صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)

الصفحة السابقة   //   الصفحة التالية
 

الكتاب : مروج الذهب
المؤلف : المسعودي
مصدر الكتاب : الوراق

[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]

والبيت السابع بأعالي بلاد الصين، بناه ولد عامور بن سوبل بن يافث ابن نوح، وأفرده للعلة الأولى؛إذ كان منشأ هذا الملك ومبدأه وباعث الأنوار إليه، وقيل: إنما بناه بعض ملوك الترك في قديم الزمان وجعله سبعة أبيات في كل بيت منها سبع كوى يقابل كل كوة صورة منصوبة على صورة كوكب من الخمسة والنيرين من أنواع الجواهر المضافة إلى تأثير تلك الكواكب، من ياقوت أو عقيق أو زمرد على اختلاف ألوان الجواهر، ولهم في هذا الهيكل سر يسرونه في بلاد الصين، بما قد زخرف لهم فيه القول وزينه لهم الشيطان، ولهم في هذا الهيكل علوم في اتصال الأجسام السماوية وأفعالها بعالم الكون الذي تحدثه، وما يحدث فيه من الحركات والأفعال عند تحرك الأجسام السماوية؛ وقد قرب ذلك إلى عقولهم: بأن جعل لهم مثالا من الشاهد يدل على ما غاب عنهم من فعل الأجسام السماوية في هذا العالم، وهو خشب الديباج الذي ينسج به؛فبضرب من حركات الصانع بذلك الخشب والخيوط إلإبريسم تحدث ضروب من الحركات، فإذا اتصلت أفعاله وتواترت حركاته من النسج للثوب الديباج تحت الصورة فيه؛فبضرب من الحركات يظهر جناح طائر، وبآخر رأسه، وبآخر رجلاه،فلا يزال كذلك حتى تتم الصورة على حسب مراد الصانع لها؛فجعلوا هذا المثال واتصال الإبريسم بآلة النسج وما يدحثه الصانع في ذلك من الأفعال مثالا لما ذكرنا من الكواكب العلوية، وهي الأجسام السماوية، فبضرب من الحركات ظهر في العالم الطائر وبضرب آخر بيضة وبضرب آخر فرخ، وكذلك سائر ما يحدث في العالم، ويسكن ويتحرك ويوجد ويعدم، ويتصل وينفصل، ويجتمع ويفترق، ويزيد وينقص، من جماد أو نبات أو حيوان ناطق أو غير ناطق، فإنما يحدث عن حركات الكواكب على حسب ما وصفنا من نسج الديباج وغيره من الصنائع، وأهل صناعة النجوم لا يتناكرون أن يقولوا: أعطته الزهرة كذا، وأعطاه المريخ كذا، كالشقرة وصهوبة الشعر وأعطاه زحل خفة العارضين وجحوظ العينين وأعطاه عطارد الصنعة وأعطاه المشتري الحياء والعلم والدين، وأعطته الشمس كذا، وأعطاه القمر كذا، وهذا باب يكثر القول فيه ويتسع وصف مذاهب الناس فيه، وما قالوه في بابه.
ذكر البيوت المعظمة عند اليونانيين
بيت إنطاكية
البيوت المضاف بناؤها إلى من سلف من اليونانيين ثلاثة بيوت: فبيت منها كان بإنطاكية من أرض الشام، على جبل بها داكأ المدينة، والسور محيط بها، وقد جعل المسلمون في موضعه مرقبا ا ليننرهم من قد رتب فيه من الرجال بالروم إذا وردوا من البر والبحر، وكان يعظمونه، ويقربون فيه القرابين،فخرب عند مجيء الإسلام، وقد قيل إن قسطنطين الأكبر بن هيلاني الملكة المظهرة لدين النصرانية هو المخرب لهذا البيت، وكانت فيه الأصنام والتماثيل من الذهب والفضة وأنواع الجواهر، وقد قيل: إن هذا البيت هو بيت بمدينة إنطاكية على يسره الجامع اليوم، وكان هيكلا عظيما، والصابئة تزعم أن الذي بناه سقلابيوس، وهو في هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة - سوق بسوق الجزارين، وقد كان ثابت بن قرة بن كراني الصابئ الحراني - حين وافى المعتضد بالله في سنة تسع وثمانين ومائتين في طلب وصيف الخادم - أتى هذا الهيكل وعظمه، وأخبر من شأنه ما وصفنا.
الأهرام بمصر وبيت المقدس
والبيت الثاني من بيوت اليونانيين هو بعض تلك الأهرام التي بمصر وهو يرى من الفسطاط على أميال منها.
والبيت الثالث هو بيت المقدس، على مازعم القوم، وأهل الشر إنما تخبر أن داود عليه السلام بناه وأتمه سليمان بعد وفاة أبيه، والمجوس تزعم أن الذي بناه الضحاك؛وأنه سيكون له في المستقبل من الزمان خطب طويل، ويقعد فيه ملك عظيم، وذلك عند ظهور شوبين على بقرة من صفتها كذا، ومعه من الناس كذا من العدد، وأقاصيص تدعيها المجوس في هذا المعنى، واختلاط طويل ننزه كتابنا عن ذكره، والله تعالى ولي التوفيق.
ذكر البيوت المعظمة عند أوائل الروم
كانت البيوت المعظمة عند أوائل الروم قبل ظهور دين النصرانية بيت ببلاد المغرب بمدينة قرطاجنة - وهي تونس - من وراء بلاد القيروان، وهي من أرض الإفرنجة، وبني على اسم الزهرة بأنواع من الرخام.
والبيت الثاني بإفرنجة، وهو بيت عظيم عندهم.

(1/264)


والبيت الثالث عندهم بمقدونية، وأمره مشهور في التشييد، وما كان من خبره بمقدونية، وقد أتينا على أخباره وأخبار غيره فيما سلف من كتبنا، والله تعالى أعلم.
ذكر البيوت المعظمة عند الصقالبة
كانت في ديار الصقالبة بيوت تعظمها: منها بيت كان لهم في الجبل الذي ذكرت الفلاسفة أنه أحد جبال العالم العالية، وهذا البيت له خبر في كيفية بنائه، وترتيب أنواع أحجاره، واختلاف ألوانه، والمخاريق المصنوعة له، فيه على أعلاه، وما من مطلع الشمس في تلك المخاريق المصنوعة وما أودع فيه من الجواهر والآثار المرسومة فيه الدالة على الكائنات المستقبلة، وما تنذر به تلك الجواهر من الأحداث قبل كونها، وظهور أصوات من أعاليه لهم، وما كان يلحقهم عند سمأع ذلك.
وبيت اتخذه بعض ملوكهم على الجبل الأسود، تحيط به مياه عجيبة ذوات ألوان وطعوم مختلفة عامة المنافع، وكان لهم فيه صنم عظيم على صورة رجل قد انحنى على نفسه، وهو شيخ بيده عصا يحرك به عظام الموتى من النواويس، وتحت رجله اليمنى صور أنواع من النمل، وتحت الأخرى غرابيب سود من صور الغداف وغيرها، وصور عجيبة لأنواع، الأحابيش والزنج.
وبيت أخر على تجبل لهم يحيط به خليج من البحر قد بني بأحب المرجان الأحمر، وأحجار الزمرد الأخضر، في وسطه قبة عظيمة، تحتها صنم عظيم أعضاؤه من جواهر أربعة: زمرد أخضر، وياقوت أحمر وعقيق أصفر، وبلور أبيض، ورأسه من الذهب الأحمر، فإزائه صنم آخر على صورة جارية، وكان يقرب له قرابين ودخن، وكان ينسب هذا البيت إلى حكيم كان لهم في قديم الزمان، وقد أتينا على خبره، وما كان من أمره بأرض الصقالبة، وما أحدث فيهم من الدكوك والحيل والمخاريق المصطنعة التي اجتذب بها قلوبهم وملك نفوسهم واسترق بها عقولهم مع شراسة أخلاق الصقالبة واختلاف طبائعهم، فيما سلف من كتبنا، والله تعالى ولي التوفيق.
ذكر البيوت المعظمة والهياكل المشرفة للصابئة
وغيرها وغير ذلك مما لحق بهذا الباب واتصل بهذا المعنى
هيكل العقل والعلة الأولى
للصابئة من الحرانيين هياكل على أسماء الجواهر العقلية والكواكب فمن ذلك هيكل العلة الأولى، وهيكل العقل، وما أثري أ أشاروا إلى العقل الأول أما الثاني، وقد ذكر صاحب المنطق في كتابه في المقالة الثالثة من كتاب النفس العقل الأول الفعال، والعقل الثاني، وذكر ذلك تامسطيس في كتابه في شرح كتاب النفس الذي عمله صاحب المنطق، وقد ذكر العقل الأول والثاني الإسكندر الأفرودوسي في مقالة أفردها في ذلك قد ترجمها إسحاق بن حنين.
جملة من هياكلهم
ومن هياكل الصابئة هيكل السلسلة، وهيكل الصورة، وهيكل النفس، وهذه مدورات الشكل، وهيكل زحل مسدس، وهيكل المشتري مثلث، وهيكل المريخ مربع مستطيل، وهيكل الشمس مربع، وهيكل عطارد مثلث الشكل، وهيكل الزهرة مثلث في جوف مربع مستطيل،وهيكل القمر مثمن الشكل وللصابئة فيما ذكرنا رموز وأسرار يخفونها.
وقد حكى رجل من ملكية النصارى من حران يعرف بالحارث بن شباط للصابئة الحرانيين أشياء ذكرها من قرابين يقربونها من الحيوان ودخن للكواكب يبخرون بها وغير ذلك مما امتنعنا عن ذكره مخافة التطويل.

(1/265)


والذي بقي من هياكلهم المعظمة في هذا الوقت - وهو سنة اثنتين - ثلاثين وثلثمائة بيت لهم بمدينة حران في باب الرقة يعرف بمغليتيا، وهو هيكل آزر أبي إبراهيم الخليل عليه السلام عندهم، وللقوم في آزر وابنه إبراهيم كلام كثير ليس كتابنا هذا موضعا له، ولابن عيشون الحراني لقاضي - وكان ذا فهم ومعرفة، وتوفي بعد الثلثمائة - قصيدة طويلة يذكر فيها مذاهب الحرانيين المعروفين بالصابئة، ذكر فيها هذا البيت وما تحته من السراديب الأربعة المختلفة لأنواع صور الأصنام التي جعلت مثالا للأجسام السماوية وما ارتفع من ذلك من الأشخاص العلوية، وأسرار هذه الأصنام، وكيفية إيرادهم لأطفالهم إلى هذه السراديب وعرضهم لهم على هذه الأصنام، وما يحدث ذلك في ألوان صبيانهم من الاستحالة إلى الصفرة وغيرها لما يسمون من ظهور أنواع الأصوات وفنون اللغات من تلك الأصنام والأشخاص، بحيل قد اتخذت ومنافيخ قد عملت: تقف السدنة من وراء جمر فتتكلم بأنواع من الكلام، فتجري الأصوات في تلك المنافيخ والمخاريق والمنافذ إلى تلك الصور المجوفة والأصنام المشخصة، فيظهر منها نطق على حسب ما قد عمل في قديم الزمان، فيصطادون به العقول، وتسترق بها الرقاب، ويقام بها الملك والممالك ومما ذكر في هذه القصيدة قوله:
إن نفيس العجائب ... بيت لهم في سرادب
تعبد فيه الكواكب ... أصن أمه م خلف غائب
ولهذه الطائفة المعروفة بالحرانيين والصابئة فلاسفة، إلا أنهم من حشوية الفلاسفة، وعوأمه م مباينون لخواص حكمائهم في مذاهبهم، وإنما أضفناهم إلى الفلاسفة إضافة سبب لا إضافة حكمة، لأنهم يونانية، وليس كل اليونانيين فلاسفة، إنما الفلاسفة حكماؤهم.
ورأيت على باب مجمع الصابئة بمدينة حران مكتوبا على مدقة الباب بالسريانية قولا لأفلاطون فسره مالك بن عقبون وغيره منهم وهو من عرف ذاته تاله وقد قال أفلاطون الإنسان نبات سماوي، والدليل على هذا أنه شبيه شجرة منكوسة أصلها إلى السماء وفروعها في الأرض ولأفلاطون وغيره ممن سلك طريقه في النفس الناطقة كلام كثير في هل النفس في البدن أو البدن في النفس، كالشمس أهي في الدار أو الدار في الشمس، وهذا قول يتغلغل بنا الكلام فيه إلى الكلام في تنقل الأرواح في أنواع الصور.
القول في تنقل الأرواح
وقد تنازع أهل هذه الآراء ممن قصد هذه المقالة في النقلة على وجهين، فطائفة من الفلاسفة القدماء اليونانين والهند - ممن لم يثبت كلاما منزلا ولا نبيا مرسلا منهم أفلاطون ومن يمم طريقهم - حكى عنهم أنهم زعموا أن النفس جوهر ليست بجسم، وأنها حية عالمة مميزة لأجل ذاتها وجوهرها، وأنها هي المدبرة للأجسام المركبة من طبائع الأرض المتضادة، وعرضها في ذلك أن تقيمها على العدل وما تتم به السياسة المستقيمة والنظام المتسق وتردها من الحركة المضطربة إلى المنتظمة.
وزعموا أنها تلذ وتألم وتموت، وموتها عندهم انتقالها من جسد إلى جسد بتدبير، وبطلان ذلك الشخص الذي فسد ووصف بالموت، لأن شخصها يفسد، ولأن جوهرها ينتقل.
وزعموا أنها عالمة بذاتها وجوهرها عالمة بالمعقولات من ذاتها وجوهرها وفيها قبول علم المحسوسات من جهة الحس.
المقولأت
ولأفلاطون وغيره في هذه المعاني كلام يطول ذكره، ويعجز عن وصفه وإظهاره لاعتياصه وغموضه، وكذلك صاحب المنطق وفيثاغورس وغيرهما من الفلاسفة ممن تقدم وتأخر، لأن الطالب لعلم هذه الأشياء والإحاطة بفهمها وبلوغ غايتها لا يحرك ذلك لما نصبوا من الكتب، ورتبوا من التصنيف للعلوم المؤدية إلى معرفة علومهم وأغراضهم التي إليها قصدوا في كتبهم وهي معرفة الألفاظ الخمس، وهي: الجنس. والفصل، والنوع، والخاصة، والعرض، ثم معرفة المقولات، وهي عشرة: الجوهر، والكمية، والكيفية، والإضافة - وهي النسبة - وهذه أربع بسائط، والست الأخر مركبات، وهي: الزمان، والمكان، والجدة - وهي الملك - والوضع، والفاعل، والمنفعل، ثم ما بعد ذلك مما يترقى فيا الطالب إلى أن ينتهي إلى علم ما بعد الطبيعة من معرفة الأول والثاني.
عود إلى الكلام عن الصابئة
ثم رجع بنا الإخبار عن مذاهب الصابئة من الحرانيين، وذكر من أخبر عن مذاهبهم وكشف عن أحوالهم.

(1/266)


فمن ذلك كتاب رأيته لأبي بكر محمد بن زكريا الرازي الفيلسوف صاحب كتاب المنصوري في الطب وغيره، ذكر فيه مذاهب الصابف الحرانيين منهم، دون من خالفهم من الصابئة، وهم الكيماريون، وذكر أشياء يطول ذكرها ويقبح عند كثير من الناس وصفها، أعرضنا عن حكايتها، إذ كان في ذلك خروج عن حد الغرض من كتابنا إلى وصف الآراء والديانات.
وقد خاطبت مالك بن عقبون وغيره منهم بشيء مما ذكرنا وغيره عنه كتبنا، فمنهم من اعترف ببعضه، وأنكر بعضا من ذكر القرابين وغيرا من الآراء، مثل فعلهم بالثور الأسود، فإنه يضرب وجهه بالملح إذا شدت عيناه ثم يذبح، وبراعى كل عضو من أعضائه وما يظهر منه من الحركات والأختلاج على ما يدل ذلك من أحوال السنة وغير ذلك من أسرارهم
ومحالاتهم وأحوال قرابينهم.
قال المسعودي: وقد ذكر جماعة - ممن له تأمل بشأن أمور هذا العالم والبحث عن أخباره - أن بأقصى بلاد الصين هيكلا مدورا له سبعة أبواب، في داخله قبة و مسبعة عظيمة الشأن عالية السمك، في أعالي القبة شبه الجوهرة يزيد على رأس العجل تضيء منه جميع أقطار ذلك الهيكل، وأن جماعة من الملوك حاولوا أخذ تلك الجوهرة فلم يدن أحد منها على مقدار عشرة أفرع إلا خر ميتا وإن حاول أحد منهم أخذ هذه الجوهرة بشيء من الآلات الطوال كالرماح وغيرها وانتهت إلى هذا المقدار من الذرع انعكست وعطلت، وإن رميت بشيء كان كذلك، فليس شيء من الحيل يؤدي إلى تناولها بوجه ولا بسبب، وإن تعرض لشيء من هدم هذا الهيكل مات من يروم ذلك وهذا عند جماعة من أهل الخبرة لقوة دافعة منفردة قد عملت من أنواع الأحجار المغناطيسية، وفي هذا الهيكل بئر مسبعة الرأس متى أكب الإنسان على رأس البئر إكبابا متمكنا تهؤر في البئر فصار في أسفلها على أم رأسه، وعلى رأس هذه البئر شبه الطوق مكتوب عليه بقلم قديم أراه بقلم المسند هذه بئر تؤدي إلى مخزن الكتب وتاريخ الدنيا وعلوم السماء وما كان فيما مضى من الدهر وما يكون فيما يأتي منه، وتؤدي هذه البئر أيضا إلى خزائن وغائب هذا العالم، لا يعمل إلى الوصول إليها والاقتباس منها إلا من وازت قدرته قدرتنا، واتصل علمه بعلمنا، وصارت حكمته كحكمتنا، فمن قدر على الوصول إلى هذا المخزن فليعلم أنه قد وازانا، ومن عجز عن الوصول إلى ما وصفنا فليعلم أنا أشد منه بأسا، وأقوى حكمة، وأكثر علما، وأثقب راية، وأتم عناية، والأرض التي عليها هذا الهيكل والقبة وفيها البئر أرض حجرية صلبة عالية من الأرض كالجبل الشامخ لا ترام قلعته ولا يتأتى نقب ما تحته، فإذا أدرك البصر ذلك الهيكل والقبة والبئر وقع للرائي عند رؤيته ذلك جزع وحزن واجتذاب للقلب إليه وحنين على إفساده وتأسف على إفساد شيء منه أو هدمه، والله أعلم بذلك.
ذكر الأخبار عن بيوت النيران وغيرها
رأيهم في النار والنور
فأما بيوت النيران ومن رسمها من ملوك الفرس الأولى والثانية فأول ما يحكى ذلك عنه أفريحون الملك، وذلك أنه وجد نارا يعظمها أهلها، وهم معتكفون على عبادتها، فسألهم عن خبرها ووجه الحكمة منهم في عبادتها، فأخبروه بأشياء اجتذبت نفسه إلى عبادتها، وأنها واسطة بين الله ؤبين خلقه، وأنها من جنس الآلهة النورية، وأشياء ذكروها أعرضنا عن ذكرها لاعتياصها، وذلك أنهم جعلوا للنور مراتب، وفرقوا بين طبع النار والنور، وأن الحيوان يجتذب فيحرق نفسه كالفراش الطائر بالليل، فما لطف يطرح نفسه في السراج فيحرقها، وغير ذلك مما يقع في صيد الليالي من الغزلان والطير والوحوش، وكظهور الحيتان من الماء إذا قربت من السراج في الزوارق، كما يصطاد ببلاد البصرة السمك في الليل يظهر من الماء طافيا حتى يقع في جوف المركب والسرج قد جعمن حواليه، وأن النور صلاح هذا العالم، وشرف النار على الظلمة ومضادته لها، ومرتبة الماء وزيادته على النار بإطفائه ومضادته لها وأنه أصل لكل حي ومبدأ لكل نام.
أماكن بيوت النيران

