ثم اصطلحوا على الورود حتى صاروا يزدحمون في تلك الشريعة لا يكلم أحد أحدا، ولا يؤذي إنسان إنسانا.
وفي رواية أن معاوية لما أمر أبا الاعور بحفظ الشريعة وقف دونها برماح مشرعة، وسيوف مسللة، وسهام مفرقة، وقسي موترة، فجاء أصحاب علي عليا فشكوا إليه ذلك فبعث صعصعة بن صوحان إلى معاوية يقول له: إنا جئنا كافين عن قتالكم حتى نقيم عليكم الحجة، فبعثت إلينا مقدمتك فقاتلتنا قبل أن نبدأكم، ثم هذه أخرى قد منعونا الماء، فلما بلغه ذلك قال معاوية للقوم: ماذا يريدون ؟ فقال عمرو خل بينهم وبينه، فليس من النصف أن نكون ريانين وهم عطاش، وقال الوليد: دعهم يذوقوا من العطش ما أذاقوا أمير المؤمنين عثمان حين حصروه
في داره، ومنعوه طيب الماء والطعام أربعين صباحا، وقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح (2): امنعهم الماء إلى الليل فلعلهم يرجعون إلى بلادهم.
فسكت معاوية فقال له صعصعة بن صوحان: ماذا جوابك ؟ فقال: سيأتيكم رأيي بعد هذا، فلما رجع صعصعة فأخبر ركب الخيل والرجال، فما زالوا حتى أزاحوهم عن الماء ووردوه قهرا، ثم اصطلحوا فيما بينهم على ورود الماء، ولا يمنع أحد أحدا منه.
وأقام على يومين لا يكاتب معاوية ولا يكاتبه معاوية، ثم دعا علي بشير بن عمرو الانصاري وسعيد بن قيس الهمداني وشبيث بن ربعي السهمي فقال: إيتوا هذا الرجل فادعوه إلى الطاعة والجماعة واسمعوا ما يقول لكم، فلما دخلوا على معاوية قال له بشير بن عمرو: يا معاوية ! إن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، والله محاسبك بعملك، ومجازيك بما قدمت يداك، وإني أنشدك الله أن تفرق جماعة هذه الامة، وأن تسفك دماءها بينها.
فقال له معاوية هلا أوصيت بذلك صاحبكم ؟ فقال له: إن صاحبي أحق هذه البرية بالامر في فضله ودينه وسابقته وقرابته، وإنه يدعوك إلى مبايعته فإنه أسلم لك في دنياك، وخير لك في آخرتك.
فقال معاوية: ويطل دم عثمان ؟ لا والله لا أفعل ذلك أبدا، ثم أراد سعيد بن قيس الهمداني أن يتكلم فبدره شبيث بن ربعي فتكلم قبله بكلام فيه غلظة وجفاء في حق معاوية، فزجره معاوية وزبره في افتياته على من هو أشرف منه، وكلامه بما لا علم له به، ثم أمر بهم فأخرجوا من بين يديه، وصمم على القيام بطلب دم عثمان الذي قتل مظلوما، فعند ذلك نشبت الحرب بينهم، وأمر علي بالطلائع والامراء أن تتقدم للحرب، وجعل علي يؤمر على كل قوم من الحرب أميرا، فمن أمرائه على الحرب الاشتر النخعي - وهو أكبر من كان يخرج
__________
(1) زاد الكامل شطرا: لم يخش غير الواحد القهار، (2) قيل أن الوليد بن عقبة وعبد الله بن أبي سرح لم يشهدا صفين.
أما الطبري والاخبار الطوال والاصابة فقد ذكروا أنهما شهدا صفين.
(*)

(7/285)


للحرب - وحجر بن عدي، وشبيث بن ربعي، وخالد بن المعتمر (1) وزياد بن النضر، وزياد بن
حفصة (2)، وسعيد بن قيس، ومعقل بن قيس، وقيس بن سعد، وكذلك كان معاوية يبعث على الحرب كل يوم أميرا، فمن أمرائه عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وأبو الاعور السلمي، وحبيب بن مسلم، وذو الكلاع الحميري، وعبيد الله بن عمر بن الخطاب، وشرحبيل بن السمط، وحمزة بن مالك الهمداني، وربما اقتتل الناس في اليوم مرتين، وذلك في شهر ذي الحجة بكماله، وحج بالناس في هذه السنة عبد الله بن عباس عن أمر علي له بذلك، فلما انسلخ ذو الحجة ودخل المحرم تداعى الناس للمتاركة، لعل الله أن يصلح بينهم على أمر يكون فيه حقن دمائهم، فكان ما سنذكره.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين استهلت هذه السنة وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه متواقف هو ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، كل منهما في جنوده بمكان يقال له صفين بالقرب من الفرات شرقي بلاد الشام، وقد اقتتلوا في مدة شهر ذي الحجة كل يوم، وفي بعض الايام ربما اقتتلوا مرتين، وجرت بينهم حروب يطول ذكرها، والمقصود أنه لما دخل شهر المحرم تحاجز القوم رجاء أن يقع بينهم مهادنة وموادعة يؤول أمرها إلى الصلح بين الناس وحقن دمائهم، فذكر ابن جرير: من طريق هشام عن أبي مخنف مالك، حدثني سعيد (3) بن المجاهد الطائي عن محل بن خليفة أن عليا بعث عدي بن حاتم ويزيد بن قيس الارحبي، وشبيث بن ربعي وزياد بن خصفة (4) إلى معاوية، فلما دخلوا عليه - وعمرو بن العاص إلى جانبه - قال عدي بعد حمد الله والثناء عليه: أما بعد يا معاوية فإنا جئناك ندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وأمرنا، وتحقن به الدماء، ويأمن به السبل، ويصلح ذات البين، إن ابن عمك سيد المسلمين أفضلها سابقة، وأحسنها في الاسلام أثرا وقد استجمع له الناس وقد ارشدهم الله بالذي رأوا فلم يبق أحد غيرك وغير من معك من شيعتك، فأنت يا معاوية لا يصبك الله وأصحابك مثل يوم الجمل، فقال له معاوية: كأنك إنما جئت مهددا ولم تأت مصلحا، هيهات والله يا عدي، كلا والله إني لابن حرب، لا يقعقع لي بالشنان، أما والله إنك لمن المجلبين على ابن عفان، وإنك لم قتلته، وإني لارجو أن تكون ممن يقتله الله به،
وتكلم شبيث بن ربعي وزياد بن خصفة (4) فذكرا من فضل علي وقالا: اتق الله يا معاوية ولا
__________
(1) في الطبري والكامل: خالد بن المعمر.
(2) في الطبري والكامل: زياد بن خصفة التيمي.
(3) في الطبري: سعد أبو المجاهد الطائي.
(4) من الطبري والكامل، وفي الاصل حفصة تحريف.
(*)

(7/286)


تخالفه فأنا والله ما رأينا رجلا قط أعمل بالتقوى، ولا أزهد في الدنيا، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه.
فتكلم معاوية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنكم دعوتموني إلى الجماعة والطاعة، فأما الجماعة فمعنا هي، وأما الطاعة فكيف أطيع رجلا أعان على قتل عثمان وهو يزعم أنه لم يقتله ؟ ونحن لا نرد ذلك عليه ولا نتهمه به، ولكنه آوى قتلته، فيدفعهم إلينا حتى نقتلهم ثم نحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة.
فقال له شبيث بن ربعي: أنشدك الله يا معاوية، لو تمكنت من عمار أكنت قاتله بعثمان ؟ قال معاوية: لو تمكنت من ابن سمية ما قتلته بعثمان، ولكني كنت قتلته بغلام (1) عثمان.
فقال له شبيث بن ربعي: وإله الارض والسماء لا تصل إلى قتل عمار حتى تندر الرؤوس عن كواهلها، ويضيق فضاء الارض ورحبها عليك.
فقال معاوية لو قد كان ذلك كانت عليك أضيق.
وخرج القوم من بين يديه فذهبوا إلى علي فأخبروه بما قال.
وبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري، وشرحبيل بن السمط، ومعن بن يزيد بن الا خمس إلى علي، فدخلوا عليه فبدأ حبيب فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإن عثمان بن عفان كان خليفة مهديا عمل بكتاب الله وثبت (2) لامر الله، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته، فعدوتم عليه فقتلتموه فادفع إلينا قتله إن زعمت أنك لم تقتله، ثم اعتزل أمر الناس فيكون أمرهم شورى بينهم، فيولي الناس أمرهم من جمع عليهم رأيهم فقال له علي: وما أنت لا أم لك، وهذا الامر وهذا العزل، فاسكت فإنك لست هناك ولا بأهل لذاك، فقال له حبيب: أما والله لتريني حيث تكره، فقال له علي: وما أنت ولو أجلبت بخيلك ورجلك لا أبقى الله عليك إن أبقيت، أذهب فصعد وصوب ما بدا لك.
ثم
ذكر أهل السير كلاما طويلا جرى بينهم وبين علي (3)، وفي صحة ذلك عنهم وعنه نظر فإن في مطاوي ذلك الكلام من علي ما ينتقض فيه معاوية وأباه، وإنهم إنما دخلوا في الاسلام ولم يزالا في تردد فيه وغير ذلك وإنه قال في غبون ذلك: لا أقول إن عثمان قتل مظلوما ولا ظالما.
فقالوا: نحن نبرأ ممن لم يقل إن عثمان قتل مظلوما، وخرجوا من عنده، فقال علي: * (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون) * [ النمل: 80 ] ثم قال لاصحابه: لا يكن هؤلاء أولى بالجد في ضلالتهم منكم بالجد في حقكم وطاعة نبيكم، وهذا عندي لا يصح عن علي رضي الله عنه.
وروى ابن ديزيل من طريق عمرو بن سعد باسناده أن قراء أهل العراق وقراء أهل الشام عسكروا ناحية وكانوا قريبا من ثلاثين ألفا، وأن جماعة من قراء العراق منهم عبيدة السلماني، وعلقمة بن قيس، وعامر بن عبد قيس، وعبد الله بن عتبة بن مسعود، وغيرهم جاؤوا معاوية فقالوا له: ما تطلب ؟ قال: أطلب بدم عثمان قالوا: فمن تطلب به ؟ قال: عليا، قالوا: أهو
__________
(1) بناتل مولى عثمان (قاله الطبري والكامل).
(2) في الطبري 6 / 4: وينيب.
وفي فتوح ابن الاعثم 3 / 27 ينتهي إلى أمر الله.
(3) انظر تفاصيل ذلك في الطبري 6 / 4 - 5 والكامل 3 / 292 - 293 وفتوح ابن الاعثم 3 / 27 - 29.
(*)

(7/287)


قتله ؟ قال: نعم ! وآوى قتلته، فانصرفوا إلى علي فذكروا له ما قال فقال: كذب ! لم أقتله وأنتم تعلمون أني لم أقتله.
فرجعوا إلى معاوية فقال: إن لم يكن قتله بيده فقد أمر رجالا.
فرجعوا إلى علي فقال: والله لا قتلت ولا أمرت ولا ماليت.
فرجعوا فقال معاوية: فإن كان صادقا فليقدنا من قتلة عثمان، فإنهم في عسكره وجنده فرجعوا فقال علي: تأول القوم عليه القرآن في فتنة ووقعت الفرقة لاجلها وقتلوه في سلطانه وليس لي عليهم سبيل.
فرجعوا إلى معاوية فأخبروه فقال: إن كان الامر على ما يقول فماله أنفذ الامر دوننا من غير مشورة منا ولا ممن هاهنا ؟ فرجعوا إلى علي فقال علي: إنما الناس مع المهاجرين والانصار، فهم شهود الناس على ولايتهم وأمر دينهم،
ورضوا وبايعوني، ولست أستحل أن ادع مثل معاوية يحكم على الامة ويشق عصاها، فرجعوا إلى معاوية فقال: ما بال من ها هنا من المهاجرين والانصار لم يدخلوا في هذا الامر ؟ فرجعوا فقال علي: إنما هذا للبدريين دون غيرهم، وليس على وجه الارض بدري إلا وهو معي، وقد بايعني وقد رضي، فلا يغرنكم من دينكم وأنفسكم، قال: فأقاموا يتراسلون في ذلك شهر ربيع الآخر وجماديين ويقرعون في غبون ذلك القرعة بعد القرعة ويزحف بعضهم على بعض، ويحجز بينهم القراء، فلا يكون قتال قال: فقرعوا في ثلاثة أشهر خمسة وثمانين قرعة.
قال: وخرج أبو الدرداء وأبو أمامة (1) فدخلا على معاوية فقالا له: يا معاوية على ما تقاتل هذا الرجل ؟ فوالله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلاما، وأقرب منك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحق بهذا الامر منك.
فقال: أقاتله على دم عثمان وإنه آوى قتلته، فاذهبا إليه فقولا له فليقدنا من قتلة عثمان ثم أنا أول من بايعه من أهل الشام، فذهبا إلى علي فقالا له ذلك فقال: هؤلاء الذين تريان فخرج خلق كثير فقالوا: كلنا قتلة عثمان فمن شاء فليرمنا.
قال: فرجع أبو الدردا وأبو أمامة فلم يشهدا لهم حربا.
قال عمرو بن سعد باسناده حتى إذا كان رجب وخشي معاوية أن تبايع القراء كلهم عليا كتب في سهم من عبد الله الناصح: يا معشر أهل العراق ! إن معاوية يريد أن يفجر عليكم الفرات ليغرقكم فخذوا حذركم، ورمى به في جيش أهل العراق.
فأخذه الناس فقرأوه وتحدثوا به، وذكروه لعلي فقال: إن هذا ما لا يكون ولا يقع.
وشاع ذلك، وبعث معاوية مائتي فاعل يحفرون في جنب الفرات وبلغ الناس ذلك فتشوش أهل العراق من ذلك وفزعوا إلى علي فقال: ويحكم ! إنه يريد خديعتكم ليزيلكم عن مكانكم هذا وينزل فيه لانه خير من مكانه.
فقالوا: لابد من أن نخلي عن هذا الموضع فارتحلوا منه، وجاء معاوية فنزل بجيشه - وكان علي آخر من ارتحل - فنزل بهم وهو يقول:
__________
(1) كذا بالاصل والاخبار الطوال، وفي ابن الاعثم: أبو الدرداء وأبو هريرة، وما ذكر أبو الدرداء إلا من الواقدي، وليس لهذه الحادثة أثر في الطبري أو في الكامل لابن الاثير، وقد لاحظنا قريبا أن أبا الدرداء مات في خلافة عثمان (انظر الاصابة 5 / 46 وتهذيب التهذيب 8 / 176).
(*)

