صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)

الصفحة السابقة   //   الصفحة التالية
 

الكتاب : التذكرة الحمدونية
المؤلف : ابن حمدون
مصدر الكتاب : الوراق

[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]

من غلبة العبيد الأشرار.من غلبة العبيد الأشرار.
قال: فعجب كسرى لما أجابه به، وقال: إنك لأهل لموضعك من الرئاسة في أهل إقليمك ولما هو أفضل، ثم كساه من كسوته وسرحه إلى موضعه من الحيرة.
فلما قدم النعمان الحيرة وفي نفسه ما فيها مما سمع من كسرى من تنقص العرب وتهجين أمرهم، بعث إلى أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة التميميين، وإلى الحارث بن عباد وقيس بن مسعود البكريين، وإلى خالد بن جعفر وعلقمة ابن علاثة وعامر بن الطفيل العامريين، وإلى عمرو بن الشريد السلمي وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، والحارث بن ظالم المري. فلما قدموا عليه في الخورنق قال لهم: قد عرفتم حال هذه الأعاجم وقرب جوار العرب منهم، وقد سمعت من كسرى مقالة تخوفت أن يكون لها غور وأن يكون إنما أظهرها لأمر أراده أن يتخذ العرب خولا كبعض طماطميه في أدائهم الخراج إليه كما يفعل ملوك الأمم الذين حوله، واقتص عليهم مقالة كسرى وما رد عليه. فقالوا: وفقك الله أيها الملك فمرنا بأمرك وادعنا إلى ما شئت، قال: إنما أنا رجل منكم وإنما ملكت وعززت بمكانكم وبما يتخوف من ناحيتكم، وليس شيء أحب إلي مما سدد الله به أمركم وأصلح شأنكم وأدام عزكم، والرأي أن تسيروا بجماعتكم أيها الرهط وتنطلقوا بكتابي هذا إلى باب كسرى، فإذا دخلتم عليه نطق كل رجل منكم بما حضره ليعلم أن العرب على غير ما ظن أو حدثته نفسه، ولا ينطق رجل منكم بما يغضبه، فإنه ملك عظيم السلطان كثير الأعوان، مترف معجب بنفسه، ولا تنخزلوا له انخزال الخاضع الذليل، وليكن أمرا بين ذلك يظهر به وثاقة حلومكم وغور عقولكم وفضل منزلتكم وعظيم أخطاركم. وليكن أول من يبدأ منكم بالكلام أكثم بن صيفي لسنه وحاله، ثم تتابعوا على الولاء من منازلكم التي وضعتكم بها، فإنما دعاني إلى التقدمة إليكم علمي بحرص كل رجل منكم على التقدم قبل صاحبه، فلا يكونن ذلك منكم فيجد في أدبكم طعنا، فإنه ملك مترف وقادر متسلط. ثم دعا لهم بما في خزانته من طرائف حلل الملوك، فكسا كل رجل منهم حلة وعممه بعمامة وختمه بياقوتة، وأمر لكل رجل منهم بنجيبة ومهرية وفرس يجنب معه، وكتب لهم كتابا فيه: أما بعد فإن املك ألقى إلي من أمر العرب ما قد علم، وأجبته فيه بما قد فهم، مما أحب أن يكون منه على علم، ولم يتلجلج في نفسه أن أمة من الأمم التي افتخرت دونه بملكها وحمت ما يليها بفضل قوتها يبلغها في شيء من الأمور التي يتعزز بها ذوو الحزم والقوة والتدبير والمكيدة.
ولقد أنفذت إليك أيها الملك رهطا من العرب لهم فضل في أحسابهم وأنسابهم وعقولهم وآدابهم، فليسمع الملك منهم وليغمض عن جفاء إن ظهر منهم، وليكرمني بإكرامهم ويعجل سراحهم، وقد نسبتهم في أسفل كتابي هذا إلى عشائرهم.
فخرج القوم في أهبتهم حتى دفعوا إلى باب كسرى بالمدائن، فدفعوا إليه كتاب النعمان فقرأه وأمر بإنزالهم إلى أن يجلس لهم مجلسا يسمع منهم. فلما كان من الغد أمر مرازبته ووجوه أهل مملكته فحضروا مجلسه، وجلس على سريره، وتتوج بتاجه، وتهيأ لهم بأعظم الهيئة، ثم أذن لهم فدخلوا وأجلسوا على كراس عن يمينه وعن شماله، ثم دعا بهم على الولاء والمراتب التي وصفهم بها النعمان في كتابه، فقام الترجمان ليؤدي إليه كلامهم، ثم أذن لهم في الكلام.
فقام أكثم بن صيفي فقال: إن أفضل الأشياء أعاليها، وأعلى الرجال ملوكها، وأفضل الملوك أعمها نفعا، وخير الأزمنة أخصبها، وأفضل الخطباء أصدقها: الصدق منجاة، والكذب مهواة، والشر لجاجة، والحزم مركب صعب، والعجز مركب وطيء، وآفة الرأي الهوى، والعجز مفتاح الفقر، وخير الأمور مغبة الصبر، حسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة، إصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي، من فسدت بطانته كان كالغاص بالماء، شر البلاد بلاد لا أمير بها، شر الملوك من خافه البريء، المرء يعجز لا المحالة، أفضل البر بر برة، خير الأعوان من لم يرائي بالنصيحة، أحق الجنود من حسنت سيرته، يكفيك من الزاد ما بلغك المحل، حسبك من شر سماعه، الصمن حكم وقليل فاعله، البلاغة الإيجاز، من تشدد نفر ومن تراخى ألف.

(2/422)


فتعجب كسرى من أكثم ثم قال له: ويحك يا أكثم ما أحكمك وأوثق كلامك لولا وضعك آخر كلامك في غير موضعه. قال أكثم: الصدق ينبي عنك لا الوعيد، قال كسرى: لو لم يكن للعرب غيرك لكفاها، قال أكثم: رب قول أنفذ من صول.
ثم قام حاجب بن زرارة التميمي فقال: وري زندك، وعلت يدك، وملئت سلطانك، إن العرب أمة غلظت أكبادها، واستحصدت مرتها، وهي لك واقعة ما تألفتها، مسترسلة ما لاينتها، سامعة ما سامحتها، وهي العلقم مرارة، والصاب فظاظة، والعسل حلاوة، والماء الزلال سلاسة، نحن وفودها إليك وألسنتها لديك، ذمتنا محفوظة، وأحسابنا ممنوعة، وعشائنا فينا سامعة مطيعة، وإن بادرت لك حامدين جرى لك بذاك عموم محمدتها، وإن لم تذمم لم تخص بالذم دونها.
قال كسرى: يا حاجب ما أشبه حجل التلال بألوان صخرها، قال حاجب ابن زرارة: زئير الأسد بصولتها، قال كسرى: وذاك.
ثم قام الحارث بن عباد فقال: دامت لك المملكة باستكمال جزيل حظها وعلو سنائها، من طال رشاؤه كثر متحه، ومن ذهب ماله قل منحه، وعند تناقل الأقاويل يعرف اللب، وهذا مقام يستوجب بما ينطق فيه الركب، ويعرف كنه ألباب العجم والعرب، ونحن جيرتك الأدنون وأعوانك الأعلون، خيولنا جمة وجيوشنا قحمة، إن استجرنا فغير ريض، وإن استطرقنا فغير جهض، وإن طلبنا فغير غمض، لا ننثني لذعر، ولا نتنكر لدهر، رماحنا طوال وأعمارنا قصار.
قال كسرى: أنفس عزيزة وآلة ضعيفة؟ قال الحارث: أيها الملك وأنى تكون للضعيف عزة وللصغير مرة؟ قال كسرى: لو قصر عمرك لم تستول على لسانك نفسك. قال الحارث: أيها الملك إن الفارس إذا حمل نفسه على الكتيبة مغررا بنفسه على الموت فهي منية استقبلها وحياة استدبرها، والعرب تعلم أني أبعث الحرب قدما وأجلسها وهي تصرف نابها، حتى إذا حشت نارها وسعرت لظاها وكشفت عن ساقها، جعلت مقادها رمحي وبرقها سيفي ورعدها زئيري، ولم أقصر عن خوض ضحضاحها حتى أنغمس في غمرات لججها وأكون ملكا لفرساني إلى بحبوحة كبشها، فأستمطرها دما وأترك حماتها جزر السباع وكل نسر قشعم. قال كسرى لمن حضره من العرب: أكذلك هو؟ قالوا: فعاله أنطق من لسانه. فقال كسرى ما رأيت كاليوم وفدا أحد ولا شهودا أرفد.
ثم قام عمرو بن الشريد السلمي فقال: أيها الملك نعم بالك، ودام في السرور حالك، وإن عاقبة الكلام متدبرة، وأشكال الأمور معتبرة، وفي كثير القول ثقلة، وفي قليله بلغة، وفي الملوك سورة العزة وهذا منطق له ما بعده، شرف فيه من شرف، وخمل فيه من خمل؛ لم نأت لضيمك، ولم نفد لسخطك، ولم نتعرض لرفدك؛ إن في أموالنا مستندا وعلى عزنا معتمدا، وإن أورينا نارا اتقينا، وإن أود دهرنا اعتدلنا، إلا أنا مع هذا لجوارك حافظون، ولمن رامك مكافحون، حتى يحمد الصدر، ويستطاب الخبر.
قال كسرى: ما يقوم قصد منطقك بإفراطك، ولا مدحك بذمك، قال عمرو: كفى بقليل قصدي هاديا، وبأيسر إفراطي مخبرا، ولم يلم من عرفت نفسه عما يعلم، ورضي من القصد بما بلغ.
قال كسرى: ما كل ما يعرف المرء ينطق به اللسان، اجلس.
ثم قام خالد بن جعفر الكلابي فقال: أحضر الله الملك إسعادا، وأرشده إرشادا؛ إن كل منطق فرصة، وإن لكل حاجة غصة، وعي المنطق أشد من عي السكوت، وعثار القول أنكى من عثار الوعث، وما فرصة المنطق عندك إلا بما تهوى، وغصة المنطق بما لا تهوى غير مستطاعة، وتركي ما أعلم من نفسي ويعلم من سمعني أني له مطيق أحب إلي من تكليفي ما لا أتخوف وتتخوف مني، وقد أوفدنا إليك ملكنا النعمان، ونعم حامل المعروف والإحسان؛ إن أنفسنا لك بالطاعة باخعة، ورقابنا لك بالنصيحة خاضعة، وأيدينا لك بالوفاء رهينة.
قال كسرى: نطقت بعقل، وسموت بفضل، وعلوت بنبل.

(2/423)


ثم قام علقمة بن علاثة فقال: نهجت لك سبل الرشاد، وخضعت لك رقاب العباد، إن للأقاويل مناهج، وللآراء موالج، وللعويص مخارج، وخير القول أصدقه، وأفضل الطلب أنجحه؛ إنا وإن كانت المحبة أحضرتنا، والوفادة قربتنا، فليس من حضرك منا بأفضل ممن عزب عنك، بل لو فتشت كل رجل منهم وعلمت منهم ما علمنا لوجدت له في آبائه أندادا وأكفاء، كلهم إلى الفضل منسوب، وبالشرف والسؤدد موصوف، وبالرأي الفاضل والأدب النافذ معروف، يحمي حماه، ويروي نداماه، ويذود أعداه، ولا تخمد ناره ولا يحترز منه جاره، أيها الملك من يبل العرب يعرف فضلهم، فاصطنع العرب فإنها الجبال الرواسي عزا، والبحور الزواخر طما، والنجوم الزواهر شرفا، والحصى عددا، فإن تعرف لهم فضلهم يعزوك، وإن تستصرخهم لا يخذلوك.
قال كسرى - وخشي أن يأتي منه كلام يحمله على السخط عليه - : حسبك أبلغت وأحسنت.
ثم قام قيس بن مسعود الشيباني فقال: أصاب الله بك المراشد، وجنبك المصائب، ووقاك مكروه الشصائب، قما أحقنا إذ أتيناك بإسماعك ما لا يخش صدرك، و يزرع لنا حقدا في قلبك، لم نقدم أيها الملك لمباهاة، ولم ننتسب لمعاداة، ولا نزرع لنا حقدا في قلبك، ولكن لتعلم أنت ورعيتك ومن حضرك من وفود الأمم أنا في المنطق غير مفحمين وفي الناس غير مقصرين، إن جوزينا فغير مسبوقين وإن سوبقنا فغير مغلوبين.
قال كسرى: غير أنكم إذا عاهدتم غير وافين، وهو يعرض به في تركه الوفاء بضمانه السواد.
قال قيس: أيها الملك ما كنت في ذلك إلا كواف غدر به وكخافر خفر بذمته.
قال كسرى: ما يكون لضعيف ضمان ولا لذليل خفارة. قال قيس: أيها الملك ما أنا فيما تخفر من ذمتي بألزم بالعار منك فيما قتل من رعيتك وانتهك من حرمتك.
قال كسرى: كذلك من ائتمن الخانة واستخدم الأثمة ناله من الخطأ ما نالني، وليس كل الناس سواء. كيف رأيت حاجب بن زرارة؟ ألم يحكم قوله فيبرم، ويعهد فيوفي ويعد فينجز؟ قال: ما أحقه بذلك وما رأيته الأولى.
قال كسرى: القوم بزل فأفضلها أشدها ثم قام عامر بن الطفيل فقال: كثر فنون المنطق، ولبس القول أعمى من حندس الظلماء، وإنما العجز في الفعال، والفخر في النجدة، والسؤدد مطاوعة القدرة، ما أعلمك بقدرنا وأبصرك بفضلنا وبالجزاء إن دالت الأيام وثابت الأحلام أن تحدث أمور لها أعلام.
قال كسرى: وما تلك الأعلام والأيام؟ قال: مجتمع الأحياء من ربيعة ومضر في أمر يذكر.
قال كسرى: وما الأمر الذي يذكر؟ .
قال: وما لي علم بأكثر ما خبرني مخبر.
قال كسرى: ومتى تكهنت يا ابن الطفيل؟ .
قال عامر: لست بكاهن ولكني بالرمح طاعن.
قال كسرى: فإن أتاك آت من ناحية عينك العوراء ما أنت صانع؟ .
قال: ما هيبتي في قفاي بدون هيبتي في وجهي، وما أذهب عيني عبث ولكن مطاعنة المعث.
ثم قام عمرو بن معدي كرب الزبيدي فقال: إن المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فبلاغ المنطق الصواب، وملاك النجدة الارتياد، وعفو الرأي خير من استكراه الفكرة، وتوقيف الخيرة خير من اعتساف الخيرة، فاجتبذ طاعتنا بلطفك، واكظم بادرتنا بحلمك، وألن لنا كنفك، يسلس لك قيادنا؛ وإنا أناس لم يكسر صفاتنا قراع منافر أراد لها قصما، ولكن منعنا حمانا من كل من رام لنا هضما.
ثم قام الحارث بن ظالم فقال: إن من آفة المنطق الكذب، ومن لؤم الأخلاق الملق، ومن خطل الرأي صفة الملك المسلط، فإن أعلمناك أن مواجهتنا لك من ائتلاف، وانقيادنا لك عن إنصاف، ما أنت لقبول ذلك منا بخليق وللاعتماد عليه بحقيق، ولكن الوفاء بالعهود وإحكام ولث العقود، والأمر بيننا وبينك معتدل، ما لم يأت من قبلك ميل وزلل.
قال كسرى: من أنت؟ قال: الحارث بن ظالم، قال: إن في أسماء آبائك لدليلا على قلة وفائك، وأن تكون أولى بالغدر، وأقرب من الوزر.
قال الحارث: إن في الحق مغضبة والسر والتغافل، ولم يستوجب أحد الحكم إلا مع القدرة، فليشبه أفعالك مجلسك. فقال كسرى: هذا فتى القوم.