(1/267)


فلما أخبر أفريدون بما ذكرنا أمر بحمل جزء منها إلى خراسان، فاتخذ لها بيتا بطوس واتخذ بيتا آخر بمدينة بخارا يقال له برد سورة وبنى آخر من بيوت النار بسجستان يقال له كراكر كان اتخذه بهمن بن إسفنديار بن يستأسف، وبيت آخر ببلاد الشيزوالران، وكان فيه أصنام فأخرجها أنو شروان، وقيل: إن أنو شروان صادف هذا البيت وفيه نار معظمة فنقلها إلى الموضع المعروف بالبركة، وبيت آخر للنار يقال له كوسجة بناه كيخسر والملك، وقد كان بقومس بيت للنار معظم لا يدرى من بناه يقال له جريش، ويقال: إن الإسكندر لما غلب عليها تركها ولم يطفئها ويقال: إنه كان في ذلك الموضع فيما مضى مدينة عظيمة عجيبة البناء فيها بيت كبير عجيب الهيئة فيه أصنام فأخربت تلك المدينة بما فيها من البيوت، ثم بنى بعد ذلك بيت وجعلت فيه تلك النار، وبيت آخر يسمى كنجده بناه سياوخس بن كاوس الجبار، وذلك في زمان لبثه بمشرق الصين مما يلي البركند، وبيت نار بمدينة أرجان من أرض فارس اتخذ في أيام بهراسف.
زرادشت والبيوت التي اتخذها
وهذه البيوت العشرة كانت قبل ظهور زرادشت بن أسبيمان نبي إلمجوس، ثم اتخذ زرادشت بن أسبيمان بعد ذلك بيوت النيران، وكان مما اتخذ بيت بمدينة نيسابور من بلاد خراسان، وبيت آخر بمدينة نسا والبيضاء من أرض فارس، وقد كان زرادشت أمر يستأسف الملك أن يطلب نارا كان يعظمها جم الملك، فطلبت فوجدت بمدينة خوارزم، فنقلها بعد ذلك يستأسف إلى مدينة دارابجرد من أرض فارس وكورها بهذا البيت، وهذه النار تسمى في وقتنا هذا - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة - زرجوى، وتفسير ذلك نار النهر، وذلك أن آزر أحد أسماء النار وجوى أحد أسماء النهر بالفارسية الأولى، والمجوس تعظم هذه النار مالا تعظم غيرها من النيران والبيوت.
وذكرت الفرس أن كيخسرو لما خرج غازيا إلى الترك سار إلى خوارزم، فمر على تلك النار، فلما وجدها عظمها وسجد لها، ويقال: إن أنو شروان هو الذي نقلها إلى الكاريان، فلما ظهر الإسلام تخوفت المجوس أن يطفئها المسلمون فتركوا بعضها بالكاريان، ونقلوا بعضها إلى نسا والبيضاء من كورة فارس؛لتبقى إحداهما إن طفئت الأخرى.
بيت بإصطخر
وللفرس بيت نار بإصطخر فارس تعظمه المجوس، وكان في قديم الزمان فأخرجته حماية بنت بهمن بن إسفنديار وجعلته بيت نار، ثم نقلت عنه النار فتخرب، والناس في وقتنا هذا يذكرون أنه مسجد سليمان بن داود، وبه يعرف وقد دخلته، وهو على نحو فرسخ من مدينة إصطخر، فرأيت بنيانا عجيبا، وهيكلا عظيما، وأساطين صخر عجيبة، على أعلاها صور من الصخر طريفة من الخيل وغيرها من الحيوان عظيمة القدر والأشكال، محيط بذلك حيز عظيم وسور منيع من الحجر، وفيه صور لأشخاص قد تشكلت وأتقنت صورها، يزعم من جاور هذا الموضع أنها صور الأنبياء، وهو في سفح جبل والريح غير خارجة من ذلك الهيكل في ليل ولا نهار، ولها هبوب وعوي، يذكر من هنالك من المسلمين أن سليمان بن داود عليهما السلام حبس الريح في ذلك الموضع، وأنه كان يتغذى ببعلبك من أرض الشام، ويتعشى في هذا المسجد، وينزل بينهما بمدينة تدمر وملعبها المتخذ فيها، ومدينة تدمر في البرية بين العراق ودمشق وحمص من أرض الشام يكون منها إلى الشام نحو خمسة أيام أو ستة، وهي بنيان عجيب من الحجر، وكذلك الملعب الذي فيها، وفيها خلق من الناس من العرب من قحطان.
بيت بسابور وبيت بجور
وفي مدينة سابور من أرض فارس بيت للنار معظم عندهم، اتخذه دارا بن دارا.

(1/268)


وفي مدينة جور من أرض فارس - وهو البلد الذي يحمل منه ماء الورد الجوري وإليه يضاف - بيت للنار، بناه أردشير بن بابك، وقد رأيته، وهو على ساعة منها على عين هناك عجيبة، وله عيد، وهو أحد متنزهات فارس، وفي وسط مدينة جور بنيان كان تعظمه الفرس يقال له الطربال أخربه المسلمون، وبين جور ومدينة كوار عشرة فراسخ، وبها يعمل ماء الورد الكوأري وإليها يضاف، وهذا الماء الورد المعمول بجور وكوار أطيب ماء ورد يعمل في العالم، لصحة التربة وصفاء الهواء، وفي ألوان سكان هذه البلاد حمرة في بياض ليست لغيرهم من أهل الأمصار، ومن كوار إلى مدينة شيراز - وهي قصبة فارس - عشرة فراسخ، ولجور وكوار وشيراز وغيرها من كور فارس أخبار، ولما فيها من البنيان أقاصيص يطول ذكرها قد دونتها الفرس، وكذلك ما كان بأرض فارس من الموضع المعروف بماء النار، وقد بني عليه هيكل.
وكان كورش الملك - حين ولد المسيح عليه السلام - بعث ثلاثة أنفس: دفع إلى أحدهم صرة من لبان، وإلى آخر صرة من مر، وإلى آخر صرة من تبر، وسيرهم يهتدون بنجم وصفه لهم، فساروا حتى انتهوا إلى السيد المسيح و أمه مريم بأرض الشام، والنصارى تغلو في قصة هؤلاء النفر، وهذا الخبر موجود في الإنجيل، وإن هذا الملك كورش نظر إلى نجم قد طلع بمولد المسيح عيسى، فكانوا إذا ساروا سار معهم ذلك النجم، وإذا وقفوا وقف بوقوفهم، وقد أتينا في كتابنا أخبار الزمان على شرح هذا الخبر، وما قالت فيه المجوس والنصارى، وخبر الرغفان التي دفعتها إليهم مريم، وما كان من الرسل وجعلهم الخبز تحت الصخرة وغوصها في الأرض، وذلك بفارس، وكيف حفر عليها إلى الماء وأنها وجدت وقد صارت سعلتي نار على وجه الأرض تتقدان، وغير ذلك مما قيل في هذا الخبر.
وقد كان أردشير بنى بيتا آخر يقال له بارنوا، وفي اليوم الثاني من غلبته على فارس، ؤبيت نار على خليج القسطنطينية من بلاد الروم، بناه سابور بن أردشير بن بابك - وهو سابور الجنود - حين نزل على هذا الخليج، وحاصر القسطنطينية في عساكره، فلم يزل هذا البيت هنالك إلى خلافة المهدي، فخرب وله خبر عجيب، وكان مسيوره الجنود اشترط على الروم بناء هذا البيت وعمارته عند حصاره القسطنطينية، وكان مسيره في جيوش فارس وغيرها من الترك وملوك الأمم، فسمى سابور الجنود. لكثرة من تبعه من الجنود.
حصن الحضر
وقد كان سابور لما سار إلى بلاد الجزيرة عدل عن طريقه فنزل الحصن المعروف بالحضر، وقد كان هذا الحصن للساطرون بن اسيطرون ملك السريانيين في رستاق يقال له أياجر من بلاد الموصل، وقد ذكرته الشعراء؛لعظم ملكه وكثرة جيوشه وحسن بنائه لهذا الحصن المعروف بالحضر، فممن ذكره منهم أبو عواد جارية بن حجاج الأيادي بقوله:
وأرى الموت قد تدلى من الحض ... ر على رب أهله الساطرون
ولقد كان آمنا للدواهي ... ذا ثراء وجوهر مكنون
قول في نسب النعمان بن المنذر: وقد قيل: إن النعمان بن المنزر من ولد الساطرون بن أسيطرون وقال: هو النعمان بن المنزربن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن نصر بن الساطرون بن اسيطرون والساطرون واسيطرون هذه ألقاب، وهم ملوك ملكوا على السريانيين.

(1/269)


ثم تملك تلك الديار بعد من ذكرنا ممن أفناهم الدهر الضيزن بن جبلة، وجبلة أمة وهو الضيزن بن معاوية ملكا على قومه من تنوخ بن مالك بن فهم بن تيم اللات بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وهو الضيزن بن معاوية بن العبيد بن حرام بن سعد بن سليح بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة، وكان كثير الجنود، مهادنا للروم، متحيزا أليهم، يغير رجاله على العراق والسواد، وكان في نفس سابور عليهم ذلك، فلما نزل على حصنه تحصن الضيزن في الحصن، فأقام سابور عليه شهرا لا يجد سبيلا إلى فتحه، ولا يتأتى له حيلة في دخوله، فنظرت النضيرة بنت الضيزن يوما وقد أشرفت من الحصن إلى سابور فهويته وأعجبها جماله، وكان من أجمل الناس وأمدهم قامة، فأرسلت إليه: إن أنت ضمنت لي أن تتزوجني وتفضلني على نسائك دللتك على فتح هذا الحصن، فضمن لها ذلك، فأرسلت إليه: ائت الثرثار - وهو نهر في أعلاه - فانثر فيه تبنا ثم أتبعه فانظر أين يدخل فأدخل الرجال منه، فإن ذلك المكان يفضي إلى الحصن، ففعل ذلك سابور، فلم يشعر أهل الحصن إلا وأصحاب سابور معهم في الحصن، وقد عمدت النضيرة فسقت أباها الخمر حتى أسكرته طمعا في تزويج سابور إياها، وأمر سابور بهدم الحصن بعد أن قتل الضيزن ومن معه وعرس سابور بالنضرة بنت الضيزن فباتت مسهدة، فقال لها سابور: ما لك لا تنامين؟ قالت: إن جنبي يتجافى عن فراشك، قال: ولم فوالله ما نامت الملوك على ألين منه وأوطأ إن حشوه لزغب النعام؟!!! فلما أصبح سابور نظر فإذا ورقة آس بين عكنها، فتناولها فكاد بطنها أن يدمى، فقال لها: ويحك!! بم كان أبواك يغذيانك. فقالت: بالزبد والمح والثلج والشهد وصفو الخمر، فقال لها سابور: إني لخدير أن لا أستبقيك بعد إهلاك أبويك وقومك، وكانت حالتك عندهم الحالة التي تصفين، فأمر بها فربطت بغدائرها إلى فرسين جموحين، ثم خلى سبيلهما، فقطعاها، ففي هذا الملك المقتول ومن كان معه في الحصن يقول حرى بن الدهماء العبسي:
ألم يحزنك والأنباء تمنى ... بما لاقت سراة بني العبيد
ومصرع ضيزن وبني أبيه ... وأحلاف الكتائب من تزيد
أتاهم بالفيول مجللات ... وبالأبطال سابور الجنود
فهدم من بروج الحصن صخرا ... كأن بناءه زبر الحديدا
وفي قتل سابور للنضيرة بنت الضيزن وما كان منها من الغدر بأبيها وقومها وإرشاد سابور إلى دخول الحصن يقول عدي بن زيد العبادي:
والحضر صبت عليه داهية ... من قصره قد أبذ ساكنها
أربيبة لم توق والدها ... لحينها إذ أضاع راقبها
وأسلمت أهلها لليلتها ... تظن أن الرئيس خاطبها
وكان حظ العروس إذ جشر الصبح ... دماء تجري سبائبها
والشعر في هذه القصة كثير.
جملة من بيوت النار
وبأرض العراق بيت للنار بالقرب من مدينة السلام، بنته بوران بنت كسرى أبرويز الملكة في الموضع المعروف بأستنيا.
وبيوت النيران كثيرة مما بنته المجوس بالعراق وأرض فارس وكرمان وسجستان وخراسان وطبرستان والجبال وأذر والران، وفي الهند والسند والصين، أعرضنا عن ذكرها، وإنما ذكرنا ما أشتهر منها.
بيت بعل
والهياكل المعظمة عند اليونانيين وغيرهم كثيرة: مثل بيت بعل، وهو الصنم الذي ذكره الله عز وجل بقوله: " أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين " ؛ وهو بمدينة بعلبك من أعمال دمشق من كورة سنير، وقد كانت اليونانية اختارت لهذا الهيكل قطعة من الأرض بين جبل لبنان وجبل سنير فأتخذته موضعا للأصنام، وهما بيتان عظيمان أحدهما أقدم من الأخر، فيهما من النقوش العجيبة المحفورة في الحجر الذي لا يتأتى حفر مثله في الخشب مع علو سمكهما وعظم أحجارهما، وطول أساطينهما، ووسع فتحهما، وعجيب بنيانهما، وقد أتينا على خبر هذه الهياكل وما كان من خبر القتل على رأس ابنة الملك وما نال أهل هذه المدينة من سفك الدماء.
جيرون بدمشق

(1/270)


وهيكل عظيم في مدينة دمشق، وهو المعروف بجيرون، وقد ذكرنا خبره فيما سلف من هذا الكتاب وأن بانيه جيرون بن سعد العادي، ونقل إليه عمد الرخام، وأنه أرم ذات العماد المذكور في القرآن، إلا ما ذكر عن كعب الأحبار حين دخل على معاوية بن أبي سفيان وسأله عن خبرها وذكر عجيب بنيانها من الذهب والفضة والمسك والزعفران وأنه يدخلها رجل من العرب يتيه له جملان فيخرج في طلبهما فيقع إليها، وذكرحلية الرجل، ثم التفت في مجلس معاوية فقال: هذا هو الرجل، وكان الأعرابي قد دخلها يطلب ما ند من إبله؛فأجاز معاوية كعبا، وتبيم صدق مقاتله وإيضاح برهانه، فإن كان هذا الخبر عن كعب حقا في هذه المدينة فهو حسن، وهو خبر يدخله الفساد من جهات من النقل وغيره. وهو من صنعة القصاص.
وقد تنازع الناس في هذه المدينة، وأين هي؟ ولم يصح عند كثير من الإخباريين ممن وفد على معاوية من أهل الدراية بأخبار الماضين وسير الغابرين من العرب وغيرهم من المتقدمين فيها، إلا خبر عبيد بن شرية وإخباره إياه عما سلف من الأيام وما كان فيها من الكوائن والحوادث وتشعب الأنساب، وكتاب عبيد بن شرية متداول في أيدي الناس مشهور.
كتاب ألف ليلة وليلة
وقد ذكر كثير من الناس ممن له معرفة بأخبارهم أن هذه أخبار، موضوعة من خرافات مصنوعة، نظمها من تقرب للملوك بروايتها، وصال على أهل عصره بحفظها والمذاكرة بها، وأن سبيلها الكتب المنقولة إلينا والمترجمة لنا من الفارسية والهندية والرومية، وسبيل تأليفها مما ذكرنا مثل كتاب هزار أفسانة، وتفسير ذلك من الفارسية إلى العربية ألف خرافة، والخرافة بالفارسية يقال لها أفسانة، والناس يسمون هذا الكتاب ألف ليلة وليلة، وهو خبر الملك والوزير وابنه وجاريتها وهما شيرزاد ودينا زاد، ومثل كتاب فرزة وسيماس وما فيه من أخبار ملوك الهند والوزراء، ومثل كتاب السندباد، وغيرها من الكتب في هذا المعنى.
أصل مسجد دمشق
وقد كان مسجد دمشق قبل ظهور النصرانية هيكلا عظيما فيه التماثيل والأصنام على رأس منارته تماثيل منصوبة، وقد كان بني على اسم المشتري وطالع سعد، ثم ظهرت النصرانية فجعلته كنيسة، وظهر الإسلام فجعل مسجدا وحكم بناءه الوليد بن عبد الملك، والصوامع منه لم تغير، وهي منائر الأذان إلى هذا الوقت.
البريص بدمشق
وقد كان بدمشق أيضا بناء عجيب يقال له البريص، وهو مبقى إلى هذا الوقت في وسطها، وكان يجري فيه الخمر في قديم الزمان، وقد ذكرته الشعراء في مدحها لملوك غسان من مأرب وغيرهم.
الديماس بإنطاكية
وهيكل إنطاكية يعرف بالديماس، على يمين مسجدها الجامع، مبني بالأجر العادي والحجر، عظيم البنيان، وفي كل سنة يدخل القمر عند طلوعه من باب من أبوابه ومن أعاليه في بعض الأهلة الصيفية، وقد ذكر أن هذا الديماس من بناء الفرس ملكت إنطاكية، وأنه بيت نار لها.
بعض عجائب الدنيا
قال المسعودي: وقد ذكر أبو معشر المنجم في كتابه المترجم بكتاب الألوف الهياكل والبنيان العظيم الذي يحدث بناؤه في العالم في كل ألف عام، وكذلك ذكره ابن المازيار تلميذ أبي معشر في كتابه المنتخب من كتاب الألوف وقد ذكر غيرهما ممن تقدم عصرهما وممن تأخر عنهما كثيرا من البنيان والعجائب في الأرض، وقد أعرضنا عن ذكرها، وذكر السد