(7/288)


فلو أني أطعت عصمت (1) قومي * إلى ركن اليمامة أو شآم ولكني إذا أبرمت أمرا * يخالفه الطغام بنو الطغام (2) قال: فأقاموا إلى شهر ذي الحجة ثم شرعوا في المقاتلة فجعل علي يؤمر على الحرب كل يوم رجلا وأكثر من كان يؤمر الاشتر.
وكذلك معاوية يؤمر كل يوم أميرا فاقتتلوا شهر ذي الحجة بكماله، وربما اقتتلوا في بعض الايام مرتين قال ابن جرير رحمه الله: ثم لم تزل الرسل تتردد بين علي ومعاوية والناس كافون عن القتال حتى انسلخ المحرم من هذه السنة ولم يقع بينهم صلح، فأمر علي بن أبي طالب يزيد (3) بن الحارث الجشمي فنادى أهل الشام عند غروب الشمس: ألا إن أمير المؤمنين يقول لكم: إني قد استأنيتكم لتراجعوا الحق، وأقمت عليكم الحجة فلم تجيبوا، وإني قد نبذت إليكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين.
ففزع أهل الشام إلى أمرائهم فأعلموهم بما سمعوا المنادي ينادي فنهض عند ذلك معاوية وعمرو فعبيا الجيش ميمنة وميسرة، وبات علي يعبي جيشه من ليلته، فجعل على خيل أهل الكوفة الاشتر النخعي، وعلى رجالتهم عمار بن ياسر، وعلى خيل أهل البصرة سهل بن حنيف، وعلى رجالتهم قيس بن سعد وهاشم بن عتبة، وعلى قرائهم سعد (4) بن فدكي التميمي، وتقدم علي إلى الناس أن لا يبدأوا واحدا بالقتال حتى يبدأ أهل الشام، وأنه لا يذفف على جريح ولا يتبع مدبرا ولا يكشف ستر امرأة ولا تهان، وإن شتمت أمراء الناس وصلحاءهم وبرز معاوية صبح تلك الليلة وقد جعل على الميمنة ابن ذي الكلاع الحميري، وعلى الميسرة حبيب بن مسلم الفهري، وعلى المقدمة أبا الاعور السلمي، وعلى خيل دمشق عمرو بن العاص، وعلى رجالتهم الضحاك بن قيس.
ذكره ابن جرير.
وروى ابن ديزيل، من طريق جابر الجعفي عن أبي جعفر الباقر ويزيد بن الحسن بن علي وغيرهما.
قالوا: لما بلغ معاوية سير علي سار معاوية نحو علي واستعمل على مقدمته سفيان بن عمرو (5) أبا الاعور السلمي وعلى الساقة بسر بن أبي أرطاة حتى توافوا جميعا سائرين إلى جانب صفين.
وزاد ابن الكلبي فقال: جعل على المقدمة أبا الاعور السلمي، وعلى الساقة بسرا،
وعلى الخيل عبيد الله بن عمر ودفع اللواء إلى عبد الرحمن بن الوليد وجعل على الميمنة حبيب بن مسلمة، وعلى رجالتها يزيد بن زحر العنسي، وعلى الميسرة عبد الله بن عمرو بن العاص، وعلى رجالتها حابس بن سعد الطائي، وعلى خيل دمشق الضحاك بن قيس وعلى رجالتهم يزيد بن
__________
(1) في ابن الاعثم: عصبت.
(2) في ابن الاعثم: تخالفني أقاويل الطغام (3) في الطبري: مرثد.
(4) في الطبري والكامل: مسعر.
(5) في مروج الذهب 2 / 419: سفيان بن عوف.
(*)

(7/289)


لبيد بن كرز البجلي، وجعل على أهل حمص ذا الكلاع وعلى أهل فلسطين مسلمة بن مخلد (1) وقام معاوية في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس ! والله ما أصبت الشام إلا بالطاعة ولا أضبط حرب أهل العراق إلا بالصبر ولا أكابد أهل الحجاز إلا باللطف، وقد تهيأتم وسرتم لتمنعوا الشام وتأخذوا العراق، وسار القوم ليمنعوا العراق ويأخذوا الشام ولعمري ما للشام رجال العراق ولا أموالها، ولا للعراق خبرة أهل الشام ولا بصائرها، مع أن القوم وبعدهم أعدادهم، وليس بعدكم غيركم فإن غلبتموهم لم تغلبوا إلا من أناتكم وإن غلبوكم غلبوا من بعدكم والقوم لاقوكم بكيد أهل العراق، ورقة أهل اليمن وبصائر أهل الحجاز، وقسوة أهل مصر، وإنما ينصر غدا من ينصر اليوم * (استعينوا بالله واصبروا إن الله مع الصابرين) * [ الاعراف: 128 ] وقد بلغ عليا خطبة معاوية فقام في أصحابه فحرضهم على الجهاد ومدحهم بالصبر وشجعهم بكثرتهم بالنسبة إلى أهل الشام، قال جابر الجعفي عن أبي جعفر الباقر وزيد بن أنس وغيرهما قالوا: سار علي في مائة وخمسين ألفا من أهل العراق وأقبل معاوية في نحو منهم من أهل الشام.
وقال غيرهم: أقبل علي في مائة ألف أو يزيدون، وأقبل معاوية في مائة ألف وثلاثين ألفا - رواها ابن ديزيل في كتابه - وقد تعاقد جماعة من أهل الشام على أن لا يفروا فعقلوا أنفسهم
بالعمائم، وكان هؤلاء خمسة صفوف ومعهم ستة صفوف آخرين وكذلك أهل العراق كانوا أحد عشر صفا أيضا فتواقفوا على هذه الصفة أول يوم من صفر وكان ذلك يوم الاربعاء، وكان أمير الحرب يومئذ للعراقيين الاشتر النخعي، وأمير الحرب يومئذ للشاميين حبيب بن مسلمة، فاقتتلوا ذلك اليوم قتالا شديدا ثم تراجعوا من آخر يومهم وقد انتصف بعضهم من بعض وتكافؤا في القتال ثم أصبحوا من الغد يوم الخميس وأمير حرب أهل العراق هاشم بن عتبة، وأمير الشاميين يومئذ أبا الاعور السلمي فاقتتلوا قتالا شديدا تحمل الخيل على الخيل والرجال على الرجال ثم تراجعوا من آخر يومهم وقد صبر كل من الفريقين للآخر وتكافؤا ثم خرج في اليوم الثالث - وهو يوم الجمعة - عمار بن ياسر من ناحية أهل العراق وخرج إليه عمرو بن العاص في الشاميين فاقتتل الناس قتالا شديدا وحمل على عمار عمرو بن العاص فأزاله عن موقفه وبارز زياد بن النضر الحارثي وكان على الخيالة رجلا (2) فلما توقفا تعارفا فإذا هما أخوان من أم، فانصرف كل واحد منهما إلى قومه وترك صاحبه، وتراجع الناس من العشي وقد صبر كل فريق لصاحبه، وخرج في اليوم الرابع - وهو يوم السبت - محمد بن علي - وهو ابن الحنفية - ومعه جمع عظيم فخرج إليه في كثير من جهة الشاميين عبيد الله بن عمر، فاقتتل الناس قتالا شديدا، وبرز عبيد الله بن عمر فطلب من ابن الحنفية أن يبرز إليه فبرز إليه ؟ فلما كادا أن يقتربا قال علي: من المبارز ؟ قالوا محمد ابنك وعبيد الله، فيقال إن عليا حرك دابته وأمر ابنه أن يتوقف وتقدم إلى عبيد الله فقال له: تقدم إلي فقال
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 172: خالد.
(2) ذكره الطبري 6 / 7 واسمه: عمرو بن معاوية بن المنتفق بن عامر بن عقيل وأمهما امرأة من بني يزيد.
(*)

(7/290)


له: لا حاجة لي في مبارزتك، فقال: بلى، فقال: لا ! فرجع عنه علي وتحاجز الناس يومهم ذلك ثم خرج في اليوم الخامس - وهو يوم الاحد - في العراقيين عبد الله بن عباس وفي الشاميين الوليد بن عقبة، واقتتل الناس قتالا شديدا، وجعل الوليد ينال من ابن عباس، فيما ذكره أبو مخنف ويقول: قتلتم خليفتكم ولم تنالوا ما طلبتم، ووالله إن الله ناصرنا عليكم.
فقال له ابن
عباس: فابرز إلي فأبى عليه ويقال إن ابن عباس قاتل يومئذ قتالا شديدا بنفسه رضي الله عنه، ثم خرج في اليوم السادس - وهو يوم الاثنين - وعلى الناس من جهة العراقيين قيس بن سعد، ومن جهة أهل الشام ابن ذي الكلاع فاقتتلوا قتالا شديدا أيضا وتصابروا ثم تراجعوا، ثم خرج الاشتر النخعي في اليوم السابع - وهو يوم الثلاثاء وخرج تليه قرنه حبيب بن مسلمة فاقتتلوا قتالا شديدا أيضا ولم يغلب أحد أحدا في هذه الايام كلها.
قال أبو مخنف: حدثني مالك بن أعين الجهني عن زيد بن وهب أن عليا قال: حتى متى لا نناهض هؤلاء القوم بأجمعنا ؟ ثم قام في الناس عشية الاربعاء بعد العصر فقال: الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض وما أبرم لم ينقضه الناقضون، لو شاء ما اختلف اثنان من خلقه، ولا تنازعت الامة في شئ من أمره، ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله، وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الاقدار وألقت بيننا في هذا المكان، فنحن من ربنا بمرأى ومسمع فلو شاء لعجل النقمة وكان منه التعسير (1) حتى يكذب الله الظالم، ويعلم الحق أين مصيره، ولكنه جعل الدنيا دار الاعمال، وجعل الآخرة عنده هي دار القرار * (ليجزي الذين أسأوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) * [ النجم: 31 ] ألا وأنكم لاقوا القوم غدا فاطيلوا الليلة القيام، وأكثروا تلاوة القرن، واسألوا الله النصر والصبر والقوة بالجد والحزم وكونوا صادقين.
قال: فوثب الناس إلى سيوفهم ورماحهم ونبالهم يصلحونها قال: ومر بالناس وهم كذلك كعب ابن جعيل التغلبي فرأى ما يصفون فجعل يقول: أصبحت الامة في أمر عجب * والملك مجموع غدا لمن غلب فقلت قولا غير كذب * إن غدا تهلك أعلام العرب قال: ثم أصبح علي في جنوده قد عبأهم كما أراد، وركب معاوية في جيشه قد عبأهم كما أراد، وقد أمر علي كل قبية من أهل العراق أن تكفيه أختها من أهل الشام فتقاتل الناس قتالا عظيما لا يفر أحد من أحد ولا يغلب أحد أحدا، ثم تحاجزوا عند العشي، وأصبح علي فصلى الفجر بغلس وباكر القتال، ثم استقبل أهل الشام فاستقبلوه بوجوههم فقال علي فيما رواه أبو مخنف عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب: اللهم رب السقف المحفوظ المكفوف الذي جعلته
سقفا (2) لليل والنهار، وجعلت فيه مجرى الشمس والقمر ومنازل النجوم، وجعلت فيه سبطا من
__________
(1) في الطبري والكامل: التغيير.
(2) في الطبري 6 / 8: مغيضا.
(*)

(7/291)


الملائكة لا يسأمون العبادة، ورب الارض التي جعلتها قرارا للانام والهوام والانعام، وما لا يحصى مما نرى وما لا نرى من خلقك العظيم، ورب الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس، ورب السحاب المسخر بين السماء والارض، ورب البحر المسجور المحيط بالعالم، ورب الجبال الرواسي التي جعلتها للارض أوتادا وللخلق متاعا، إن أظهرتنا على عدونا فجنبنا البغي والفساد وسددنا للحق، وإن أظهرتهم علينا فارزقني الشهادة وجنب بقية أصحابي من الفتنة.
ثم تقدم علي وهو في القلب في أهل المدينة وعلى ميمنته يومئذ عبد الله بن بديل، وعلى الميسرة عبد الله بن عباس، وعلى القراء عمار بن ياسر وقيس بن سعد، والناس على راياتهم فزحف بهم إلى القوم، وأقبل معاوية - وقد بايعه أهل الشام على الموت - فتواقف الناس في موطن مهول وأمر عظيم، وحمل عبد الله بن بديل أمير ميمنة علي على ميسرة أهل الشام وعليها حبيب بن مسلمة، فاضطره حتى ألجأه إلى القلب، وفيه معاوية، وقام عبد الله بن بديل خطيبا في الناس يحرضهم على القتال ويحثهم على الصبر والجهاد، وحرض أمير المؤمنين علي الناس على الصبر والثبات والجهاد، وحثهم على قتال أهل الشام، وقام كل أمير في أصحابه يحرضهم، وتلا عليهم آيات القتال من أماكن متفرقة من القرآن، فمن ذلك قوله تعالى * (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) * [ الصف: 4 ] ثم قال: قدموا الدارع وأخروا الحاسر وعضوا على الاضراس، فإنه أنكى (1) للسيوف عن الهام، وألبوا إلى أطراف الرماح فإنه أفوق للاسنة (2)، وغضوا الابصار فإنه أربط للجأش وأسكن للقلب، وأميتوا الاصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار، راياتكم لا تميلوها ولا تزيلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم.
وقد ذكر علماء التاريخ وغيرهم أن عليا رضي الله عنه بارز في أيام صفين وقاتل وقتل خلقا حتى ذكر بعضهم أنه قتل خمسمائة، فمن ذلك
أن كريب بن الصباح قتل أربعة من أهل العراق ثم وضعهم تحت قدميه ثم نادى: هل من مبارز ؟ فبرز إليه علي بتجاولا ساعة ثم ضربه علي فقتله ثم قال علي: هل من مبارز ؟ فبرز إليه الحارث بن وداعة الحميري فقتله، ثم برز إليه راود بن الحارث الكلاعي فقتله، ثم برز إليه المطاع بن المطلب القيسي فقتله.
فتلا علي قوله تعالى * (والحرمات قصاص) * [ البقرة: 194 ] ثم نادى ويحك يا معاوية ! ابرز إلي ولا تفني العرب بيني وبينك، فقال له عمرو بن العاص: اغتنمه فإنه قد اثخن بقتل هؤلاء الاربعة، فقال له معاوية: والله لقد علمت أن عليا لم يقهر قط، وإنما أردت قتلي لتصيب الخلافة من بعدي، اذهب إليك ! فليس مثلي يخدع.
وذكروا أن عليا حمل على عمرو بن العاص يوما فضربه بالرمح فألقاه إلى الارض فبدت سؤته فرجع عنه، فقال له أصحابه: مالك يا أمير المؤمنين رجعت عنه ؟ فقال: أتدرون ما هو ؟
__________
(1) في الطبري 6 / 9 والكامل 3 / 297: أنبى.
(2) العبارة في الطبري والكامل: والتووا في أطراف الرماح فإنه أصون للاسنة.
(*)