(2/424)


ثم قال كسرى: قد فهمت ما نطق فيه خطباؤكم، وتفنن فيه متكلموكم، ولولا أني أعلم أن الأدب لم يثقف أودكم ولم يحكم أموركم، وأنه ليس لكم ملك يجمعكم فتنطقون عنده منطق الرعية الخاضعة الباخعة، فنطقتم بما استولى على ألسنتكم وغلب على طبائعكم، لم أجز لكم كثيرا مما تكلمتم به، وإنني لأكره أن أجبه وفودي وأخشن صدورهم، وللذي أطلب أحب من إصلاح مدبركم، وتألف سوادكم والإعذار إلى الله فيما بيني وبينكم، وقد قبلت ما كان من منطقكم من صواب، وصفحت عما فيه من خلل، فانصرفوا إلى ملككم فأحسنوا مؤازرته، والزموا طاعته، واردعوا سفهاءكم، وأقيموا أودهم، وأحسنوا أدبهم، فإن في ذلك صلاح العامة وأخذا بطول السلامة. ثم أمر لكل رجل منهم بخمسين دينارا وحلة، وصرفهم.
نوادر من هذا الباب
لما زفت ميسون بنت بحدل الكلبية إلى معاوية تشوفت إلى البادية فقالت: من الوافر
لبيت تخفق الأرواح فيه ... أحب إلي من قصر منيف
وأصوات الرياح بكل فج ... أحب إلي من نقر الدفوف
وكلب ينبح الطراق عني ... أحب إلي من هر ألوف
وبكر يتبع الأظعان صعب ... أحب إلي من بغل زفوف
ولبس عباءة وتقر عيني ... أحب إلي من لبس الشفوف
وخرق من بني عمي كريم ... أحب إلي من علج عليف
وتروى الأبيات لأعرابي وأولها:
لضأن ترتعي الذكران حولي ... أحب إلي من بقر علوف
وشرب لبينة وتطيب نفسي ... أحب إلي من أكل الرغيف
فلما بلغت الأبيات معاوية قال: والله ما رضيت بنت بحدل حتى جعلتني علجا عليفا.

(2/425)


قال الفرزدق: أصابني بالبصرة مطر جود ليلا فإذا أنا بأثر دواب قد خرجت ناحية البرية، فظننت أن قوما قد خرجوا لنزهة، فقلت: خليق أن يكون معهم سفرة وشراب، فقصصت آثارهم حتى دفعت إلى بغال عليها رحائل موقوفة على غدير فأغذذت السير نحو الغدير، فإذا نسوة مستنقعات في الماء؛ فقلت: لم أر كاليوم قط ولا يوم دارة جلجل، وانصرفت مستحييا منهن. فنادينني بالله يا صاحب البغلة ارجع نسألك عن شيء، فانصرفت إليهن وهن في الماء إلى حلوقهن، فقلن: بالله لما حدثتنا بحديث دارة جلجل، فقلت: إن امرأ القيس كان يهوى ابنة عم له يقال لها عنيزة، فطلبها زمانا فلم يصل إليها حتى كان يوم الغدير، وهو يوم دارة جلجل، وذلك أن الحي احتملوا فتقدم الرجال وتخلف النساء والخدم والثقل، فلما رأى ذلك امرؤ القيس تخلف بعد ما سار مع الرجال غلوة، فكمن في غيابة من الأرض حتى مر به النساء، فإذا فتيات وفيهن عنيزة، فلما وردن الغدير قلن: لو نزلنا فذهب بعض كلالنا، فنزلن إليه ونحين العبيد عنهن، ثم تجردن فاغتمسن في الغدير كهيئتكن الساعة، فأتاهن امرؤ القيس مخاتلا كنحو ما أتيتكن وهن غوافل، فأخذ ثيابهن فجمعها. ورمى الفرزدق بنفسه عن بغلته فأخذ بعض أثوابهن فجمعها ووضعا على صدره وقال لهن كما أقول لكن: والله لا أعطي جارية منكن ثوبها ولو قامت في الغدير يومها حتى تخرج مجردة. قال الفرزدق: فقالت إحداهن وكانت أمجنهن: هذا امرؤ القيس كان عاشقا لابنة عمه، أفعاشق أنت لبعضنا؟ قال: لا والله ما أعشق منكن واحدة ولكن أستهبكن، قال: فنعرن وصفقن بأيديهن وقلن: خذ في حديثك فلست منصرفا إلا بما تحب. قال الفرزدق في حديث امرئ القيس: فتأبين عليه إلى آخر النهار وخشين أن يعصرن دون المنزل الذي أردنه، فخرجت إحداهن فدفع لها ثوبها ووضعه ناحية فأخذته ولبسته، وتتابعن على ذلك حتى بقيت عنيزة وحدها، فناشدته الله أن يطرح إليها ثوبها، فقال: دعينا منك فأنا حرام إن أخذت ثوبك إلا بيدك، قال: فخرجت فنظر إليها مقبلة ومدبرة، فوضع لها ثوبها فأخذته، وأقبلن عليه يعذلنه ويلمنه ويقلن: عريتنا وحبستنا وجوعتنا، قال: فإن نحرت لكن ناقتي تأكلن منها؟ قلن: نعم، فأخذ سيفه فعرقبها ونحرها وكشطها وصاح بالخدم فجمعوا له حطبا فأجج نارا عظيمة، وجعل يقطع لهن سنامها وأطايبها وكبدها، فيقلبها على الجمر فيأكل ويأكلن معه، ويشرب من ركوة كانت معه، ويغنيهن وينبذ إليهن وإلى العبيد والخدم من الكباب حتى شبعن وطربن. فلما أراد الرحيل قالت إحداهن: أنا أحمل طنفسته، وقالت الأخرى: أنا أحمل رحله، وقالت الأخرى: علي حشيته وانساعه. فتقاسمن رحله، وبقيت عنيزة فلم يحملها شيئا، فقال لها امرؤ القيس: يا ابنة الكرام لا بد أن تحمليني معك فإني لا أطيق المشي وليس من عادتي؛ فحملته على غارب بعيرها، وكان يدخل رأسه في خدرها فيقبلها فإذا امتنعت مال حدجها فتقول: يا امرأ القيس عقرت بعيري فانزل، فذلك قوله: من الطويل
تقول وقد مال الغبيط بنا معا ... عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل
فلما فرغ الفرزدق من حديثه، قالت تلك الماجنة: قاتلك الله فما أحسن حديثك وأطرفك فمن أنت؟ قلت: من مضر، قالت: فمن أيها؟ قلت: من تميم، قالت: فمن أيها؟ قال: إلى هنا هنا انتهى جوابي، قالت: إخالك الفرزدق، قلت: الفرزدق شاعر وأنا راوية، قالت: دعنا من توريتك عن نفسك، أسألك بالله: أنت هو؟ قلت: أنا هو والله، قالت: فإن كنت أنت هو فلا أحسبك تفارق ثيابنا إلا عن رضى، قلت: أجل، قالت: فاصرف وجهك عن وجهنا ساعة، وهمست إلى صواحباتها بشيء لم أفهمه، فانعطفن من الماء فتوارين وأبدين رؤوسهن وخرجن ومع كل واحدة منهن ملء كفها طينا، وجعلن يتعادين نحوي ويضربن بذلك الطين والحمأة وجهي وثيابي فأخذنها، وركبت تلك الماجنة بغلتي وتركتني متخبطا بأسوأ حال وأخزاها، ويقلن: زعم الفتى أنه لا بد له أن ينيكنا. فما زلت في ذلك المكان حتى غسلت وجهي وثيابي وجففتها وانصرفت عند مجيء الظلام إلى منزلي على قدمي، وبغلتي قد وجهن بها إلى منزلي مع رسول وقلن له: قل له يقلن لك أخواتك: طلبت منا ما لا يمكننا، وقد وجهنا إليك بزوجتك فنكها سائر ليلتك، وهذا كسر درهم يكون لحمامك إذا أصبحت. وكان إذا حدث بهذا الحديث يقول: ما منيت بمثلهن.

(2/426)


حكى يونس عن أبي عمرو بن كعب بن أبي ربيعة: اشترى لأخيه كلاب بن ربيعة بقرة بأربعة أعنز، فركبها كلاب ثم أجراها فأعجبه عدوها، فجعل يقول:
فدى لها أبو أبي بويب الغصن بي
ثم التفت إلى أخيه كعب فقال: زدهم عنزا حين أعجبته، فذهبت مثلا للأحمق إذ أمره بالزيادة بعد البيع. ويزعمون أنه ألجمها من قبل استها وحول وجهه إلى استها. قال: ولما ركب كلاب البقرة نظر إلى أرنب ففزع منها وركض البقرة وقال: من الرجز
الله نجاك وجري البقره ... من جاحظ العينين تحت الشجره
ويقولون: كان الأسد يهاب الحمار ويرى فيه القوة والمنعة، فاستجره ذات يوم ليبلوه، فقال: يا حمار ما أكبر أسنانك قال: للتمام، قال: ما أنكر حوافرك قال: للصم ذاك، قال: ما أتم أذنك قال: للذب ذاك، قال: ما أعظم بطنك قال: ضرط أكثر ذاك. فلما سمع مقالته اغتنم فيه فوثب عليه فافترسه. فكلهن يضربن مثلا للمنظر الذي يخالف المخبر.
حدث الأصمعي عن يونس قال: صرت إلى حي بني يربوع فلم أجد إلا النساء فأضر بي الجوع، فصرت إليهن وقلت: هل لكن في الصلاة؟ قلن: أيم الله إن لنا فيها لأهلا، فأذنت وأقمت وتقدمت وكبرت وقرأت الحمد لله رب العالمين، ثم قلت: يا أيها الذين آمنوا إذا نزل بكم الضيف فلتقم ربة البيت فتملأ قعبا زبدا وقعبا تمرا فإن ذلك خير وأعظم أجرا، قال: فوالله ما انقلبت من صلاتي إلا وصحاف القوم حولي، فأكلت حتى امتلأت. ثم جاء رجال الحي، فسمعت امرأة وهي تقول لزوجها: يا فلان ما سمعت قرآنا أحسن من فرآن قرأه اليوم ضيفنا، فقال لها زوجها: تبارك ربنا إنه ليأمرنا بمكارم الأخلاق.
قيل لأعرابي: ما أصبركم على البدو، قال: كيف لا يصبر من طعامه الشمس وشرابه الريح، ولقد خرجنا في إثر قوم تقدموا مراحل ونحن حفاة والشمس في قلة السماء حيث انتعل كل شيء ظله، وما زادنا إلا التوكل وما مطايانا إلا الأرجل حتى لحقناهم.
عبيد: من الطويل
لعمرك إني والظيلم بقفرة ... لمشتبها الأهواء مختلفا النجر
خليلا صفاء بعد طول عداوة ... ألا يا لتقليب القلوب وللدهر
قال: اجتمع السرور والنوك والخصب والوباء والمال والسلطان والصحة والفاقة بالبادية، فقالوا: إن البادية لا تسعنا فتعالوا نتفرق في الآفاق، فقال السرور: أنا منطلق إلى اليمن، قال النوك: أنا معك، قال الخصب: أنا إلى الشام، قال الوباء: أنا معك، قال المال: أنا إلى العراق، قال السلطان: أنا معك، قال الفاقة: ما بي حراك، فقالت الصحة: أنا معك، فبقيت الفاقة والصحة بالبادية.
الحرقوص دويبة أكبر من البرغوث وعضها أشد. تزعم العرب أنها مولعة بفروج النساء، ويقال لها: النهيك، وقيل هو البرغوث بعينه، قال أعرابي وقد عض بهن امرأته: من الطويل
وإني من الحرقوص إن عض عضة ... بما بين رجليها لجد غيور
تطيب نفسي عندما يستفزني ... مقالتها إن النهيك صغير
ويتلوه الباب السادس والثلاثون والحمد لله رب العالمين وصلواته على محمد نبيه وآله وصحبه وسلم
المجلد الثامن
بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله
الحمد لله الذي نفذ في خلقه أمره، ولا يرد حكمه بعيق الطير وزجره، ولا معقب لما حكم، ولا ماح لما أجرى به القلم، تفرد بالغيب فلم يظهر على غيبه من أحد، ولم يجعل السانح والبارح مخبرا بما يكون في غد. أحمده حمد راض بقضائه، عالم أن سر الغيب لا كاشف لغطائه، وتمامالصلاة على محمد رسوله، داحض البهتان ومشرد عبدة الأوثان، ومبطل دعوى الكهان، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بالإحسان.
الباب السادس والثلاثون
في الكهانة والقيافة والزجر والعيافة
والفأل والطيرة والفراسة

(2/427)


قد نهى الله عز وجل عن الطيرة، ودل على ذلك قوله عز وجل حكاية عن الكافرين: " قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون " . وأمر بتركها في قوله تعالى: " وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتى البيوت من أبوابها " . وهذا إخبار عن تطير كانت العرب تعتمده فنهاهم الله عز وجل عنه. قال أكثر أهل التفسير: كان الحمس، وهم قوم من قريش وبنو عامر بن صعصعة وثقيف وخزاعة، إذا حرموا لا يأقطون الأقط ولا ينتفون الوبر ولا يسلأون السمن، وإذا خرج أحدهم في الإحرام لم يدخل من باب بيته. وقيل: كان جماعة من العرب إذا خرج الرجل منهم في حاجة فلم يقضها ولم تيسر له رجع ولم يدخل من باب بيته سنة، يفعل ذلك طيرة. سموا الحمس لأنهم تحمسوا في دينهم، أي تشددوا، والحماسة الشدة في الغضب وفي القتال وفي كل شيء. قال العجاج: (من الرجز)
وكم قطعنا من قفار حمس
أي شداد.
وجاء في الحديث: " الطيرة والعيافة والطرق من الجبت " وجاء فيه أيضا: " الطيرة شرك وما منا إلا ويجد ذلك في نفسه، ولكن الله تعالى يذهبه بالتوكل " ، وفيه أيضا: " ثلاثة لا ينجو منهن أحد: الظن والطيرة والحسد " . فإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا تطيرت فامض ولا تنثن.
والفأل جائز ومستحسن؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءل، ولما نزل المدينة على كلثوم دعا غلامين له: يا يسار يا سالم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رحمه الله: سلمت لنا الدار؛ وقال صلى الله عليه وآله: سموا أولادكم أسماء الأنبياء، فأحسن الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها الحارث وهمام وأقبحها حرب ومرة.
وكانت العرب شديدة العناية بالزجر والعيافة، ويرون ذلك حقا ودينا، ولهم فيه مذهب وعادة وسير. وفي هذا الباب من أخبارهم ما يدل على وجه الزجر، وكانوا يتيمنون بالسانح من الطير وغيره وهو ما ولاك ميامنه، ويتشاءمون بالبارح وهو ما ولاك مياسره. ويكرهون الناطح وهو ما يلقاك بجبهته، والكادس ما يجيء من خلفك يقفوك. وكل ما تطير به يسمى طيرة العراقيب، وفيهم من ليس ذلك من رأيه، ولا يعتمد عليه في انحائه.
قال طرفة: (من الطويل)
إذا ما أردت الأمر فامض لوجهه ... وخل الهوينا جانبا متنائيا
ولا يمنعنك الطير مما أردته ... فقد خط في الألواح ما كان خافيا
وكانوا يستقسمون بالأزلام، واحدها زلم وزلم، وهي سهام مكتوب على بعضها " أمرني ربي " ، وعلى بعضها " نهاني ربي " . فإذا أراد الرجل سفرا وأمرا يهتم به ضرب بتلك القداح، فإن خرج السهم الذي عليه " أمرني ربي " مضى لحاجته، وإن خرج الذي عليه " نهاني ربي " لم يمض في أمره.
وكان لهم قدح آخر مكتوب عليه " متربص " . ولما أراد امرؤ القيس بن حجر غزو بني أسد ليطلب ثأر أبيه فيهم، نزل بتبالة وبها صنم يسمى ذا الخلصة تستقسم العرب عنده بالسهام. فاستقسم امرؤ القيس فخرج الناهي فرده، ثم عاد فاستقسم فخرج الناهي فأعاده، ثم استقسم فخرج الناهي، فضرب بالسهام وجه ذي الخلصة وقال: عضضت بأير أبيك! لو أبوك قتل ما نهيتني؛ ومضى لوجهه، فأوقع ببني أسد. فلم يستقسم بعد عند ذي الخلصة حتى جاء الإسلام. فهدمه جرير بن عبد الله البجلي.