(1/271)


الأعظم - وهو سد يأجوج ومأجوج - وقد تنازع الناس في كيفية بنائه كتنازعهم في أرم ذات العماد على ما ذكرنا آنفا، وكيفية بناء الأهرام الذي بأرض مصر وما عليها من الكتابة المرسومة، وما بصعيد مصر من البرابي المصنوعة، وبغير أرض الصعيد من بلاد مصر، وأخبار مدينة العقاب، وما ذكر الناس فيها، وكونها في وهاد مصر وأنها في جهة الواحات مما يلي المغرب والحبشة، وخبر العمود الذي ينزل منه الماء في فصل من السنه بأرض عاد، وأخبار النمل الذي على قدر الذئاب والكلاب، وقصة أرض الذهب التي حذاء سجلماسة من أرض المغرب، ومن هنالك من وراء النهر العظيم، ومبايعتهم من غير مشاهدتهم ولا مخاطبتهم، وتركهم المتاع، وغدؤ الناس إلى أمتعتهم فيجدون أعمدة الذهب وقد تركت إلى جنب كل متاع من تلك الأمتعة، فإن شاء مالك المتاع أختار الذهب وترك المتاع، وإن شاء أخذ متاعه وترك الذهب، وإن أحب الزيادة ترك الذهب والمتاع، وهذا مشهور بأرض المغرب بسجلماسة، ومنها يحمل التجار الأمتعة إلي ساحل هذا النهر، وهو نهر عظيم واسع الماء، وكذلك بأقاصي خراسان مما يلي بلاد الترك من أقاصي ديارهم أمة تتبايع على مثل هذا الوصف منغير مخاطبة ولا مشاهدة، وهم هنالك على نهر عظيم أيضا، وخبر البئر المعطلة والقصر المشيد، وذاك ببلاد الشحر من بلاد الأحقاف بين اليمن وحضرموت، والبئر وما فيها من الخرق واتصالها بالقرى والفضاء من أعلاها وأسفلها وما قاله الناس في تأويل هذه الآية فيها، وهل المراد بالقصر والبئر هذا القصر والبناء أم غيره؟ وأخبار مخاليف اليمن، وهي القلاع والحصون كقلعة نحل وغيرها، وأخبار مدينة رومية وكيفية بنائها وما حوته من عجيب الهياكل والكنائس، والعمود الذي عليه السودانية من النحاس وما يحمل إليها من الزيتون في أي أمه بالشام وغيره، ويحمل ذلك الطائر المعروف بالسودانية في مخالبه ومنقاره؛ فيطرحونه في تلك، السودانية النحاس، فيكثر زيتون رومية وزيتها من ذلك، على حسب ما ذكرنا في أخبار الطلسمات عن بلينوس وغيره في كتابنا أخبار الزمان ثم أخبار البيوت السبعة التى ببلاد الأندلس وخبر مدينة الصفر وقبة الرصاص التي بمفاوز الأندلس، وما كان من خبر الملوك السالفة فيها وتعذر الوصول إليها، ثم ما كان من أمر صاحب عبد الملك بن مروان في نزوله عليها، وما تهافت فيه المسلمون عند الطلوع على سورها، وإخبارهم عن أنفسهم أنهم وصلوا إلى نعيم الدنيا والآخرة، وخبر المدينة التي أسوارها من الصفر على ساحل البحر الحبشي في أطراف مفاوز الهند، وما كان من أخبار ملوك الهند وعدم وصولهم إليها، وما يجري من وادي الرمل نحوها، وما ببلاد الهند من الهياكل المتخذة للأصنام التي على صورة البدرة المتقدم ظهورها في قديم الزمان بأرض الهند، وخبر الهيكل المعظم الذي ببلاد الهند المعروف بالدري، وهذا عند الهند يقصد من البلدان الشاسعة وله بلد قد وقف عليه وحوله ألف مقصورة فيها جوار لم تنظر لتعظيم هذا الصنم من الهند، وخبر الهيكل الذي فيه الصنم ببلاد المولتان على نهر مهران من أرض السند، وخبر سندان كسرى ببلاد قرماسين من أعمال الدينور من ماه الكوفة، وكثير من أخبار العالم وخواص بقاعه وأبنيته وجباله وبدائع ما فيه من الخلق من الحيوان وغيره مما قد أتينا على ذكره فيما سلف من كتبنا، وكذلك ما خص به كل بلد من أنواع الفواكه دون غيره من البلدان، في الإسلام وغيره من الممالك، وما بان به أهل كل بلد من اللباس والأخلاق دون غيرهم، وما انفردوا به من أنواع الأغذية والمآكل والمشارب والشيم، وعجائب كل بلد، وذكرنا أخبار البحار وما قيل في اتصال بعضها ببعض وتغلغل مياهها، وما يحدث في كل بحر منها من الآفات وما فيه من الجواهر دون غيوه - من البحار، كتكون المرجان ببحر المغرب وعدمه من غيره، ووجود اللؤلؤ في البحر الحبشي دون غيره.
محاولات قديمة لوصل بحر الروم بالبحر الأحمر

(1/272)


وقد كان بعض من ملك من الروم حفر بين القلزم وبحر الروم طريقا فلم يتأت له ذلك،لارتفاع القلزم، وانخفاض بحر الروم، وأن الله عز وجل قد جعل ذلك حاجزا على حسب ما أخبر في كتابه، والموضع الذي حفره ببحر القلزم يعرف بذنب التمساح على ميل من مدينة القلزم، عليه قنطرة يجتاز عليها من يريد الحج من مصر، وأجرى خليجا من هذا البحر إلى موضع يعرف بالهامة ضيعة لمحمد بن علي المافراني من أرض مصر في هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة - فلم يتأت له اتصال ما بين بحر الروم وبحر القلزم.
وحفر خليجا آخر مما يلي تنيس ودمياط وبحيرتهما، ويعرف هذا الخليج بالربر والخبية، واستمر الماء في هذا الخليج من بحر الروم وبحيرة تنيس إلى موضع يعرف بنعنعان حتى اتصل بنحو بلاد الهامة، فكانت المراكب تدخل من بحر الروم إلى نحو من هذه القرية، ومن بحر القلزه في خليج ذنب التمساح فيتتابع أرباب المراكب، ويقرب حمل ما في كل بحر إلى آخر، ثم أرتدم ذلك على تطاول الدهور، وملأت السوافي من الرمل وغيره.
وقد رام الرشيد أن يوصل بين هذين البحرين مما يلي من أعالي مصبه من نحو بلاد الحبشة وأقاصي صعيد مصر، فلم تتأت له قسمة ماء النيل، فرام ذلك مما يلي بلاد الفرما نحو بلاد تنيس، على أن يكون مصب بحر القلزم إلى البحر الرومي، فقال يحيى بن خالد: يخطف الروم الناس من المسجد الحرام والطواف، وذلك أن مراكبهم تنتهي من بحر الروم إلى بحر الحجاز، فتطرح سراياها مما يلي جدة، فيخطف الناس من المسجد الحرام ومكة والمدينة على ما ذكرنا، فامتنع من ذلك.
وقد حكي عن عمرو بن العاص - حين كان بمصر - أنه رام ذلك؛ فمنعه منه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك لما وصفنا من فعل الروم وسراياهم، وذلك في حال ما افتتحها عمرو بن العاص في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وآثار الحفر بين هذين البحرين - فيما ذكرنا من المواضع والخلجان - بينه على حسب ما شرعت فيه الملوك السالفة طلبا لعمارة الأرض، وخصب البلاد، وعيش الناس بالأقوات، وأن يحمل إلى كل بلد ما ليس فيه من الأقوات وغيرها من ضروب المنافع وضروب المرافق، والله تعالى أعلم..
ذكر جامع التاريخ من بدء العالم
إلى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لحق بهذا الباب
بعض قول الطبيعيين

(1/273)


قد ذكرنا فيما سلف من كتبنا جملا من تباين الناس في بدء العالم، ممن أثبت حدوثه ونفاه، وما جرت الآراء بهم فيه إلى جهات شتى، وقد أخبرنا أنهم طوائف الهند وفرق من اليونانيين، ومن وافقهم على القول بالقدم من الفلكيين والطبيعيين، وما أوردته الفلكية من وقلها: إن الركة الصانعة للأشخاص المحلة فيها الأرواح متى قطعت المسافة التي بين العقدة - التي ابتدأت منها، حتى تنتهي إليها راجعة، ثم تنفصل عنها - أعادت كل ما بدأت به أولا كهيئته وأشخاصه وصوره وضروب أشكاله؛ إذ كانت العلة والسبب اللذان بوجودهما توجد الأشياء قد وجدا عودا كما وجدا بدءا، فوجب ظهور الأشياء مي عادت إلى المبدأ الذي كان عنه الصدر، ثم ما تعقب هذا القول من قول الطبيعيين: إن علة كون الأشياء الجسمانية والنفسانية من قبل حركات الطبائع واختلاطها؛لأن الطبيعة عندهم تحركت في بدؤها واختلطت فظهر الحيوان والنبات وسائر الموجودات في العالم، وجعلت لها أصلا من التناسل، لما عجزت عن تبقية أشخاص وعدلت إلى النسل، وإن الطبائع تنتقل من مركب إلى بسيط، ومن بسيط إلى مركب، حتى إذا أدى المركب كنه ما فيه عادت الأشياء إلى البسيط إلى، وابتدأ الكون مارا على طريقه؛ لأن الذي أوجبه أولا قد وجد، فحقه أن يوجد منه بوجود المعنى الذي أوجده، فظهر ذلك الظهور، كالنبات في الربيع، وتحرك قوته تحت الثرى، وذلك أن الشمس تبلغ في الربيع إلى رأس الحمل، بادئه في شرفها، آخذة في ممرها، وهي العلة الكبرى في إحياء النبات ويأخذ الثمر في الظهور من الشجر بادئا كما كان ظاهرأ بالمثال الأول الذي قد باد في الشتاء ويبسه ويردة، لأن علة الكون الحرارة والرطوبة وعلة لفساد البرد واليبس، فإذا انتقلت الأشياء ممن الحرارة والرطوبة إلى البرد واليبوسة فارقت الكون المتمم ودخلت الفساد، فإذ انتهى بها الفساد إلى غايته وأوصلها إلى نهايته عاقبها الكون بوصول الشمس إلى رأس الحمل، فبدأ بها كعادته في إنشائها، وأبرزها من خساسة الفساد إلى نفاسة الكون، ولو كانت الحواس تضبط شأن الأجسام وتحيط بانتقالها من حال إلى حال لشاهدت ممرها في دائرة الزمان، ومبتدئة من رتبة؛راجعة إليها، مشكلة في محيط الدائرة بأشكال توافق بعضها، والشكول مختلفة باختلاف العلل، متفرقة كاختلاف الأسباب، وفي هذا القول من هذه الطائفة ماورح بالقول بالقدم وأبان عنه.
عليل على حدوث العالم
وقضية الفحص توجب أن الأشياء الموجودة غير خالية من إحدى المنزلتين: إما أن يكون بدء وانتهاء، وإما أن يكون بلا بدء ولا انتهاء، فإن كان بلا بدء ولا انتهاء فواجب أن تكون أجزاؤها وأبعادها غير متناهية، وواجب أن يكون الزمان غير عاد لها ولا حاصر لجميعها، وقد وجدنا التناهي والابتداء في أجزائها وأبعادها على الدوام، وأنا في كل يوم جديد نعاين خلقا جديدا، وصورا في العالم لم تكن وصورا بادئة قد كانت متأثلة، وفي هذا ما يدل على حصر الأشياء ووقوعها في غاية انتهاء صورها، وواجب أن للأشياء بدءا وانتهاء، وبطل وهم المتوهم أن الأشياء بلا نهاية؛وأن ليس لها ابتداء ولا غاية، وذلك باطل ومحال فاسد، ولو وجب أن تكون الأشياء الموجودة بلا بدء ولا نهاية لوجب أن لا يزول شيء من مركزه، ولا يتحول عن رتبته، ولبطلت الاستحالة، وسقطت المضادة، وهذا مستحيل، ولو وجب أن تكون الأشياء على غير نهاية، لما كان لقولنا اليوم وأمس وغدا معنى؛لأن هذه الأزمان تعد ما هو بالنهاية، ويوجد في حوزتها إيجاد ما لم يكن وإدخالها في حوزتها ما هو كائن.
وفيما ذكرنا ما أوضح عن تنقل شأن المعاني، ودل على حدوث الأجسام، وهذه الدلالة مأخوذة من الحس، ومستظهرة للعقول والبحث.
المحدث للعالم
وإذ قد وضح أن الأشياء محدثة أكونها بعد أن لم تكن فلا بد لها من محدث هو بخلافها لا شكل له ولا مثل، لأن العقل لا يفيم لشيء مثلا حتى يعلم له قدرا ووزنا، ويعادله بمثله وشكله، وتعالى وجل وعز من لا تعبر عن ذاته اللغات، وتعجز العقول أن تحصره بالصوت، وتدركه بالأشرات، أو يكون ذا غايات ولهايات.

(1/274)


قال المسعودي: فلنرجع الآن إلى الكلام في حصر تاريخ العالم ووصف أقاويل الطوائف في ذلك المعنى،لأنا إنما ذكرنا الكلام في حدوث العالم لما ذكرنا قول من قال بقدمه ودل على أزليته، وقد تقدم ذكرنا لقول الهند في ذلك فيما سلف من هذا الكتاب.
عمر الدنيا
وأما اليهود فإنهم زعموا أن عمر الدنيا ستة آلاف سنة وأخذوا في ذلك مأخذا شرعيا، وذهبت النصارى إلى أن عمر العالم ما ذهبت إليه اليهود، وأما الصابئة من الحرانيين والكماريين فقد ذكرنا قولهم في ذلك في جملة قول اليونانيين، وأما المجوس فإنهم ذهبوا في ذلك إلى حد غير معلوم من نفاذ قوة الهرمند وكيده، وهو الشيطان، ومنهم من ذهب في ذلك إلى نحو ما ذهب إليه أصحاب الاثنين في الزاج والخلاص، وأن العالم سيعود بدءا متخلصا من الشرور والآفات.
وزعمت المجوس أن من وقت زرادشت بن أسبيمان نبيهم إلى الإسكندر مائتين وثمانين سنة، وملك الإسكندر ست سنين، ومن ملك الإسكندر إلى ملك أردشير خمسمائة سنة وسبع عشرة سنة، ومن ملك أردشير إلى الهجرة خمسمائة سنة وأربع وستون سنة؛ فذلك من هبوط أدم إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ستة آلاف سنة ومائة وست وعشرون سنة: منها من هبوط آدم عليه السلام إلى الطوفان ألفان ومائتان وست وخمسون سنة، ومن الطوفان إلى مولد إبراهيم الخليل عليه السلام ألف وتسع وسبعون سنة، ومن مولد إبراهيم إلى ظهور موسى بعد ثمانين سنة خلت من عمر موسى بن عمران - وهو وقت خروجه ببني إسرائيل، من مصر إلى التيه - خمسمائة وخمس وستون سنة، ومن خروجهم إلى سنة أربع من ملك سليمان بن داود - عليه السلام! - وذلك وقت ابتدائه في بناء بيت المقدس - ستمائة وست وثلاثون سنة، ومن بناء بيت المقدس إلى ملك الإسكندر سبعمائة وسبع عشرة سنة، ومن ملك الإسكندر إلى مولد المسيح ثلثمائة وتسع وستون سنة، ومن مولد المسيح إلى مولد النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وإحدى وعشرون سنة، - يين أن رفع الله المسيح، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، إلى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وست وأربعون سنة وبين مبعث المسيح وهجرة النبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وأربع وتسعون سنة، وكانت وفاة نبينا صلى الله عليه وسلم في سنة تسعمائة وخمس وثلاثين سنة من سني ذي القرنين، ومن داود إلى محمد صلى الله عليه وسلم ألف سنة وسبعمائة سنة وسنتان وستة أشهر وعشرة أيام، ومن إبراهيم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ألفا سنة وسبعمائة سنة وعشرون سنة وستة أشهر وعشرة أيام ومن نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف سنة وسبعمائة سنة وعشرون سنة وعشرة أيام فعلى هذا القول جميع جملة التاريخ من هبوط آدم إلى الأرض إلى مبعث النبي صلى الله عليه وسلم أربعة آلاف سنة وثمانمائة سنة وإحدى عشرة سنة وستة أشهر وعشرة أيام، فجملة التاريخ من هبوط آدم إلى الأرض إلى هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة، من خلافة المتقي بالله ونزوله الرقة من ديار مضر - خمسة آلاف سنة ومائة وست وخمسون سنة.
وقد ذكرنا جملا من التاريخ فيما سلف من هذا الكتاب فلم نعد منه ما تقدم.
وللمجوس في التواريخ أقاصيص يطول ذكرها، وعود الملك إليهم وإلى غيرهم من الطوائف السالفة في بدو العالم وفنائه، ومن قال منهم ببقائه، وأن لا بدء له ولا نهاية، ومن ذهب منهم إلى أن له انتهاء ولا بدء له، وقد أتينا على ذلك فيما سلف من كتبنا فأغنى ذلك عن الإعادة في هذا الكتاب؛ لاشتراطنا فيه على أنفسنا الاختصار والإيجاز والتنبيه على ما سلف لنا من الكتب.
رأي أهل النظر من المسلمين