(7/292)


قالوا: لا ! قال: هذا عمرو بن العاص تلقاني بسؤته فذكرني بالرحم فرجعت عنه، فلما رجع عمرو إلى معاوية قال له: احمد الله واحمد إستك.
وقال إبراهيم بن الحسين بن ديزيل: ثنا يحيى ثنا نصر ثنا عمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن نمير الانصاري قال: والله لكأني أسمع عليا وهو يقول لاصحابه يوم صفين أما تخافون مقت الله حتى متى، ثم انفتل إلى القبلة يدعو ثم قال: والله ما سمعنا برئيس أصاب بيده ما أصاب علي يومئذ إنه قتل فيما ذكر العادون زيادة على خمسمائة رجل، يخرج فيضرب بالسيف حتى ينحني ثم يجئ فيقول معذرة إلى الله وإليكم والله لقد هممت أن أقلعه ولكن يحجزني عنه أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي " قال: فيأخذه فيصلحه ثم يرجع به.
وهذا إسناد ضعيف وحديث منكر.
وحدثنا يحيى: ثنا ابن وهب، أخبرني الليث، عن يزيد بن حبيب أنه أخبره من حضر صفين مع علي ومعاوية قال ابن وهب: وأخبرني ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب، عن ربيعة بن لقيط قال: شهدنا صفين
مع علي ومعاوية قال فمطرت السماء علينا دما عبيطا قال الليث في حديثه حتى أن كانوا ليأخذونه بالصحاف والآنية قال ابن لهيعة: فتمتلئ ونهريقها وقد ذكرنا أن عبد الله بن بديل كسر الميسرة التي فيها حبيب بن مسلمة حتى أضافها إلى القلب فأمر معاوية الشجعان أن يعاونوا حبيبا على الكرة وبعث إلى معاوية يأمره بالحملة والكرة على ابن بديل، فحمل حبيب بمن معه من الشجعان على ميمنة أهل العراق فأزالوهم عن أماكنهم وانكشفوا عن أميرهم حتى لم يبق معه إلا زهاء ثلثمائة وانجفل بقية أهل العراق، ولم يبق مع علي من تلك القبائل إلا أهل مكة وعليهم سهل بن حنيف، وثبت ربيعة مع علي رضي الله عنه واقترب أهل الشام منه حتى جعلت نبالهم تصل إليه، وتقدم إليه مولى لبني أمية فاعترضه مولي لعلي فقتله الاموي وأقبل يريد عليا وحوله بنوه الحسن الحسين ومحمد بن حنفية، فلما وصل إلى علي أخذه علي بيده فرفعه ثم ألقاه على الارض فكسر عضده ومنكبه وابتدره الحسين ومحمد بأسيافهما فقتلاه فقال علي للحسن ابنه وهو واقف معه: ما منعك أن تصنع كما صنعا فقال: كفيان أمره يا أمير المؤمنين وأسرع إلى علي أهل الشام فجعل علي لا يزيده قربهم منه سرعة في مشيته، بل هو سائر على هينته، فقال له ابنه الحسن: يا أبة لو سعيت أكثر من مشيتك هذه فقال: يا بني إن لابيك يوما لن يعدوه ولا يبطئ به عنه السعي ولا يعجل به إليه المشي إن أباك والله ما يبالي وقع على الموت أو وقع عليه، ثم إن عليا أمر الاشتر النخعي أن يلحق المنهزمين فيردهم فسار فأسرع حتى استقبل المنهزمين من العراق فجعل يؤنبهم ويوبخهم ويحرض القبائل والشجعان منهم على الكرة فجعل طائفة تتابعه وآخرون يستمرون في هزيمتهم فلم يزل ذلك دأبه حتى اجتمع عليه خلق عظيم من الناس فجعل لا يلقى إلا كشفها ولا طائفة إلا ردها حتى انتهى إلى أمير الميمنة وهو عبد الله بن بديل ومعه نحو في ثلثمائة قد ثبتوا في مكانهم فسألوا عن أمير المؤمنين فقالوا حي صالح فالتفوا إليه، فتقدم بهم حتى تراجع كثير من الناس وذلك ما بين صلاة العصر إلى الغروب، وأراد ابن بديل أن يتقدم إلى أهل الشام فأمره

(7/293)


الاشتر أن يثبت مكانه فإنه خير له فأبى عليه ابن بديل، وحمل نحو معاوية، فلما انتهى إليه وجده
واقفا أمام أصحابه وفي يده سيفان وحوله كتائب أمثال الجبال، فلما اقترب ابن بديل تقدم إليه جماعة منهم فقتلوه وألقوه إلى الارض قتيلا، وفر أصحابه منهزمين وأكثرهم مجروح فلما انهزم أصحابه قال معاوية لاصحابه انظروا إلى أميرهم، فجاؤوا إليه فلم يعرفوه فتقدم معاوية إليه فإذا هو عبد الله بن بديل، فقال معاوية: هذا والله كما قال الشاعر، وهو حاتم الطائي: أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها * وإن شمرت يوما به الحرب شمرا ويحمي إذا ما الموت كان لقاؤه * كذلك ذو الاشبال يحمي إذا ما تأمرا كليث هزبر كان يحمي ذماره (1) * رمته المنايا سهمها فتقطرا ثم حمل الاشتر النخعي بمن رجع معه من المنهزمين فصدق الحملة حتى خالط الصفوف الخمسة الذين تعاقدوا أن لا يفروا وهم حول معاوية، فخرق منهم أربعة وبقي بينه وبين معاوية صف، قال الاشتر فرأيت هولا عظيما، وكدت أن أفر فما ثبتني إلا قول ابن الاطنابة وهي أمه من بلقين وكان هو من الانصار وهو جاهلي: أبت لي عفتي وأبى بلائي (2) * وإقدامي على البطل المشيح وإعطائي على المكروه مالي * وضربي هامة الرجل السميح (3) وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي قال: فهذا الذي ثبتني في ذلك الموقف.
والعجب أن ابن ديزيل روى في كتابه أن أهل العراق حملوا حملة واحدة، فلم يبق لاهل الشام صف إلا أزالوه حتى أفضوا إلى معاوية فدعا بفرسه لينجو عليه، قال معاوية: فلما وضعت رجلي في الركاب تمثلت بأبيات عمرو بن الاطنابة: أبت لي عفتي وأبى بلائي * وأخذي الحمل بالثمن الربيح وإعطائي على المكروه مالي * وضربي هامة البطل المشيح وقولي كلما جشأت وجاشت * مكانك تحمدي أو تستريحي قال: فثبت ونظر معاوية إلى عمرو بن العاص فقال: اليوم صبر وغدا فخر، فقال له عمرو: صدقت قال معاوية فأصبت خير الدنيا وأنا أرجو أن أصيب خير الآخرة.
ورواه محمد بن
إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الرحمن بن حاطب، عن معاوية: وبعث معاوية إلى خالد بن المعتمر وهو أمير الخيالة لعلي فقال له: اتبعني على ما أنت ولك إمرة العراق، فطمع فيه، فلما
__________
(1) في الاخبار الطوال ص 176: كليث عرين بات يحمي عرنيه...قصدها فتقطرا.
(2) في الطبري: وحياء نفسي.
(3) في الطبري 6 / 13 والكامل 2 / 303: وأخذني الحمد بالثمن الربيح.
(*)

(7/294)


ولي معاوية ولاه العراق فلم يصل إليها خالد رحمه الله، ثم إن عليا لما رأى الميمنة قد اجتمعت رجع إلى الناس فأنب بعضهم وعذر بعضهم وحرض الناس وثبتهم ثم تراجع أهل العراق فاجتمع شملهم ودارت رحى الحرب بينهم وجالوا في الشاميين وصالوا، وتبارز الشجعان فقتل خلق كثير من الاعيان من الفريقين فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقيل ممن قتل في هذا اليوم عبيد الله بن عمر بن الخطاب من الشاميين، واختلفوا فيمن قتله من العراقيين (1)، وقد ذكر ابراهيم بن الحسين بن ديزيل أن عبيد الله لما خرج يومئذ أميرا على الحرب أحصر امرأتيه أسماء بنت عطارد بن حاجب التميمي وبحرية بنت هانئ بن قبيصة الشيباني - فوقفتا وراءه في راحلتين لينظرا إلى قتاله وشجاعته وقوته، فواجهته من جيش العراقيين ربيعة الكوفة وعليهم زياد بن خصفة التميمي، فشدوا عليه شدة رجل واحد فقتلوه بعدما ما انهزم عنه أصحابه، ونزلت ربيعة فضربوا لاميرهم خيمة فبقي طنب منها لم يجدوا له وتدا فشدوه برجل عبيد الله، وجاءت امرأتاه يولولان حتى وقفتا عليه وبكتا عنده، وشفعت امرأته بحرية إلى الامير فأطلقه لهما فاحتملتاه معهما في هودجهما وقتل معه أيضا وذ الكلاع، قال الشعبي: ففي مقتل عبيد الله بن عمر يقول كعب بن جعيل التغلبي: ألا إنما تبكي العيون لفارس * بصفين ولت (2) خيله وهو واقف تبدل من أسماء أسياف وائل * وكان فتى لو أخطأته المتالف تركن عبيد الله بالقاع ثاويا * تسيل دماه والعروق نوازف (3)
ينوء ويغشاه شآبيب من دم (4) * كما لاح من جيب القميص الكفائف وقد صبرت حول ابن عم محمد (5) * لدى الموت أرباب (6) المناقب شارف فما برحوا حتى رأى الله صبرهم * وحتى رقت فوق الاكف المصاحف
__________
(1) قيل هاني بن خطاب الارحبي وقيل مالك بن عمرو التنعي وقيل محرز بن الصحصح وفي مروج الذهب 2 / 427 قتله حريث بن جابر الجعفي، والحنفي في الاخبار الطوال.
وقال في الاخبار الطوال ص 178: وهو المجمع عليه.
وفي فتوح ابن الاعثم: الصحيح أن الذي قتله عبد الله بن سوار العبدي.
(2) في الطبري: 6 / 20 والاخبار الطوال ص 178 أجلت.
وفي فتوح ابن الاعثم: أخلت.
(3) في الطبري 6 / 20: تركن عبيد الله بالقاع مسندا * تمج دم الخرق في العروق الذوارف وفي الاخبار الطوال ص 178 فاضحي عبيد الله بالقاع مسلما * تمج دما منه والعروق النوازف وفي فتوح ابن الاعثم 3 / 215 تركن عبيد الله بالقاع مسلما * يمج ذعافا والعروق نوازف (4) في الاخبار الطوال ص 178: ينوء وتعلوه سبائب من دم.
وفي فتوح ابن الاعثم 3 / 215 ينوء وتغشاه نواجع من دم.
(5) في الاخبار الطوال: وقد ضربت حول ابن نبينا، وفي ابن الاعثم: وقد صيرت.
(6) في الاخبار الطوال وابن الاعثم: شهباء.
(*)

(7/295)


وزاد غيره فيها معاوي لا تنهض بغير وثيقة * فانك بعد اليوم بالذل عارف وقد أجابه أبو جهم الاسدي بقصيدة فيها أنواع من الهجاء تركناها قصدا.
وهذا مقتل عمار بن ياسر رضي الله عنه مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قتله أهل الشام
وبان وظهر بذلك سر ما أخبره به الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه تقتله الفئة الباغية وبان بذلك أن عليا محق وأن معاوية باغ، وما في ذلك من دلائل النبوة، ذكر ابن جرير من طريق أبي مخنف حدثني مالك بن أعين الجهني، عن زيد بن وهب الجهني أن عمارا قال يومئذ: من يبتغي رضوان ربه ولا يلوي إلى مال ولا ولد، قال: فأتته عصابة من الناس فقال: أيها الناس اقصدوا بنا نحو هؤلاء القوم الذين يبتغون دم عثمان ويزعمون أنه قتل مظلوما والله ما قصدهم الاخذ بدمه ولا الاخذ بثأره، ولكن القوم ذاقوا الدنيا واستحلوها واستمروا الآخرة فقلوها، وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من دنياهم وشهواتهم، ولم يكن للقوم سابقة في الاسلام يستحقون بها طاعة الناس لهم ولا الولاية عليهم ولا تمكنت من قلوبهم خشية الله التي تمنع من تمكنت من قلبه عن نيل الشهوات، وتعقله عن إرادة الدنيا وطلب العلو فيها، وتحمله على اتباع الحق والميل إلى أهله، فخدعوا أتباعهم بقولهم إمامنا قتل مظلوما، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا، وتلك مكيدة بلغوا بها ما ترون، ولولا ذلك ما تبعهم من الناس رجلان ولكانوا أذل وأخس وأقل، ولكن قول الباطل له حلاوة في أسماع الغافلين، فسيروا إلى الله سيرا جميلا، واذكروا ذكرا كثيرا ثم تقدم فلقيه عمرو بن العاص وعبيد الله بن عمر فلامهما وأنبهما ووعظهما، وذكروه من كلامه لهما ما فيه غلظة فالله أعلم.
وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة سمعت عبد الله بن سلمة يقول: رأيت عمارا يوم صفين شيخا كبيرا آدم طوالا أخذ الحربة بيده ويده ترعد، فقال: والذي نفسي بيده لقد قاتلت بهذه الراية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وهذه الرابعة، والذي نفسي بيده لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعرفت أن مصلحينا على الحق، وأنهم على الضلالة (1).
وقال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة وحجاج حدثني شعبة سمعت قتادة يحدث عن أبي نضرة قال حجاج سمعت أبا نضرة عن قيس بن عباد قال: قلت لعمار بن ياسر أرأيت قتالكم مع علي رأيا رأيتموه، فإن الرأي يخطئ ويصيب، أو عهد عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس كافة (2).
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 4 / 319.
(2) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 4 / 262 و 319 ومسلم في صفات المنافقين ح 9 ص (4 / 2143).
(*)