(2/428)


وأما الكهانة فكانت فاشية في الجاهلية حتى جاء الإسلام، فلم يسمع فيه بكاهن، وكان ذلك من معجزات النبوة وآياتها. وأخبار كهنة العرب عجيبة إن كانت صحيحة. فمن ذلك خبر سطيح حين ورد عليه عبد المسيح وهو يعالج الموت، فأخبره - على ما يزعمون - ما جاء لأجله وبتأويله. والخبر: لما كانت ليلة ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم ارتجس إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرافة، وخمدت نار فارس، ولم تكن خمدت قبل ذلك ألف عام، وغيضت بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلا صعابا تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها، فلما أصبح كسرى تصبر تشجعا، ثم رأى أن لا يكتم ذلك عن وزرائه ومرازبته. فلبس تاجه وقعد على سريره، وجمعهم فأخبرهم بالذي جمعهم له. فبينما هم كذلك إذ ورد عليهم كتاب بخمود النار، فازداد غما إلى غمه، فسأل الموبذان، وكان أعلمهم في أنفسهم، فقال: حادث يكون من ناحية العرب. فكتب عند ذلك: من كسرى ملك الملوك إلى النعمان بن المنذر. أما بعد فوجه إلي برجل عالم بما أريد أن أسأله عنه. فوجه إليه بعبد المسيح بن حيان بن بقيلة الغساني. فقال له كسرى: أعندك علم بما أريد أم أسألك عنه؟ قال: ليخبرني الملك، فإن كان عندي منه علم وإلا أخبرته بمن يعلمه، فأخبره بما رآه، فقال: علم ذلك عند خال لي يسكن مشارف الشام يقال له سطيح؛ قال: فأته فاسأله عما سألتك عنه وأتني بجوابه. وركب عبد المسيح حتى قدم على سطيح وقد أشرف على الموت، فسلم عليه وحياه فلم يحر عبد المسيح جوابا. وأنشده عبد المسيح شعرا قاله يذكر فيه أنه جاء برسالة من قبل العجم، ولم يذكر حاله، فرفع رأسه وقال: عبد المسيح على جمل مشيح، إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاس الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد قطعت دجلة وانتشرت في بلادها؛ يا عبد المسيح إذا كثرت التلاوة، وبعث صاحب الهراوة، وفاض وادي سماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليس الشام لسطيح شاما، يملك فيهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات، وكل ما هو آت آت. ثم قضى سطيح مكانه. فسار عبد المسيح وهو يقول: (من البسيط)
شمر فإنك ماضي العزم شمير ... لا يفزعنك تفريق وتغيير
إن كان ملك بني ساسان أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوارا دهارير
فربما ربما أضحوا بمنزلة ... تهاب صولهم الأسد المهاصير
منهم أخو الصرح بهرام وإخوته ... والهرمزان وسابور وسابور
والناس أولاد علاتفمن علموا ... أن قد أقل فمحقور ومهجور
وهم بنو الأم أما إن رأوا نسبا ... فذاك بالغيب محفوظ ومنصور
والخير والشر مقرونان في قرن ... فالخير متبع والشر محذور
فقال كسرى: إلى أن يملك ساسان أربعة عشر قد كانت أمور. فملك منهم عشرة أربع سنين، وملك باقون إلى زمن عثمان رحمه الله.
ويزعمون أن أمية بن أبي الصلت الثقفي، بينا هو يشرب مع إخوان له في قصر غيلان بالطائف، إذ سقط غراب على شرفة القصر، فنعب نعبة، فقال أمية: بفيك الكثكث - وهو التراب - فقال أصحابه: ما يقول؟ قال: يقول: إنك إذا شربت الكأس الذي بيدك مت. ثم نعب نعبة أخرى، فقال أمية: كذلك، فقال أصحابه: ما يقول؟ قال زعم أنه يقع على هذه المزبلة أسفل القصر فيستشير عظما ويبتلعه فيشجى به ويموت، فقلت: نحو ذلك. فوقع الغراب على المزبلة فأثار العظم وابتلعه فشجي به فمات، فانكسر أمية، ووضع الكأس من يده، وتغير لونه. فقال له أصحابه: ما أكثر ما سمعنا مثل هذا وكان باطلا، وألحوا عليه حتى شرب الكأس، فمال في شق أغمي عليه، ثم أفاق ثم قال: لا بريء فأعتذر ولا قوي فأنتصر، ثم خرجت نفسه.

(2/429)


وهذا وإن كان مخرجه مخرج الزجر فهو بالكهانة أليق، فإن الزجر الذي يستخرج باللفظ أو بالأمارات ولا ينتهي إلى هذا البيان على أن إدراك ذلك لبشر من غير وحي ولا إلهام إلهي غير مقبول. وقد كان أمية يتكهن ويطمع في النبوة، ويزعم أن له رئيا يأتيه من شقه الأيسر، ويحب أن يأتيه في ثياب سود، وذكر ذلك لراهبقال: كدت أن تكونه ولست هو، إن صاحب هذا الأمر يأتيه رئيه من شقه الأيمن، وأحب الثياب إليه أن يأتيه فيها البياض. وأدرك عدو الله نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فحسده ولم يؤمن به بعد أن كان يتوقع النبوة في رجل من العرب، ويتحقق أن ذلك كائن.
وجاء في تفسير قوله عز وجل: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين " أراد به أمية، وقيل غيره والله أعلم.
وقد رووا أنه نزل بأسد بن خزيمة نفر من الجن، فأتاهم بقرى وتنحى عنهم، فسمع أحدهم يقول: إن بنيه هؤلاء ليس لصلبه منهم إلا واحد - وله يومئذ كاهل وعمرو ودودان - فلو خرج بهم إلى دوحة موضع كذا وكذا، فنزل تحتها لأخبره كل واحد منهم من أبوه. وقال أحدهم: إنه ليتناول الماء من مكان بعيد وأحد أطنابه على ماء عذب. وقال آخر: إن في إبله دويبة هي آفتها، فلو أنه حين تثور الإبل نظر في أعطانها فقتلها سلمت إبله. فحفظ مقالتهم، واحتفر في أصل طنب من أطنابه فإذا ماء كما ذكر. ونظر في عطن إبله فوجد الدابة فقتلها. ثم خرج ببنيه فتصيد ساعة ثم أتى الدوحة فقال تحتها، ثم تلفف بكسائه فنام؛ فقال كاهل ما صلحت هذه الدوحة إلا أن تجعل منها أصرة؛ قال: يقول أسد هذا والله ابن الراعي؛ قال عمرو: لا والله ما صلحت إلا أن تحرق فتجعل فحما، قال أسد: هذا والله ابن القين، قال دودان: ما صلحت إلا لقوم كرام تصيدوا يومهم ثم نزلوا تحتها؛ فقال أسد: هذا والله ابني. فقيل لكاهل الأصرة ولعمرو القيون.
ومما يرونه في الكهانة، أن هند بنت عتبة بن ربيعة كانت عند الفاكه بن المغيرة، وكان الفاكه من فتيان قريش، وكان له بيت للضيافة، خارجا من البيوت يغشاه الناس عن غير إذن. فخلا البيت ذات يوم، واضطجع هو وهند فيه. ثم نهض لبعض حاجته، فأقبل رجل ممن كان يغشى البيت فولجه، فلما رآها رجع هاربا، وأبصره الفاكه، فأقبل إليها فضربها برجله، وقال لها: من هذا الذي خرج من عندك؟ قالت: ما رأيت أحدا ولا انتبهت حتى أنبهتني؛ قال لها: ارجعي إلى أبيك. وتكلم الناس فيها، فقال أبوها: يا بنية، إن الناس قد أكثروا فيك فأنبئيني نبأك؛ فإن كان الرجل عليك صادقا دسست عليه من يقتله، فتنقطع عنك القالة، وإن يك كاذبا حاكمته إلى بعض كهان اليمن. فقالت: لا والله! ما هو علي بصادق: فقال له: يا فاكه! إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم، فحاكمني إلى بعض كهان اليمن. فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم، وخرج عتبة في جماعة من بني مناف، ومعهم هند ونسوة. فلما شارفوا البلاد قالوا: غدا نرد على الرجل، تغيرت حال هند، فقال لها عتبة: إني أراك وأرى ما بك من تنكر الحال، وما ذاك إلا لمكروه عندك؛ قالت: لا والله! ولكني أعرف أنكم تأتون بشرا يخطئ ويصيب، ولا آمنه أن يسمني ميسما يكون علي فيه سبة؛ فقال: إني سوف أختبره لك. فصفر لفرسه حتى أدلى، ثم أدخل في إحليله حبة حنطة وأوكأ عليها بسير؛ فلما أصبحوا قدموا على الرجل فأكرمهم ونحر لهم؛ فلما تغدو قال له عتبة: قد جئناك في أمر وقد خبأنا لك خبئا نختبرك به، فانظر ما هو؛ فقال: ثمرة في كمرة؛ قال: إني أريد أن أبين من هذا؛ قال: حبة بر في إحليل مهر. قال: انظر في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يدنو من إحداهن فيضرب بيده على كتفها، ويقول لها: انهضي! حتى دنا من هند، فقال: انهضي غير خساء ولا زانية، ولتلدن ملكا اسمه معاوية، فنهض إليها الفاكه فأخذ بيدها، فجذبت يدها من يده وقالت: إليك عني! فوالله لأحرصن أن يكون ذلك الملك من غيرك، فتزوجها أبو سفيان.

(2/430)


ومن الزجر المستحسن ما روي أن كسرى أبرويزبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين بعث زاجرا ومصورا وقال للزاجر: انظر ما ترى في طريقك وعنده، وقال للمصور: إيتني بصورته. فلما عاد إليه أعطاه المصور صورته صلى الله عليه وسلم، فوضعها كسرى على وسادته. وقال للزاجر: ما رأيت؟ فقال: ما رأيت ما أزجر به حتى الآن، وأرى أمره يعلو عليك لأنك وضعت صورته على وسادتك.
وقال قائل: حضرت الموقف مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فصاح به صائح: يا خليفة رسول الله! ثم قال: يا أمير المؤمنين! فقال رجل من خلفي دعاه باسم ميت! مات والله أمير المؤمنين! فالتفت فإذا برجل من بني لهب، وهم من بني مضر من الأزد، وهم أزجر قوم. قال: فلما وقفنا لرمي الجمار إذا حصاة قد صكت صلعة عمر فأدمته، فقال قائل: أشعر والله أمير المؤمنين، والله لا يقف هذا الموقف أبدا، فالتفت فإذا ذلك اللهبي بعينه. فقتل عمر قبل الحول.
والزجر إنما يؤخذ من اللفظ، وكذلك الفأل. وقد بين ذلك ذو الرمة في قوله: (من الطويل)
رأيت غرابا ساقطا فوق قضبة ... من القضب لم ينبت لها ورق خضر
فقلت غراب لاغتراب وقضبة ... لقضب النوى هذي العيافة والزجر
وفسره الآخر في قوله: (من الوافر)
وقدما هاجني فازددت شوقا ... بكاء حمامتين تجاوبان
تجاوبتا بلحن أعجمي ... على عودين من غرب وبان
فكان البان أن بانت سليمى ... وفي الغرب اغتراب غير دان
ومن غرائب الفأل والطيرة ما يروى عن المنذر بن ماء السماء في يومي نعيمه وبؤسه. وأصل ذلك فيما زعموا أن المنذر نادمه رجلان من بني أسد، أحدهما خالد بن المضلل والآخر عمرو بن مسعود بن كلدة، فأغضباه في بعض المنطق، فإمر بأن يحتفر لكل واحد منهما حفيرة في ظهر الحيرة، ثم يجعلا في تابوتين ويدفنا في الحفيرة، ففعل ذلك بهما حتى إذا أصبح سأل عنهما، فأخبر بمكانهما وهلاكهما. فندم على ذلك وغمه، ثم ركب حتى نظر إليهما فأمر ببناء الغريين عليهما، فبنيا. وجعل لنفسه يومين في السنة يجلس فيهما عند الغريين، سمى أحدهما يوم نعيم والآخر يوم بؤس؛ فأول من طلع عليه يوم نعيمه يعطيه مائة من الإبل سهما أي سودا، وأول من يطلع عليه يوم بؤسه يعطيه رأس ظربان اسود ثم يأمر به فيذبح ويغرى بدمه الغريان. فلبث بذلك برهة من دهره. ثم إن عبيد بن الأبرص كان أول من أشرف عليه في يوم بؤسه، فقال: هلا كان الذبح لغيرك يا عبيد، فقال: أتتك بحائن رجلاه، فأرسلها مثلا؛ فقال له المنذر: أو أجل بلغ مداه، وقال له المنذر: أنشدني فقد كان شعرك يعجبني، فقال عبيد: حال الجريض دون القريض وبلغ الحزام الطبيين، فأرسلها مثلا؛ فقال له المنذر: اسمعني، فقال: المنايا على الحوايا، فأرسلها مثلا؛ فقال المنذر: قد أمللتني فأرحني قبل أن آمر بك، فقال عبيد: من عز بز، فأرسلها مثلا؛ فقال المنذر: أنشدني قولك: " أقفر من أهله ملحوب " فقال عبيد: (من الرجز)
أقفر من أهله عبيد ... فاليوم لا يبدي ولا يعيد
غنت له خطة كؤود ... وحان منه فاعلمن ورود
فقال له المنذر: ويحك أنشدني قبل أن أذبحك، فقال عبيد: إن مت ما يضرني وإن عشت فواجده؛ فقال له المنذر: إنه لا بد من الموت، ولو أن النعمان عرض لي في يوم بؤسي لذبحته، فاختر إن شئت الأكحل، وإن شئت الأبجل، وإن شئت من الوريد. فقال عبيد: ثلاث خصال كسحابات واردها شر وارد، وحاديها شر حاد، ومعادها شر معاد، ولا خير فيها لمرتاد، وإن كنت لا محالة قاتلي فاسقني الخمر حتى إذا ماتت مفاصلي فشأنك وما تريد، فأمر له المنذر بحاجته من الخمر حتى إذا أخذت فيه وطابت نفسه، أمر به المنذر ففصد، فلما مات غري بدمه الغريان.
فلم يزل كذلك حتى مر به رجل من طيء يقال له حنظلة بن عفراء أو ابن أبي عفراء، فقال له: أبيت اللعن؛ إني والله أتيتك زائرا، ولأهلي من خيرك مائرا، فلا تكن ميرتهم قتلي؛ فقال: لا بد من ذلك، وسلني حاجة قبله أقضها لك؛ قال تؤجلني سنة أرجع فيها إلى أهلي وأحكم من أمرهم ما أريد، ثم أصير إليك في حكمك؛ قال: فمن يكفل لي بك؟ فنظر في وجوه جلسائه فعرف فيهم شريك بن عمرو أبا الحوفزان فأنشأ يقول: (مجزوء الرمل)