(1/275)


وقد ذهب جماعة من أهك البحث والنظر من أهل الإسلام إلى أن الدلالة قد قامت على حدوث العالم بعد أن لم يكن، وأن المحدث له الخالق الباري جل وعز، أحدثه لا من شيء، ويبعثه لا من شيء في الأخرة ليصح بذلك وعده ووعيده،إذ كان الصادق في وعده ووعيده لا مبدل لكلماته، وأن أول العالم من لدن آدم، وقد غاب عنا حصر السنين وإحصاؤها، وتنازع الناس في بدء التاريخ، والكتاب لم يخبر بحصر أوقاته ولا بين عن كيفيته ولا أعداد سنيه فيما مضى، وليس علم ذلك مما تهجم عليه الآراء، ولا تحصره أقضيات العقول وموجبات الفحص وضرورات الحواس عند مذاكرتها لمحسوساتها، فكيف توجب أن يوقت عمر الدنيا بسبعة آلاف سنة، والله عز وجل يقول، وقد ذكر الأجيال ومن ضمه الهلاك: " وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا " والله تعالى ذكره لا يقول الكثير إلا في الشيء الحقيقي الكثير، وأعلمنا في كتابه خلقه أدم، وما كان من أمره وأمر الأنبياء بعده، وأخبر عن شأن بدء الخلق، ولم يخبرنا بمقدار ذلك فنقف عليه كوقوفنا عندما أخبرنا به، ولا سيما مع علمنا أن المدى بيننا وبينه متفاوت، وأن الأرض كثرت بها المدن والملوك والعجائب، فلا نحصر ما لم يحصره الله عز وجل، ولا نقبل من اليهود ما أوردته؛لنطق القرآن أنهم يحرفون الكلم عن مواضعه ويكتمون الحق وهم يعلمون، ونفيهم النبوات وجحدهم ما أتوا به ممن الآيات مما أظهره الله عز وجل على يدي عيسى بن مريم من المعجزات، وعلى يدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من البراهين الباهرات والدلائل والعلامات، والله عز وجل يخبرنا بما أهلك من الأمم لما كان من فعلهم وكفرهم بربهم، قال الله عز وجل: " الحاقة وما الحاقة؟ وما أدراك ما الحاقة؛ كذبت ثمود وعاد بالقارعة، فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية، وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية " و إلى قوله: " فهل ترى لهم من باقية " ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: " كذب النسابون " وأمر أن ينسب إلى معد، ونهى أن يتجاوز بالنسب إلى ما فوق ذلك؛لعلمه بما مضى من الأعصار الخالية والأمم الفانية؛ولولا أن النفوس إلى الطارف أحن، وبالنوار أشغف، وإلى قصار الأحاديث أميل وبها أكلف، لذكرنا من أخبار المتقدمين وسير الملوك الغابرين ما لم نذكره في هذا الكتاب، ولكن ذكرنا فيه ما قرب تناوله تلويحا بالقول دون الإيضاح والشرح؛إذ كان معولنا في جميع ذلك على ما سلف من كتبنا وتقدم من تصنيفنا، وإذا علم الله عز وجل موقع النية ووجه القصد أعان على السلامة من كل مخوف.
وقد ذكرنا في هذا الكتاب من كل فن من العلوم وكل باب من الآداب على حسب الطاقة ومبلغ الاجتهاد والاختصار والإيجاز - لمعا سيعرفها من تأمل، وينبه بها من راها.
وإذ قد ذكرنا جوامع ما يحتاج المبتدئ والمنتهي من علوم العالم وأخباره،فلنذكر ألان نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومولده، ومبعثه، وهجرته، ووفاته، وأيام الخلفاء والملوك: عصرا فعصرا، إلى وقتنا هذا، ولم نعرض في كتابنا هذا لكثير من الأخبار، بل لوحنا بالقول بها تخوفا من الإطالة ووقوع الملل؛إذ ليس ينبغي للعاقل أن يحمل البنية على ما ليس في طاقتها، ويسوم النفس ما ليس في جبلتها ، وإنما الألفاظ على قدر المعاني فكثيرها لكثيرها، وقليلها لقليلها، وهذا باب كبير، وبعضه ينوب عن بعض، والجزء منه يوهمك الكل، والله تعالى ولي التوفيق.
ذكر مولد النبي صلى الله عليه وسلم
ونسبه وغير ذلك مما لحق بهذا الباب
وقد ذكرنا فيما سلف من كتبنا بدء التاريخ في أخبار العالم وأخبار الأنبياء والملوك، وعجائب البر والبحر، وجوامع التاريخ للفرس والروم والقبط، وشهور الروم والقبط، وما كان من مولد النبي صلى الله عليه وسلم إلى مبعثه، ومن آمن به قبل رسالته، وقد قدمنا في هذا الكتاب من كان بينه وبين المسيح من أهل الفترة، فلنذكر الآن مولده؛إذ كان الطاهر المطهر الأعز الأزهر، الذي اتسعت أعلام نبوته، وتواترت دلائل رسالته، ونطقت الشهادات له قبل بعثته.
نسبه الشريف

(1/276)


وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهربن مالك بن النصر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أدد بن ناخور بن سود بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل ابن إبراهيم بن فالغ بن عابر بن شالخ بن إرفخشذ بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلح بن أخنوخ بن يرد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن أدم عليه السلام.
هذا ما في نسخة ابن هشام في كتاب المغازي والسير عن ابن إسحاق، والنسخ مختلفة الأسماء من نزار.
الخلاف في نسب معد بن عدنان
وفي نسخة أن نزارا بن معد بن عدنان بن أدد بن سام بن يشجب بن يعرب بن الهميسع بن صانوع بن يامد بن فيدربن إسماعيل بن إبراهيم بن تارخ بن ناخوربن أرعواء بن أسروح بن فالغ بن شالخ بن إرفخشذ بن سام بن نوح بن متوشلخ بن أنوخ بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم.
وفي رواية ابن الأعرابي عن هشام بن محمد الكلبي: هو نزار بن معد بن عدنان بن أدد بن الهميسع بن نبت بن سلامان بن فيدربن إسماعيل بن إبراهيم الخليل بن تارخ بن ناخوربن أرعواء بن فالغ بن عابر بن شالخ بن إرفخشذ ين سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ بن يرد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن أدم عليه السلام.
وفي التوراة أن آدم عليه السلام عاش تسعمائة سنة وثلاثين سنة،فيجب والله أعلم أن أدم عليه السلام كان عند مولد لمك - وهو أبو نوح النبي عليه السلام - ابن ثمانمائة سنة وأربع وستين سنة، وشيث ابن سبعمائة وأريع وأربعين سنة؛ فيجب على هذا الوصف من الحساب أن مولد نوح عليه السلام كان بعد وفاة آدم بمائة وست وعشرين سنة.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم على حسب ما ذكرنا من نهيه - أن يتجاوز عن معد؛ فقد ثبت أن نتوقف في النسب على معد، وقد اختلف أهل النسب على ما ذكرنا، فالواجب الوقف عند أمره عليه السلام ونهيه.
قال المسعودي: وقد وجدت نسب معد بن عدنان في السفر الذي أثبته باروخ بن ناريا كاتب ارميا النبي صلى الله عليه وسلم أن معدا بن عدنان بن أدد بن الهميسع بن سلامان بن عوص بن بروبن متساويل بن أبي العوام بن ناسل بن حرا بن يلدأرم بن بدلان بن كالح بن فاجم بن ناخوربن ماحي بن عسقي بن عنف بن عبيد بن الرعاء بن حمران بن يسن بن هري بن بحري ابن يلخى بن أرعوا بن عنقإء بن حسان بن عيسى بن أقتاد بن إيهام بن معصر ابن ناجب بن رزاح بن سمآى بن مربن عوص بن عوام بن قدير بن إسماعيل ابن إبراهيم الخليل عليه السلام.
وقد كان لأرمياء مع معد بن عدنان أخبار يطول ذكرها، وما كان من أمرهما بالشام، وقد أتينا على ذكر ذلك فيما سلف من كتبنا، وإنما ذكرنا هذا النسب من هذا الوجه ليعلم تنازع الناس في ذلك.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تجاوز معد؛ لعلمه من تباعد الأنساب وكثرة الآراء في طول هذه المدة والأعصار.
كنية الرسول وأسماؤه ومولده
وكنيته صلى الله عليه وسلم: أبو القاسم، وفي ذلك يقول الشاعر:
لله ممن برا صفوة ... وصفوة الخلق بنوهاشم
وصفوة الصفوة من هاشم ... محمد النور أبوالقاسم
وهو محمد، أحمد، والماحي الذي يمحو الله به الذنوب، والعاقب، والحاشر الذي يحشر الله الناس على عقبه صلى الله عليه وسلم.
حروب الفجار
وكان مولده عليه الصلاة والسلام عام الفيل، وكان بين عام الفيل وعام الفجار عشرون سنة، والفجار حرب كانت بين قيس عيلان وبني كنانة، استحلوا فيها القتال في الأشهر الحرم، فسميت الفجار، وكنانة: ابن حزيمة بن مدركة، وهو عمرو بن إلياس بن مضر بن نزار، وكان ولد إلياس عمرا وعامرا وعديرا، فعمرو هو مدركه، وعامر هو طابخه، وعمير هو قمعة، وكانت أمه م ليلى بنت حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة وهي خندحف؛فغلب على من ذكرنا الألقاب، ونسب ولد إلياس إلى أمه م خندف، وفي ذلك يقول قصي بن كلاب بن مرة:
إني لدى الحرب وحي، وأبي ... عند تناديهم بآل وهب
معترم الصولة عالي النسب ... امي خندف وإلياس أبي
بطون قريش

(1/277)


وقريش خمسة وعشرون بطنا، وهم: بنو هاشم بن عبد مناف بنو المطلب بن عبد مناف، بنو الحارث بن عبد المطلب، بنو أمية بن عبد شمس، بنو نوفل بن عبد مناف، بنو الحارث بن فهر، بنو أسد بن عبد العزى، بنو عبد الحرب قصي - وهم حجبة الكعبة - بنو زهرة بن كلاب، بنو تيم بن مرة، بنو مخزوم، بنو يقظة، بنو مرة، بنو عدي بن كعب، بنوسهم، بنوجمح، وإلى هنا تنتهي قريش البطاح على حسب ما قدمناه فيما سلف من هذا الكتاب، بنو مالك بن حنبل، بنو معيط بن عامر بن لؤي بنو نزار بن عامر، بنو سامة بن لؤي، بنو الأعرم، وهو تيم بى غالب، بنو محارب بن فهر، بنو الحارث بن عبد الله بن كنانة، بنو عائذة، وهو خزيمة بن لؤي، بنو نباتة، وهو سعد بن لؤي، ومن بني مالك إلى آخر القبائل في قريش الظواهر على حسب ما قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب عند ذكرنا للمطيبين وغيرهم من قريش.
حلف الفضول
وكان من حرب الفجار ما ذكرنا للمتفاخرين بالعشائر والتكاثر، وانتهى الفجار في شوال، وكان حلف الفضول بعد منصرفهم من الفجار، فقالا بعضهم:
نحن كنا الملوك من آل نجد ... وحماة الزمان عند الذمار
ومنعنا الحجون من كل حي ... ومنعنا الفجار يوم الفجار
وفي ذلك قال خداش بن زهير العامري:
فلا توعديني بالفجار فإنه ... أحل ببطحاء الحجون المخازيا
سبب حلف الفضول
وقد كان الحلف في ذي القعدة بسبب رجل من زبيد من اليمن أو كان باع سلعة له من العاص بن وائل السهمي، فمطله بالثمن حتى يئس، فعلا جبل قبيس، وقريش في مجالسها حول الكعبة، فنادى بشعر يصف فيه ظلامته. رافعا صوته مناديا يقول:
يا للرجال لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة ناس الحي والنفير
إن الحرام لمن تصت حرامته ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
فمشت قريش بعضها إلى بعض، وكان أول من سعى في ذلك الزبير بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، واجتمعت قبائل قريش في دار الندوة وكانت للحل والحقد، ؤكان ممن اجتمع بها من قريش بنو هاشم بن عبد مناف، وبنو المطلب بن عبد مناف، زهرة بن كلاب وتيم بن مرة، وبنو الحارث بن فهر، فاتفقوا على أنهم ينصفون المظلوم من الظالم، فساروا إلى دار عبد الله بن جدعان، فتحالفوا هنالك؛ ففي ذلك يقول الزبير بن عبد المطلب:
حلفت لنعقدن حلفا عليهم ... وإن كنا جميعا أهل دار
نسميه الفضول إذا عقدنا ... يعزبه الغريب للى الجوار
ويعلم من حوالى البيت أنا ... اباة الضيم نهجر كل عار
الفجارات
وقد قدمنا في كتابنا الأوسط أخبار الأحلاف والفجارات الأربعة: فجار الرجل، أو فجار بدر بن معشر، وفجار القرد، وفجار المرأة، والفجار الرابع هو فجار البراض، وبين الفجار الرابع الذي كان فيه القتال وبين بنيان الكعبة خمس عشرة سنة، وكان من حضور النبي صلى الله عليه وسلم ومشاهدته الفجار الرابع إلى أن خرج إلى الشام في تجارة خديجة، ونظر نسطور الراهب إليه وهو في صومعته، والنبي صلى الله عليه وسلم مع ميسرة، وقد أظلته غمامة، فقال: هذا نبي، وهذا آخر الأنبياء - أربع سنين، وتسعة أشهر، وستة أيام، وإلى أن تزوج خديجة بنت خويلد شهران، وأربعة وعشرون يوما، وإلى أن شهد بنيان الكعبة، وحضر منازعة قريش في وضع الحجر الأسود عشر سنين.
قريش تبني الكعبة
وقد كان السيل هدم الكعبة فسرق منها لما أن هدمت غزال من الذهب وحلي وجواهر، فنقضتها قريش، وكان في حيطانها صور كثيرة بأنواع من الأصباغ عجيبة: منها صورة إبراهيم الخليل في يده الأزلام، ويقابلها صورة إسماعيل ابنه على فرس يجيز بالناس مفيضا، والفاروق قائم على وفد من الناس يقسم فيهم، وبعد هذه الصور صور كثير من أولادهم إلى قصي بن كلاب وغيرهم، في نحو من ستين صورة مع كل واحد من تلك الصور إله صاحبها، وكيفية عبادته، وما اشتهر من فعله.
وضع الحجر الأسود

(1/278)