(7/296)


وقد رواه مسلم من حديث شعبة وله تمام عن عمار عن حذيفة في المنافقين.
وهذا كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من التابعين، منهم الحارث بن سويد، وقيس بن عبادة، وأبو جحيفة وهب بن عبد الله السوائي، ويزيد بن شريك، وأبو حسان الاجرد وغيرهم أن كلا منهم قال: قلت لعلي: هل عندكم شئ عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهده إلى الناس ؟ فقال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة ؟ فإذا فيها العقل وفكاك الاسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر، وأن المدينة حرم ما بين ثبير إلى ثور.
وثبت في الصحيحين أيضا من حديث الاعمش عن أبي وائل عن سفيان بن مسلم عن سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين: يا أيها الناس ! اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أقدر لرددت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره، ووالله ما حملنا سيوفنا على عواتقنا منذ أسلمنا لامر يقطعنا إلا أسهل بنا إلى أمر نعرفه، غير أمرنا هذا، فإنا لا نسد منه خصما إلا انفتح لنا غيره لا ندري كيف نبالي له.
وقال أحمد: حدثنا وكيع ثنا سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري.
قال قام عمار يوم صفين فقال: إيتوني بشربة لبن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " آخر شربة تشربها من الدنيا تشربها يوم تقتل " (1) وقال الامام أحمد: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن حبيب عن أبي البختري أن عمارا أتي بشربة لبن فضحك وقال: إن رسول الله قال لي: " آخر شراب أشربه لبن حين أموت " (2) وقال ابراهيم بن الحسين بن ديزيل: ثنا يحيى بن نصر، ثنا عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي قال: سمعت الشعبي عن الاحنف بن قيس: قال ثم حمل عمار بن ياسر عليهم فحمل عليه ابن جوى السكسكي وأبو الغادية الفزاري (3)، فأما أبو الغادية فطعنه، وأما ابن جوى فاحتز
رأسه.
وقد كان ذو الكلاع سمع قول عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر " تقتلك الفئة الباغية، وآخر شربة تشربها صاع لبن " فكان ذو الكلاع يقول لعمرو: ويحك ! ما هذا يا عمرو ؟ ! فيقول له عمرو: إنه سيرجع إلينا.
قال: فلما أصيب عمار بعد ذو الكلاع قال عمرو لمعاوية: ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحا، بقتل عمار أو ذي الكلاع والله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمار لمال بعامة أهل الشام ولافسد علينا جندنا.
قال: وكان لا يزال يجئ رجل فيقول
__________
(1) مسند الامام أحمد ج 4 / 262، 319.
(2) المصدر السابق 4 / 319.
(3) في فتوح ابن الاعثم 3 / 266 قتله ابن الجون السكوني.
وفي الكامل 3 / 310: قتله أبو الغازية واحتز رأسه ابن حوى السكسكي.
قال: وقيل أبو الغارية.
وفي مروج الذهب 2 / 423: قتله أبو العادية العاملي وابن جون السكسكي.
(*)

(7/297)


لمعاوية وعمرو: أنا قتلت عمار فيقول له عمرو فما سمعته يقول فيخلطون حتى جاء جوى فقال أنا سمعته يقول: اليوم ألقى الاحبة * محمدا وحزبه فقال له عمرو: صدقت أنت أنك لصاحبه، ثم قال له: رويدا، أما والله ما ظفرت يداك ولقد أسخطت ربك.
وقد روى ابن ديزيل من طريق أبي يوسف، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الرحمن الكندي عن أبيه عن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: " تقتلك الفئة الباغية " ورواه أيضا من حديث جماعة من التابعين أرسلوه منهم عبد الله بن أبي الهذيل ومجاهد وحبيب بن أبي ثابت وحبة العرني، وساقه من طريق أبان عن أنس مرفوعا، ومن حديث عمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن أبي الزبير عن حذيفة مرفوعا: " ما خير عمار بين شيئين إلا اختار أرشدهما "، وبه عن عمرو بن شمر عن السري عن يعقوب بن راقط قال: اختصم رجلان في سلب عمار وفي قتله فأتيا عبد الله بن عمرو بن العاص ليتحاكما إليه،
فقال لهما: ويحكما اخرجا عني، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - ولعبت قريش بعمار -: " ما لهم ولعمار ؟ عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، قاتله وسالبه في النار " قال: فبلغني أن معاوية قال إنما قتله من أخرجه يخدع بذلك أهل الشام.
وقال ابراهيم بن الحسين: حدثنا يحيى ثنا عدي بن عمر، ثنا هشيم، ثنا العوام بن حوشب بن الاسود بن مسعود عن حنظلة بن خويلد - وكان ناس عند علي ومعاوية - قال: بينا هو عند معاوية إذ جاءه رجلان يختصمان في قتل عمار، فقال لهما عبد الله بن عمرو: ليطب كل واحد منكما نفسا لصاحبه بقتل عمار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " تقتله الفئة الباغية " فقال معاوية لعمرو: " ألا تنهى عنا مجنونك هذا ؟ ثم أقبل معاوية على عبد الله فقال له: فلم تقاتل معنا ؟ فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بطاعة والدي ما كان حيا وأنا معكم ولست أقاتل.
وحدثنا يحيى بن نصر، ثنا حفص بن عمران البرجمي، حدثني نافع بن عمر الجمحي، عن ابن أبي مليكة أن عبد الله بن عمرو قال لابيه: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بطاعتك ما سرت معك هذا المسير، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار بن ياسر " تقتلك الفئة الباغية " وحدثنا يحيى ثنا عبد الرحمن بن زياد ؟ ثنا هشيم عن مجالد عن الشعبي قال: جاء قاتل عمار يستأذن على معاوية وعنده عمرو فقال: ائذن له وبشره بالنار.
فقال الرجل: أو ما تسمع ما يقول عمرو.
قال: صدق ؟ إنما قتله الذين جاؤوا به ! وهذا كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من التابعين منهم الحارث بن سويد وقيس بن عبادة وأبو جحيفة وهب بن عبد الله السوائي ويزيد بن شريك وأبو حسان الاجرد وغيرهم أن كلا منهم قال: قلت لعلي هل عندكم شئ عهده إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهده إلى الناس، فقال: لا ! والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يؤتيه الله عبدا في القرآن وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة، فإذا فيها العقل وفكاك الاسير وأن لا يقتل مسلم بكافر، وأن المدينة حرام ما بين ثبير إلى ثور، وثبت في الصحيحين أيضا

(7/298)


من حديث الاعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين: أيها الناس اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أقدر أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره
لرددته، والله ما حملنا سيوفنا على عواتقنا منذ أسلمنا لامر يقطعنا إلا أسهل بنا إلى أمر نعرفه غير أمرنا هذا.
وقال ابن جرير: وحدثنا أحمد بن محمد، ثنا الوليد بن صالح، ثنا عطاء بن مسلم، عن الاعمش قال قال أبو عبد الرحمن السلمي: قال كنا مع علي بصفين وكنا قد وكلنا بفرسه نفسين يحفظانه يمنعانه أن يحمل، فكان إذا حانت منهما غفلة حمل فلا يرجع حتى يخضب سيفه، وإنه حمل ذات يوم فلم يرجع حتى انثنى سيفه، فألقاه إليهم وقال: لولا أنه انثنى ما رجعت، قال: ورأيت عمارا لا يأخذ واديا من أودية صفين إلا اتبعه من كان هناك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيته جاء إلى هاشم بن عتبة وهو صاحب راية علي فقال: يا هاشم تقدم ! الجنة تحت ظلال السيوف، والموت في أطراف الاسنة (1)، وقد فتحت أبواب الجنة وتزينت الحور العين: اليوم ألقى الاحبة * محمدا وحزبه ثم حملا هو وهاشم فقتلا رحمهما الله تعالى، قال: وحمل حينئذ علي وأصحابه على أهل الشام حملة رجل واحد كأنهما: كان - يعني عمارا وهاشما - علما لهم قال: فلما كان الليل قلت لادخلن الليلة إلى العسكر الشاميين حتى أعلم هل بلغ منهم قتل عمار ما بلغ منا ؟ - وكنا إذا توادعنا من القتال تحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم - فركبت فرسي وقد هدأت الرجل، ثم دخلت عسكرهم فإذا أنا بأربعة يتسامرون، معاوية، وأبو الاعور السلمي، وعمرو بن العاص، وابنه عبد الله بن عمرو وهو خير الاربعة.
قال: فأدخلت فرسي بينهم مخافة أن يفوتني ما يقول بعضهم لبعض، فقال عبد الله لابيه: يا أبة قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، قال: وما قال ؟ قال: ألم يكن معنا ونحن نبني المسجد والناس ينقلون حجرا حجرا، ولبنة لبنة، وعمار ينقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين [ فغشي عليه ] (2) ؟ فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: " ويحك يا بن سمية الناس ينقلون حجرا حجرا ولبنة لبنة وأنت تنقل حجرين حجرين ولبنتين لبنتين رغبة منك في الاجر وكنت مع ذلك ويحك تقتلك الفئة الباغية " (3) قال فرجع عمرو صدر فرسه ثم جذب معاوية إليه فقال: يا معاوية أما تسمع ما يقول عبد الله ؟ قال: وما يقول ؟ قال: يقول وأخبره الخبر فقال معاوية إنك شيخ أخرق ولا تزال تحدث بالحديث وأنت
تدحض في بولك، أو نحن قتلنا عمارا ؟ إنما قتل عمارا من جاء به ؟ قال: فخرج الناس من عند فساطيطهم وأخبيتهم وهم يقولون: إنما قتل عمارا من جاء به، فلا أدري من كان أعجب هو أو
__________
(1) في الطبري والكامل: الاسل.
(2) من الطبري.
(3) الطبري 6 / 22 - 23.
والبيهقي في الدلائل 2 / 552 وبعضه أخرجه مسلم في الفتن 4 / 233 والبخاري في الصلاة فتح الباري 1 / 541 والامام أحمد في مسنده 3 / 5 و 6 / 289 و 4 / 319.
(*)

(7/299)


هم.
وقال الامام أحمد: حدثنا أبو معاوية ثنا الاعمش عن عبد الرحمن بن أبي زياد قال: إني لاسير مع معاوية منصرفه من صفين بينه وبين عمرو بن العاص فقال عبد الله بن عمرو: يا أبه أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: " ويحك يا بن سمية تقتلك الفئة الباغية قال فقال عمرو لمعاوية: ألا تسمع ما يقول عبد الله هذا فقال معاوية لا يزال يأتينا بهنة بعد هنة، أنحن قتلناه ؟ إنما قتله الذين جاؤوا به (1).
ثم رواه أحمد عن أبي نعيم عن سفيان الثوري عن الاعمش به نحوه، تفرد به أحمد بهذا السياق من هذا الوجه، وهذا التأويل الذي سلكه معاوية رضي الله عنه بعيد، ثم لم ينفرد عبد الله بن عمرو بهذا الحديث بل قد روي من وجوه أخر، قال الامام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة عن خالد عن عكرمة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: " تقتلك الفئة الباغية " (2).
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث عبد العزيز بن المختار وعبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء عن عكرمة عن أبي سعيد في قصة بناء المسجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: " يا ويح عمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " قال يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن وفي بعض نسخ البخاري يا ويح عمار تقتله الفئة الباغية يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، وقال أحمد: حدثنا سليمان بن داود ثنا شعبة ثنا عمرو بن دينار عن أبي هشام، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: " تقتلك الفئة الباغية "، وروى مسلم من حديث شعبة عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: حدثني من هو خير مني - يعني أبا قتادة - أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: " تقتلك الفئة الباغية " وروى مسلم أيضا من حديث شعبة عن خالد الحذاء عن الحسن وسعيد ابني أبي الحسن عن أمهما حرة عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار: تقتلك الفئة الباغية، ورواه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن ابن علية عن ابن عون عن الحسن عن أبيه عن أم سلمة به وفي رواية وقاتله في النار.
وروى البيهقي عن الحاكم وغيره عن الاصم عن أبي بكر محمد بن إسحاق الصغاني (3) عن أبي الجواب عن عمار بن زريق عن عمار الدهني (4) عن سالم بن أبي الجعد عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: " إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحق " وقال ابراهيم بن الحسين بن ديزيل - في سيرة علي - ثنا يحيى بن عبيد الله الكرابيسي ثنا أبو كريب ثنا أبو معاوية عن عمار بن زريق عن عمار الدهني عن سالم بن أبي الجعد قال: جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود فقال: إن الله قد أمننا أن يظلمنا ولم يؤمنا أن يفتننا، أرأيت إذا نزلت فتنة كيف أصنع ؟ قال: عليك بكتاب الله، قلت: أرأيت إن جاء قوم كلهم يدعون إلى كتاب الله ؟ فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع
__________
(1) انظر الحاشية السابقة.
(2) مسند الامام أحمد: 2 / 161، 5 / 306، 307، 6 / 300، 311.
(3) من دلائل البيهقي 6 / 442 وفي الاصل الصنعاني تحريف.
(4) من الدلائل.
وفي الاصل الذهبي تحريف.
(*)