(2/431)


يا شريكا يا بن عمرو ... ما من الموت محاله
يا شريكا يا بن عمرو ... يا أخا من لا أخا له
يا أخا شيبان فك ال ... يوم رهنا قد أنى له
يا أخا كل مصاف ... وحيا من لا حيا له
إن شيبات قتيل ... أكرم الله رجاله
فوثب شريك وقال: أبيت اللعن! يدي يده ودمي دمه إن لم يعد إلى أجله، فأطلقه المنذر. فلما كان من القابل جلس في مجلسه، فنظر حنظلة ليقتله فلم يشعر إلا براكب قد طلع عليهم، فتأملوه فإذا هو حنظلة قد أقبل متحنطا متكفنا معه نادبته تندبه، وقد قامت نادبة شريك تندبه، فلما نظر المنذر عجب من وفائهما وكرمهما فأطلقهما، وأبطل تلك السنة.
قال هشام: خرج عمر رضي الله عنه إلى حرة واقم، فلقي رجلا من جهينة، فقال له: ما اسمك؟ قال: شهاب، قال: ابن من؟ قال: ابن جمرة، قال: وممن أنت؟ قال: من الحرقة، قال: ثم ممن؟ قال: قال: من بني ضرام، قال: وأين منزلك؟ قال: بحرة ليلى، قال: فأين تريد؟ قال: لظى وهو موضع فقال عمر: أدرك أهلك فما أراك تدركهم إلا وقد احترقوا. قال: فأدركهم وقد أحاطت بهم النار.
وقال المدائني: وقع الطاعون بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان حين أتاها، فخرج هاربا منه فنزل بقرية من الصعيد يقال لها سكر. فقدم عليه حين نزلها رسول لعبد الملك، فقال له عبد العزيز: ما اسمك؟ قال: طالب بن مدرك، فقال: أواه! ما أراني راجعا إلى الفسطاط أبدا، ومات في تلك القرية.
كانت نائلة بنت عمار الكلبي تحت معاوية. فقال لفاختة بنت قرظة: اذهبي فانظري إليها. فذهبت ونظرت فقالت له: ما رأيت مثلها، ولكني رأيت تحت سرتها خالا ليوضعن معه رأس زوجها في حجرها. وطلقها معاوية فتزوجها بعده رجلان: أحدهما حبيب بن مسلمة، والآخر النعمان بن بشير. فقتل أحدهما ووضع رأسه في حجرها.
قيل بينا مروان بن محمد جالسا في إيوان له ينفذ الأمور بجد وصرامة إذ تصدعت زجاجة من الإيوان فوقعت منها الشمس على منكب مروان. وكان هناك عياف يسمع منه مروان كثيرا، فقال: صدع الزجاج أمر منكر، على أمير المؤمنين يكبر. ثم قام فاتبعه ثوبان مولى مروان، فقال له: ويحك! ما قلت؟ قال: صدع الزجاج صدع السلطان، ستذهب الشمس بملك مروان، بقوم من الترك أو خراسان، ذلك عندي واضح البرهان. فوالله ما ورد لذلك شهران حتى ورد خبر أبي مسلم.
أنشد ذو الرمة شعرا له وصف فيه الفلاة وهو بالثعلبية. فقال له حليس الأسدي: إنك لتنعت الفلاة نعتا لا تكون منيتك إلا بها. قال: وصدر ذو الرمة عن احد جفري بني تميم، وهما على طريق الحاج من البصرة، فلما أشرف على الفلاة قال: (من الطويل)
إني لعاليها وإني لخائف ... لما قال يوم الثعلبية حلبس
فقال: إن هذا آخر شعر قاله.
فلما توسط الفلاة نزل عن راحلته فنفرت منه، ولم تكن تنفر، وعليها طعامه وشرابه، فكلما دنا منها نفرت حتى مات. فيقال إنه قال عند ذلك: (من الطويل)
ألا أبلغ الركبان عني رسالة ... أهينوا المطايا هن أهل هوان
فقد تركتني صيدح بمضلة ... لساني ملتاث من الطلوان
وذكروا أن ناقته وردت على أهله، فركبها أخوه وقص أثره حتى وجده ميتا، ووجد هذين البيتين مكتوبين على قوسه، وقد قيل في موته غير هذا، وليس هذا موضع ذكره.
وقيل إن كثيرا تعشق امرأة من خزاعة يقال لها أم الحويرث، فشبب بها. وكرهت ان يسمع بها فيفضحها كما فضح عزة. فقالت له: إنك رجل فقير لا مال لك، فابتغ مالا يعفى عليك، ثم تعال فاخطبني كما يخطب الكرام، قال: فاحلفي لي ووثقي أنك لا تتزوجين حتى أقدم عليك، فحلفت ووثقت له. فمدح عبد الرحمن بن أريق الأزدي، وخرج إليه فلقيته ظباء سوانح، ولقي غرابا يفحص التراب بوجهه؛ فتطير بذلك حتى قدم على حي بن لهب، فقال: أيكم يزجر؟ قالوا: كلنا، فمن تريد؟ قال: أعلمكم بذلك، قالوا: ذلك الشيخ المنحني الصلب. فأتاه فقص عليه القصة، فكره ذلك له، وقال له: قد ماتت أو تزوجت رجلا من بني عمها، فأنشأ كثير يقول: (من الطويل)
تيممت لهبا أبتغي العلم عندهم ... وقد رد علم العاشقين إلى لهب
تيممت شيخا منهم ذا نجالة ... بصيرا بزجر الطير منحني الصلب

(2/432)


فقلت له ماذا ترى في سوانح ... وصوت غراب يفحص الوجه بالترب
فقال جرى الطير السنيح ببيننا ... وقال الغراب جد منهمر السكب
فإلا تكن ماتت فقد حل دونها ... سواك خليل ناطق من بني كعب
قال: فمدح الرجل الأزدي، فأصاب منه خيرا، ثم قدم عليها فوجدها قد تزوجت رجلا من بني عمها، فأخذه الهلاس، فكشح جنباه بالنار. فلما اندمل من علته ووضع يده على ظهره إذا هو برقمتين. فقال: ما هذا؟ فقالوا: إنه أخذك الهلاس، وزعم الأطباء أن لا علاج لك إلا الكشح بالنار، فكشحت بالنار، فأنشأ يقول: (من الطويل)
عفا الله عن أم الحويرث ذنبها ... علام تعنيني وتعمي دوائيا
فلو يأذنوني قبل أن يرقموهما ... لقلت لهم أم الحويرث دائيا
ومن الفراسة قول عمرو بن مرة العبدي: (من الوافر)
إذا ما الظن أكذب في أناس ... رميت بصدقه ستر الغيوب
بعث صاحب الروم إلى النبي صلى الله عليه وسلم رسولا وقال: انظر أين تراه جالسا، ومل إلى جانبه، وانظر ما بين كتفيه حتى الخاتم والشامة، فقدم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى نشز واضعا قدميه في الماء، وعن يمينه علي عليه السلام. فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: تحول فانظر ما أمرت به. فنظر ثم رجع إلى صاحبه فأخبره الخبر، فقال: ليعلون أمره وليملكن ما تحت قدمي. تفاءل بالنشز العلو وبالماء الحياة.
ولما توارى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الهجرة، خرجت قريش بمعقل بن أبي كرز الخزاعي، فوجدوا أثره عليه السلام، فقال معقل: لم أر وجه محمد قط، ولكن إن شئتم ألحقت لكم هذا الأثر. قالوا: قل، قال: هو الذي في مقام إبراهيم. فبسط أبو سفيان بن حرب ثوبه عليه وقال: قد خرفت وذهب عقلك.
اختلف رجلان من القيافة يوم الصدر في أثر بعير فقال أحدهما: هو جمل، وقال الآخر: هي ناقة فإذا بعير واقف فاستدار به، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ فنظر فإذا هو خنثى، وقد أصابا جميعا.
عجب بعض الكتاب من إلحاق القافة الولد بالشبه. فقال له قائف: أعجب من هذا ما يبلغنا من تمييزكم الخطوط.
وروى المدائني أن عليا عليه السلام بعث معقل بن قيس الرياحي من المدائن في ثلاثة آلاف، وأمره أن يأخذ على الموصل ويأتي نصيبين ورأس العين حتى يأتي الرقة فيقيم بها. فسار معقل فنزل الحديثة، فبينا هو ذات يوم جالس إذ نظر إلى كبشين ينتطحان حتى جاء رجلان وأخذ كل واحد منهما كبشا فذهب به. فقال شداد بن أبي ربيعة الخثعمي وكان زاجرا: تنصرفون في وجهكم هذا فلا تغلبون ولا تغلبون، قالوا: وما علمك؟ قال: أو ما رأيتم الكبشين انتطحا حتى حجز بينهما اثنان ليس لواحد على صاحبه فضل؟ وزعموا أن رجلا من لهب خرج في حاجة ومعه سقاء من لبن. فسار صدر يومه ثم عطش فأناخ يشرب، فإذا غراب ينعب فأثار راحلته ثم سار، فلما أظهر أناخ يشرب، فنعب الغراب وتمرغ في التراب. فضرب الرجل السقاء بسيفه، فإذا فيه اسود ضخم فقتله. ثم سار، فإذا غراب واقع على سدرة فصاح به فوقع على سلمة، فصاح به فوقع على صخرة، فانتهى إليها فأثار كنزا. فلما رجع إلى أبيه قال له: إيه! ما صنعت في طريقك؟ قال: سرت صدر يومي ثم انخت لأشرب، فنعب الغراب وتمرغ في التراب، قال: اضرب السقاء وإلا لست بابني! قال فعلت، وإذا أسود ضخم؛ قال: ثم مه؟ قال: ثم رأيت غرابا واقعا على سدرة، قال: أطره إلا لست بابني! قال: أطرته فوقع على سلمة،قال: أطره وإلا لست بابني! قال: فعلت فوقع على صخرة، فقال: أحذني يا بني فأحذاه.
ومن كلام علي عليه السلام في التفاؤل: الحوض مقدمة الكون.

(2/433)


ومن التطير: قال علويه المغني: كنت مع المأمون لما خرج إلى الشام، فدخلنا دمشق فطفنا فيها، وجعل يطوف على قصور بني أمية ويتتبع آثارهم، فدخلنا صحنا من صحونهم، فإذا هو مفروش بالرخام الأخضر كله، وفيه بركة ماء يدخلها ويخرج منها من عين تصب إليها، وفي البركة سمك، وبين يديها بستان على اربع زواياه أربع سروات كأنها قصت بمقراض من التفافها، أحسن ما رأيت من السرو قدا وقدرا. فاستحسن ذلك وعزم على الصبوح وقال: هاتوا لي الساعة طعاما، فأتي ببزماورد فأكله ودعا بالشراب، وأقبل علي فقال: غنني ونشطني. وكأن الله تعالى أنساني الغناء إلا هذا الصوت من شعر عبد الله بن قيس الرقيات: (من المنسرح)
لو كان حولي بنو أمية لم ... ينطق رجال أراهم نطقوا
من كل قرم محض ضرائبه ... عن منكبيه القميص ينخرق
فنظر إلي مغضبا وقال: عليك وعلى بني أمية لعنة الله! ويلك! أقلت لك سرني أو سؤني؟ ألم يكن لك تذكر فيه بني أمية إلا هذا الوقت تعرض بي؟ فتجلدت عليه وعلمت أني قد أخطأت، فقلت: أتلومني على أن أذكر بني أمية؟ هذا مولاكم زرياب عندهم يركب في مائتي غلام مملوك لهم، ويملك ثلاثمائة ألف دينار، وأنا أموت عندكم جوعا. فقال: أولم يكن لك شيء تذكرني به نفسك غير هذا؟ فقلت: هكذا حضرني حين ذكرتهم. فقال: اعدل عن هذا وتنبه إلى إرادتي وغن، فأنساني الله كل شيء أحسنه إلا هذا الصوت: (من الكامل المرفل)
الحين ساق إلى دمشق وما ... كانت دمشق لأهلنا بلدا
قادتك نفسك فاستقدت لها ... وأرتك أمر غواية رشدا
فرماني بالقدح فأخطأني وانكسر القدح، وقال: قم عني إلى لعنة الله وحر سقره! وقام فركب، فكانت تلك الحال آخر عهدي به، ومرض فمات بعد قليل.
وشبيه بذلك ما روي عن إبراهيم بن المهدي قال: أرسل إلي محمد بن زبيدة في ليلة من ليالي الصيف مقمرة: يا عمي! إن الحرب بيني وبين طاهر قد سكنت، فصر إلي فإني إليك مشتاق. فجئته وقد بسط له على سطح زبيدة وعنده سليمان بن ابي جعفر وعليه كساء روذباري وقلنسوة طويلة وجواريه بين يديه، وضعف جاريته عنده. فقال لها: غنيني فقد سررت بعمومتي. فاندفعت فغنته: (من الطويل)
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما فعلت بكسرى يوما مرازبه
بني هاشم كيف التواصل بيننا ... وعند أخيه سيفه ونجائبه
هكذا غنت وإنما هو: وعند علي سيفه ونجائبه.
فغضب وتطير وقال لها: ما قصتك ويحك! انتهي وغنيني ما يسرني فغنت: (من الكامل المجزوء)
هذا مقام مطرد ... هدمت منازله ودوره
فازداد تطيرا ثم قال: انتهي وغني غير هذا! فغنت: (من الطويل)
كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... وأيسر جرما منك ضرج بالدم
فقال: قومي إلى لعنة الله! فوثبت. وكان بين يديه قدح بلور، وكان لحبه إياه يسميه محمدا باسمه، فأصابه طرف ردائها فسقط على بعض الصواني فانكسر وتفتت. فأقبل علي فقال: أرى والله يا عم أن هذا آخر أمرنا. فقلت: كلا، بل يبقيك الله يا أمير المؤمنين ويسرك. قال: ودجلة يا بني هادئة، والله ما فيها صوت مجداف ولا أحد يتحرك ولا شيء؛ فسمعت هاتفا يهتف: قضي الأمر الذي فيه تستفتيان. قال، فقال لي: أسمعت ما سمعت يا عم؟ فقلت: وما هو؟ وقد والله سمعت الصوت الذي جاء الساعة من دجلة. فقلت: ما سمعت شيئا ولا هذا إلا توهم؛ فإذا الصوت قد عاد، فقال: انصرف يا عم، بيتك الله بخير، فمحال ألا تكون الآن سمعت ما سمعت. فانصرفت وكان آخر عهدي به.
وحدث بعض أشياخ البرامكة قال: كنت عند إبراهيم بن المهدي قد اصطحبنا، وعنده عمرو بن بانة وجماعة من إخوانه وعمرو الغزال، ونحن في أطيب ما كنا إذ غنى عمرو الغزال، وكان إبراهيم بن المهدي يستثقله. قال: فاندفع عمرو الغزال يغني في شعر محمد بن أمية: (من السريع)
ما تم لي يوم سرور بمن ... أهواه مذ كنت إلى الليل
أغبط ما كنا بما نلته ... منه أتتني الرسل بالويل

(2/434)