ولما بنت قريش الكعبة ورفعت سمكها وتأتى لها ما أرادت في بنيانها من الخشب الذي ابتاعوه من السفينة التي رمى بها البحر إلى ساحلهم التي بعث بها ملك الروم من القلزم من بلاد مصر إلى الحبشة، لتبنى هنالك له كنيسة، وانهوا إلى موضع الحجر على ما ذكرنا وتنازعوا أيهم يضعه، فاتفقوا أن يرضوا بأول من يطلع عليهم من باب بني شيبة، فكان أول من ظهر لأبصارهم النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الباب، وكانوا يعرفونه بالأمين؛ لوقاره وهديه وصدق اللهجة، واجتنابه القاذورات والأدناس، فحكموه فيما تنازعوا فيه، وانقادوا إلى قضائه، فبسط ما كان عليه من رداء، وقيل: كساء طاروني، وأخذ عليه الصلاة والسلام الحجر فوضعه في وسطه، ثم قال لأربعة رجال من قريش - وهم أهل الرياسة فيهم، والزعماء منهم، وهم: عتبة بن ربيعه بن عبد شمس بن عبد مناف، والأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وأبو حذيفة بن المغيرة بن عمرو بن مخزوم، وقيس بن عدي السهمي - ليأخذ كل واحد منهم بجنب من جنبات هذا الرداء، فشالوه حتى ارتفع عن الأرض، وأدنوه من موضعه، فأخذ عليه الصلاة والسلام الحجر ووضعه في مكانه وقريش كلها حضور، وكان ذلك أول ما ظهر من فعله وفضائله وأحك أمه .
فقال قائل ممن حضر من قريش متعجبا من فعلهم وانقيادهم إلى أصغرهم سنا: واعجبا لقوم أهل شرف ورياسة وشيوخ وكهول عمدوا إلى أصغرهم سنا؛وأقلهم مالا، فجعلوه عليهم رئيسا وحاكما!! أما واللات والعزى ليفوقنهم سبقا، وليقسمن بينهم حظوظا وجدودا وليكونن له بعد هذا اليوم شأن ونبأ عظيم.
وقد تنوزع في هذا القائل: فمن الناس من رأى أنه إبليس ظهر في ذلك اليوم في جمعهم في صورة رجل من قريش كان قد مات، وزعموا أن اللات والعزى أحيتاه لذلك المشهد، ومنهم من رأى أنه بعض رجالهم وحكمائهم ومن كانت له فطنة.
كسوة الكعبة
فلما استتمت قريش بناء الكعبة كستها أردية الزعماء، وهي الوصائل، وأعادوا الصور التي كانت مصورة في الكعبة، وأتقنوا شكل ذلك واحك أمه .
وكان أبو طالب حاضرا فلما سمع هذا الكلام من هذا القائل في النبي صلى الله عليه وسلم ، وما يكون من أمره في المستقبل، أنشأ يقول:
إن لنا أوله وآخره ... في الحكم العدل الذي لا ننكره
وقد جهدنا جهدنا ليغمره ... وقد عهدنا أوله وآخره
فإن يكن حقا ففينا أكثره
وكان من بناء الكعبة إلى أن بعثه الله صلى الله عليه وسلم خمس سنين، ومن مولده إلي يوم مبعثه أربعون سنة ويوم.
تحديد المولد
والذي صح من مولده عليه الصلاة والسلام أنه كان بعد قدوم أصحاب الفيل مكة بخمسين يوما، وكان قدومهم مكة يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة ثمانمائة واثنتين وثمانين من عهد ذ القرنين، وكان قدوم أبرهة مكة لسبع عشرة خلت من المحرم ولست عشرة ومائتين من تاريخ العرب،الذي وله حجة الغد ولسنة أربعين من ملك كسرى أنو شروان.
وكان مولده عليه الصلاة والسلام لثمان خلون من ربيع الأول من هذه السنة بمكة، في دار ابن يوسف، ثم بعد ذلك بنتها الخيزران أم الهادى الرشيد مسجدا وكان أبوه عبد الله غائبا بأرض الشام فانصرف مريضا، فمات بالمدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم حمل، وقد تنوزع في ذلك: فمنهم من قال: إنه مات بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم بشهر، ومنهم من قال: إنه مات في السنة الثانية من مولده.
نسب أمه عليه السلام
و أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب.
وفي السنة الأولى من مولده دفع إلى حليمة بنت عبد الله بن الحارث لترضعه، وفي السنة الثانية من كونه في بني سعد كان أبو عبد الله يقول:
الحمد لله الله الذي أعطاني ... هذا الغلام الطيب الأردان
قد ساد في المهد على الغلمان ... أعيذه بالبيت ذي الأركان
وفي رواية أن عبد المطلب قال:
لا هم رب الراكب المسافر ... يحمد قلب بخير طائر
تنح عن طريقه الفواجر ... وحيه برصد الطواهر
واحبس كل حلف فاجر ... في عرج الريح والأعاصر
أحداث قبل النبوة

(1/279)


وفي السنة الرابعة من مولده شق الملكان بطنه، واستخرجا قلبه، فشقاه وأخرجا منه علقة سوداء ثم غسلا بطنه وقلبه بالثلج، وقال أحدهما لصاحبه: زنه - بعشرة من أمته، فوزنه فرجع، ثم ما زال يزيد حتى بلغ الألف، فقال والله لو وزنته بأمته لوزنها.
وفي السنة الخامسة ردته إلى أمه مرضعته حليمة؛ وقيل: في مستهل السادسة وبين ذلك وبين عام الفيل خمس سنين وشهران وعشرة أيام.
وفي السنة السابعة من مولده خرجت به أمه إلى أخواله تزورهم، فتوفيت بالأبواء، وقدمت به أم أيمن إلى مكة بعد خامسة من موت أمه .
وفي السنة الثامنة من مولده توفي جده عبد المطلب، وضمه عمه أبو طالب إليه، وكان في حجره، وخرج مع عمه إلى الشام، وله ثلاث عشرة سنة، ثم خرج في تجارة لخديجة بنت خويلد إلى الشام مع غل أمه ا ميسرة وهو ابن خمس وعشرين سنة.
قال المسعودي: وقد أتينا على مبسوط هذا الباب، في كتابينا أخبار الزمان والأوسط.
ذكر مبعثه صلى الله عليه وسلم
وما جاء في ذلك إلى هجرته
ثم بعث الله رسوله وأكرمه بما أختصه به من نبوته، بعد بنيان الكعبة بخمس سنين على ما قدمنا آنفا، وهو ابن أربعين سنة كاملة، فأقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وأخفى أمره ثلاث سنين، ونكح خديجة بنت خويلد وله خمس وعشرون سنة وأنزل عليه بمكة من القران اثنتان وثمانون سورة، ونزل تمام بعضها بالمدينة، وأول ما نزل عليه من القران " اقرأ باسم ربك الذي خلق " ، وأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم في ليلة السبت، ثم في ليلة الأحد، وخاطبه بالرسالة في يوم الاثنين، وذلك بحراء، وهو أول موضع نزل فيه القرآن، وخاطبه بأول السورة إلى قوله تعالى: " علم الإنسان ما لم يعلم " ونزل تم أمها بعد ذلك؛ و خوطب بفرض الصلوات ركعتين ركعتين، ثم أمر بإتم أمها بعد ذلك، واقرت ركعتين في السفر وزيد في صلاة الحضر.
تحديد المبعث
وكان مبعثه صلى الله عليه وسلم على رأس عشرين سنة من ملك كسرى أبرويز، وذلك على رأس مائتي سنة من يوم التحالف بالربذة، وذلك لستة الاف ومائة وثلاث عشرة سنة من هبوط آدم عليه السلام، وقد ذكر مثل هذا عن بعض حكماء العرب في صدر الإسلام ممن قرأ الكتب السالفة على حسب ما استخرج منها، وفي ذلك يقول في أرجوزة طويلة:
في رأس عشرة من السنين ... إلى ثلاث حصلت يقين
والمائة المعدوة التمام ... إلى الوف سدست نظام
أرسله الله لنا رسولا ... وكان فينا هادي السبيلا
إسلام علي بن أبي طالب
وقد تنوزع في علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وأسل أمه ، فذهب كثير من الناس إلى أنه لم يشرك بالله شيئا فيستأنف الإسلام، بل كان تابعا للنبي صلى الله عليه وسلم في جميع أفعاله مقتديا به، وبلغ وهو على ذلك، وأن الله عصمه وسدده ووفقه لتبعيته لنبيه عليه السلام؛ لأنهما كانا غير مضطرين ولا مجبورين على فعل الطاعات، بل مختارين قادرين، فاختارا طاعة الرب، وموافقة أمره، واجتناب منهياته، ومنهم من رأى أنه أول من آمن، وأن الرسول دعاه وهو موضع التكليف بظاهر قوله عز وجل: " وأنذر عشيرتك الأقربين " ، وكان بدؤى بعلني إذ كان أقرب الناس إليه وأتبعهم له، ومنهم من رأى غير ما وصافنا، وهذا موضع قد تنازع الناس فيه من الشيعة، وقد احتج كل فريق لقوله ممن قال بالنص في الإمامة والاختيار، وأرضى كل فريق كيفية إسلامه ومقدار سنيه، وقد أتينا على الكلام في ذلك على الشرح والإيضاح في كتابنا المترجم بكتاب الصفوة في الإمامة وفي كتاب الاستبصار وفي كتاب الزاهي وغيره من كتبنا في هذا المعنى.
إسلام أبي بكر ومن أسلم بإسلام أمه
ثم أسلم أبو بكر رضي الله عنه، ودعا قومه إلى الإسلام، فأسلم على يديه عثمان بن عفان والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فجاء بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا، فهؤلاء النفر سبقوا الناس بالإيمان، وقد قال بعض من تقدم من الشعراء في صدر الإسلام يذكرهم:
فيا سائلي عن خيار العبا ... د، صادفت ذا العلم والخبره
خيار العباد جميعا قريش ... وخير قريش ذوو الهجره

(1/280)


وخير ذوي الهجرة السابقون ... ثمانية وحدهم نضره
علي وعثمان ثم الزبير ... وطلحة واثنان من زهره
وشيخان قد جاورا أحمدا ... وجاور قبراهما قبره
فمن كان بعدهما فاخرا ... فلا تذكروا عندهم فخره
الخلاف في أول من أسلم
وقد اختلف في أول صن أسلم: فمنهم من رأى أن أبا بكر الصديق كان أول الناس إسلاما، وأسبقهم إيمانا، ثم بلال بن رباحة، ثم عمرو بن عبسة، ومنهم من ذهب إلى أن أول من أسلم من النساء خديجة، ومن الرجال علي، ومنهم من رأي أن أول من أسلم زيد بن حارثة حب النبي صلى الله عليه وسلم و ثم خديجة، ثم علي كرم الله وجهة، وقد ذكرنا ما اجتبينا من القول في ذلك فيما قدمنا ذكره من كتبنا في هذا المعنى، والله تعالى ولي التوفيق.
ذكر هجرته وجوامع مما كان في أيامه
صلى الله عليه وسلم إلى وقت وفاته
أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة، وفرض عليه الجهاد، وذلك في سنة إحدى من سني الهجرة، وهي السنة التي نزل فيها الأذن، وكانت سنة أربع عشرة من المبعث.
وكان ابن عباس يقول: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة، وهاجر عشرا، وقبض وهو ابن ثلاث وستين سنة.
تحديد الهجرة
وكانت سنة إحدى من الهجرة، وهي سنة اثنتين وتلاثين من ملك كسرى أبرويز، وسنة تسع من ملك هرقل ملك النصرانية، وسنة تسعمائة وثلاث وثلاثين من ملك الإسكندر المقدوني.
كيف فعل في الهجرة؟
قال المسعودي: وقد ذكرنا في الكتاب الأوسط كيفية فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في خروجه من مكة ودخوله الغار واستئجار علي له الإبل، ونومه على فراشه؛ فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، ومعه أبو بكر، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وعبد الله بن أريقط الديلي دليل لهم على الطريق، ولم يكن مسلما، وكان مقام علي بن أبي طالب بعده بمكة ثلاثة أيام إلى أن أدى ما أمر بأدائه، ثم لحق بالرسول صلى الله عليه وسلم.
دخول المدينة
وكان دخوله عليه الصلاة والسلام إلى المدينة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول، فأقام بها عشر سنين كوامل، وكان نزوله عليه الصلاة والسلام في حال موافاته المدينة بقباء على سعد بن خيثمة وابتنى المسجد وكان مع أمه بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وسار يوم الجمعة ارتفاع النهار، وأتته الأنصار حيا حيا يسأله كل فريق منهم النزول عليه، ويتعلقون بزمام راحلته وهي تجذبه. فيقول عليه الصلاة والسلام: " خلوا عنها فإنها مأمورة " حتى أدركته الصلاة في بني سالم، فصلى بهم يوم الجمعة، وكانت تلك أول جمعة صليت في الإسلام، وهذا موضع تنازع الفقهاء في العدد الذي تتم بهم صلاة الجمعة: فذهب الشافعي في آخرين معه إلى أن الجمعة لا تجب إقامتها حتى يكون عدد المصلين أربعين فصاعدا، وأقل من ذلك لا يجزي، وخالفه غيره من الفقهاء من أهل الكوفة وغيرهم، وكانت صلاته في بطن الوادي المعروف بوادى رأنوناء إلى هذه الغاية، ثم استوى على ناقته، فسارت لا تعرج على شيء، ولا يردها راد، حتى أتت إلى موضع مسجده عليه الصلاة والسلام، والموضع يومئذ لغلامين يتيمين من بني النجار، فبركت، ثم سارت فمضت غير بعيد، ثم عادت إلى مبركها فبركت وأطمأنت، والنبي صلى الله عليه وسلم يراعي أحكام الباري فيه، - وتوفيقه له، فنزل عنها، وسار إلى منزل أبي أيوب الأنصاري - وهو خالد بن كليب بن ثعلبة بن عوف بن سحيم بن مالك بن النجار - فأقام في منزله شهرا حتى ابتنى المسجد من بعد ابتياعه الموضع، وأحدقت به الأنصار واشتد سرورهم به، وأظهروا التأسف على ما فاتهم من نصرته، وفي ذلك يقول صرمة بن أبي أنس أحد بني عدي النجار من قصيدة:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة ... يذكرل ايلقى صديقا مواتيا
ويعرض في أهل المواسم نفسه ... فلم ير من يوفي، ولم ير داعيا
فلما أتانا أظهر الله دينه ... وأصبح مسرورا بطيبة راضيا

(1/281)


وأصبح لا يخشى من الناس واحدا ... بعيدا، ولا يخشى من الناس دانيا
بذلنا له الأموال في كل ملكنا ... وأنفسنا عند الوغى والتآسيا
ونعلم أن الله لارب غيره ... وأن رسول الله للحق رائيا
ونعادي الذي عادى من الناس ... كلهم جميعا، وإن كان الحبيب المصافيا
فافترض صيام شهر رمضان، وحؤلت القبلة إلى الكعبة بعد قدومه بثمانية عشر شهرا، وقد قيل: إنه أنزل عليه بالمدينة من القرآن اثنتان وثلاثون سورة.
علته ووفاته
ثم قبضه الله يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول سنة عشر في الساعة التي دخل فيها المدينة، في منزل عائشة رضي الله عنها، وكانت علته أتثنى عشر يوما.
غزواته
وكانت غزواته صلى الله عليه وسلم بفسه ستا وعشرين غزوة، ومنهم من رأى أنها سبع وعشرون، الأولون جعلوا منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القرى غزوة واحدة، والذين جعلوها سبعا وعشرين جعلوا غزوة خيبر مفردة ووادي القرى منصرفة إليها غزوة أخرى غير خيبر؛ فوقع التنازع في أعداد الغزوات من هذا الوجه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين فتح الله خيبر انصرف منها إلى وادي القرى من غير أن يأتي المدينة.
وكان أول غزواته صلى الله عليه وسلم من المدينة بنفسه إلى ودان، وهي المعروفة بغزوة الأبواء، ثم غزوة بواط إلى ناحية رضوى، ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع، ثم غزوة بدر الأولى، وكان خروجه طلبا لكرز بن جابر، ثم غزوة بدر الكبرى، وهي بدر الثانية التي قتل فيها صناديد قريش وأشرافها وأسر من أسر من زعمائهم، ثم غزوة بني سليم حتى بلغ الموضع المعروف بالكدر ماء لبني سليم، ثم غزوة السويق طلبا لأبي سفيان بن حرب فبلغ فيهما الموضع المعروف بقرقرة الكدر، ثم غزوة غطفان إلى نجد وتعرف هذه الغزوة بغزوة ذي أمر، ثم غزوة بحران وهو موضع بالحجاز من فوق الفرع ثم غزوة أحد، ثم غزوة حمراء الأسد، ثم غزوة بني النضير، ثم غزوه ذات الرقاع من نجد، ثم غزوة بدر الأخيرة، ثم غزوة دومة الجندل ثم غزوة المريسيع ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني لحيان بن هذيل بن مدركة، ثم غزوة في قرد، ثم غزوة بني المصطلق من خزاعة، ثم غزوة الحديبية لا يريد قتالا فصده المشركون، ثم غزوة خيبر، ثم اعتمر عليه السلام عمرة القضاء، ثم فتح مكة، ثم عزوة حنين، ثم غزوة الطائف، ثم غزوة تبوك.
قاتل منها في تسع غزوات: بدر، واحد، والخندق، وقريظة، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف، وتبوك.
قول الواقدي في غزواته
هذا قول أحمد بن إسحاق، فأما ما ذهب إليه الواقدى فإنه وافق ابن إسحاق في قتال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه التسع الغزوات، وزاد أن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل في غزاة وادي - القرى، وذلك أن غل أمه المعروف بمدعم رمي بسهم فقتل، وقاتل في يوم الغابة فقتل من المشركين ستة نفر، وقتل يومئذ محرز بن نضلة ففي قول الواقدي أنه قاتل في إحدى عشرة غزوة، وفي قول ابن إسحاق في تسع، فقتاله في التسع باتفاف منهما، وزاد الواقدي على ما ذكرنا.
وقد قيل: إن أول غزوة غزاها عليه السلام ذات العشيرة.
سراياه وبعوثه
وقد تنازع من سلف من أهل السير والأخبار في عدة سراياه وبعوثه: فقال قوم: إن عدة سراياه وبعوثه بين أن قدم المدينة وبين أن قبضه الله خمس وثلاثون بعثا وسرية، وذكر محمد بن جرير الطبري في كتابه في التاريخ قال: حدثني الحارث قال: حدثنا ابن سعد قال: قال محمد بن عمر الواقدى: كانت سرايا النبي صلى الله عليه وسلم ثمانيا وأربعين سرية، وقيل: إن سراياه صلى الله عليه وسلم وبعوثه كانت ستة وستين.
مشاهير الأحداث
وقبض صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة على حسب ما تقدم في صدر هذا الباب من قول ابن عباس، ولم يخلف من الولد إلا فاطمه عليها السلام، وتوفيت بعده بأربعين يوما، وقيل: سبعين يوما، وقيل غير ذلك. وكان تزوج علي بن أبي طالب لفاطمة عليهما السلام بعد سنة مضت من الهجرة، وقيل أقل من ذلك.
وكانت أول امرأة تزوج بها النبي صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد بن أسد بن

(1/282)