(7/300)


الحق ".
وروى ابن ديزيل عن عمرو بن العاص نفسه حديثا في ذكر عمار وأنه مع فرقة الحق، وإسناده غريب، وقال البيهقي: أنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الله الصفار، ثنا الاسفاطي، ثنا أبو مصعب ثنا يوسف بن الماجشون عن أبيه، عن أبي عبيدة، عن محمد بن عمار بن ياسر عن مولاة لعمار قالت: " اشتكى عمار شكوى أرق منها فغشي عليه، فأفاق ونحن نبكي حوله، فقال: ما تبكون ؟ أتخشون أن أموت على فراشي ؟ أخبرني حبيبي صلى الله عليه وسلم أنه تقتلني الفئة الباغية، وأن آخر زادي في الدنيا مذقة من لبن " (1) وقال أحمد: ثنا ابن أبي عدي عن داود عن أبي نضرة
عن أبي سعيد الخدري قال: " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد فجعلنا ننقل لبنة لبنة وكان عمار ينقل لبنتين لبنتين، فتترب رأسه قال: فحدثي أصحابي ولم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جعل ينفض رأسه ويقول: ويحك يا ابن سمية تقتلك الفئة الباغية " (2) تفرد به أحمد وما زاده الروافض في هذا الحديث بعد قوله الباغية " لا أنالها والله شفاعتي يوم القيامة فهو كذب وبهت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قد ثبتت الاحاديث عنه صلوات الله عليه وسلامه بتسمية الفريقين مسلمين، كما نورده قريبا إن شاء الله.
قال ابن جرير وقد ذكر أن عمارا لما قتل قال علي لربيعة وهمدان: أنتم درعي ورمحي، فانتدب له نحو من أثني عشر ألفا، وتقدمهم علي ببغلته فحمل وحملوا معه حملة رجل واحد، فلم يبق لاهل الشام صف إلا انتقض وقتلوا كل من انتهوا إليه حتى بلغوا معاوية وعلي يقاتل ويقول: أضربهم ولا أرى معاوية * الجاحظ (3) العين عظيم الحاويه قال: ثم دعى علي معاوية إلى أن يبارزه فأشار عليه بالخروج إليه عمرو بن العاص فقال له معاوية: إنك لتعلم أنه لم يبارزه رجل قط إلا قتله، ولكنك طمعت فيها بعدي، ثم قدم على ابنه محمد في عصابة كثيرة من الناس، فقاتلوه قتالا شديدا ثم تبعه علي في عصابة أخرى، فحمل بهم فقتل في هذا الموطن خلق كثير من الفريقين لا يعلمهم إلا الله وقتل من العراقيين خلق كثير أيضا، وطارت أكف ومعاصم ورؤوس عن كواهلها، رحمهم الله.
ثم حانت صلاة المغرب فما صلى بالناس إلا إيماء صلاتي العشاء واستمر القتال في هذه الليلة كلها وهي من أعظم الليالي شرا بين المسلمين، وتسمى هذه الليلة ليلة الهرير، وكانت ليلة الجمعة تقصفت الرماح ونفذت النبال، وصار الناس إلى السيوف، وعلي رضي الله عنه يحرض القبائل، ويتقدم إليهم يأمر بالصبر والثبات وهو أمام الناس في قلب الجيش، وعلى الميمنة الاشتر، تولاها بعد قتل عبد الله بن بديل عشية الخميس ليلة الجمعة - وعلى الميسرة ابن عباس، والناس يقتتلون من كل جانب فذكر غير واحد
__________
(1) دلائل النبوة ج 6 / 420 والامام أحمد في مسنده 4 / 319 والحاكم في المستدرك 3 / 389.
(2) مسند الامام أحمد 2 / 161، 3 / 5، 6 / 315.
(3) في مروج الذهب 2 / 428: الاخزر.
(*)

(7/301)


من علمائنا علماء السير - أنهم اقتتلوا بالرماح حتى تقصفت، وبالنبال حتى فنيت، وبالسيوف حتى تحطمت ثم صاروا إلى أن تقاتلوا بالايدي والرمي بالحجارة والتراب في الوجوه، وتعاضوا بالاسنان يقتتل الرجلان حتى يثخنا ثم يجلسان يستريحان، وكل واحد منهما يهمر على الآخر ويهمر عليه ثم يقومان فيقتتلان كما كانا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولم يزل ذلك دأبهم حتى أصبح الناس من يوم الجمعة وهم كذلك وصلى الناس الصبح إيماء وهم في القتال حتى تضاحى النهار وتوجه النصر لاهل العراق على أهل الشام، وذلك أن الاشتر النخعي صارت إليه إمرة الميمنة، فجعل بمن فيها على أهل الشام وتبعه علي فتنقضت غالب صفوفهم وكادوا ينهزمون، فعند ذلك رفع أهل الشام المصاحف فوق الرماح: وقالوا: هذا بيننا وبينكم قد فني الناس فمن للثغور ؟ ومن لجهاد المشركين والكفار.
وذكر ابن جرير وغيره من أهل التاريخ أن الذي أشار بهذا هو عمرو بن العاص، وذلك لما رأى، أن أهل العراق قد استظهروا في ذلك الموقف، أحب أن ينفصل الحال وأن يتأخر الامر فإن كلا الفريقين صابر للآخر، والناس يتفانون.
فقال إلى معاوية: إني قد رأيت أمرا لا يزيدنا هذه الساعة إلا اجتماعا ولا يزيدهم إلا فرقة، أرى أن نرفع المصاحف وندعوهم إليها، فإن أجابوا كلهم إلى ذلك برد القتال، وإن اختلفوا فيما بينهم فمن قائل نجيبهم، وقائل لا نجيبهم، فشلوا وذهب ريحهم، وقال الامام أحمد، حدثنا يعلى بن عبيد عن عبد العزيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت.
قال أتيت أبا وائل في مسجد أهله أسأله عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي بالنهروان فيما استجابوا له وفيما فارقوه، وفيما استحل قتالهم فقال: كنا بصفين فلما استحر القتال بأهل الشام اعتصموا بتل فقال عمرو بن العاص لمعاوية: أرسل إلي علي بمصحف فأدعه إلى كتاب الله فإنه لن يأبى عليك فجاء به رجل فقال: بيننا وبينكم كتاب الله * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم بعد ذلك وهم معرضون) * [ آل عمران:
23 ] فقال علي: نعم ! وأنا أولى بذلك بيننا وبينكم كتاب الله قال فجاءته الخوارج ونحن ندعوهم يومئذ القراء وسيوفهم على عواتقهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين ما ينتظر هؤلاء القوم الذين على التل ألا نمشي إليهم بسيوفنا حتى يحكم الله بيننا وبينهم ؟ فتكلم سهل بن حنيف فقال: يا أيها الناس اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية - يعني الصلح الذي كان بين رسول الله وبين المشركين - ولو نرى قتالا لقاتلنا فجاء عمر إلى رسول الله فقال: يا رسول الله ألسنا على حق وهم على باطل ؟ وذكر تمام الحديث كما تقدم في موضعه (1).
رفع أهل الشام المصاحف فلما رفعت المصاحف قال أهل العراق: نجيب إلى كتاب الله وننيب إليه.
قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب الازدي عن أبيه أن عليا قال: عباد الله أمضوا إلى حقكم وصدقكم
__________
(1) انظر مسند الامام أحمد 3 / 485 - 486.
(*)

(7/302)


وقتال عدوكم، فإن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبي معيط وحبيب بن مسلمة وابن أبي سرح والضحاك بن قيس ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم، صحبتهم أطفالا، وصحبتهم رجالا، فكانوا شر أطفال وشر رجال، ويحكم والله إنهم ما رفعوها إنهم يقرأونها ولا تعلمون بما فيها وما رفعوها إلا خديعة ودهاء ومكيدة.
فقالوا له: ما يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فنأبى أن نقبله.
فقال لهم: إني إنما أقاتلهم ليدينوا بحكم الكتاب فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم به، وتركوا عهده، ونبذوا كتابه.
فقال له مسعر بن فدكى التميمي وزيد بن حصين الطائي ثم السبائي (1) في عصابة معهما من القراء الذين صاروا بعد ذلك خوارج: يا علي أجب إلى كتاب الله إذ دعيت إليه وإلا دفعناك برمتك إلى القوم أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان، إنه غلبنا أن يعمل بكتاب الله فقتلناه، والله لتفعلنها أو لنفعلنها بك.
قال: فاحفظوا عني نهيي إياكم واحفظوا مقالتكم لي، أما أنا فإن تطيعوني فقاتلوا، وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم، قالوا: فابعث إلى الاشتر فليأتك ويكف عن القتال، فبعث إليه علي ليكف عن القتال، وقد ذكر الهيثم بن عدي في
كتابه الذي صنفه في الخوارج فقال: قال ابن عباس: فحدثني محمد بن المنتشر الهمداني عن من شهد صفين وعن ناس من رؤوس الخوارج ممن لا يتهم على كذب أن عمار بن ياسر كره ذلك وأبى وقال في علي بعض ما أكره ذكره، ثم قال: من رائح إلى الله قبل أن يبتغي غير الله حكما ؟ فحمل فقاتل حتى قتل رحمة الله عليه.
وكان ممن دعا إلى ذلك سادات الشاميين عبد الله بن عمرو بن العاص قام في أهل العراق فدعاهم إلى الموادعة والكف وترك القتال والائتمار بما في القرآن، وذلك عن أمر معاوية له بذلك رضي الله عنهما، وكان ممن أشار على علي بالقبول والدخول في ذلك الاشعث بن قيس الكندي رضي الله عنه، فروى أبو مخنف من وجه آخر أن عليا لما بعث إلى الاشتر قال: قل له إنه ليس هذه ساعة ينبغي أن لا تزيلني عن موقفي فيها، إني قد رجوت أن يفتح الله علي، فلا تعجلني، فرجع الرسول - وهو يزيد بن هانئ - إلى علي فأخبره عن الاشتر بما قال، وصمم الاشتر على القتال لينتهز الفرصة، فارتفع الهرج وعلت الاصوات فقال أولئك القوم لعلي: والله ما نراك إلا أمرته أن يقاتل، فقال: أرأيتموني ساررته ؟ ألم أبعث إليه جهرة وأنتم تسمعون ؟ فقالوا: فابعث إليه فليأتك وإلا والله اعتزلناك، فقال علي ليزيد بن هانئ: ويحك ! قل له أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت، فلما رجع إليه يزيد بن هانئ فأبلغه عن أمير المؤمنين أنه ينصرف عن القتال ويقبل إليه، جعل يتململ ويقول: ويحك ألا ترى إلى ما نحن فيه من النصر ولم يبق إلا القليل ؟ فقلت: أيهما أحب إليك أن تقبل أو يقتل أمير المؤمنين كما قتل عثمان ؟ ثم ماذا يغني عنك نصرتك هاهنا ؟ قال: فأقبل الاشتر إلى علي وترك القتال فقال: يا أهل العراق ! يا أهل الذل والوهن أحين علوتم القوم وظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها، وقد والله تركوا ما أمر الله به فيها، وسنة من أنزلت عليه، فلا تجيبوهم، أمهلوني فإني قد أحسست بالفتح،
__________
(1) في الطبري: السنبسي.
(*)

(7/303)


قالوا: لا ! قال: أمهلوني عدو الفرس فإني قد طمعت في النصر، قالوا إذا ندخل معك في خطيئتك، ثم أخذ الاشتر يناظر أولئك القراء الداعين إلى إجابة أهل الشام بما حاصله: إن كان
أول قتالكم هؤلاء حقا فاستمروا عليه، وإن كان باطلا فاشهدوا لقتلاكم بالنار، فقالوا: دعنا منك فإنا لا نطيعك ولا صاحبك أبدا، ونحن قاتلنا هؤلاء في الله، وتركنا قتالهم لله، فقال لهم الاشتر: خدعتم والله فانخدعتم، ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب السوء (1) كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقا إلى لقاء الله، فلا أرى فراركم إلا إلى الدنيا من الموت، يا أشباه النيب الجلالة ما أنتم بربانيين (2) بعدها.
فابعدوا كل بعد القوم الظالمون.
فسبوه وسبهم فضربوا وجه دابته بسياطهم، وجرت بينهم أمور طويلة، ورغب أكثر الناس من العراقيين وأهل الشام بكمالهم إلى المصالحة والمسالمة مدة لعله يتفق أمر يكون فيه حقن لدماء المسلمين، فإن الناس تفانوا في هذه المدة، ولا سيما في هذه الثلاثة الايام المتأخرة التي آخر أمرها ليلة الجمعة وهي ليلة الهرير.
كل من الجيشين فيه من الشجاعة والصبر ما ليس يوجد في الدنيا مثله، ولهذا لم يفر أحد عن أحد، بل صبروا حتى قتل من الفريقين فيما ذكره غير واحد سبعون ألفا.
خمسة وأربعون ألفا من أهل الشام، وخمسة وعشرون ألفا من أهل العراق.
قاله غير واحد منهم ابن سيرين وسيف وغيره.
وزاد أبو الحسن بن البراء - وكان في أهل العراق - خمسة وعشرون بدريا، قال: وكان بينهم في هذه المدة تسعون زحفا واختلفا في مدة المقام بصفين فقال سيف: سبعة أشهر أو تسعة أشهر.
وقال أبو الحسن بن البراء مائة وعشرة أيام.
قلت: ومقتضى كلام أبي مخنف أنه كان من مستهل ذي الحجة في يوم الجمعة لثلاث عشرة خلت من صفر وذلك سبعة وسبعون يوما فالله أعلم، وقال الزهري: بلغني أنه كان يدفن في القبر الواحد خمسون نفسا، هذا كله ملخص من كلام ابن جرير وابن الجوزي في المنتظم.
وقد روي البيهقي من طريق يعقوب بن سفيان، عن أبي اليمان، عن صفوان بن عمرو: كان أهل الشام ستين ألفا فقتل منهم عشرون ألفا، وكان أهل العراق مائة وعشرين ألفا فقتل منهم أربعون ألفا (3).
وحمل البيهقي هذه الوقعة على الحديث الذي أخرجاه في الصحيحين من طريق عبد الرزاق عن معمر عن همام بن منبه، عن أبي هريرة ورواه البخاري من حديث شعيب عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة ومن حديث شعيب عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي
هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان يقتل بينهما مقتلة
__________
(1) في الطبري 6 / 28 والكامل 3 / 318: يا أصحاب الجباه السود.
(2) في الطبري والكامل: براثين.
(3) دلائل النبوة ج 6 / 419، وقال في مروج الذهب 2 / 437: حضر من أهل الشام خمسون ومائة ألف مقاتل سوى الخدم والاتباع وأهل العراق في عشرين ومائة ألف دون الخدم والاتباع.
(*)