قال: فتطير إبراهيم ووضع القدح من يده وقال: أعوذ بالله من شر ما قلت! فوالله ما سكنت وأخذنا نتلافى إبراهيم حتى دخل علينا حاجبه يعدو، فقال له: ما الخبر؟ قال: خرج الساعة مسرور من دار أمير المؤمنين حتى دخل على جعفر بن يحيى، فلم يلبث أن خرج ورأسه بين يديه، وقبض على أبيه وإخوته أهله. فقال إبراهيم: إنا لله وإنا إليه راجعون، ارفع يا غلام. فرفع ما كان بين أيدينا وتفرقنا، ثم ما رأيت عمرا بعدها في داره.
كان عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس ثقيل الرجل لا يقدم على أحد من أهل بيته إلا مات. فقدم على أخيه سليمان بن علي بالبصرة فمات فصلى عليه. ثم رحل فقدم البصرة بعد مدة محمد بن سليمان صحيح فاضطرب فقال: لأمر ما قدم عمي؛ فاعتل واشتد جزعه ثم عوفي، فتصدق بمائة ألف دينار. لما مات عبد الصمد قال الرشيد: الحمد لله الذي مات عنوان الموت! لا يحمل عمي غيري. فكان أحد حملته إلى حفرته.
وروي أن جعفر بن سليمان مات حين قدم عليه عبد الصمد، وأن عبد الصمد عمي في ذلك الوقت، فقال إسماعيل بن جعفر: أخذنا بعض ثأرنا.
قال البحتري: أنشدت شيئا من شعري أبا تمام فتمثل ببيت أوس بن حجر: (من الطويل)
إذا مقوم منا ذرا حد نابه ... تبين منا حد آخر مقوم
ثم قال: نعيت إلي نفسي فقلت: أعيذك بالله من هذا القول. فقال: إن عمري لن يطول وقد نشأ في طيء مثلك؛ أما علمت أن خالد بن صفوان رأى شبيب بن شبة وهو من رهطه يتكلم، فقال: يا بني لقد نعى إلي نفسي إحسانك في كلامك لأنا أهل بيت ما نشأ فينا خطيب إلا مات من قبله، فقلت: بل يبقيك الله ويجعلني فداك. قال: فمات بعد سنة.
قال القاضي أبو علي الجويني: حضرت بين يدي سيف الدولة أبي الحسن صدقة بن منصور بن دبيس، وابنه أبو المكارم محمد إذ ذاك مريض مرضه الذي مات فيه، وقد أتى بديوان أبي نصر ابن نباتة، فتصفحه فوقع في يده وقال يعزي سيف الدولة أبا الحسن ويرثي ابنه أبا المكارم محمدا، فأخذت المجلد وأطبقته؛ فعاد سيف الدولة فتصفحه ثانيا فخرج ذلك من القصيدة التي غناها قوله: (من الطويل)
فإن بميافارقين حفيرة ... تركنا عليها ناظر الجود داميا
نضمنها الأيدي فتى ثكلت به ... غداة ثوى آمالها والأمانيا
ولما عدمنا الصبر بعد محمد ... أتينا أباه نستفيد التعازيا
شخص أبو الشمقمق مع خالد بن يزيد بن مزيد وقد تقلد الموصل، فلما أراد الدخول إليها اندق لواؤه في أول درب منها، فتطير من ذلك وعظم عليه. فقال أبو الشمقمق: (من الكامل)
ما كان مندق اللواء لريبة ... تخشى ولا أمر يكون مبذلا
لكن هذا الرمح ضعف متنه ... صغر الولاية فاستقل الموصلا
فسري عن خالد. وكتب صاحب البريد بذلك إلى المأمون فزاده ديار ربيعة، وكتب إليه هذا لتضعيف الموصل متن رمحك. فأعطى خالد أبا الشمقمق عشرة آلاف درهم.
كان أبو الحسن ابن الفرات في وزارته الأولى يشرب كل يوم ثلاثاء وهو اليوم الذي قبض عليه في غده ويعمل في خلال شربه، إذ مرت به رقعة فيها: (من البسيط)
إن كان ما أنتم فيه يدوم لكم ... ظننت ما أنا فيه دائما أبدا
لكن سكنت إلى أني وأنكم ... سنستجد خلاف الحالتين غدا
فكأنه اغتم لذلك، ثم أخذ في شأنه، وقال لجارية في المجلس كان يألف غناءها ويتفاءل بما لا تزال تغنيه: غني. فابتدأت وغنت: (من الطويل)
أمغيبة بالبين ليلى ولم تمت ... كأنك عما قد أظلك غافل
ستعلم إن جدت لكم غربة النوى ... ونادوا بليلى أن صبرك زائل
فتنغص ووافته بدعة الصغيرة في ذلك اليوم، فقام إلى دار له جديدة، ودعا بالشراب، وتناول قدحا والتمس من بدعة صوتا، فتطلبت له صوتا يتفاءل به بسبب الدار الجديدة، فغنت: (من المنسرح)
أمرت لي منزلا فأسكنه ... فصرت عنه المبعد القاصي
ولم تحفظ البيت الثاني. فلما كان الغد حدثت عليه الحادثة.

(2/435)


ولما توجه المسترشد للقاء السلطان مسعود بن محمد ونزل بذات مرج وقع على الشمسية التي ترفع على رأسه طائر من الجوارح وألح، كلما نفر عاد؛ فتفاءل الناس له بذلك وسر هو به. فقال له إنسان يعرف بملك الدار: هذا جارح ومنقبض الكف ليس فيه بشرى بل ضدها. وأقبل السلطان في جيشه وكانت الكسرة وقبض على المسترشد، وقتل من بعد.
دخل الحجاج الكوفة متوجها إلى عبد الملك. فصعد المنبر، فانكسر تحت قدمه لوح، فعلم أنهم قد تفاءلوا عليه بذلك. فالتفت إلى الناس قبل أن يحمد الله تعالى وقال: شاهت الوجوه، وتبت الأيدي، وبؤتم بغضب من الله! أإن انكسر عود خروع ضعيف تحت قدم أيد شديد تفاءلتم بالشؤم؟ وإني على أعداء الله لأنكد من الغراب الأبقع، وأشأم من يوم نحس مستمر. وإني لأعجب من لوط وقوله: " لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد " . وأي ركن أشد من الله تعالى؟ أو ما علمتم ما أنا عليه من الشخوص إلى أمير المؤمنين؟ فقد قلدت عليكم أخي محمد بن يوسف، وقد أمرته بخلاف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا في أهل اليمن، فإنه أمره أن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وقد أمرته أن يسيء إلى محسنكم وألا يتجاوز عن مسيئكم. وأنا أعلم أنكم تقولون بعدي: لا أحسن الله له الصحابة، وأنا معجل لكم الجواب: لا أحسن الله عليكم الخلافة. أقول قولي هذا واستغفر الله لي دونكم.
قال أبو ذؤيب الهذلي: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليل، فأوجس أهل الحي خيفة عليه، فبت بليلة ثابتة النجوم طويلة الأناة، لا ينجاب ديجورها، ولا يطلع نورها، حتى إذا قرب السحر خفقت فهتف بي هاتف يقول: (من الكامل)
خطب أجل أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومقعد الآطام
قيض النبي محمد فعيوننا ... تذري الدموع عليه بالتسجام
قال أبو ذؤيب: فوثبت فزعا، فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعد الذابح، فتفاءلت به ذبحا يقع في العرب، وعلمت أن النبي عليه السلام قد مات أو هو ميت من علته. فركبت ناقتي وسرت حتى إذا أصبحت طلبت شيئا أزجره. فعن لي شيهم قد أرم على صل وهو يتلوى عليه، والشيهم يقصمه حتى أكله، فزجرت ذلك شيئا مهما، وقلت: تلوي الصل انفتال الناس عن الحق على القائم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أولت أكل الشيهم إياه علية القائم على الأمر. فحثثت ناقتي حتى إذا كنت بالعلية زجرت الطير فأخبرني بوفاته، ونعب غراب سانحا بمثل ذلك، فتعوذت من شر ما عن لي في طريقي. ثم قدمت المدينة ولأهلها ضجيج كضجيج الحجيج أهلوا جميعا بالإحرام، فقلت: مه؟ قالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجئت المسجد فأصبته خاليا، فأتيت بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبت بابه مرتجا وقد خلا به أهله. فقلت: أين الناس؟ فقيل في سقيفة بني ساعدة، صاروا إلى الأنصار. فجئت السقيفة فوجدت أبا بكر وعمر وأبا عبيدة وسالما وجماعة من قريش؛ ورأيت الأنصار فيهم سعد بن عبادة ومعهم شعراؤهم وأمامهم حسان بن ثابت وكعب في ملأ منهم، فأويت إلى الأنصار. وتكلم الأنصار وأكثروا الصواب. وتكلم أبو بكر، فلله دره لا يطيل الكلام ويعلم مواضع الفصل، والله لتكلم بكلام لا يسمعه سامع إلا انقاد له ومال إليه، وتكلم بعده عمر بكلام دون كلامه، ومد يده فبايعه، ورجع أبو بكر ورجعت معه، وشهدت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدت دفنه. ولقد بايع الناس من أبي بكر رجلا حل قداماها ولم يركب ذناباها، وانصرف أبو ذؤيب إلى باديته وثبت على إسلامه.
وجه أبو موسى الأشعري في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه السائب بن الأقرع إلى مهرجا نقذق، ففتحها وجمع السبي والغنائم، ودخل دار الهرمزان فرأى في بعض مجالسها تصاوير فيها تمثال ظبي وهو مشير بإحدى يديه إلى الأرض. فقال السائب: لأمر ما صور هذا الظبي هكذا، إن له لشأنا. فأمر بحفر الموضع الذي الإشارة إليه، فأفضى إلى حوض من الرخام فيه سفط جوهر. فأخذه السائب وخرج به إلى عمر رضي الله عنه.

(2/436)


لما أراد ابن الزبير المبايعة قال: بايعوني، فقام إليه عبد الله بن مطيع فقال: ابدأ فادع أبناء المهاجرين والأنصار قبل. فقال ابن الزبير: ادع عبيد الله بن علي بن أبي طالب. فقال أعرابي كان في ناحية المسجد: والله لا تتم له بيعة أبدا، أليس قد دعا عبد الله بن مطيع فأبى.
حدث مصعب بن عبد الله الزبيري عن رجل قال: شردت لنا إبل فأتيت حليسا الأسدي فسألته عنها، فقال لبنت له: خطي، فخطت ونظرت ثم تقبضت وقامت منصرفة. فنظر حليس في خطها فضحك وقال: أتدري لم قامت؟ قلت: لا: قال: رأت أنك تجد إبلك وأنك تتزوجها، فاستحيت فقامت. فخرجت فأصبت إبلي ثم تزوجتها بعد.
قال شريح بن الأقعس العنبري: عزبت لي إبل فأتيت رجلا من بني أسد فقلت: انظر لي، فخطط خطوطا ثم نظر فقال: تصيب إبلك وتذهب إحدى عينيك وتتزوج امرأة أشرف منك. قال: قال: فخرجت وما شيء أبغض إلي من أن أصيب إبلي ليكذب فيما قال؛ فأتيت الكناسة فأصبت إبلي، وخرجت مع الأشعث فأصيبت عيني، وحججت مع ابنة قيس بن الحسحاس العنبري، فقالت لي مولاة لها: هل لك أن تتزوج مولاتي؟ قلت: وددت، قالت: فاخطبها إذا قدمت، ففعلت فأبوا فلم أزل حتى زوجونيها.
ولى يزيد بن معاوية عمرو بن سعيد بن العاص مكة والمدينة والطائف. فقدم المدينة في شهر رمضان من سنة ستين قبيل العتمة، فصلى العتمة بالناس فقرأ: لم يكن وإذا زلزلت الأرض. فلما أصبح إلى الناس وعليه قميص أحمر ورداء أحمر وعمامة حمراء، فرماه الناس بأبصارهم، فقال: يا أهل المدينة مالكم ترمونا بأبصاركم كأنكم تريدون أن تغزوا بنا سيوفكم، أنسيتم ما فعلتم؟ أما لو أنا ننقم منكم في الأولى ما عدتم في الثانية. أغركم أن قتلتم عثمان فوجدتم بعده ثائراحليما ومسنا مأمونا قد فني غضبه وذهبت أذاته. فاغنموا أنفسكم فقد وليناكم بالشاب المقتبل البعيد الأمل، قد اعتدل جسمه، واشتد عظمه، ورمى الدهر ببصره، واستقبله ببأسه، فهو إن عض نهش وإن وطئ فرس، لا يقلقل له الحصى، ولا تقرع له العصا. فرعف وهو يتكلم، فألقى إليه رجل عمامة فمسح بها فقال رجل من خثعم: دم على منبر في عمامة وقال: فتنة عمت وعلا ذكرها ورب الكعبة، فكانت الفتنة المشهورة.
لما بنى عبيد الله بن زياد داره البيضاء بالبصرة، بعد قتله الحسين بن علي عليهما السلام، صور على بابها رؤوسا مقطعة، وصور في دهليزها أسدا وكبشا وكلبا، وقال: أسد كالح، وكبش ناطح، وكلب نابح. فمر بالباب أعرابي فرأى ذلك فقال: أما إن صاحبها لا يسكنها إلا ليلة لا تتم. فرفع الخبر إلى ابن زياد فأمر بضرب الأعرابي وحبسه. فما أمسى حتى قدم رسول ابن الزبير إلى وجوه أهل البصرة في أخذ البيعة، ودعا الناس إلى طاعته فأجابوه، ووثبوا بابن زياد من ليلتهم، ونذر بهم فهرب من داره في ليلته تلك، واستجار بالأزد فأجاروه، ووقعت الحرب المشهورة بينهم وبين تميم بسببه، وألحقوه بالشام. وكسر الحبس وأخرج الأعرابي، وكان من قتل ابن زياد بالخازر ما كان.
من الفراسة: يقولون: عظم الجبين يدل على البله، وعرضه على قلة العقل، وصغره على لطف الحركة، واستدارته على الغضب؛ والحاجبان إذا اتصلا على استقامة دلا على تخنيث واسترخاء، وإذا تزججا منحدرين إلى طرف الأنف دلا على لطف وذكاء، وإذا تزججا نحو الصدغين دلا على طنز واستهزاء؛ والعين إذا كانت صغيرة الموق دلت على سوء خلة وخبث شمائل، وإذا وقع الحاجب على العين دل على الحسد، والعين المتوسطة في حجمها دليل فطنة وحسن خلق ومروءة، والناتئة على اختلاط عقل، والغائرة على حدة، والتي يطول تحديقها على قحة وحمق، والتي يكثر طرفها على خفة وطيش؛ والشعر على الأذن يدل على جودة السمع؛ والأذن الكبيرة المنتصبة تدل على حمق وهذيان.
كانت الفرس تقول: إذا فشا الموت في الخنازير دل على عموم العافية في الناس. وإذا فشا في الوحش أصابهم ضيقة، وإذا فشا في الفأر دل على الخصب؛ وإذا كثر نقيق الضفادع وقع موتان؛ وإذا نعب غراب فجاوبته دجاجة عم الخراب، وإذا قوقت دجاجة فجاوبها غراب خرب العمران، وإذا نزا ديك على تكأة رجل نال شرفا ونباهة، وإذا نزت عليها دجاجة فبالعكس، والدجاجة يتفاءل بذكرها.