عبد العزى بن قصي، وكانت وفاتها في شوال بعد مبعثه بثلاث سنين.
وأسري به وهو ابن إحدى وخمسين سنة وثمانية أشهر وعشرين يوما.
وكانت وفاة عمه أبي طالب - واسمه عبد مناف بن عبد المطلب - بعد وفاة خديجة بثلاثة أيام، وهو ابن تسع وأربعين سنة وثمانية أشهر، وقد قيل: إن أبا طالب اسم له.
وتزوج بعد وفاة خديجة بسودة بنت زمعة بن قيس بن عبد وذ بن نضر ابن مالك بن حسل.
وتزوج بعائشة رضي الله عنها قبل الهجرة بسنتين، وقيل: تزوجها بعد وفاة خديجة، ودخل بها بعد الهجرة بسبعة أشهر وتسعة أيام، وقد أتينا على ذكر سائر أزواجه في الكتاب الأوسط؛ فأغنى ذلك عن إعادته.
روى جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إن الله عز وجل أدب محمدا صلى الله عليه وسلم فأحسن تأديبه، فقال خذ العفو، وآمر العرف، وأعرض عن الجاهلين فلما كان كذلك قال الله تعالى: " وإنك على خلق عظيم " فلما قبل من الله فوض إليه فقال: " وما آتكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا " وكان يضمن على الله الجنة، فأجيز له ذلك.
وكان عدة من تزوج من النساء خمس عشرة، دخل بإحدى عشرة منهن، ولم يدخل بأربع، وقبض عليه السلام عن تسع.
النزاع في عمره عليه الصلاة والسلام
قال المسعودي: وقد تنوزع في مقدار عمره عليه السلام، وقد قدمنا ما روي في ذلك عن ابن عباس، وهو ما ذكره حماد بن سلمة عن أبي حمزة عن ابن عباس، وقد روي عن أبي هريرة مثل قول ابن عباس، وذكر عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم القران وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، وأقام بمكة عشرا، وبالمدينه عشرا، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة، وكذلك ذكر عن عائشة قالت توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقد روي عن ابن عباس من وجه آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وهو ابن خمس وستين سنة، وكذلك ذكر ابن هشام قال: حدثنا علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، وذكر قتادة عن الحسن عن دغفل - يعنى ابن حنظلة - أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن خمس وستين، وقد قيل: إنه قبض وهو ابن ستين وذكر ذلك عن ابن عباس وعائشة وعروة بن ألزبير، وذكر حماد قال: أخبرنا عمرو بن دينار، عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة، ومات وهو ابن ستين، وذكر شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة قال: حدثتني عائشة رضي الله عنها وابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث وهو ابن أربعين سنة، فلبث بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشرة سنين، وقبض وهو ابن ستين، صلى الله عليه وسلم.
وفاته وتكفينه ودفنه عليه السلام
وإنما حكينا هذا الخلاف ليعلم من نظر في كتابنا هذا أنا لم نغفل شيئا مما قالوه، ولا تركنا شيئا ذكروه إلا ذكرنا منه ما تأتى لنا ذكره وأشرنا إليه، ميلا إلى الاختصار وطلبا للإيجاز، والذي وجدنا عليه آل محمد عليه الصلاة والسلام أنه قبض ابن ثلاث وستين سنة، ولما غسل عليه الصلاة والسلام كفن في ثلاثة أثواب ثوبين صحاريين وثوب حبرة أدرج فيها إدراجأ، ونزل في قبره علي بن أبي طالب والفضل وقثم ابنا العباس وشقران مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر في مقدار الثياب للكفن غير ما ذكرنا، والله أعلم بكيفية ذلك.
ولنرجع الآن إلى ذكر لمع من أموره وأخبار كانت من مولده إلى وفاته صلى الله عليه وسلم وشرف وعظم.
ذكر أمور وأحوال من مولده إلى وفاته
صلى الله عليه وسلم
وقد قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب من ذكر مولده عليه السلام ومبعثه ووفاته جوامع يكتفي بها العالم المستبصر، ويتنبه بها الطالب المسترشد، وذكرنا جملا من الكوائن والأحداث في تضاعيف ذلك، وأفردنا هذا الباب لذكر لرتيب جمل من السنين من مولده إلى وفاته، وجمل أحداث وكوائن كانت في أي أمه ؛ ليقرب تناول ذلك على مريده، ؤيسهل مأخذه على الطالب له، وإن كنا قد أتينا على لمع من مبسوط هذا الباب فيما تقدمه من الأبواب إن شاء الله تعالى.

(1/283)


ففي أول سنة من مولده دفع إلى حليمة بنت عبد الله بن الحارث بن شجنة بن جابر بن رزام بن ناصر بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
وفي السنة الخامسة من مولده ردته حليمة إلى أمه ، على حسب ما ذكرنا فيما سلف من هذا الكتاب.
وفي السنة السادسة أخرجته أمه إلى أخواله زائرة فتوفيت بالأبواء بين مكة والمدينة، ونمي ذلك إلى أيمن، فخرجت إليه؛ وقدمت به إلي مكة؛ وكانت مولاة له قد ورثها عن أمه .
خروجه إلى الشام
وفي السنة التاسعة خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام، وقيل: إذ خرج مع عمه أبي طالب إلى الشام وله ثلاث عشرة سنة، وقد كان أبا طالب أخا عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه و أمه ؛ فلذلك كفل بأمر النبي صلى الله عليه وسلم من بين سائر إخوته - وهم: العباس، وحمزة، والزبير، وحجل، والمقوم وضرار، والحارث، وأبو لهب - وهم عشرة بنو عبد المطلب، وكان لعب المطلب ستة عشر ولدا: عشرة ذكور، وهم من سمينا، وست إناث. وهن: عاتكة، وصفية، وأميمة، والبيضاء، وبرة، وأروى، ولم يسلم منهن إلا صفية أم الزبير بن العوام، وقد تنوزع في أروى: فمنهم من قال: إنها أسلمت ومنهم من خالف ذلك.
وفي خروجه عليه السلام مع عمه في هذه السنة نظر إليه بحيرا الراهب، وأوصاهم بمراعاته من اليهود فإنهم أعداؤه لعلمهم بما يكون من نبوته على حسب ما قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب عند ذكرنا لخبر بحير الراهب وما كان من إخباره بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في باب أهل الفترة ممن كان بين المسيح ومحمد عليهما السلام.
شهوده الفجار
وقد قدمنا أنه عليه السلام شهد يوم حرب الفجار، وذلك في سنة إحدى وعشرين، وأنها حرب كانت بين قريش وقيس عيلان، فيما سلف من هذا الكتاب وغيره، وأنها إنما سميت بهذا الاسم الذي هو الفجار لأنها كانت في الأشهر الحرم، وكانت لقيس على قريش، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما شاهدها صارت لقريش على قيس، وكان على قريش يومئذ عبد الله بن جدعان التيمي، وكان نخاسا في الجاهلية بياعا للجواري، وكانت هذه إحدى الدلائل المنزرة بنبوته عليه السلام والتيمن بحضوره.
سنوات من حياته
وفي سنة ست وعشرين كان تزويجه بخديجة بنت خويلد، وهي ومئذ بنت أربعين، وقيل في سنها غيرهذا.
وفي سنة ست وثلاثين بنت قريش الكعبة، وتراضت به، فوضع الحجر على حسب ما قدمنا.
وفي سن إحدى وأربعين بعثه الله نبيا ورسولا إلى كافة الناس، وذلك بوم الاثنين لعشر خلون من ربيع الأول، على حسب تنازع الناس في تاريخ مبعثه عليه السلام.
وفي سنة ست وأربعين كان حصار قريش للنبي صلى الله عليه وسلم وبني هاشم وبني عبد المطلب في الشعب.
وفي سنة خمسين كان خروجه عليه السلام ومن تبعه من الشعب.
وفي هذه السنة كانت وفاة خديجة زوجه وفيها كان خروجه إلى الطائف على حسب ما ذكرنا.
وفي سنة إحدى وخمسين كان الإسراء به صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، على حسب ما نطق به التنزيل.
وفي سنة أربع وخمسين كانت هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وفيها بني صلى الله عليه وسلم مسجده، وفيها دخل بعائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها وهي ابنة تسع، وتزوج بها قبل الهجرة وهي بنت سبع، وقيل: إنه تزوجها وهي بنت ست سنين، وبني بها في المدينة بعد الهجرة بسبعة أشهر، وقيل عن عائشة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وهي بنت ثمان عشرة سنة، وكانت وفاتها سنة ثمان وخمسين من الهجرة بالمدينة، وصلى عليها أبو هريرة في أيام معاوية بن إلى سفيان وقد قاربت السبعين وفيها أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذان، وأرى عبد الله بن زيد كيفية الأذان في من أمه ، وفيها كان تزوج علي بن أبي طالب بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على حسب ما ذكرنا من التنازع في التاريخ.

(1/284)


وفي سنة اثنتين من الهجرة افترض على المؤمنين صوم شهر رمضان وفي هذه السنة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتوجه إلى الكعبة، وفيها توفيت ابنته رقية وفي آخر هذه السنة - وهي سنة اثنتين من الهجرة - كان دخول علي بن أبى طالب بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها كانت وقعة بدر، وذلك في الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان.
وفي سنة ثلاث كان تزويجه بزينب بنت خزيمة، وكانت وفاتها بعد شهرين، وفي هذه السنة كان تزويجه بحفصة بنت عمر بن الخطاب، وفيها كان تزويج عثمان بن عفان بأم كلثوم ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها كان مولد الحسن بن علي بن أبي طالب على ما في ذلك من التنازع في التاريخ وفيها كانت غزوة أحد، وفي هذه السنة استشهد حمزة بن عبد المطلب. وفي سنة أربع كانت غزوته المعروفة بذات الرقاع، وفي هذه الغزاة صلى صلاة الخوف بالناس، على حسب ما ذكر في كيفية ذلك التنازع، وفيها كان تزويجة بأم سلمة بنت أبي أمية، وفيها كانت غزوته إلى اليهود من بني النضير وامتنعوا منه بحصونهم، فقطعوا نخلهم وشجرهم وأضرموا النار عليهم، فلما رأى ذلك صالحهم، وفيها كانت غزوته إلى بني المصطلق، وفيها - وهي سنة أربع - كان مولد الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وقد قيل: إن مولد فاطمة رضي الله تعالى عنها كان قبل الهجرة بثمان سنين.
وفي سنة خمس كانت غزوة الخندق وما كان فيها من حفر الخندق، وفيها غزا اليهود من بني قريظة، وكان من أمرهم ما قد شهر، وفيها كان تزويجه بزينب بنت جحش، وفيها كان تقول أهل الإفك على عائشة رضي الله عنها.
وفي سنة ست كان استسقاؤه عليه السلام لما لحق الناس من الضر والجدب، وفيها اعتمر عمرته المعروفة بعمرة الحديبية وواعد المشركين، وفيها أخذ فدك، وفيها تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان، ووجه بالرسل إلى كسرى وقيصر، وكان فيها أداؤه لكتابة جويرية بنت الحارث وتزويجه بها.
وفي سنة سبع غزا خيبر فافتتحها، واصطفى صفية بنت حيى بن أخطب لنفسه، وفيها تزوج ميمونة بنت الحارث الهلالية خالة عبد الله بن عباس في سفره حين اعتمر عمرة القضاء، على ما ذكر من التنازع في نكاحه لها، أفي حال حله نكحها أم في حال إحرامه ؟ وما قال الفقهاء في ذلك، وتنازع الناس في نكاح المحرم، وفيها كان قدوم حاطب بن أبي بلتعة من مصر من عند المقوقس ملكها ومعه مارية القبطية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من هدايا المقوقس إليه، وفيها كان قدوم جعفربن أبي طالب من أرض الحبشة ومعه أولاده وزوجته وغيرهم من المسلمين ممن كان بأرض الحبشة.
وفي سنة ثمان استشهد جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة بأرض مؤتة من أرض البلقاء من أرض الشام وأعمال دمشق في وقعتهم مع الروم، وفيها كانت وفاة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: غير ذلك من التاريخ.
فتح مكة
وفي سنة ثمان كان افتتاح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، وقد تنازع الناس في فتحها، أصلحا كان أم عنوة؛ وفيها كسرت الأصنام، وهدمت العزى ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: " يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم " قالوا: خيرأ أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: " أذهبوا فأنتم الطلقاء " ، وفيها غزا غزة حنين، وكان هوازن مالك بن عوف النضري ومعه دريد بن الصمة، وفيها كانت غزوة الطائف، وفيها كان إعطاؤه للمؤلفة قلوبهم وفيهم أبو سفيان صخربن حرب وابنه معاوية، وفيها كان مولد إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية.
وفي سنة تسع حج أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالناس، وقرأ علي بن أبي طالب عليهم سورة براءة، وأمرأن لا يحج مشرك، وأنه لا يطوف بالبيت عريان، وفيها كانت وفاة أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي سنة عشر حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وقال: " ألا أن الزمان. قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض " ، وفيها كانت وفاة إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله سنة وعشرة أشهر وثمانية أيام، وقيل غيم ذلك، وفيها كان بعثه عليه الصلاة والسلام بعلي إلى اليمن، وأحرم كإحرام النبي صلى الله عليه وسلم.

(1/285)


وفي سنة إحدى عشرة كانت وفاته صلى الله عليه وسلم على حسب ما قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب قبل هذا الباب من ذكر وفاته ومقدار عمره وما قاله الناس في ذلك، وفيها كانت وفاة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم على حسب ما ذكرنا من تنازع الناس في مقدار عمرها ومدة بقائها بعد أبيها، ومن الذي صلى عليها: العباس بن عبد المطلب أم بعلها علي؟ ولما قبضت جزع عليها بعلها علي جزعأ شديدا واشتد بكاؤه وظهر أنينه وحنينه، وقال في ذلك:
لكل اجتماع من خليلين فرقة ... وكل الذي دون الممات قليل
وإن افتقادي فاطما بعد أحمد ... دليل على أن لا يدوم خليل
أولاده عليه السلام
وكل أولاده صلى الله عليه وسلم من خديجة خلا إبراهيم: ولد له صلى الله عليه وسلم: القاسم، وبه كان يكنى، وكان أكبر بنيه سنا، ورقية وام كلثوم، وكانتا تحت عتبة وعتيبة ابني أبي لهب عمه فطلقاهما لخبر يطول ذكره، فتزوجهما عثمان بن عفان واحدة بعد وحدة، وزينب، وكانت تحت أبي العاص بن الربيع، وفرق الإسلام بينهما، ثم أسلم فردها عليه بالنكاح الأول، وهذا موضع خلاف بين أهل العلم في كيفية رده عليه الصلاة والسلام لزينب على أبي العاص، وولدت من أبي العاص امامة، وتزوجها علي بعد موت فاطمة عليهم السلام.
وولد له عليه الصلاة والسلام بعد ما بعث عبد الله وهو الطيب والطاهر، الثلاثة الأسماء له لأنه ولد في الإسلام، وفاطمة، وإبراهيم.
وقد أتينا في كتابنا أخبار الزمان والكتاب الأوسط على ما كان في سنة سنه من مولده عليه الصلاة والسلام إلى مبعثه، ومن مبعثه إلى هجرته، ومن هجرته إلى وفاته، ومن وفاته إلى وقتنا هذا - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة - وما كان في ذلك من المغازي والفتوح والسرايا والبعوث والطرائق والأحداث، وإنما نذكر في هذا الكتاب لمعا منبهين - بذلك على ما سلف من كتبنا، ومذكرين لما تقدم من تصنيفنا، وبالله التوفيق.
ذكر ما بدأ به عليه الصلاة والسلام من الكلام
مما لم يحفظ قبله عن أحد من الأنام
قال أبو الحسن علي بن الحسين بن علي بن عبد الله المسعودي: بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ومبشرا للناس أجمعين، وقرنه الله بالايات، والبراهين النيرات، وأتى بالقرآن المعجز؛ فتحدى به قوما وهم الغاية في الفصاحة، والنهاية في البلاغة، واولو العلم باللغة والمعرفة بأنواع الكلام من الرسائل والخطب والسجع والمقفى والمنثور والمنظوم والأشعار في المكأرم وفي الحث والزجر والتحضيض والإغراء والوعد والوعيد والمدح والتهجين، فقرع به أسماعهم، وأعجز به أذهانهم وقبح به أفعالهم، وذم به آراءهم وسفه به أحل أمه م وأزال به دياناتهم، وأبطل به سنتهم، ثم أخبر عن عجزهم مع تظاهرهم أن لا يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، مع كونه عربئا مبينا.
وقد تنازع الناس في نظم القرآن وإعجازه، وليس الغرض من هذا الكتاب وصف أقاويل المختلفين، والإخبار عن كلام المتنازعين؛إذ كان كتاب خبر، لا كتاب بحث ونظر.
آتاه الله الحكمة
ثبت عنه عليه الصلاة والسلام بالعلم الموروث، ونقل إلينا الباقي عن الماضي من بعد قيام الأدلة على صدقه، وما أورد من المعجزات والدلائل والعلامات التي أظهرها الله على يديه ليؤدي رسالات ربه ألى خلقه - أنه قال: أوتيت جوامع الكلم، وقال: اختصر لي الكلام، مخبرا عما أوتيه من الحكمة والبيان غير القرآن المعجز، وهو ما أوتيه عليه الصلاة والسلام من الحكمة والنطق اليسير، والكلام القصير المفيد للمعاني الكثيرة والوجوه المتفرقة مع ما فيه من الحكمة وتمام المصلحة.
وكان كل أمه صلى الله عليه وسلم أحسن المقال وأوجزه؛لقلة ألفاظه وكثرة معانيه.
من موجز كل أمه
فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم عند عرضه لنفسه على القبائل بمكة ومعه أبو بكر وعلي ووقوفه على بكر بن وائل، وتقدم أبي بكر إليهم، وما جرى بينه وبين دغفل من الكلام في النسب " البلاء موكل بالمنطق " وهذا مما سبق إليه من الكلام ولم يصف إلى غيره من الأنام.