(7/304)


عظيمة ودعواهما واحدة " (1).
ورواه مجالد عن أبي الحواري عن أبي سعيد مرفوعا مثله ورواه الثوري عن ابن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعوتهما واحدة فبينما هم كذلك مرق منهما مارقة تقتلهم أولى الطائفتين بالحق " وقد تقدم ما رواه الامام أحمد عن مهدي وإسحاق عن سفيان عن منصور بن ربعي بن خراش عن البراء بن ناجية الكاهلي عن ابن مسعود.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن رحى الاسلام ستزول لخمس وثلاثين أو ست وثلاثين، فإن يهلكوا فسبيل من هلك، وإن يقم لهم دينهم يقم لهم سبعين عاما، فقال عمر: يا رسول الله أمما مضى أم مما بقي ؟ قال: بل مما بقي " (2).
وقد رواه ابراهيم بن الحسين بن ديزيل في كتاب جمعه في سيرة علي عن أبي نعيم الفضل بن دكين عن شريك عن منصور به مثله.
وقال أيضا: حدثنا أبو نعيم، ثنا شريك بن عبد الله النخعي، عن مجالد، عن عامر الشعبي، عن مسروق عن عبد الله.
قال قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن رحى الاسلام ستزول بعد خمس وثلاثين سنة فإن يصطلحوا فيما بينهم يأكلوا الدنيا سبعين عاما رغدا، وإن يقتتلوا يركبوا سنن من كان قبلهم " وقال ابن ديزيل: حدثنا عبد الله بن عمر ثنا عبد الله بن خراش الشيباني عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التميمي.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تدور رحى الاسلام عند قتل رجل من بني أمية " - يعني عثمان رضي الله عنه - وقال أيضا: حدثنا الحكم عن نافع عن صفوان بن عمرو عن الاشياخ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعي إلى جنازة رجل من الانصار فقال - وهو قاعد ينتظرها - " كيف أنتم إذا رأعيتم حبلين [ كذا ] في الاسلام ؟
قال أبو بكر: أو يكون ذلك في أمة إلهها واحد ونبيها واحد ؟ قال: نعم ! قال: أفأدرك ذلك يا رسول الله ؟ قال: لا ! قال عمر: أفأدرك ذلك يا رسول الله ؟ قال: لا ! قال عثمان: أفأدرك ذلك يا رسول الله ؟ قال: نعم ! بك يفتنون " وقال أيضا عمر لابن عباس: كيف يختلفون وإلههم واحد وكتابهم واحد وملتهم واحدة ؟ فقال: إنه سيجئ قوم لا يفهمون القرآن كما نفهمه، فيختلفون فيه فإذا اختلفوا فيه اقتتلوا.
فأقر عمر بن الخطاب بذلك.
وقال أيضا: حدثنا أبو نعيم ثنا سعيد بن عبد الرحمن - أخو أبي حمزة - ثنا محمد بن سيرين قال: لما قتل عثمان قال عدي بن حاتم: لا ينتطح في قتله عنزان.
فلما كان يوم صفين فقئت عينه فقيل: لا ينتطح في قتله عنزان، فقال: بلى وتفقأ عيون كثيرة.
وروي عن كعب الاحبار أن مر بصفين فرأى حجارتها فقال: لقد اقتتل في هذا الموضع بنو إسرائيل تسع مرات، وإن العرب ستقتتل فيها العاشرة، حتى يتقاذفوا بالحجارة التي تقاذف فيها بنو إسرائيل ويتفانوا كما تفانوا.
وقد ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) أخرجه البخاري في المناقب (25) علامات النبوة في الاسلام.
وفي كتاب الفتن باب (25) وفي المرتدين باب (8).
وأخرجه مسلم في الفتن (4) باب ح (17) والامام أحمد في مسنده 2 / 313.
(2) مسند الامام أحمد ج 1 / 390، 393، 395، 451 وأخرجه أبو داود في أول كتاب الفتن.
ورواه الحاكم في المستدرك 4 / 521 قال: " صحيح الاسناد ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي.
(*)

(7/305)


قال: " سألت ربي أن لا يهلك أمتي بسنة عامة فأعطانيها، وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من سواهم فيستبيح بيضتهم فأعطانيها، وسألته أن لا يسلط بعضهم على بعض فمنعنيها " (1) ذكرنا ذلك عند تفسير قوله تعالى * (أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) * [ الانعام: 65 ] قال رسول الله: هذا أهون.
قصة التحكيم ثم تراوض الفريقان بعد مكاتبات ومراجعات يطول ذكرها على التحكيم، وهو أن يحكم كل واحد من الاميرين - علي ومعاوية - رجلا من جهته.
ثم يتفق الحكمان على ما فيه مصلحة
للمسلمين.
فوكل معاوية عمرو بن العاص، وأراد علي أن يوكل عبد الله بن عباس - وليته فعل - ولكنه منعه القراء ممن ذكرنا وقالوا: لا نرضى إلا بأبي موسى الاشعري.
وذكر الهيثم بن عدي في كتاب الخوارج له أن أول من أشار بأبي موسى الاشعري الاشعث بن قيس، وتابعه أهل اليمن، ووصفوه أنه كان ينهي الناس عن الفتنة والقتال، وكان أبو موسى قد اعتزل في بعض أرض الحجاز.
قال علي: فإني أجعل الاشتر حكما، فقالوا: وهل سعر الحرب وشعر الارض إلا الاشتر ؟ قال: فاصنعوا ما شئتم، فقال الاحنف لعلي: والله لقد رميت بحجر إنه لا يصلح هؤلاء القوم إلا رجل منهم، يدنو منهم حتى يصير في أكفهم، ويبتعد حتى يصير بمنزلة النجم، فإن أبيت أن تجعلني حكما فاجعلني ثانيا وثالثا، فإنه لن يعقد عقدة إلا أحلها، ولا يحل عقدة عقدتها إلا عقدت لك أخرى مثلها أو أحكم منها.
قال: فأبوا إلا أبا موسى الاشعري فذهبت الرسل إلى أبي موسى الاشعري - وكان قد اعتزل - فلما قيل له إن الناس قد اصطلحوا قال: الحمد لله، قيل له: وقد جعلت حكما، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم أخذوه حتى أحضروه إلى علي رضي الله عنه وكتبوا بينهم كتابا هذه صورته.
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قاضى عليه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، فقال عمرو بن العاص: اكتب اسمه واسم أبيه، هو أميركم وليس بأميرنا، فقال الاحنف: لا تكتب إلا أمير المؤمنين، فقال علي: امح أمير المؤمنين واكتب هذا ما قاضى عليه علي بن أبي طالب ثم استشهد علي بقصة الحديبية حين امتنع أهل مكة هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله، فامتنع المشركون من ذلك وقالوا: اكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فكتب الكاتب: هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضي علي على أهل العراق ومن معهم من شيعتهم والمسلمين، وقاضي معاوية على أهل الشام ومن كان معه من المؤمنين والمسلمين إنا ننزل عند حكم الله وكتابه ونحيي ما أحيى الله، ونميت ما أمات الله فما وجد الحكمان في كتاب الله - وهما أبو موسى
__________
(1) صحيح مسلم - كتاب الفتن - (5) باب ح 19 و 20 ص 4 / 2215 - 2216.
(*)

(7/306)


الاشعري وعمرو بن العاص -، عملا به وما لم يجدا في كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المتفرقة.
ثم أخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهلهما، والامة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى المؤمنين والمسلمين من الطائفتين كليهما عهد الله وميثاقه أنهما على ما في هذه الصحيفة، وأجلا القضاء إلى رمضان وإن أحبا أن يوخرا ذلك على تراض منهما، وكتب في يوم الاربعاء لثلاث عشر خلت من صفر سنة سبع وثلاثين، على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في رمضان، ومع كل واحد من الحكمين أربعمائة من أصحابه، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح، وقد ذكر الهيثم في كتابه في الخوارج أن الاشعث بن قيس لما ذهب إلى معاوية بالكتاب وفيه: " هذا ما قاضى عبد الله علي أمير المؤمنين معاية بن أبي سفيان " قال معاوية: لو كان أمير المؤمنين لم أقاتله، ولكن ليكتب اسمه وليبدأ به قبل اسمي لفضله وسابقته، فرجع إلى علي فكتب كما قال معاوية.
وذكر الهيثم أن أهل الشام أبوا أن يبدأ باسم علي قبل معاوية، وباسم أهل العراق قبلهم، حتى كتب كتابان كتاب لهؤلاء فيه تقديم معاوية على علي وكتاب آخر لاهل العراق بتقديم اسم علي وأهل العراق على معاوية وأهل الشام وهذه تسمية من شهد على هذا التحكيم من جيش علي: عبد الله بن عباس، والاشعث بن قيس الكندي، وسعيد بن قيس الهمداني، وعبد الله بن الطفيل المعافري (1)، وحجر بن يزيد (2) الكندي، وورقاء بن سمي العجلي، وعبد الله بن بلال (3) العجلي، وعقبة بن زياد الانصاري، ويزيد بن جحفة (4) التميمي، ومالك بن كعب الهمداني.
فهؤلاء عشرة.
وأما من الشاميين فعشرة آخرون، وهم أبو الاعور السلمي، وحبيب بن مسلمة، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد، ومخارق بن الحارث الزبيدي، ووائل بن علقمة العدوي (5)، وعلقمة بن يزيد الحضرمي، وحمزة بن مالك الهمداني، وسبيع بن يزيد الحضرمي، وعتبة بن أبي سفيان أخو معاوية، ويزيد بن الحر العبسي.
وخرج الاشعث بن قيس بذلك الكتاب يقرأه على الناس ويعرضه على الطائفتين.
ثم شرع الناس في دفن قتلاهم قال
الزهري.
بلغني أنه دفن في كل قبر خمسون نفسا، وكان علي قد أسر جماعة من أهل الشام، فلما
__________
(1) في الطبري والكامل: العامري.
(2) في الطبري والكامل: عدي.
(3) في الطبري والكامل: محل.
(4) في الطبري والكامل: حجية وفي الاخبار الطوال: حجية النكري.
(5) لم يرد في الطبري ولا في الكامل، وورد فيهما مكانه: زمل بن عمرو العذري.
انظر اسماء الشهود في الطبري 6 / 30 والكامل 3 / 318 - 319 وذكر في الاخبار الطوال ص 195 - 196 اسماء كثيرة من الفريقين.
(*)

(7/307)


أراد الانصراف أطلقهم، وكان مثلهم أو قريب منهم في يد معاوية وكان قد عزم على قتلهم لظنه أنه قد قتل أسراهم، فلما جاءه أولئك الذين أطلقهم أطلق معاوية الذين في يده، ويقال إن رجلا يقال له عمرو بن أوس - من الازد - كان من الاسارى فأراد معاوية قتله فقال: امنن علي فإنك خالي، فقال: ويحك ! من أين أنا خالك ؟ فقال: إن أم حبيبة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أم المؤمنين وأنا ابنها (1) وأنت أخوها وأنت خالي، فأعجب ذلك معاوية وأطلقه.
وقال عبد الرحمن بن زياد بن أنعم - وذكر أهل صفين - فقال: كانوا عربا يعرف بعضهم بعضا في الجاهلية فالتقوا في الاسلام معهم على الحمية وسنة الاسلام، فتصابروا واستحيوا من الفرار، وكانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء، وهؤلاء في عسكر هؤلاء، فيستخرجون قتلاهم فيدفنوهم.
قال الشعبي: هم أهل الجنة، لقي بعضهم بعضا فلم يفر أحد من أحد.
خروج الخوارج وذلك أن الاشعث بن قيس مر على ملا من بني تميم فقرأ عليهم الكتاب فقام إليه عروة بن أذينة (2) وهي أمه وهو عروة بن جرير من بني ربيعة بن حنظلة وهو أخو أبي (3) بلال بن مرداس بن جرير فقال: أتحكمون في دين الله الرجال ؟ ثم ضرب بسيفه عجز دابة الاشعث بن قيس،
فغضب الاشعث وقومه، وجاء الاحنف بن قيس وجماعة من رؤسائهم يعتذرون إلى الاشعث بن قيس من ذلك، قال الهيثم بن عدي: والخوارج يزعمون أن أول من حكم عبد الله بن وهب الراسبي.
قلت: والصحيح الاول وقد أخذ هذه الكلمة من هذا الرجل طوائف من أصحاب علي من القراء وقالوا: لا حكم إلا لله، فسموا المحكمية (4) وتفرق الناس إلى بلادهم من صفين، وخرج معاوية إلى دمشق بأصحابه، ورجع علي إلى الكوفة على طريق هيت فلما دخل
__________
(1) أجمعت المصادر على أن أم حبيبة - رملة - بنت أبي سفيان كانت تحت عبيد الله بن جحش وهاجرت معه بعد أن أسلما إلى الحبشة - ثم تنصر هناك وبقيت أم حبيبة مسلمة ويقال ولدت ابنتها في الحبشة وقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وآله إلى النجاشي فخطبها منه وأصدقها أربعمائة دينار وقدم بها من أرض الحبشة خالد بن سعيد وعمرو بن العاص عام الهدنة.
ولم يرد في أي من المصادر أن لها ابنا اسمه عمرو، أو أنها تزوجت برجل أودي.
(2) في الطبري 6 / 31 وفي الكامل: 3 / 321: أدية والاخبار الطوال ص 197 وفي مروج الذهب 2 / 436: أذية.
(3) في مروج الذهب: أخو بلال الخارجي.
(4) في الملل والنحل ص 50 وفي الفرق بين الفرق ص 51 المحكمة الاولى.
قال الشهرستاني وهم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه حين جرى أمر المحكمين واجتمعوا بحروراء.
وسموا بالحرورية وكانوا اثني عشر ألفا وزعيمهم ابن الكواء وعتاب بن الاعور وعبد الله بن وهب الراسبي.
ويقال ان أول سيف سل من سيوف الخوارج سيف عروة بن حدير - أو أذينة - أخو مرداس الخارجي وقد نجا من حرب النهروان وبقي إلى أيام معاوية.
وضرب عنقه زياد بن أبيه.
(*)