(2/437)


حكي أنه لما ولد لسعيد بن العاص عنبسة، قال سعيد لابنه يحيى: أي شيء تنحله؟ قال: دجاجة بفراريجها، وإنما أراد احتقاره بذلك لأن أمه كانت أمة. فتفاءل سعيد وقال: إن صدق الطير ليكونن أكثركم ولدا. وكان كما تفاءل، وولده كثير بالمدينة والكوفة.
والعرب تتطير بالعطاس. قال الشاعر: (من الكامل)
أرحلت من سلمى بغير متاع ... قبل العطاس ورعتها بوداع
كان ببغداد كاتب أديب ظريف، إلا أنه لم يستكتبه أحد إلا سلط عليه الدمار، فتحاموه تطيرا منه. فطلب نصر بن منصور بن بسام كاتبا فاضلا فقيل: أصبناه لك لولا، قال: وما لولا؟ قيل: هو مشؤوم، قال: لا عدوى ولا طيرة، ائتوني به. فبره واستكتبه، فما مضت أيام إلى أن برسم نصر ومات. فقال ابن عائشة فيه: (من السريع)
آخر قتلاه إذا حصلوا ... نصر بن منصور بن بسام
وكان بالسيف يلاقيهم ... فصار يلقاهم ببرسام
ونظيره سعد حاجب عبيد الله، قال فيه البحتري: (من الكامل)
يا سعد إنك قد خدمت ثلاثة ... كل عليه منك وسم لائح
وبدأت تخدم رابعا لتبيره ... ارفق به فالشيخ شيخ صالح
يا حاجب الوزراء إنك عندهم ... سعد ولكن أنت سعد الذابح
تفاءل هشام بن عباس باسم نصر بن سيار فولاه خراسان، فزال أمر بني أمية في ولايته.
ولما طلب عامر بن إسماعيل مروان بن محمد اعترضه بالفيوم قوم من العرب، فسأل رجلا: ما اسمك؟ قال: منصور بن سعد وأنا من سعد العشيرة، فتبسم تفاؤلا واستصحبه، فظفر بمروان تلك الليلة.
قال بشير غلام حرب الراوندي للمنصور يوم قتل أبي مسلم: يا أمير المؤمنين، رأيت اليوم ثلاثة أشياء تطيرت لأبي مسلم منها، قال: وما ذاك؟ قال: ركب فوقعت قلنسوته عن رأسه، قال: الله أكبر، تبعها والله رأسه يا بشير؛ قال: وكبا به فرسه، قال: الله أكبر، كبا به والله جده وأصلد زنده؛ قال: وقال إني مقتول وإنما أخادع نفسي. فإذا رجل ينادي في الصحراء يقول لآخر: اليوم آخر الأجل بينيى وبينك، قال: الله أكبر، ذهب أجله وانقطع من الدنيا أثره.
شاعر: (من الطويل)
وسميته يحيى ليحيا فلم يكن ... إلى رد أمر الله فيه سبيل
تيممت فيه الفأل حين رزقته ... ولم أدر أن الفأل فيه يفيل
نوادر من هذا الكتاب
كان حارثة الضمري صديقا لعبد الملك بن مروان، وخرج مع ابن الزبير، فلما قتل ابن الزبير استأمن الناس وأحضر حارثة، فقال له عبد الملك: كنت مني بحيث علمت، فأعنت ابن الزبير. قال: يا أمير المؤمنين، هل رأيتني في حرب أو سباق أو اتصال إلا والفئة التي أنا فيها مغلوبة، وإنما خرجت مع ابن الزبير لتغلبه بي على رسمي. فضحك عبد الملك وقال: والله كذبت! ولكن عفوت عنك.
كان عمير الكاتب قبيح الوجه جدا، فلقي دعبلا يوما بكرة وقد خرج لحاجة. فلما رآه دعبل تطير من لقائه فقال فيه: (من الوافر)
خرجت مبكرا من سر من را ... أبادر حاجة فإذا عمير
فلم أثن العنان وقلت أمضي ... لأنك يا عمير خرا وخير
كرهت أم جعفر أصواتا من الغناء القديم فأرسلت رسولا لها يلقيها في البحر، ثم غنتها بعد ذلك جارية لها: (من الوافر)
سلام الله يا مطر عليها ... وليس عليك يا مطر السلام
فقالت: هذا أرسلوا به رسولا واحدا إلى دهلك ليلقيه في البحر خاصة.
وإنما فعلت أم جعفر هذا تطيرا على ابنها أيام محاربته المأمون. والأصوات: (من الطويل)
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما فعلت يوما بكسرى مرازبه
(من الطويل):
كليب العمري كان أكثر ناصرا ... وأيسر جرما منك ضرج بالدم
(من الطويل):
رأيت زهيرا تحت كلكل خالد ... فأقبلت أسعى كالعجول أبادره
(من الطويل):
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشر أهون من بعض
(من الخفيف):
أزجر العين كي تبكي الطلولا ... إن في القلب من كليب غليلا
خلع المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات في أول خلافته فاجتاز في الخلع بيزدن الكاتب، فقال يزدن: (من الكامل المرفل)
جاء الشقي بخلعة البكر ... كالهدي جلل ليلة النحر

(2/438)


لا تم شهر خلعته ... حتى تراه طافي الجمر
ذكر أن عبد الرحمن بن عنبسة مر يوما فإذا هو بغلام أصح الغلمان وأحسنهم، ولم يكن لعبد الرحمن ولد. فسأل عنه فقيل له: يتيم من أهل الشام، قدم أبوه العراق في بعث فقتل، وبقي الغلام ها هنا. فضمه ابن عنبسة إليه وتبناه فوقع الغلام في ما شاء من الدنيا. ومر يوما على برذون ومعه خدم على حمزة بن بيض، وحول ابن بيض عياله في يوم شات، وهم شعث غبر عراة، فقال ابن بيض: من هذا؟ فقيل يتيم ابن عنبسة، وكان اسمه صدقة، فقال: (من المنسرح)
تشعث صبياننا وما يتموا ... وأنت صافي الأديم والحدقه
فليت صبياننا لإذا يتموا ... يلقون ما قد لقيت يا صدقه
عوضك الله من أبيك ومن ... أمك في الشام بالعراق مقه
كفاك عبد الرحمن فقدهما ... فأنت في كسوة وفي نفقه
تظل في درمك وفاكهة ... ولحم طير ما شئت أو مرقه
تأوي إلى حاضن وحاضنة ... زادا على والديك في الشفقه
فكل هنيئا ما عاش ثم إذا ... مات فلغ في الدماء والسرقه
وخالف المسلمين قبلتهم ... وضل عنهم وخادن الفسقه
واستر بهذا التليل ذا خصل ... لصوته في الصهيل صهصلقه
واقطع عليه الطريق تلق غدا ... رب دنانير جمة ورقه
فلما مات عبد الرحمن أصابه ما قال ابن بيض أجمع من الفساد والسرقة وصحبة اللصوص، ثم كان آخر ذلك أنه قطع الطريق وصلب.
وخرج حمزة بن بيض يريد سفرا فاضطره الليل إلى قرية عامرة كثيرة الأهل والمواشي من الشاء والبقر، كثيرة الزرع، فلم بصنعوا به خيرا، فغدا عليهم وقال: (من الكامل)
لعن الإله قرية يممتها ... فأضافني ليلا إليها المغرب
الزارعين وليس لي زرع بها ... والحالبين وليس لي ما أحلب
فلعل ذاك الزرع يردي أهله ... ولعل ذاك الشاء يوما يجرب
ولعل طاعونا يصيب علوجها ... ويصيب ساكنها الزمان فتخرب
فلم يمر بتلك القرية سنة حتى أصابهم الطاعون فباد أهلها وخربت. فمر بها ابن بيض فقال: زعمتم أني لا أعطى أمنيتي؟ قالوا: وأبيك لقد أعطيتها، فلو كنت تمنيت الجنة لكان خيرا لك. قال: أنا أعلم بنفسي، لا أتمنى ما لست له بأهل، ولكني أرجو رحمة ربي.
تراءى المأمون بهلال شهر رمضان وأخوه أبو عيسى معه، فقال أبو عيسى: (من الطويل)
دهاني شهر الصوم لا كان من شهر ... ولا صمت شهرا بعده آخر الدهر
فلو كان يعديني الإمام بقدرة ... لاستعديت جهدي على الشهر
فناله بعقب هذا القول صرع، فكان يصرع في اليوم مرات، إلى أن مات ولم يبلغ شهرا مثله.
خرج بعض ملوك الفرس إلى الصيد، فأول من استقبله أعور فأمر بحبسه وضربه، ثم خرج وتصيد صيدا كثيرا. فلما عاد استدعى الأعور وأمر له بصلة؛ فقال الأعور: لا حاجة لي في صلتك، ولكن إيذن لي في الكلام، فقال: تكلم، فقال: تلقيتني فضربتني وحبستني، وتلقيتك فصدت وسلمت فأينا أشأم؟ فضحك وخلاه.
بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله
الحمد لله مرسل الرياح ومنشئها، ومحيي العظام الرميم ومنشرها، ومسهل الأمور بعد العسر وميسرها، ومصرف الأقدار على من يشاء ومدبرها؛ جعل من كل ضيق وحرج مخرجا، ولكل كرب وهم فرجا، عقب من الكره خيرا كثيرا، وكان أكرم عاقب، ولم يجعل البلاء علينا ضربة لازب. أحمده على تصرف بلواه، وأشهد أن لا إله سواه، وأن محمدا رسوله الأمين، أيده بالكتاب المبين، وأمده بالأنصار والمهاجرين، فآمنوا به ونصروه، وجاهدوا معه وعزروه، وكانوا مفاتيح الإيمان والتصديق، وفي كل ملحمة فكاكا لحلق المضيق، صلى الله عليه وعليهم ما طرد عسرا يسر ونفى، قبل كريم صفوح عذرا وعفا.
الباب السابع والثلاثون
ما جاء في اليسر بعد العسر
والرخاء بعد الضر
مما يليق بهذا الباب من كتاب الله عز وجل: " سيجعل الله بعد عسر يسرا " وقوله تعالى: " وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته " وقوله تعالى: "

(2/439)


حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء " وقوله سبحانه: " وهو الذي يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأخرجنا به من كل الثمرات " .
ومن أخبار الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " اشتدي أزمة تنفرجي " .
ومما ينسب إلى كلامه صلى الله عليه وسلم قوله لعلي عليه السلام: " إن النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، وإن مع العسر يسرا " .
وقال عليه السلام لحبة وسواء ابني خالد: " لا تيئسا من روح الله ما تهززت رؤوسكما، فإن أحدكم يولد أحمر لا قشر عليه ثم يكسوه الله ويرزقه " .
وقال علي عليه السلام: عند تناهي الشدة تكون الفرجة، وعند تضايق حلق البلاء يكون الرخاء.
ومن كلام الحكماء: إن تيقنت لم يبق الهم.
وأنشد أبو حاتم: (من الوافر)
إذا اشتملت على اليأس القلوب ... وضاق بما به الصدر الرحيب
وأوطئت المكاره واطمأنت ... وأرست في مكامنها الخطوب
ولم ير لانكشاف الضر وجها ... ولا أغنى بحيلته الأريب
أتام على قنوط منك غوث ... يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت ... فمقرون بها فرج قريب
وقال عبد بن الزبير الأسدي: (من البسيط)
لا أحسب الشر جارا لا يفارقني ... ولا أحز على ما فاتني الودجا
ولا نزلت من المكروه منزلة ... إلا وثقت بأن ألقى لها فرجا
وقال محمد بن بشير: (من البسيط)
إن الأمور إذا انسدت مسالكها ... فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجا
لا تيأسن وإن طالت مطالبه ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
آخر: (من المنسرح)
يا قارع الباب رب مجتهد ... قد أدمن القرع ثم لم يلج
فاطو على الهم كشح مصطبر ... فآخر الهم أول الفرج
أنشد إبراهيم بن العباس قول الشاعر: (من الخفيف)
ربما تجزع النفوس من الأم ... ر له فرجة كحل العقال
فقال إبراهيم بديهة: (من الكامل)
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكان يظنها لا تفرج
فممن خرج من شدته ما روي أن الوليد بن عبد الملك كتب إلى صالح بن عبد الله المري، عامله على المدينة، أن أبرز الحسن بن الحسن بن علي وكان محبوسا واضربه في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة سوط. فأخرجه إلى المسجد واجتمع الناس، وصعد صالح ليقرأ عليهم الكتاب ثم ينزل فيأمر بضربه. فبينا هو يقرأ الكتاب إذ جاء علي بن الحسين عليه السلام، فأفرج له الناس حتى انتهى إلى الحسن، فقال: يا بن عم! مالك! ادع الله تعالى بدعاء الكرب يفرج الله عنك، فقال: ما هو يا بن عم؟ قال: قل لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، سبحان الله رب السماوات والسبع ورب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين. قال: وانصرف علي وأقبل الحسن يكررها، فلما فرغ صالح من قراءة الكتاب نزل، قال: أرى سحنة رجل مظلوم؛ أخروا أمره، وأنا أراجع أمير المؤمنين في أمره، ثم أطلق بعد أيام.
وروي أن عبد الله بن العباس رضي الله عنهما قال: علمت دعاء الكرب في منامي، وهو: يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمائر الصامتين، فإن لكل مسألة عندك جوابا عتيدا وسمعا حاضرا، وإن عندك لكل صاحب علما محيطا، أسألك بأياديك الفاضلة، ورحمتك الواسعة، أن تفعل بي كذا وكذا.
وجد في كنيسة للنصارى بالشام بين الصور مكتوب: يقول صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، نزلت هذه الكنيسة يوم كذا من شهر كذا من سنة ثماني عشرة ومائة، وأنا مكبل بالحديد محمول إلى أمير المؤمنين هشام بن عبد الملك: (من البسيط)
ما سد باب ولا ضاقت مذاهبه ... إلا أتاني وشيكا بعده ظفر
فبعد أربع عشرة سنة نزل صالح بتلك الكنيسة محاربا لمروان بن محمد، فكان من ظفر بني هاشم ببني مروان ما كان.