(1/286)


ثم إخباره عن الحرب وقوله " الحرب خدعة " فعلم بهذا اللفظ اليسير والكلام الوجيز أن آخر مكايد الحرب القتال بالسيف؛إذ كان بدؤها خدعة، كما قال عليه الصلاة والسلام، وهذا يعرفه كل في رأي صحيح وفي رياسة وسياسة.
ثم قال: " العائد في هبته كالعائد في قيئه " زاجرا بهذا القول للواهب أن يسترجع شيئا وهبه؛إذا كان الذيء لا يرجع فيه من قاءه.
وللناس في هذا المعنى كلام كثير وخطب طويلة، وإنما الغرض فيما نذكر إيراد كل أمه صلى الله عليه وسلم، ووصف قوله الذي لم يتقدمه به أحد " من الناس.
وقوله: " احثوا في وجوه المداحين التراب " المراد من ذلك إذا كذب المادح، ولم يرد عليه السلام إذا شكر الإنسان غيره بما أولاه أو وصفه بما هو فيه أو قال ماله أن يقول أن يحثى في وجهه التراب، ولو كان هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم إذا ما مدح أحد أحدا؛إذ كان هذا النهي عموما للصادق والكاذب، وأن يحثى في وجه الجميع التراب، وهذا خلاف ما جاء به التنزيل حيث يقول عز وجل مخبرا عن نبيه يوسف وقوله للملك: " أجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم " فقد مدح نفسه ووصف حاله.
وجميع ما يذكر في هذا الباب مستفيض في السير والأخبار متعارف عند العلماء، متداول بين الحكماء، يتمثل به كثير من الناس، وتستعمل العوام كثيرا منه في ألفاظها.، وتورده في أمثالها وخطاباتها، والأكثر منهم لا يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من تكلم به، وسبق إلى إيرده.
وقال عليه الصلاة والسلام: مطل الغني ظلم، ومن اتبع على مليء فليتبع، وقوله: الأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، رأس الحكمة معرفة الله. يا خيل الله اركبي وأبشري بالجنة. الان حمي الوطيس. لا ينتطح فيها عنزان. لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. لا يجني على المرء إلا يده. ليس الخبر كالمعاينة. الشديد من غلب نفسه بورك لأمتي في بكورها. ساقي القوم آخرهم شربا. المجالس بالأمانات. لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما، أبدأ بمن تعول مات حتف أنفه لأ يريد بذلك الفجأة وأنه مات من غير علة ولا حال أوجبت ولا سبب من أسباب الموت تقدمت، لا تزال أمتي بخير ما لم تر الأمانة والزكاة مغرما. قيدوا العلم بالكتابة. خير المال عين ساهرة لعين نائمة. المسلم مرآة المسلم. رحم الله من قال خيرا فغنم أو سكت عن شر فسلم. المرء كثير بأخيه. اليد العليا خير من اليد السفلى. ترك الشر صدقة. فضل العلم خير من فضل العبادة. الغنى غنى النفس.
الأعمال بالنيات. أي أداء أدوأ من البخل؟ الحياء خير كله. الخيل معقود بنواصيها الخير. السعيد من وعظ بغيره. عدة المؤمن كأخذ باليد. إن من الشعر لحكمة ومن البيان لسحرا. عفو الملوك بقاء للملك. ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء. المكر والخديعة في النار. المرء مع من أحب، وله ما أكتسب. ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا. المستشار مؤتمن. من قتل دون ماله فهو شهيد. لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث. الدال على الخير كفاعله. الندم توبة. الولد للفراش وللعاهر الحجر. كل معروف صدقة. لا يشكر الله من لا يشكر الناس. لا يؤوي الضالة إلا ضال، حبك الشيء يعمي ويصم، السفر قطعة من العذاب، وقوله للأنصار: إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع، وقوله: المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا. الرجل أحق بصدر مجلسه وصدر دابته. الناس معادن كمعادن الذهب والفضة. الظلم ظلمات يوم القيامة. تمام التحية المصافحة. جبلت النفوس على حب من أحسن إليها. أمنك من أعتبك. ما نقص مال من صدقة. التائب من الذنب كمن لا ذنب له. الشاهد يرى ما لا يرى الغائب،. خذ حقك في عفاف.واف أو غير واف. أعطوا الأجير أجرته قبل أن يجف عرقه. أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف يوم القيامة. الجنة تحت ظلال السيوف. ليس بمؤمن من خاف جاره بوائقه اتقوا النار ولو بشق تمرة. أعروا النساء يلزمن الحجاب. الكلمة الطيبة صدقة. لا خير لك في صحبة من لا يرى لك مثل ما يرى لنفسه. الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. ما أملق تاجر صدق. الدعاء سلاح المؤمن. خير

(1/287)


الأمور أوسطها. إذا أتاكم الزائر فأكرموه. اشفعوا تحمدوا أو تؤجروا. الإيمان الصبر والسماحة آفضلكم أفضلكم معرفة. ما هلك امرؤ عن مشورة. ما عال امرؤ اقتصد. ما هلك امرؤ عرف قدره. شر العمى عمى القلب. الكذب مجانب للإيمان. ما قل وكفى خير مما كثر وألهى. من أثنى فقد كفى قلة الحياء كفر. المؤمنون هينون لينون. شر الندامة يوم القيامة. شر المعذرة عند الموت. أقيلوا عثرات الكرام. اطلبوا الخير عند صباح الوجوه. الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستعملكم فيها ينظر كيف تعملون. انتظار الفرج عبادة. كادت الفاقة أن تكون كفرا. لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة. في كل عام ترذلون. زر غبا تزد حبا. الصحة والفراغ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، أو قال: جميع الناس، وقوله: لا يلقى الله أحد إلا ناعما. من عمل خيرا قال يا ليتني أزدت، ومن عمل غير ذلك قال يا ليتني قصرت، وهذا مثل قوله: إياكم والتسويف وطول الأمل؛ فإنه كان سببا لهلاك الامم. وقوله: ليس منا من غشنا، وهذا القول يحتمل معاني كثيرة: منها أن يكون إخبارا أن من غش المسلمين على حسب الحال في الوقت أن بعض أهل الكتاب أو المنافقين أخبر عنه بما كان من فعله، ويحتمل أن يكون على طريق الزجر والنهي عن الغش، وقد قيل غير ذلك، والله أعلم، مثل ما روى عنه أبو مسعود البدري أنه قال: لا يبقى على وجه الأرض بعد مائة أحد إلا مات، فاستفاضت هذه الرواية عن أبي مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، فجزع الأكثر، فأفضى ذلك إلى علي رضي الله عنه، فقال: صدق أبو مسعود فيما قال، وذهب عنه المراد بذلك، وإنما مراد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يبقى على وجه الأرض أحد بعد رأس مائة ممن رأى النيي صلى الله عليه وسلم إلا مات وقوله: استعينوا على أموركم بالكتمان، وعلى قضاء حوائجكم بالإسرار.
ذكر بعض من جمع موجز أقوال الرسول
عليه الصلاة والسلام
قال المسعودي: وقد جمع كثير ممن تقدم وممن شاهدناه كثيرا من ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم فأوردوها في كتبهم، وذكروها في تصنيفهم، وقد أفرد أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد لذلك كتابا ترجمه بكتاب المجتبى يذكر فيه جملا من ألفاظه صلى الله عليه وسلم، وكذلك ذكر أبو إسحاق الزجاجي النحوي صاحب آبي العباس المبرد، وأبو عبد الله نفطويه، وجعفربن محمد بن حمدان الموصلي، وغير هؤلاء ممن تقدمهم وتأخر عنهم، أوردنا من ذلك في هذا الكتاب ما سهل إيراده وتأتى لنا ذكره، على حسب الحاجة إليه واستحقاق الموضع له، وإن كنا قد أتينا على جميع ما يحتاج إليه في هذه المعاني فيما سلف من كتبنا وتقدم من تصنيفنا فأغنى ذلك عن إعادتها، والله تعالى ولي التوفيق.
ذكر خلافة أبي بكر الصديق
رضي الله تعالى عنه
جماع تاريخه
قال المسعودي: ثم بايع الناس أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه - ، في سقيفة بني ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري، في يوم الأثنين الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوفي أبو بكر ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جماعي الأخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة، مستوفيا لعمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا اتفاق في سائر الروايات على ما ذكرنا، وكان مولد أبي بكر بعد الفيل بثلاث سنين، وكانت ولايته سنتين وثلاثة أشهر وعشرة أيام، ودفن إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كتف رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك قالت عائشة، وقد قيل: إن أبا بكر كانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشرين يوما - ، وسنذكر فيما يرد من هذا الكتاب جملا من أي أمه م ومقادير ولايتهم، وكذلك نفرد بيما يرد في هذا الكتاب - بعد ذكرنا لأيام بني امية وبني العباس - بابا نذكر فيه جامع التاريخ الثاني من الهجرة إلى هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة - في خلافة أبي إسحاق المتقي لله، أو بعد ذلك من الأوقات إلى حيث ينتهي بنا التصنيف، وما ذكره أصحاب الزيجات في النجوم، وما أرخوه في مقادير السنين والشهور والأيام والخلاف بينهم وبين تاريخ أصحاب السير والأخبار وكتب التاريخ من الأخباريين وغيرهم؛إذ كان التفاوت بين الفريقين بينا، ومعولنا في ذلك على ما ذكره أصحاب الزيجات.

(1/288)


ذكر نسبه ولمع من أخباره وسيره
كان اسم أبي بكر رضي الله عنه عبد الله بن عثمان - وهو أبو قحافة - بن عامربن عمروبن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب، وفي مرة يجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقبه عتيق؛ لبشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه أنه عتيق الله من النار، فسمي يومئذ عتيقا وهو الصحيح وقيل: إنما سمي عتيقا لعتق أمه اته، واستخلف وأبوه في الحياة.
صفاته
وكا أزهد الناس، وأكثرهم تواضعا في أخلاقه ولباسه ومطعمه ومشربه كان لبسهفيخلافته الشملة، العباءة وقدم إليه زعماء العرب وأشرافهم وملوك اليمن وعليهم الحلل والحبر وبرود الوشي المثقل بالذهب والتيجان، فلما شاهدوا ما عليه من اللباس والزهد والتواضع والنسك، وما هو عليه من الوقار والهيبة ذهبوا منذهبه ونزعوا ماكان عليهم.
وفود العرب إليه
وكان ممن وفد عليه من ملوك اليمن ذوالكلاع ملك حمير، ومعه ألف عبد دون من كان معه من عشيرته، وعليه التاج وما وصفنا من البرود والحلل، فلما شاهد من أبي بكر ما وصفنا ألقى ما كان عليه وتزيا بزيه، حتى إنه رؤي يوما في سوق من أسواق المدينة على كتفيه جلد شاة، ففزعت عشيرته لذلك وقالوا له: قد فضحتنا بين المهاجرين والأنصار، قال: أفأردتم مني أن أكون ملكا جبارا في الجاهلية جبارا في الإسلام، لاها الله، لا تكون طاعة الرب إلا بالتواضع لله والزهد في هذه الدنيا، وتواضعت الملوك ومن ورد عليه من الوفود بعد التكبر، وتذللوا بعد التجبر.
بين أبي بكر وأبي سفيان
وبلغ أبا بكررضي الله عنه عن أبي سفيان صخربن حرب أمر، فأحضره وأقبل يصيح عليه، وأبو سفيان يتملقه ويتذلل له، وأقبل أبو قحافة فسمع صياح أبي بكر، فقال لقائده: على من يصيح ابني؟ فقال له: على أبي سفيان، فدنا من أبي بكر وقال له: أعلى أبي سفيان ترفع صوتك يا عتيق الله؟ وقد كان بالأمس سيد قريش في الجاهلية لقد تعديت طورك وجزت مقدارك فتبسم أبو بكر ومن حضره من المهاجرين والأنصار، وقال له: يا أبت، إن الله قد رفع بالإسلام قوما وأذل به آخرين.
ولم يتقلد أحد الخلافة وأبوه باق غير أبي بكر.
وام أبي بكر سلمى - وتكنى: أم الخير - بنت صخر بن عمرو بن عامر ابن كعب بن سعد بن تيم بن مرة.
وارتدت العرب بعد استخلافه بعشرة أيام.
أولاده
وكان له من الولد: عبد الله، وعبد الرحمن، ومحمد، فأما عبد الله فإنه شهد يوم الطائف مع النبي صلى الله عليه وسلم فلحقته جراحة وبقي إلى خلافة أبيه أبي بكر، ومات في خلافته، وخلف سبعة دنانير، فاستكثرها أبو بكر، ولا عقب لعبد الله؛وأما عبد الرحمن بن أبي بكر فإنه شهد يوم بدر مع المشركين، ثم أسلم فحسن أسل أمه ، ولعبد الرحمن أخبار، وله عقب كثير بدر و حضر في ناحية الحجاز مما يلي الجادة من طريق العراق في الموضع المعروف بالصفينيات والمسح، ومحمد بن أبي بكر، أمه أسماء بنت عميس الخثعمية، ومنها عقب جعفر بن أبي طالب، وخلف عليها حين استشهد عبد الله وعونا ومحمدا بني جعفر، فقتل عون ومحمد ابنا جعفر بالطف مع الحسين بن علي، ولا عقب لهما، وعقب جعفر عن عبد الله بن جعفر، وولد لعبد الله بن جعفر: علي وإسماعيل وإسحاق ومعاوية، وتزوجها بعده أبو بكر الصديق، فخلف منها محمدا، ثم تزوجها على بن أبي طالب فأولدها أولادا درجوا، ولا عقب له منها وأم أسماء العجوز الحريشية كان لها أربع بنات، وهذه العجوز أكثر الناس أصهارا، كانت ميمونة الهلالية تحت النبي صلى الله عليه وسلم، وأم الفضل تحت العباس بن عبد المطلب، وسلمى تحت حمزة بن عبد المطلب، وخلف منها بنتا، وأسماء تحت من ذكرنا من جعفر وأبي بكر وعلي، والعقب من محمد بن أبي بكر قليل، وأم جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي علي بن أبي طالب أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.
وكان محمد بن أبي بكر يدعي عابد قريش لنسكه وزهده، ورباه علي بن أبي طالب، وسنذكر خبره فيما يرد من هذا الكتاب ومقتله في أخبار معاوية بن أبي سفيان.
موت أبي قحافة

(1/289)


ومات أبو قحافة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وهو ابن تسع وتسعين سنة، وذلك في سنة ثلاث عشرة من الهجرة، وهي السنة التي استخلف فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد قيل: إنه مات في سنة أربع عشرة.
يوم السقيفة
ولما بويع أبو بكر في يوم السقيفة وجددت البيعة له يوم الثلاثاء على العامة خرج علي فقال: أفسدت علينا أمورنا، ولم تستشر، ولم ترع لنا حقأ، فقال أبو بكر: بلى، ولكني خشيت الفتنة، وكان المهاجرين والأنصار يوم السقيفة خطب طويل، ومجاذبة في الإمامة، وخرج سعد بن عبادة ولم يبايع، فصار إلى الشام، فقتل هناك في سنة خمس عشرة، وليس كتابنا هذا موضعا لخبر مقتله، ولم يبايعه أحد من بني هاشم حتى ماتت فاطمة رضي الله عنها.
عدي بن حاتم الطائي
ولما ارتدت العرب إلا أهل المسجدين، ومن بينهما وأناسا من العرب؛قدم عدي بن حاتم بإبل الصدقة إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ففي ذلك يقول الحارث بن مالك الطائي:
وفينا وفاء لم يرالناس مثله ... وسربلنا مجدا عدي بن حاتم
علته
وكان أبو بكر رضي الله عنه قد سمته اليهود في شيء من الطعام، وأكل معه الحارث بن كلدة فعمي، وكان السم لسنة، ومرض أبو بكر قبل وفاته بخمسة عشر يوما.
كلام له
ولما احتضر قال: ما آسى على شيء إلا على ثلاث فعلتها وعددت أني تركتها، وثلاث تركتها وددت أني فعلتها، وثلاث وددت إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها؛فأما الثلاث التي فعلتها، ووددت أني تركتها فوددت أني لم أكن فتشت بيت فاطمة، وذكر في ذلك كلاما كثيرا، ووددت أني لم أكن حرقت الفجاءة وأطلقته نجيحا أو قتلته صريحا، وددت أني يوم سقيفة بني ساعدة قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين فكان أميرا وكنت وزيرا، والثلاث التي تركتها وددت أني فعلتها وددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيرا ضربت عنقه، فإنه قد خيل لي أنه لا يرى شرا إلا أعانه، وددت أني كنت قد قذفت المشرق بعمر بن الخطاب، فكنت قد بسطت يميني وشمالي في سبيل الله، وددت أني يوم جهزت جيش الردة ورجعت أقمت مكاني فإن سلم المسلمون سلموا، وإن كان غير ذلك كنت صدر اللقاء أو مددا، وكان أبو بكر قد بلغ مع الجيش إلى مرحلة من المدينة، وهو الموضع المعروف بذى القصة، والثلاث التي وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها وددت أني كنت سألته في من هذا الأمر؛ فلا ينازع الأمر أهله، وددت أني سألته عن ميراث العمة وبنت الأخ فإن بنفسي منهما حاجة، ووددت أني سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب فنعطيهم إياه.
بناته
وخلف من البنات: أسماء ذات النطاقين، وهي أم عبد الله بن الزبير، وعمرت مائة سنة حتى عميت، وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
بيعة علي إياه
وقد تنوزع في بيعة علي بن أبي طالب إياه: فمنهم من قال: بايعه بعد موت فاطمة بعشرة ألام، وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بنيف وسبعين يوما، وقيل: بثلاثة أشهر، وقيل: ستة، وقيل غير ذلك.
وصيته لأمراء جيشه
ولما أنفذ أبو بكر الأمراء إلى الشام كان فيما أوصى به يزيد بن أبي سفيان وهو. مشيع له، فقال له: إذا قدمت على أهل عملك فعدهم الخير وما بعده، وإذا وعدت فأنجز، ولا تكثرن عليهم الكلام، فإن بعضه ينسي بعضا، وأصلح نفسك يصلح الناس لك، وإذا قدمت عليك رسل عدوك فأكرم منزلتهم، فإنه أول خيرك إليهم، وأقلل حبسهم حتى يخرجوا وهم جاهلون بما عندك، وامنع من قبلك من محادثتهم، وكن أنت الذي تلي كل أمه م، ولا تجعل سرك مع علانيتك فيمرج عملك، وإذا استشرت فاصدق الخبر تصدق لك المشورة، ولا تكتم المستشار فتؤتي المستشار فتؤتي من قبل نفسك، وإذا بلغك عن العدو عورة فاكتمها حتى تعاينها، واستر في عسكرك الأخبار وأذك حلاسك، وأكثر مفاجأتهم في ليلك ونهارك، وأصدق اللقاء إذا لقيت، ولا تجبن فيجبن من سواك.
المتنبئون