(7/308)


الكوفة سمع رجلا يقول: ذهب علي ورجع في غير شئ.
فقال علي: للذين فارقناهم خير من هؤلاء وأنشأ يقول: أخوك الذي إن أحرجتك (1) ملمة * من الدهر لم يبرح لبثك راحما (2) وليس أخوك بالذي إن تشعبت * عليك أمور ظل يلحاك لائما
ثم مضى فجعل يذكر الله حتى دخل قصر الامارة من الكوفة، ولما كان قد قارب دخول الكوفة اعتزل من جيشه قريب من - اثني عشر ألفا - وهم الخوارج، وأبوا أن يساكنوه في بلده، ونزلوا بمكان يقال له حروراء وأنكروا عليه أشياء فيما يزعمون أنه ارتكبها، فبعث إليهم علي رضي الله عنه عبد الله بن عباس فناظرهم فرجع أكثرهم وبقي بقيتهم، فقاتلهم علي بن أبي طالب وأصحابه كما سيأتي بيانه وتفصيله قريبا إن شاء الله تعالى.
والمقصود أن هؤلاء الخوارج هم المشار إليهم في الحديث المتفق على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال تمرق مارقة على حين فرقة من الناس - وفي رواية من المسلمين، وفي رواية من أمتي - فيقتلها أولى الطائفتين ".
وهذا الحديث له طرق متعددة وألفاظ كثيرة قال الامام أحمد: حدثنا وكيع وعفان بن القاسم بن الفضل عن أبي نضرة عن أبي سعيد.
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق " (3) رواه مسلم عن شيبان بن فروخ عن القاسم بن محمد به.
وقال أحمد: حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " تكون أمتي فرقتين تخرج بينهما مارقة تلي قتلها أولاهما " (4) ورواه مسلم من حديث قتادة وداود بن أبي هند عن أبي نضرة به.
وقال أحمد: حدثنا ابن أبي عدي عن سليمان عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " ذكر قوما يكونون في أمته يخرجون في فرقة من الناس، سيماهم التحليق هم شر الخلق - أو من شر الخلق - يقتلهم أدنى الطائفتين من الحق " (5) قال أبو سعيد: فأنتم قتلتموهم يا أهل العراق.
وقال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر ثنا عوف عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تفترق أمتي فرقتين فتمرق بينهما مارقة فيقتلها أولى الطائفتين بالحق " (6) ورواه عن يحيى القطان عن عوف وهو الاعرابي به مثله فهذه طرق متعددة عن أبي نضرة المنذر بن مالك بن قطعة العبدي، وهو أحد الثقات الرفعاء ورواه مسلم أيضا من حديث سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن الضحاك المشرقي عن أبي سعيد بنحوه.
__________
(1) في الطبري والكامل: أجرضتك.
(2) في الطبري 6 / 35 والكامل 3 / 325: واجما.
(3) أخرجه مسلم في الزكاة (47) باب ح (150) ص 2 / 745 وأخرجه الامام أحمد في مسنده ح 3 / 32 و 92.
(4) أخرجه الامام أحمد في مسنده 3 / 45 ومسلم في الموضع السابق ح (151) ص 2 / 746.
(5) مسلم في الموضع السابق ح 153 ص 2 / 746.
(6) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 3 / 79.
(*)

(7/309)


فهذا الحديث من دلائل النبوة إذ قد وقع الامر طبق ما أخبر به عليه الصلاة والسلام، وفيه الحكم باسلام الطائفتين أهل الشام وأهل العراق، لا كما يزعمه فرقة الرافضة والجهلة الطغام، من تكفيرهم أهل الشام، وفيه أن أصحاب علي أدنى الطائفتين إلى الحق، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة أن عليا هو المصيب وإن كان معاوية مجتهدا، وهو مأجور إن شاء الله، ولكن علي هو الامام فله أجران كما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر " (1) وسيأتي بيان كيفية قتال علي رضي الله عنه للخوارج، وصفة المخدج الذي أخبر عنه عليه السلام فوجد كما أخبر ففرح بذلك علي رضي الله عنه وسجد للشكر.
فصل قد تقدم أن عليا رضي الله عنه لما رجع من الشام بعد وقعة صفين، ذهب إلى الكوفة، فلما دخلها انعزل عنه طائفة من جيشه، قيل ستة عشر ألفا وقيل اثني عشر ألفا، وقيل أقل من ذلك، فباينوه وخرجوا عليه وأنكروا أشياء، فبعث إليهم عبد الله بن عباس فناظرهم فيها ورد عليهم ما توهموه شبهة، ولم يكن له حقيقة في نفس الامر، فرجع بعضهم واستمر بعضهم على ضلالهم حتى كان منهم ما سنورده قريبا، ويقال إن عليا رضي الله عنه ذهب إليهم فناظرهم فيما نقموا عليه حتى استرجعهم عما كانوا عليه، ودخلوا معه الكوفة، ثم إنهم عاهدوا فنكثوا ما عاهدوا عليه وتعاهدوا فيما بينهم على القيام بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام على الناس في ذلك ثم تحيزوا إلى موضع يقال له النهروان، وهناك قاتلهم علي كما سيأتي.
قال الامام أحمد:
حدثنا إسحاق بن عيسى الطباع، حدثني يحيى بن سليم، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبيد الله بن عياض بن عمرو القارئ قال: جاء عبد الله بن شداد فدخل على عائشة ونحن عندها مرجعه من العراق ليالي قتل علي، فقالت له: يا عبد الله بن شداد هل أنت صادقي عما أسألك عنه ؟ فحدثني عن هؤلاء القوم الذين قتلهم علي، فقال: ومالي لا أصدقك ؟ قالت: فحدثني عن قصتهم، قال: فإن عليا لما كتب معاوية وحكم الحكمان خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس فنزلوا بأرض يقال لها حروراء من جانب الكوفة، وأنهم عتبوا عليه فقالوا: انسلخت من قميص ألبسكه الله، واسم سماك به الله ثم انطلقت فحكمت في يدن الله ولا حكم إلا لله، فلما أن بلغ عليا ما عتبوا عليه وفارقوه عليه، أمر فأذن مؤذن أن لا يدخل على أمير المؤمنين رجل إلا رجلا قد حمل القرآن، فلما أن امتلات الدار من قراء الناس دعا بمصحف إمام عظيم فوضعه بين
__________
(1) أخرجه البخاري في الاعتصام (21) ومسلم في الاقضية باب (15) وأبو داود في الاقضية (2) والترمذي في الاحكام (2) والنسائي في القضاء (3) وأحمد في المسند 2 / 187 و 4 / 198، 204، 205 وابن ماجة في الاحكام (3).
(*)

(7/310)


يديه فجعل يصكه بيده ويقول: أيها المصحف ! حدث الناس فناداه الناس فقالوا: يا أمير المؤمنين ما تسأل عنه إنما هو مداد في ورق، ونحن نتكلم بما روينا منه، فماذا تريد ؟ قال: أصحابكم هؤلاء الذين خرجوا بيني وبينهم كتاب الله يقول الله تعالى في كتابه في امرأة ورجل: * (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما) * [ النساء: 35 ] فأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم دما وحرمة من امرأة ورجل، ونقموا علي أن كاتبت معاوية كتبت علي بن أبي طالب، وقد جاءنا سهيل بن عمرو ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين صالح قومه قريشا فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: لا أكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال: كيف تكتب ؟ " قال اكتب باسمك اللهم ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب فكتب، فقال: أكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، فقال: لو أعلم أنك رسول الله لم أخالفك،
فكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله قريشا، يقول الله تعالى في كتابه * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) * [ الاحزاب: 21 ] فبعث إليهم عبد الله بن عباس فخرجت معه حتى إذا توسطت عسكرهم فقام ابن الكوا (1) فخطب الناس فقال يا حملة القرآن هذا عبد الله بن عباس فمن لم يكن يعرفه فأنا أعرفه ممن يخاصم في كتاب الله بمالا يعرفه، هذا ممن نزل فيه وفي قومه * (بل هم قوم خصمون) * [ الزخرف: 58 ] فردوه إلى صاحبه ولا تواضعوه كتاب الله، فقال بعضهم: والله لنواضعنه فإن جاء بحق نعرفه لنتبعنه وإن جاء بباطل لنكبتنه بباطله، فواضعوا عبد الله الكتاب ثلاثة أيام، فرجع منهم أربعة آلاف كلهم تائب، فيهم ابن الكوا، حتى أدخلهم على علي الكوفة، فبعث علي إلى بقيتهم فقال: قد كان من أمرنا وأمر الناس ما قد رأيتم، فقفوا حيث شئتم حتى تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم بيننا وبينكم أن لا تسفكوا دما حراما أو تقطعوا سبيلا أو تظلموا ذمة فإنكم إن فعلتم فقد نبذنا إليكم الحرب على سواء * (إن الله لا يحب الخائنين) * [ الانفال: 58 ] فقالت له عائشة: يا بن شداد فقتلهم فقالوا والله ما بعثت إليهم حتى قطعوا السبيل وسفكوا الدماء واستحلوا أهل الذمة، فقالت الله، قال: الله لا إله إلا هو قد كان ذلك قالت: فما شئ بلغني عن أهل العراق يقولون ذو الثدي وذو الثدية ؟ قال: قد رأيته وكنت مع علي في القتلى فدعا الناس فقال: أتعرفون هذا ؟ فما أكثر من جاء يقول: قد رأيته في مسجد بني فلان، ورأيته في مسجد بني فلان يصلي ولم يأتوا فيه بثبت يعرف إلا ذلك.
قالت: فما قول علي حيث قام عليه كما يزعم أهل العراق ؟ قال سمعته يقول صدق الله ورسوله قالت: هل سمعت منه أنه قال غير ذلك ؟ قال: اللهم لا ! قالت أجل ! صدق الله ورسوله، يرحم الله عليا إنه كان لا يرى شيئا يعجبه إلا قال صدق الله ورسوله،
__________
(1) هو عبد الله بن الكواء اليشكري أول أمير للخوارج من حين اعتزلوا جيش علي وخرجوا عليه، وكان قبل من أصحاب علي ومن المحرضين على القتال وقد قال شعرا في مدح علي وتحريض جيش صفين.
(*)

(7/311)


فيذهب أهل العراق يكذبون عليه ويزيدون عليه في الحديث (1) تفرد به أحمد وإسناده صحيح
واختاره الضياء ففي هذا السياق ما يقتضي أن عدتهم كانوا ثمانية آلاف، لكن من القراء، وقد يكون واطأهم على مذهبهم آخرون من غيرهم حتى بلغوا اثني عشر ألفا، أو ستة عشر ألفا.
ولما ناظرهم ابن عباس رجع منهم أربعة آلاف وبقي بقيتهم على ما هم عليه، وقد رواه يعقوب بن سفيان عن موسى بن مسعود عن عكرمة بن عمار عن سماك أبي زميل عن ابن عباس فذكر القصة وأنهم عتبوا عليه في كونه حكم الرجال، وأنه محى اسمه من الامرة، وأنه غزا يوم الجمل فقتل الانفس الحرام ولم يقسم الاموال والسبي، فأجاب عن الاولين بما تقدم، وعن الثالث بما قال: قد كان في السبي أم المؤمنين فإن قلتم ليست لكم بأم فقد كفرتم، وإن استحللتم سبي أمهاتكم فقد كفرتم.
قال: فرجع منهم ألفان وخرج سائرهم فتقاتلوا.
وذكر غيره أن ابن عباس لبس حلة لما دخل عليهم، فناظروه في لبسه إياها، فاحتج بقوله تعالى * (قال من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) * الآية [ الاعراف: 32 ].
وذكر ابن جرير أن عليا خرج بنفسه إلى بقيتهم فلم يزل يناظرهم حتى رجعوا معه إلى الكوفة وذلك يوم عيد الفطر أو الاضحى شك الراوي في ذلك، ثم جعلوا يعرضون له في الكلام ويسمعونه شتما ويتأولون بتأويل في قوله.
قال الشافعي رحمه الله: قال رجل من الخوارج لعلي وهو في الصلاة * (لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) * [ الزمر: 65 ] فقرأ علي * (فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) * [ الروم: 60 ].
وقد ذكر ابن جرير أن هذا كان وعلي في الخطبة.
وذكر ابن جرير أيضا أن عليا بينما هو يخطب يوما إذ قام إليه رجل من الخوارج فقال: يا علي أشركت في دين الله الرجال ولا حكم إلا لله، فتنادوا من كل جانب لا حكم إلا لله، لا حكم إلا لله، فجعل علي يقول: هذه كلمة حق يراد بها باطل، ثم قال: إن لكم علينا أن لا نمنعكم فيئا ما دامت أيديكم معنا، وأن لا نمنعكم مساجد الله، وأن لا نبدأكم بالقتال حتى تبدأونا.
ثم إنهم خرجوا بالكلية عن الكوفة وتحيزوا إلى النهروان على ما سنذكره بعد حكم الحكمين.
اجتماع الحكمين أبي موسى وعمرو بن العاص
بدومة الجندل وذلك في شهر رمضان كما تشارطوا عليه وقت التحكيم بصفين، وقال الواقدي اجتمعوا في شعبان وذلك أن عليا رضي الله عنه لما كان مجئ رمضان بعث أربعمائة فارس مع شريح بن هانئ، ومعهم أبو موسى، وعبد الله بن عباس، وإليه الصلاة وبعث معاوية عمرو بن العاص في
__________
(1) أخرجه الامام أحمد في مسنده ج 1 / 86 - 87.
(*)