(2/440)


قال الربيع: لما حبس المهدي موسى بن جعفر رأى في النوم عليا عليه الصلاة والسلام وهو يقول: يا محمد " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم " قال الربيع: فأرسل إلي ليلا فراعني ذلك، فجئته فإذا هو يقرأ هذه الآية، وكانت أحسن الناس صوتا. فعرفني خبر الرؤيا وقال: علي بموسى بن جعفر، فجئته به، فعانقه وأجلسه إلى جنبه وقال: يا أبا الحسن إني رأيت أمير المؤمنين قرأ علي كذا، أفتؤمنني أن تخرج علي أو على أحد من ولدي؟ فقال: والله ما ذاك من شأني. قال: صدقت، يا ربيع! أعطه ثلاثة آلاف دينار ورده إلى أهله إلى المدينة. قال الربيع: فأحكمت أمره ليلا فما أصبح إلا على الطريق خوف العوائق.
قال أبو الزبير المنذر بن عمرو وكان كاتبا للوليد بن يزيد: أرسل إلي الوليد صبيحة اليوم الذي أتته فيه الخلافة فقال: يا أبا الزبير، ما أتت علي ليلة من هذه الليلة، عرضت لي أمور وحدثت نفسي فيها بأمور، وهذا الرجل قد أولع بي، فاركب بنا نتنفس. فركب وسرت معه، فسار ميلين ووقف على تل، فجعل يشكو هشاما، إذ نظر إلى رهج قد أقبل، وسمع قعقعة البريد، فقال: أعوذ بالله من شر هشام، وقال: إن هذا البريد قد أقبل بموت وحي أو ملك عاجل؛ فقلت: لا يسؤك الله أيها الأمير، بل يسرك ويبقيك؛ إذ بدا رجلان على البريد مقبلان، أحدهما مولى لآل أبي سفيان بن حرب، فلما قربا أتيا الوليد يعدوان حتى سلما عليه بالخلافة، فوجم، وجعلا يكرران التسليم عليه بالخلافة، فقال: ويحكما ما الخبر؟ أمات هشام؟ قالا: نعم، فقال: مرحبا بكما! ما معكما؟ قالا: كتاب سالم مولاك. فقرأ الكتاب وانصرفنا. وسأل عن عياض بن مسلم كاتبه الذي كان هشام حبسه وضربه، فقالا: لم يزل محبوسا حتى نزل بهشام أمر الله تعالى. فلما صار إلى حال لا ترجى الحياة لمثله معها، أرسل عياض إلى الخزان: احتفظوا بما في أيديكم، فلا يصلن أحد إلى شيء. فأفاق هشام إفاقة، فطلب شيئا فمنعه، فقال: أرانا كنا خزانا للوليد؛ وقضى من ساعته. فخرج عياض من السجن ساعة قضى هشام، فختم الأبواب والخزائن؛ وأمر بهشام فأنزل عن فراشه، ومنعهم أن يكفنوه من الخزائن، فكفنه غالب مولى هشام، ولم يجدوا قمقما حتى استعاروه.
إسماعيل بن يسار: (من البسيط)
وكل كرب وإن طالت بليته ... يوما تفرج غماه وتنكشف
وقال عبيد بن الحر الجعفي: (من البسيط)
الأمن والخوف أيام مداولة ... بين الأنام وبعد الضيق متسع
وقال مسكين الدارمي: (من البسيط)
لم يجعل الله في قلبي حين ينزل بي ... هم يضيقني ضيقا ولا حرجا
ما أنزل الله بي أمرا فأكرهه ... إلا سيجعل لي من بعده فرجا
وقال آخر: (من الطويل)
وما عسرة فاصبر لها إن لقيتها ... بكائنة إلا سيتبعها يسر
فلا تقتلن النفس هما وحسرة ... فحشو الليالي إن تأملتها غدر
هجا يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري بني زياد في قصة كانت بينهم طويلة، وهرب منهم إلى معاوية بعد أن كان عباد بن زياد قد حبسه بخراسان. فرده معاوية إلى عبيد الله بن زياد، وقال: اشف نفسك منه بما يشد سلطانك ولا تتجاوز إلى نفسه، واعلم أنها عزمة مني. فسقاه عبيد الله نبيذا حلوا قد خلط بالشبرم حتى سلح، وقرن به هرا وخنزيرا وطاف به في السواق، وجعل يسلح والصبيان يصيحون وراءه؛ ثم أنفذه إلى أخيه عباد بخراسان. وكان ابن مفرغ، حيث هجاهم وتنقل من خوفه منهم، يكتب هجاءهم على أبواب القرى التي ينزلها؛ فأمر الموكلين الذين معه أن يلزموه بحك تلك الكتابة بأظفاره، فكان يفعل ذلك حتى ذهبت أظفاره، فكان يمحو بعظام أصابعه ودمه يسيل؛ ومنعه أن يصلي إلى الكعبة وألزمه الصلاة إلى قبلة النصارى للمشرق، وسلمه الموكلون إلى عباد فحبسه وضيق عليه. فذلك قول ابن مفرغ: (من الطويل)
قرنت بخنزير وهر وكلبة ... زمانا وشان الجلد ضرب مشرب
وجرعتها صهباء في غير لذة ... تصعد في الجثمان ثم تصوب
وأطعمت ما لا إن يحل لآكل ... وصليت شرقا ببيت مكة مغرب
فلو لحمي إذ هوى لعبت به ... كرام الملوك أو أسود وأذؤب
لهون وجدي أو لزلت بصيرتي ... ولكنما أودت بلحمي أكلب

(2/441)


أعباد ما للؤم عنك محول ... ولا لك أم في قريش ولا أب
وقل لعبيد الله ما لك والد ... بحق ولا يدري امرؤكيف تنسب
فلما طال مقام ابن مفرغ في السجن، استأجر رسولا إلى دمشق وقال له: إذا كان يوم الجمعة فقف على درج جامع دمشق، ثم اقرأ هذين البيتين بأرفع ما يمكنك من صوت. وكتب له في رقعة وهما: (من البسيط)
أبلغ لديك بني قحطان قاطبة ... عضت بأير أبيها سادة اليمن
أضحى دعي زياد فقع قرقرة ... يا للعجائب يلهو بابن ذي يزن
ففعل الرسول ما أمره به. فحميت اليمانية وغضبوا له، ودخلوا على معاوية فسألوه فيه، فدافعهم فيه، فقاموا غضابا، وعرف ذلك في وجوههم، فردهم ووهبه لهم، ووجه رجلا من بني أسد يقال له حجامبريدا إلى عباد، وكتب له عهدا وأمره أن يبدأ بالحبس فيخرج ابن مفرغ ويطلقه قبل أن يعلم عباد بما قدم له فيغتاله. ففعل ذلك، فلما خرج من الحبس قربت له بغلة من بغال البريد فركبها وقال: (من الطويل)
عدس! ما لعباد عليك إمارة ... نجوت وهذا تحملين طليق
وإن الذي نجى من الكرب بعد ما ... تلاحم في درب عليك مضيق
أتاك بحجام فأنجاك فالحقي ... بأرضك لا يحبس عليك طريق
لعمري قد أنجاك من هوة الردى ... إمام وحبل للإمام وثيق
سأشكر ما أوليت من حسن نعمة ... ومثلي لشكر المنعمين حقيق
فلما دخل على معاوية بكى، وقال: ركب مني ما لم يركب من مسلم قط على غير حدث في الإسلام، ولا خلع يد من طاعة ولا جرم، فقال: ألست القائل: (من الوافر)
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... مغلغلة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عف ... وترضى أن يقال أبوك زان
فاشهد أن رحمك من زياد ... كرحم الفيل من ولد الأتان
واشهد أنها ولدت زيادا ... وصخر من سمية غير دان
فقال: والذي عظم حقك يا أمير المؤمنين، ما قلته، ولقد بلغني أن عبد الرحمن ابن الحكم قاله ونسبه إلي، قال أفلم تقل: (من الوافر)
شهدت بأن أمك لم تباشر ... أبا سفيان واضعة القناع
ولكن كان أمر فيه لبس ... على وجل شديد وارتياع
أولست القائل: (من المنسرح)
إن زيادا ونافعا وأبا ... بكرة عندي من أعجب العجب
إن رجالا ثلاثة خلقوا ... في رحم أنثى وكلهم لأب
ذا قرشي كما يقول وذا ... مولى وهذا بزعمهعربي
في أشعار كثيرة قلتها في زياد وبنيه؟ اذهب فقد عفوت عن جرمك، ولو إيانا تعامل لم يكن شيء مما كان، فاسكن أي ارض أحببت. فاختار الموصل فنزلها.

(2/442)


قال مسلم بن الوليد: كنت يوما جالسا في دكان خياط بإزاء منزلي إذ رأيت طارقا بابي، فقمت إليه فإذا هو صديق لي من أهل الكوفة قد قدم من قم، فسررت به، وكأن إنسانا لطم وجهي لأنه لم يكن عندي درهم واحد أنفقه عليه. فقمت فسلمت عليه وأدخلته منزلي، وأخذت خفين كانا لي أتجمل بهما، فدفعتهما إلى جاريتي، وكتبت معها إلى بعض معارفي في السوق أسأله أن يبيع الخفين ويشتري لحما وخبزا بشيء سميته. فمضت الجارية وعادت إلي وقد اشترت ما حددته لهاوقد باع الخف بتسعة دراهم، وكانت كأنهاجاءتني بخفين جديدين. فقعدت أنا وضيفي نطبخ وسألت جارا أن يسقينا قارورة نبيذ، فوجه بها إلي، وأمرت الجارية أن تغلق الباب. فإنا لجالسان نطبخ حتى طرق الباب طارق، فقلت للجارية: انظري من هذا. فنظرت من شق الباب، فإذا رجل عليه سواد وشاشية ومنطقة ومعه شاكري؛ فخبرتني بموضعه فأنكرت أمري، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: لست بصاحب دعارة ولا للسلطان علي سبيل. ففتحت الباب وخرجت إليه، فنزل عن دابته وقال: أنت مسلم؟ فقلت: نعم. قال: كيف لي بمعرفتك؟ قلت: الذي دلك إلى منزلي يصحح لك معرفتي، فقال لغلامه: امض إلى الخياط فاسأله عنه. فمضى إليه فسأله عني فقال: نعم هو مسلم بن الوليد. فأخرج لي كتابا من خفه وقال: هذا كتاب الأمير يزيد بن مزيد إلي أمرني ألا أفضه إلا عند لقائك. فإذا فيه: إذا لقيت مسلم بن الوليد فادفع إليه هذه العشرة آلاف درهم التي أنفذتها تكون له في منزله، وادفع إليه ثلاثة آلاف درهم نفقة ليتحمل بها إلينا. فأخذت الثلاثة آلاف والعشرة آلاف ودخلت منزلي، والرجل معي. فأكلنا ذلك الطعام، وازددت منه ومن الشراب، واشتريت فاكهة واتسعت ووهبت لضيفي من الدراهم ما يهدي به هدية لعياله. وأخذت في الجهاز، ثم ما زلت معه حتى صرنا بالرقة إلى باب يزيد بن مزيد. فدخل الرجل فإذا هو أحد حجابه، فوجده في الحمام، فخرج إلي فجلس معي. ثم خرج الحاجب فأدخلني إليه، فإذا هو على كرسي جالس وعلى رأسه وصيفة بيدها غلاف مرآة ومشط يسرح لحيته. فقال لي: يا مسلم، ما الذي أبطأ بك عنا؟ فقلت له: أيها الأمير قلة ذات اليد. فأنشدته قصيدتي التي مدحته بها: (من البسيط)
أجررت حبل خليع في الصبا غزل
فلما صرت إلى قولي: (من البسيط)
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه
قال للجارية: انصرفي فقد حرم مسلم علينا الطيب. فلما فرغت من القصيدة قال لي: يا مسلم، أتدري ما الذي حداني على أن وجهت إليك؟ قلت: لا والله ما أدري. فقال: كنت عند الرشيد منذ ليال أغمز رجليه إذ قال: يا يزيد من القائل فيك: (من البسيط)
سل الخليفة سيفا من بني مطر ... يمضي فيخترم الأجسام والهاما
كالدهر لا ينثني عما يهم به ... قد أوسع الناس إنعاما وإرغاما
فقلت: لا والله ما أدري، فقال الرشيد: يا سبحان الله! إنك مقيم على أعرابيتك، ويقال فيك مثل هذا الشعر ولا تدري من قائله؟ فسألت عن قائله فأخبرت أنك أنت هو؛ فقم حتى أدخلك على أمير المؤمنين. ثم قام فدخل إلى الرشيد، فما علمت حتى خرج علي الآذن، فأدخلت على الرشيد فأنشدته ما لي فيه من الشعر، فأمر لي بمائتي ألف درهم. فلما انصرفت إلى يزيد أمر لي بمائة وتسعين ألفا وقال لي: لا يجوز لي أن أعطيك مثل ما أعطاك أمير المؤمنين، وأقطعني إقطاعات تبلغ غلتها مائتي درهم.
قال المستعين: كان المنتصر قد جعلني في ناحية أخيه موسى الأحدب، وكان لأبيه وأمه وأحسن إلي. فلما قتل اغتممت ورأيت موسى مسرورا طامعا في الخلافة، فانصرفت إلى بيتي مغموما. فطرقني رسول أوتامش، ففزعت لذلك، وودعت أمي وخرجت مع جماعة من الموالي، حتى أدخلت إلى حجرة، وجاءني كاتب أوتامش، فسكن مني وجعل يؤنسني ويخدمني، فأصبحت صائما، وأخرجوني في عشية ذلك اليوم فبايعوني.

(2/443)


قال الوضاح بن خيثمة: لما ولي عمر بن عبد العزيز أمرني فحبست يزيد بن أبي مسلم، فلما مات عمر ولي يزيد بن أبي مسلم إفريقية ونذر دمي. وكنت أتخبأ منه، فوقعت في يده، فقال: طال والله ما نذرت دمك. فقلت: وأنا والله طال ما استعذت بالله منك، قال: فلا والله ما أعاذك الله مني، والله لو أن ملك الموت سابقني إلى قبض روحك لسبقته. قال: فأمر بي فكتفت ووضعت في النطع، وقام السياف وأقيمت الصلاة للعصر وقام يصلي، فما فرغ من صلاته حتى قطعإربا إربا، وحلكتافي، وقالوا: انطلق.
قيل: وكان سبب قتله أن جنده كانوا من البربر، فوسم في يدي كل واحد في إحدى يديه حرسي وفي الأخرى اسم الرجل؛ فأنفوا من ذلك فوثبوا عليه فقتلوه.
قال إسحاق بن إبراهيم المصعبي: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ذات ليلة وهو يقول: أطلق القاتل. فارتعت لذاك ودعوت بالشموع ونظرت في الكتب الواردة لأصحاب السجون، فلم أجد كتابا فيه ذكر قاتل، فأمرت بإحضار السندي وعياش، وسألتهما هل رفع إليهما أحد ادعي عليه القتل؟ فقال لي عياش: نعم، وقد كتبنا بخبره. فأعدت النظر فوجدت الكتاب في أضعاف القراطيس، وإذا الرجل قد شهد عليه بالقتل وأقر به. فأمرت بإحضاره، فلما رأيت ما به من الارتياع قلت له: إن صدقتني أطلقتك. فانبرى يحدثني، وذكر أنه كان هو وعدة من أصحابه يرتكبون كل عظيمة ويستحلون كل محرم، وأنه كان اجتماعهم في منزل بمدينة أبي جعفر المنصور يعكفون فيه على كل بلية؛ فلما كان هذا اليوم جاءتنا عجوز كانت تختلف للفساد ومعها جارية بارعة الجمال، فلما توسطت الجارية الدار صرخت صرخة عظيمة ثم أغمي عليها؛ فلما أفاقت قالت: الله! الله في! فإن هذه العجوز خدعتني وأعلمتني أن في جيرانها قوما لهم حق عظيم لم يكن مثله، وشوقتني إلى النظر إلى ما فيه، فخرجت معها واثقة بقولها، فهجمت بي عليكم، وجدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمي فاطمة وأبي الحسين بن علي، فاحفظوهم في! قال: فكأنها أغرتهم بنفسها. فقمت دونها ومنعت منها، وقاتلت من أرادها، ونالتني جراحات أظهرها فرأيتها، قال: وعمدت إلى أشدهم كان في أمرها، فقتلته وخلصت الجارية آمنة مما خافته؛ فسمعتها تقول: سترك الله كما سترتني، وكان لك كما كنت لي! وسمع الجيران فدخلوا إلينا، والرجل متشحط بدمائه، والسكين في يدي، فرفعت على هذه الحال. قال إسحاق: فقلت له قد وهبتك لله ورسوله، قال: فوحق الذي وهبتني لهما لا عاودت معصية ولا دخلت في ريبة أبدا.
أمر الحجاج بإحضار رجل من السجن، فلما حضر أمر بضرب عنقه، فقال: يا أيها الأمير أخرني إلى غد، قال: وأي فرج لك في تأخير يوم واحد؟ ثم أمر برده إلى السجن. فسمعه الحجاج وهو يذهب به إلى السجن يقول: (من الطويل)
عسى فرج يأتي به الله إنه ... له كل يوم في خليقته أمر
فقال الحجاج: والله ما أخذه إلا من كتاب " كل يوم هو في شأن " وأمر بإطلاقه.
قال بعض جلساء المعتمد: كنا بين يديه ليلة، فحمل عليه النبيذ، فجعل يخفق نعاسا، وقال: لا تبرحوا أنتم. ثم نام مقدار نصف ساعة، وانتبه كأنه ما شرب شيئا، فقال: أحضروني ممن في الحبس رجلا يعرف بمنصور الجمال، فأحضر فقال: مذ كم أنت في السجن محبوس؟ قال: مذ ثلاث سنين؛ قال: فاصدقني عن خبرك؛ قال: أنا رجل من أهل الموصل كان لي جمل أحمل عليه وأعود بأجرته على عائلتي، فضاق المكسب الموصل علي، فقلت أخرج إلى سر من رأى فإن العمل ثم أكثر؛ فخرجت فلما قربت منها إذا جماعة من الجند قد ظفروا بقوم يقطعون الطريق، وكتب صاحب البريد بخبرهم وكانوا عشرة، فأعطاهم واحد من العشرة مالا على أن يطلقوه، فأطلقوه وأخذوني مكانه، وأخذوا جملي، فسألتهم بالله عز وجل، وعرفتهم خبري فأبوا وحبسوني معهم، فمات بعض القوم وأطلق بعضهم وبقيت وحدي. فقال المعتمد: أحضروني خمسمائة دينار، فجاءوا بها، فدفعها إليه وأجرى له ثلاثين دينارا في كل شهر، وقال: اجعلوا إليه أمر جمالنا. ثم أقبل علينا وقال: رأيت الساعة النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، وقال لي: يا أحمد وجه الساعة إلى الحبس فأخرج منصورا الجمال فإنه مظلوم، وأحسن إليه. ففعلت ما رأيتم، ثم نام.