(1/290)


وقد أعرضنا عن ذكر كثير من الأخبار في هذا الكتاب طلبا للاختصار والإيجاز: منها خبر العنسي الكذاب المعروف بعيهلة، وما كان من خبرا باليمن وصنعاء، وتنبئه ومقتله، وما كان من فيروز، وغيره من الأنباء في أمرهم، وخبر طليحة وتنبئه، وخبر سجاح بنت الحارث بن سويد، وقيل: بنت غطفان وتكنى أم صادر، وهي التي يقول فيها قيس بن عاصم:
أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
وفيها يقول الشاعر:
أضل الله سعي بني تميم ... كما ضلت بخطبتها سجاج
وقد كانت مع ادعائها النبوة مكذبة بنبوة مسيلمة الكذاب، ثم آمنت بنبوته، وكانت قبل ادعائها النبوة متكهنة تزعم أن سبيلها سبيل سطيح وابن سلمة والمأمون الحارثي، وعمرو بن لحي، وغيرهم من الكهان، وصارت إلى مسيلمة فنكحها، وما كان من خبر مسيملمة كذاب اليمامة، وحربه لخالد بن الوليد، وقتل وحشي له مع رجل من الأنصار، وذلك في سنة إحدى عشرة، وما كان من أمره مع الأنصار في يوم سقيفة بني ساعدة والمهاجرين، وقول المنزر بن الحباب: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، أما والله إن شئتم لنعيدنها جذعة، وقصة سعد بن عبادة، وما كان من بشر بن سعد، وتخلي الأوس عن معاضدة سعد خوفا أن يفوز بها الخزرج، وأخبار من قعد عن البيعة ومن بايع، وما قالت بنو هاشم، وما كان من قصة فدك، وما قاله أصحاب النص والاختيار في الإمامة، ومن قال بإمامة المفضول وغيره، وما كان من فاطمة وكل أمه ا متمثلة حين عدلت إلى قبر أبيها عليه السلام من قول صفية بنت عبد المطلب:
قد كان بعدك أنباء وهينمة ... لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إلى آخر الشعر، إلى غير ذلك مما تركنا ذكره من الأخبار في هذا الكتاب؛إذ كنا قد أتينا على جميع ذلك في كتاب أخبار الزمان والكتاب الأوسط، فأغنى ذلك عن ذكره هاهنا، والله أعلم.
ذكر خلافة عمر بن الخطاب
رضي الله عنه
وبويع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما أن دخلت سنة ثلاث وعشرين خرج حاجا، فأقام الحج في تلك السنة، ثم أقبل حتى دخل المدينة، فقتله فيروز أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة تمام سنة ثلاث وعشرين؛فكانت ولايته عشر سنين وستة أشهر وأربع ليال، وقتل في صلاة الصبح، وهو ابن ثلاث وستين سنة ودفن مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن قبورهم مسطرة: أبو بكر إلى جنب النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر إلى جنب أبي بكر، وحج في خلافته تسع حجج، وبعد أن قتل صلى بالناس عبد الرحمن بن عوف، وجعلها شورى إلى ستة، وهم: علي، وعثمان، وطلحة. والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وصلى عليه صهيب الرومي. وكانت الشورى بعده ثلاثة أيام.
ذكر نسبه ولمع من أخباره وسيره
نسبه
هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن قرط بن رباح بن عبد الله بن رزاح بن عدي بن كعب، وفي كعب يجتمع نسبه مع نسب النبي صلى الله عليه وسلم، و أمه حنتمة بنت هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم وكانت سوداء، وإنما سمي الفاروق لأنه فرق بين الحق والباطل، وكنيته أبو حفص، وهو أول من سمي بأمير المؤمنين، سماه عدي بن حاتم، وقيل غيره، والله أعلم، وكان أول من سلم عليه بها المغيرة بن شعبة، وأول من دعا له بهذا الاسم على المنبر أبو موسى الأشعري وأبو موسى أول من كتب إليه: لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من أبي موسى الأشعري فلما قرئ ذلك على عمر قال: إني لعبد لله وإني لعمرو إني لأمير المؤمنين، والحمد الله رب العالمين.
صفاته
وكان متواضعا، خشن الملبس، شديدا في ذات الله، واتبعه عماله في سائر أفعاله وشيمه وأخلاقه، كل يتشبه به ممن غاب أو حضر، وكان يلبس الجبة الصوف المرقعة بالأديم وغيره، ويشتمل بالعباءة، ويحمل القربة على كتفه مع هيبة قد رزقها، وكان أكثر ركابه الإبل، ورحله مشدودة بالليف، وكذلك عماله، مع ما فتح الله عليهم من البلاد وأوسعهم من الأموال.
عماله

(1/291)


وكان من عماله سعيد بن عامر بن خريم فشكاه أهل حمص إليه وسألوه عزله، فقال عمر: اللهم لا تفل فراستي فيه اليوم وقال لهم: ماذا تشكون منه؟ قالوا: لا يخرج إلينا حتى يرتفع النهار، ولا يجيب أحدا بليل، وله يوم في الشهر لا يخرج إلينا، فقال عمر: علي به، فلما جاء جمع بينهم وبينه، فقال: ما تنقمون منه؟ قالوا: لا يخرج إلينا حتى يرتفع النهار، فقال: ما تقول يا سعيد؛ قال: يا أمير المؤمنين، إنه ليس لأهلي خادم، فأعجن عجيني، ثم أجلس حتى يختمر ثم أخبز خبزي، ثم أتوضا وأخرج إليهم، قال: وماذا تنقمون منه؟ قالوا: لا يجيب بليل، قال: قد كنت أكره أن أذكر هذا، إني جعلت الليل كله لربي، وجعلت النهار لهم، قال: وماذا تنقمون منه؟ قالوا: له يوم في الشهر لا يخرج إلينا فيه، قال: نعم، ليس لي خادم فأغسل ثوبي ثم أجففه فأمسي، فقال عمر: الحمد لله الذي لم يفل فراستي فيك، يا أهل حمص، استوصوا بواليكم خيرا، قال: ثم بعث إليه عمر بألف دينار، وقال: استعن بها، فقالت له امرأته: قد أغنانا الله عن خدمتك، فقال لها: ألا ندفعها إلى من يأتينا بها أحوج ما كنا إليه. قالت: بلى، فصرها صررا ثم دفعها إلى من يثق به، وقال: انطلق بهذه الصرة إلى فلان، وبهذه إلى يتيم بني فلان، وهذه إلى مسكين بني فلان، حتى بقي منها شيء يسير، فدفعه إلى امرأته، وقال: أنفقي هذا، ثم عاد إلى خدمته، فقالت له امرأته: ألا تبعث إلي بذلك المال فنشتري لنا منه خادما؛ فقال: سيأتيك أحوج ما تكونين إليه.
سلمان الفارسي
ومن عماله على المدائإن سلمان الفارسي، وكان يلبس الصوف، ويركب الحمار ببرذعته بغير إكاف، ويأكل خبز الشعير، وكان ناسكا زاهدا، فلما احتضر بالمدائن قال له سعد بن وقاص: أوصني يا أبا عبد الله قال: نعم قال: اذكر الله عند همك إذا هممت، وعند لسانك إذا حكمت، وعند يدك إذا قسمت، فجعل سلمان يبكي، فقال له: يا أبا عبد الله ما يبكيك؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن في الأخرة عقبة لا يقطعها إلا المخفون " وأرى هذه الأداوة حولي، فنظروا فلم يجدوا في البيت إلا إداوة وركوة ومطهرة.
أبو عبيدة
وكان عامله على الشام أبا عبيدة بن الجراح، وكان يظهر للناس وعليه الصوف الجافي، فعذل على ذلك، وقيل له: إنك بالشام والي أمير المؤمنين وحولنا الأعداء، فغير من زيك، وأصلح من شارتك، فقال: ما كنت بالذي أترك ما كنت عليه في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عمر يحرض على الجهاد

(1/292)


وذكر الواقدي في كتابه في فتوح الأمصار أن عمر قام في المسجد، فحمد الله وأثنى عليه، ثم دعاهم إلى الجهاد وحثهم عليه وقال: إنكم قد أصبحتم في غير دار مقام بالحجاز، وقد وعدكم النبي صلى الله عليه وسلم فتح بلاد كسرى وقيصر؛ فسيروا إلى أرض فارس، فقام أبو عبيد فقال: يا أمير المؤمنين أنا أول من انتدب من الناس، فلما انتدب أبو عبيد انتدب الناس، وقيل لعمر: أمر على الناس رجلا من المهاجرين أو الأنصار؟ فقال: لا أومر عليهم إلا أول من انتدب فأمر أبا عبيد، وفي حديث آخر أنه قيل له: أتؤمر رجلا من ثقيف على المهاجرين والأنصار؛ فقال: كان أول من انتدب فوليته، وقد أمرته أن لا يقطع أمرا دون مسلمة بن أسلم بن حريش وسليط بن قيس، وأعلمته أنهما من أهل بدر، وخرج فلقي جمعا من العجم عليهم رجل يقال له جالينوس، فانهزم، وسار أبو عبيد حتى عبر الفرات، وعقد له بعض الدهاقين جسرا، فلما خلف الفرات وراءه أمر بقطع الجسر، فقال له مسلمة بن أسلم: أيها الرجل، إنه ليس لك علم بما نرى، وأنت تخالفنا، وسوف يهلك من معك من المسلمين بسوء سياستك، تأمر بجسر قد عقد أن يقطع فلا يجد المسلمون ملجأ من هذه الصحاري والبراري فلا تريد إلا أن تهلكهم في هذه القطعة فقال: أيها الرجل، تقدم فقاتل فقد حم ما ترى، وقال سليط: إن العرب لم تلق مثل جمع فارس قط، ولا كان لهم بقتالهم عادة، فاجعل لهم ملجأ ومرجعا من هزيمة إن كانت، فقال: والله لا فعلت جبنت يا سليط، فقال سليط: والله ما جبنت، وأنا أجرأ منك نفسا وقبيلا، ولكن والله أشرت بالرأي، فلما قطع أبو عبيد الجسر والتحم الناس واشتد القتال نظرت العرب إلى الفيلة عليها التجافيف فرأوا شيئأ لم يروا مثله قط، فانهزم الناس جميعا، ثم مات في الفرات أكثر ممن قتل بالسيف، وخالف أبو عبيد سليطا، وقد كان عمر أوصاه أن يستشيره ولا يخالفه، وكان رأى سليط أن لا يعبر حتى يعبروا إليه، ولا يقطع الجسر، فخالفه، وقال سليط في بعض قوله: لولا أني أكره خلاف الطاعة لانحزت بالناس، ولكني أسمع وأطيع، وإن كنت قد أخطأت وأشركني عمر معك، فقال له أبو عبيد: تقدم أيها الرجل، فقال: أفعل، فتقدما فقتلا جميعا، وقد كان أبو عبيد في هذا اليوم ترجل، وقد قتل من الفرس نحو ستة آلاف، فدنا من الفيل ورمحه في يده فطعنه في عينه، فخبط الفيل أبا عبيد بيده؛ وجال الناس، وتراجعت رجال فارس، فأخذ الناس السيف لما قتل أبو عبيد، وبادر رجل من بكر بن وائل والمثنى بن حارثة فحمي الناس حتى عقدوا الجسر فعبروا ومعهم المثنى حارثة، وقد فقد من الناس أربعة آلاف غرقا وقتلا، وكان على جيش فارس في هذا اليوم جاذويه، ومعه راية فارس التي كانت لأفريدون، حتى ثار الناس من الوهاد، وهي المعروفة بدرفش كاويان وكانت من جلود النمور طولها اثنا عشر ذراعا في عرض ثمانية أفرع على خشب طوال موصل، وكانت فارس تتيمن بها وتظهرها في الأمر الشديد، وقد قدمنا الخبر عن هذه الراية في أخبار الفرس الأولى فيما سلف من هذا الكتاب.

(1/293)


ولما قتل أبو عبيد الثقفي بالجسر شق ذلك على عمرو وعلى المسلمين، فخطب عمر الناس وحثهم على الجهاد، وأمرهم بالتأهب لأرض العراق، وعسكر عمر بصرار وهو يريد الشخوص، وقد استعمل على مقدمته طلحة بن عبيد الله، وعلى ميمنته الزبير بن العوام، وعلى ميسرته عبد الرحمن بن عوف، ودعا الناس، فاستشارهم فأشاروا عليه بالمسير، ثم قال لعلي: ما ترى يا أبا الحسن، أسير أم أبعث؟ قال: سر بنفسك فإنه أهيب للعدو وأرهب له، فخرج من عنده، فدعا العباس في جلة من مشيخة قريش وشاورهم، فقالوا: أقم وابعث غيرك ليكون للمسلمين إن انهزموا فئة، وخرجوا، فدخل إليه عبد الرحمن بن عوف، فاستشاره، فقال عبد الرحمن: فديت بأبي وامي، أقم وابعث؛فإنه إن انهزم جيشك فليس ذلك كهزيمتك، وإنك إن تهزم أو تقتل يكفر المسلمون ولا يشهدوا أن لا إله إلا الله أبدا، قال: أشر علي من أبعث؟ قال: قلت: سعد بن أبي وقاص، قال عمر: أعلم أن سعدا رجل شجاع، ولكني أخشى أن لا يكون له معرفة بتدبير الحرب، قال عبد الرحمن: هو على ما تصف من الشجاعة، وقد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهد بدرا فاعهد إليه وشاورنا فيما أردت أن تحدث إليه؛ فإنه لن يخالف أمرك، ثم خرج فدخل عثمان عليه، فقال له: يا أبا عبد الله أشر علي أسير أم أقيم؟ فقال عثمان: أقم يا أمير المؤمنين وابعث بالجيوش، فإنه لا آمن إن أتى عليك آت أن ترجع العرب عن الإسلام، ولكن ابعث الجيوش وداركها بعضها على بعض، وأبعث رجل له تجربة بالحرب وبصر بها، قال عمر: ومن هو؟ قال: علي بن أبي طالب، قال: فالقه وكلمه وذاكره ذلك، فهل تراه مسرعا إليه أو لا، فخرج عثمان فلقي عليا فذاكره ذلك، فأبى علي ذلك وكرهه، فعاد عثمان إلى عمر فأخبره، فقال له عمر: ومن ترى؟ قال: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: قال: ليس بصاحب ذلك، قال عثمان: طلحة بن عبيد الله، قال له عمر: أين أنت من رجل شجاع ضروب بالسيف رام بالنبل، ولكني أخشى أن لا يكون له معرفة بتدبير الحرب؟ قال: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: سعد بن أبي وقاص، فقال عثمان: هو صاحب ذاك؛ولكنه رجل غائب وما منعني من ذكره إلا أني قلت: رجل غائب في عمل، فقال عمر: أرى أن أوجهه، وأكتب إليه أن يسير من وجهه ذلك، فقال عثمان: ومره فليشاور قوما من أهل التجربة والبصر بالحرب، ولا يقطع الأمور حتى يشاورهم، ففعل عمر ذلك وكتب إلى سعد بالتوجه نحو العراق.
وقد كان جرير بن عبد الله البجلي قدم على عمر - وقد اجتمعت إليه بجيلة - فسرحهم نحو العراق، وجعل لهم ربع ما ظهروا عليه من السواد، وساهمهم مع المسلمين، وخرج عمر فشيعهم، ولحق جرير بناحية الأبله ثم صاعد إلى ناحية المدائن، ونمى قدوم جرير إلى مرزبان المدائن وكان في عشرة الاف من فارس من الأساورة، وذلك بعد يوم الجسر ومقتل أبي عبيد وسليط، فقال بجيلة لجرير: أعبر الدجلة إلى المدائن، فقال جرير: ليس ذلك بالرأي، وقد مضى لكم في ذلك عبرة بمن قتل من إخوانكم يوم الجسر، ولكن أمه لوا القوم؛فإن جمعهم كثير حتى يعبروا إليكم، فإن فعلوا فهؤ الظفر إن شاء الله تعالى، فأقامت الفرس أياما بالمدائن، ثم أخذوا في العبور، فلما عبر منهم النصف أو نحوه حمل عليهم جرير فيمن تسرع معه من بجيلة، فثبتوا ساعة، فقتل المرزبان وأخذهم السيف، وغرق أكثرهم في دجلة، وأخذ المسلمون ما كان في عسكرهم، وسار جرير فاجتمع مع المثنى بن حارثة الشيباني بالبجلة، فأقبل إليهما مهران في جيوشه، فامتنع المسلمون من العبور إليهم، فعبر مهران وبغى على المسلمين، فالتقوا وصبر الفريقان جميعا حتى قتل مهران قتله جرير بن عبد الله البجلي وحسان بن المنزر بن ضرار الضبي، ضربه البجلي، وطعنه الضبي، وفاز جرير بمنطقته وسلبه وتنازع جرير وحسان في أيهما القاتل لمهران، وقد كان جرير ضربه بعد أن طعنه حسان، ولحسان في ذلك أبيات:
ألم ترني خالست مهران نفسه ... بأسمر فيه كالخلال طريد
فخر صريعا والتقاني برجله ... وبادر في رأس الهمام جرير
فقال: قتيلي، والحوادث جمة، ... وكاد جرير للسرور يطير
فقال أبو عمرو: وقتلى قتلته ... ومثلي قليل والرجال كثير

(1/294)


الصفحة السابقة   //   الصفحة التالية