(7/312)


أربعمائة فارس من أهل الشام ومنهم عبد الله بن عمر (1)، فتوافوا بدومة الجندل بأذرح - وهي نصف المسافة بين الكوفة والشام، بينها وبين كل من البلدين تسع مراحل - وشهد معهم جماعة من رؤوس الناس، كعبد الله بن عمر، و عبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي.
وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري وأبي جهم بن حذيفة.
وزعم بعض الناس أن سعد بن أبي وقاص شهدهم أيضا (2)، وأنكر حضوره آخرون.
وقد ذكر ابن جرير أن عمر بن سعد خرج إلى أبيه وهو على ماء لبني سليم بالبادية معتزل: فقال يا أبة: قد بلغك ما كان من الناس بصفين، وقد حكم الناس أبا موسى الاشعري وعمرو بن العاص، وقد شهدهم نفر من قريش، فاشهدهم فإنك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد أصحاب الشورى ولم تدخل في شئ كرهته هذه الامة فاحضر إنك أحق الناس بالخلافة.
فقال: لا أفعل ! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنه ستكون فتنة خير الناس فيها الخفي البقي " والله لا أشهد شيئا من هذا الامر أبدا.
وقد قال الامام أحمد: حدثنا أبو بكر الحنفي عبد الكبير بن عبد المجيد، ثنا بكر بن سمار، عن عامر بن سعد أن أخاه عمر انطلق إلى سعد في غنم له خارجا من المدينة فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فلما أتاه قال: يا أبة أرضيت أن تكون أعرابيا في غنمك والناس يتنازعون في الملك بالمدينة ؟ فضرب سعد صدر عمر وقال: اسكت فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي " (3) وهكذا رواه مسلم في صحيحه.
وقال أحمد أيضا: حدثنا عبد الملك بن عمرو، ثنا كثير بن زيد الاسلمي، عن المطلب، عن عمر بن
سعد عن أبيه أنه جاءه ابنه عامر فقال: يا أبة: الناس يقاتلون على الدنيا وأنت ههنا ؟ فقال: يا بني أفي الفتنة تأمرني أن أكون رأسا ؟ لا والله حتى أعطي سيفا إن ضربت به مؤمنا نبا عنه وإن ضربت به كافرا قتلته، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله يحب الغني الخفي التقي " (4) وهذا السياق كان عكس الاول، والظاهر أن عمر بن سعد استعان بأخيه عامر على أبيه ليشير عليه أن يحضر أمر التحكيم لعلهم يعدلون عن معاوية وعلي ويولونه فامتنع سعد من ذلك وأباه أشد الاباء وقنع بما هو فيه من الكفاية والخفاء كما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قد " أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه " وكان عمر بن سعد هذا يحب الامارة، فلم يزل ذلك دأبه حتى كان هو أمير السرية التي قتلت الحسين بن علي رضي الله عنه كما سيأتي بيانه في موضعه، ولو قنع بما كان أبوه عليه لم يكن شئ من ذلك.
والمقصود أن سعدا لم يحضر أمر التحكيم ولا أراد ذلك ولا هم به، وإنما حضره من ذكرنا.
فلما اجتمع الحكمان تراوضا على المصلحة للمسلمين،
__________
(1) قال في مروج الذهب 2 / 438 وقتوح ابن الاعثم 4 / 22 ومعه شرحبيل بن السمط.
(2) وهو قول المسعودي 2 / 439 الاخبار الطوال ص 198، أما الطبري فأنكر حضوره 6 / 38 ووافقه ابن الاثير في الكامل 3 / 330.
(3) مسند الامام أحمد ج 1 / 168.
(4) مسند الامام أحمد ج 1 / 177.
(*)

(7/313)


ونظرا في تقدير أمور ثم اتفقا على أن يعزلا عليا ومعاوية ثم يجعلا الامر شورى بين الناس ليتفقوا على الاصلح لهم منهما أو من غيرهما، وقد أشار أبو موسى بتولية عبد الله بن عمر بن الخطاب، فقال له عمرو: فول ابن عبد الله فإنه يقاربه في العالم والعمل والزهد.
فقال له أبو موسى: إنك قد غمست ابنك في الفتن معك، وهو مع ذلك رجل صدق.
قال أبو مخنف: فحدثني محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال عمرو بن العاص: إن هذا الامر لا يصلحه إلا رجل له ضرس يأكل ويطعم.
وكان ابن عمر فيه غفلة،
فقال له ابن الزبير: افطن وانتبه، فقال ابن عمر: لا والله لا أرشو عليها شيئا أبدا، ثم قال: يا بن العاص إن العرب قد أسندت إليك أمرها بعدما تقارعت بالسيوف وتشاركت بالرماح، فلا تردنهم في فتنة مثلها أو أشد منها ثم إن عمرو بن العاص حاول أبا موسى على أن يقر معاوية وحده على الناس فأبى عليه، ثم حاوله ليكون ابنه عبد الله بن عمرو هو الخليفة، فأبى أيضا، وطلب أبو موسى من عمرو أن يوليا عبد الله بن عمر فامتنع عمرو أيضا، ثم اصطلحا على أن يخلعا معاوية وعليا ويتركا الامر شورى بين الناس ليتفقوا على من يختاروه لانفسهم، ثم جاءا إلى المجمع الذي فيه الناس - وكان عمرو لا يتقدم بين يدي أبي موسى بل يقدمه في كل الامور أدبا وإجلالا - فقال له: يا أبا موسى قم فأعلم الناس بما اتفقنا عليه، فخطب أبو موسى الناس فحمد الله واثنى عليه ثم صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الامة فلم نر أمرا أصلح لها ولا ألم لشعثها من رأي اتفقت أنا وعمرو عليه، وهو أنا نخلع عليا ومعاوية ونترك الامر شورى، وتستقبل الامة هذا الامر فيولوا عليهم من أحبوه، وإني قد خلعت عليا ومعاوية.
ثم تنحى وجاء عمرو فقام مقامه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن هذا قد قال ما سمعتم، وإنه قد خلع صاحبه، وإني قد خلعته كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية فإنه ولي عثمان بن عفان، والطالب بدمه، وهو أحق الناس بمقامه - وكان عمرو بن العاص رأى أن ترك الناس بلا إمام والحالة هذه يؤدي إلى مفسدة طويلة عريضة أربى مما الناس فيه من الاختلاف، فأقر معاوية لما رأى ذلك من المصلحة، والاجتهاد يخطئ ويصيب.
ويقال إن أبا موسى تكلم معه بكلام فيه غلظة ورد عليه عمرو بن العاص مثله.
وذكر ابن جرير أن شريح بن هانئ - مقدم جيش علي - وثب على عمرو بن العاص فضربه بالسوط وقام إليه ابن لعمرو فضربه بالسوط، وتفرق الناس في كل وجه إلى بلادهم، فأما عمرو وأصحابه فدخلوا على معاوية فسلموا عليه بتحية الخلافة، وأما أبو موسى فاستحيى من علي فذهب إلى مكة، ورجع ابن عباس وشريح بن هانئ إلى علي فأخبراه بما فعل أبو موسى وعمرو، فاستضعفوا رأي أبي موسى وعرفوا أنه لا يوازن عمرو بن العاص.
فذكر أبو مخنف عن أبي جناب
الكلبي أن عليا لما بلغه ما فعل عمرو كان يلعن في قنوته معاوية، وعمرو بن العاص، وأبا الاعور السلمي، وحبيب بن مسلمة، والضحاك بن قيس، وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد،

(7/314)


والوليد بن عقبة، فلما بلغ ذلك معاوية كان يلعن في قنوته عليا وحسنا وحسينا وابن عباس والاشتر النخعي، ولا يصح هذا والله أعلم.
فأما الحديث الذي قال البيهقي في الدلائل: أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، ثنا إسماعيل بن الفضل، ثنا قتيبة بن سعيد، عن جرير، عن زكريا بن يحيى، عن عبد الله بن يزيد وحبيب بن يسار عن سويد بن غفلة قال: إني لامشي مع علي بشط الفرات فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن بني إسرائيل اختلفوا فلم يزل اختلافهم بينهم حتى بعثوا حكمين فضلا وأضلا، وإن هذه الامة ستختلف فلا يزال اختلافهم بينهم حتى يبعثوا حكمين فيضلان ويضلان من اتبعهما " (1) فإنه حديث منكر ورفعه موضوع والله أعلم.
إذ لو كان هذا معلوما عند علي لم يوافق على تحكيم الحكمين حتى لا يكون سببا لاضلال الناس، كما نطق به هذا الحديث.
وآفة هذا الحديث هو زكريا بن يحيى وهو الكندي الحميري الاعمى قال ابن معين ليس بشئ.
خروج الخوارج من الكوفة ومبارزتهم عليا لما بعث علي أبا موسى ومن معه من الجيش إلى دومة الجندل اشتد أمر الخوارج وبالغوا في النكير على علي وصرحوا بكفره، فجاء إليه رجلان منهم، وهما زرعة بن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعدي فقالا: لا حكم إلا لله، فقال علي: لا حكم إلا لله، فقال له حرقوص: تب من خطيئتك واذهب بنا إلى عدونا حتى نقاتلهم حتى نلقى ربنا.
فقال علي: قد أردتكم على ذلك فأبيتم، وقد كتبنا بيننا وبين القوم عهودا وقد قال الله تعالى: * (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) * الآية [ النحل: 91 ] فقال له حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه، فقال علي: ما هو بذنب ولكنه عجز من الرأي، وقد تقدمت إليكم فيما كان منه، ونهيتكم عنه، فقال له زرعة بن البرج: أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله لاقاتلنك أطلب بذلك
رحمة الله ورضوانه.
، فقال علي: تبا لك ما أشقاك ! كأني بك قتيلا تسفي عليك الريح، فقال: وددت أن قد كان ذلك، فقال له علي: إنك لو كنت محقا كان في الموت تعزية عن الدنيا، ولكن الشيطان قد استهواكم، فخرجا من عنده يحكمان وفشى فيهم ذلك، وجاهروا به الناس، وتعرضوا لعلي في خطبه وأسمعوه السب والشتم والتعريض بآيات من القرآن، وذلك أن عليا قام خطيبا في بعض الجمع فذكر أمر الخوارج فذمه وعابه.
فقام جماعة منهم كل يقول لا حكم إلا لله، وقام رجل منهم وهو واضع أصبعه في أذنيه يقول: * (ولقد أوحى إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) * [ الزمر: 65 ] فجعل علي يقلب يديه هكذا وهكذا وهو على المنبر ويقول: حكم الله ننتظر فيكم.
ثم قال: إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ما لم تخرجوا علينا ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفئ ما دامت أيديكم مع
__________
(1) أخرجه البيهقي في الدلائل 6 / 423.
(*)

(7/315)


أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا.
وقال أبو مخنف عن عبد الملك عن أبي حرة أن عليا لما بعث أبا موسى لانفاذ الحكومة اجتمع الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الراسبي فخطبهم خطبة بليغة زهدهم في هذه الدنيا ورغبهم في الآخرة والجنة، وحثهم على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم قال: فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها، إلى جانب هذا السواد إلى بعض كور الجبال، أو بعض هذه المدائن، منكرين لهذه الاحكام الجائرة.
ثم قال حرقوص بن زهير فقال بعد حمد الله والثناء عليه: إن المتاع بهذه الدنيا قليل، وإن الفراق لها وشيك، فلا يدعونكم زينتها أو بهجتها إلى المقام بها، ولا تلتفت بكم عن طلب الحق وإنكار الظلم * (إن الله مع الذين التقوا والذين هم محسنون) * [ النحل: 128 ] فقال سنان بن حمزة الاسدي (1): يا قوم إن الرأي ما رأيتم، وإن الحق ما ذكرتم، فولوا أمركم رجلا منكم، فإنه لابد لكم من عماد وسناد، ومن راية تحفون بها وترجعون إليها، فبعثوا إلى زيد بن حصن الطائي - وكان من رؤوسهم - فعرضوا عليه الامارة فأبى، ثم عرضوها على حرقوص بن زهير فأبى، وعرضوها على حمزة بن سنان فأبى،
وعرضوها على شريح بن أبي أوفى العبسي فأبى وعرضوها على عبد الله بن وهب الراسبي فقبلها وقال: أما والله لا أقبلها رغبة في الدنيا ولا أدعها فرقا من الموت.
واجتمعوا أيضا في بيت زيد بن حصن (2) الطائي السنبسي فخطبهم وحثهم على الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتلا عليهم آيات من القرآن منها قوله تعالى * (يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) * الآية [ ص: 26 ] وقوله تعالى: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * [ المائدة: 44 ] وكذا التي بعدها وبعدها الظالمون الفاسقون ثم قال: فأشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا أنهم قد اتبعوا الهوى، ونبذوا حكم الكتاب، وجاروا في القول والاعمال، وأن جهادهم حق على المؤمنين، فبكى رجل منهم يقال له عبد الله بن سخبرة السلمي، ثم حرض أولئك على الخروج على الناس، وقال في كلامه: اضربوا وجوههم وجباههم بالسيوف حتى يطاع الرحمن الرحيم، فإن أنتم ظفرتم وأطيع الله كما أردتم أثابكم ثواب المطيعين له العاملين بأمره، وإن قتلتم فأي شئ أفضل من المصير إلى رضوان الله وجنته ؟ قلت: وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوع خلقه كما أراد، وسبق في قدره العظيم.
وما أحسن ما قال بعض السلف في الخوارج إنهم المذكورون في قوله تعالى: * (قل هل ننبئكم بالاخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) * [ الكهف: 103 ] والمقصود أن هؤلاء الجهلة الضلال، والاشقياء في الاقوال والافعال، اجتمع
__________
(1) في الطبري 6 / 42 والكامل 3 / 335: حمزة بن سنان الاسدي، وفي الاخبار الطوال ص 202: حمزة بن سيار.
(2) في الطبري والكامل: حصين.
وفي الاخبار الطوال ص 202: يزيد بن الحصين.
(*)

(7/316)


الصفحة السابقة   //   الصفحة التالية