(2/444)


قال المدائني: أرسل زياد إلى رجل من بني تميم من قعدة الخوارج، فاستدعاه فجاءه خائفا. فقال له زياد: ما منعك من إتياني؟ قال: قدمت علينا فقلت: إني لا أعدكم خيرا ولا شرا إلا وفيته وأنجزته، وقلت من كف يده ولسانه لم اعرض إليه؛ وكففت يدي ولساني وجلست في بيتي. فأمر له بصلة. فخرج إلى الناس ومعه الجائزة، وهم يتوقعون خروجه مقتولا. فقالوا: ما قال لك الأمير؟ فقال: ما كلكم أستطيع أن أخبره ما كان بيننا، ولكن وصلت إلى رجل لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فرزق الله منه خيرا.
حدث منارة صاحب الخلفاء قال: رفع إلى هارون الرشيد ابن دمشق رجلا من بقايا بني أمية عظيم الجاه، واسع الحال، كثير المال والأملاك، مطاعا في البلد، له جماعة أولاد ومماليك وموال يركبون الخيل ويحملون السلاح ويغزون الروم، وأنه سمح جواد كثير البذل والضيافة، وأنه لا يؤمن منه فتق يتعذر رتقه، فعظم ذلك على هارون. قال منارة: وكان وقوف الرشيد على هذا إذ هو بالكوفة في بعض خرجاته إلى الحج، وقد عاد من الموسم وبايع لأولاده، فدعاني وهو خال فقال لي: قد دعوتك لأمر يهمني، وقد منعني النوم، فانظر كيف تعمل وكيف تكون. ثم قص علي خبر الأموي، وقال: اخرج الساعة فقد أعددت لك الجمازات وأزحت علتك في الزاد والنفقة والآلات وضم إليك مائة غلام واخرج في النوبة، وهذا كتابي إلى أمير دمشق، وهذه قيود إذا دخلت البلد فابدأ بالرجل. فإن سمع وأطاع فقيده بها وجئني به، وإلا فتوكل أنت ومن معك به حتى لا يهرب، وأنفذ الكتاب إلى أمير البلد ليركب في جيشه، فاقبضوا عليه وجئني به؛ وقد أجلتك لذهابك ستا ولعودك ستا ويوما لمقامك، وهذا محمل يجعل في شقه إذا قيدته، وتقعد أنت في الشق الآخر، ولا تكل حفظه إلى غيرك حتى تأتيني به في اليوم الثالث عشر من خروجك؛ فإذا دخلت داره فتفقدها وجميع ما فيها وولده وأهله وحاشيته وغلمانه وما يقولون، وقدر النعمة والحال والمحل، واحفظ ما يقوله الرجل حرفا بحرف من ألفاظه منذ وقوع طرفك عليه إلى أن تأتيني به، وإياك أن يشذ عليك شيء من أمره.
قال منارة: فخرجت فركبت الإبل وسرت على ما أمر لي إلى أن وصلت إلى دمشق في أول الليلة السابعة، وأبواب البلد مغلقة. فكرهت طروقها، فنمت بظاهر البلد إلى أن فتح من غد، فدخلت على هيئتي حتى أتيت باب دار الرجل، وعليه صفف عظيمة وحاشية كثيرة، فلم استأذن ودخلت بغير إذن. فلما أن رأى ذلك القوم سألوا بعض من معي عني، فقالوا: هذا منارة رسول أمير المؤمنين الرشيد إلى صاحبكم، فسكتوا. فلما صرت في صحن الدار نزلت ودخلت مجلسا رأيت فيه قوما جلوسا، فظننت الرجل فيهم. فقاموا ورحبوا بي وأكرموني، فقلت: أفيكم فلان؟ قالوا: لا، نحن أولاده وهو في الحمام. قلت: فاستعجلوه. فمضى بعضهم يستعجله وأنا أتفقد الدار والحال والحاشية، فوجدتها قد ماجت بأهلها موجا شديدا. فلم أزل كذلك حتى خرج الرجل بعد أن أطال، فاشتد خوفي وقلقي من أن يتوارى، إلى أن رأيت شيخا قد أقبل من الحمام يتمشى في الصحن وحوله جماعة كهول وأحداث حسان وهم أولاده وغلمان كثير، فعلمت أنه الرجل. فجاء حتى جلس وسلم علي سلاما خفيفا وسألني عن أمير المؤمنين واستقامة أمر حضرته، فأخبرته بما وجب. وما قضى كلامه حتى جاءوه بأطباق فاكهة، فقال لي: تقدم يا منارة، فقلت: ما بي إلى ذلك حاجة. فلم يعاودني وأكل هو والحاضرون عنده، ثم غسل يده، ودعا بالطعام فجاءوه بمائدة حسنة عظيمة لم أر مثلها إلا في دار الخليفة، فقال: تقدم يا منارة، ساعدنا على الأكل. وهو لا يزيدني على أن يدعوني باسمي كما يدعوني الخليفة. فامتنعت فما عاودني. وأكل هو وأولاده وكانوا تسعة، عددتهم وجماعة كثيرة من أصحابه وحاشيته وجماعة من أولاد أولاده، وتأملت أكله في نفسه، فوجدته أكل الملوك، ووجدت جأشه رابطا، وذلك الاضطراب الذي كان في داره قد سكن. ووجدته لا يرفع شيء قد جعل على المائدة إلا نهب. وقد كان غلمانه لما نزلت الدار أخذوا جمالي وغلماني فغدوا بهم إلى دار له فما طاقوا ممانعتهم، وبقيت وحدي ليس بين يدي إلا خمسة أو ستة منهم كانوا وقوفا على رأسي. فقلت في نفسي هذا جبار عنيد، فإن امتنع علي من الشخوص فأنا ومن معي هالكون.

(2/445)


فجزعت ولا سبيل لإعلام أمير البلد، وإلى أن يلحقني أمير البلد لا أملك لنفسي دفع ضرر يريده بي، وذاك أني استربت باستخفافه بي، وتهاونه ودعائه لي باسمي، ولا يفكر في امتناعي من الأكل، ولا يسأل عما جئت له، بل أكل مطمئنا. وأنا أفكر في ذلك إذ فرغ من طعامه وغسل يده، ودعا ببخور فتبخر، وقام إلى الصلاة فصلى وطول، وأكثر من الدعاء والابتهال، ورأيت صلاته حسنة، فلما انفتل من المحراب أقبل علي وقال: ما أقدمك يا منارة؟ قلت: أمر لك من أمير المؤمنين. فأخرجت الكتاب ودفعته إليه ففضه وقرأه، فلما استتم قراءته دعا أولاده وحاشيته، فاجتمع منهم خلق كثير، فلم أشك إلا أنه يريد أن يوقع بي، فلما تكاملوا ابتدأ فحلف أيمانا مغلظة، فيها الطلاق والحج والصدقة والوقف والحبس، إن اجتمع منهم اثنين في موضع واحد إلى أن ينكشف له أمر يعمل عليه. وقال: هذا كتاب أمير المؤمنين يأمرني بالمصير إلى بابه، ولست أقيم بعد هذا ولا لحظة واحدة لأنظر في أمري مسارعة إلى أمره؛ فاستوصوا بمن ورائي من الحرم، وما بي حاجة إلى أن يصحبني غلام. هات أقيادك يا منارة. فدعوت بها وكانت في سفط، وأحضرت حدادا ومد ساقيه فقيدته، وأمرت غلماني حتى حصل في المحمل، وركبت في الشق الآخر، وسرت من وقتي لم ألق أمير البلد ولا غيره، وسرت بالرجل ليس معه أحد إلى أن صرنا بظاهر دمشق، فابتدأ يحدثني بانبساط حتى انتهينا إلى بستان حسن بالغوطة. فقال لي: أترى هذا؟ قلت: نعم، قال: إنه لي، وفيه من غرائب الأشجار كيت وكيت، ثم انتهى إلى آخر فيه مثل ذلك، ثم انتهينا إلى قرى حسان سرية، فأقبل يقول: هذا لي، ويصف كل شيء من ذلك. فاشتد غيظي منه فقلت له: علمت أني شديد التعجب، قال: ولم تعجب؟ قلت: ألست تعلم أن أمير المؤمنين قد أهمه أمرك حتى أرسل إليك من انتزعك من بين أهلك وولدك ومالك، وأخرجك عن جميع مالك وحيدا فريدا مقيدا، لا تدري إلى ما تصير إليه ولا كيف تكون، وأنت فارغ البال من هذا وتصف بساتينك وقراك وضياعك، هذا بعد أن رأيتني قد جئت وأنت تعلم فيم جئت، بل أنت ساكن الجأش مطمئن القلب، ولقد كنت عندي شيخا فاضلا. فقال لي مجيبا: إنا لله وإنا إليه راجعون! أخطأت فراستي فيك، قدرتك رجلا كامل العقل وأنك ما حللت من الخلفاء هذا المحل إلا بعدما عرفوك بذلك، فإذا عقلك وكلامك يشبه كلام العوام وعقولهم، والله المستعان! أما قولك في أمير المؤمنين وإزعاجه لي وإخراجه إياي إلى بابه على صورتي هذه فإني على ثقة بالله عز وجل الذي بيده ناصية كل شيء، ولا يملك شيء لنفسه ضرا ولا نفعا ولا لغيره إلا بإذن الله ومشيئته، ولا ذنب لي عند أمير المؤمنين أخافه، وبعد فإذا عرف أمري وعرف سلامتي وصلاح ناصيتي، وأن الحسدة والأعداء رموني عنده بما لست في طريقته، وتقولوا علي الأكاذيب الباطلة، لم يستحل دمي وتحرج من أذيتي وإزعاجي، فردني مكرما أو أقامني ببابه معظما. وإن كان قد سبق في علم الله تعالى أن تبدر إلي منه بادرة سوء وقد حضر أجلي، وحان سفك دمي على يده، فلو اجتهدت الملائكة والأنبياء وأهل الأرض والسماء على فوت ذلك وتزحزحه عني ما استطاعوه؛ فلم أتعجل الهم والغم وأتسلف الفكر فيما قد فرغ منه؛ وإني أحسن الظن بالله عز وجل الذي خلق ورزق، وأمات وفطر، وجبل وأحسن وأجمل، وقد كنت أظن أن مثلك يحسن ويعرف هذا؛ والآن قد عرفتك حق معرفتك، وعلمت حد فهمك، فإني لا أكلمك بعد هذا حتى تفرق حضرة أمير المؤمنين بيني وبينك. ثم أعرض عني فما سمعت له لفظة بغير التسبيح والقرآن إلا طلب الماء أو حاجة تجري مجراه، حتى شارف الكوفة في اليوم الثالث عشر بعد الظهر. وإذا النجب قد استقبلتني على فراسخ من الكوفة يتحسسون خبري؛ فحين رأوني رجعوا عني متقدمين بالخبر إلى أمير المؤمنين. ودخلت إلى الرشيد فقبلت الأرض بين يديه ووقفت. قال: هات ما عندك، وإياك أن تغفل منه لفظة واحدة. فسقت الحديث من أوله إلى آخره، حتى انتهيت إلى ذكر الفاكهة والطعام والغسل والطهور والبخور والصلاة، وما حدثت به نفسي من امتناعه، والغضب يظهر في وجهه ويتزايد، حتى انتهيت إلى فراغ الأموي من الصلاة والتفاته إلي ومسألته إياي عن سبب قدومي، ودفعي الكتاب إليه، ومبادرته إلى أمر ولده وأسبابه وأهله وأصحابه وخدمه ألا يتبعه أحد منهم، وصرفه إياهم، ومد رجله حتى أقيده. فما زال وجه

(2/446)


الرشيد يسفر، فلما انتهيت إلى ما خاطبني به عند توبيخي إياه، فقال: صدق والله! ما هذا إلا رجل محسود على النعمة مكذوب عليه؛ ولعمري لقد أزعجناه وآذيناه وأرعبناه وأرعبنا أهله، فبادر بنزع أقياده عنه، وأتني به. فخرجت فنزعت قيوده وأدخلته إلى الرشيد. فما هو أن رآه حتى رأيت الحياء يجول في وجه الرشيد. فدنا الأموي فسلم بالخلافة ووقف، فرد عليه السلام ردا جميلا، وأمره بالجلوس فجلس. وأقبل عليه الرشيد يسائله عن حاله، ثم قال له: بلغنا عنك فضل هيئة، وأمور أحببنا أن نراك معها، ونسمع كلامك فاذكر حاجتك، فأجاب الأموي جوابا جميلا وشكر ودعا وقال: أما حاجتي فلا حاجة لي إلا واحدة. قال: مقضية فما هي؟ قال: يا أمير المؤمنين، تردني إلى بلدي وأهلي وولدي، قال: نحن نفعل ذلك، ولكن سل ما تحتاج إليه من صلاح جاهك ومعاشك، فمثلك لا يخلو أن يحتاج إلى شيء من هذا. فقال: عمال أمير المؤمنين منصفون، وقد استغنيت بعدله عن مسألة شيء من أمواله، وأموري منتظمة، وأحوالي مستقيمة، وكذلك أمور بلدي بالعدل الشامل في ظل دولة أمير المؤمنين، فلا استغنم ماله. فقال الرشيد: انصرف محفوظا إلى بلدك، واكتب إلينا بأمر إن عرض لك. فودعه الأموي. فلما ولى خارجا قال لي الرشيد: يا منارة احمله من وقته، فسر به راجعا كما سيرته إلينا حتى إذا أوصلته إلى المجلس الذي أخذته منه فدعه فيه وانصرف. ففعلت ذلك.لرشيد يسفر، فلما انتهيت إلى ما خاطبني به عند توبيخي إياه، فقال: صدق والله! ما هذا إلا رجل محسود على النعمة مكذوب عليه؛ ولعمري لقد أزعجناه وآذيناه وأرعبناه وأرعبنا أهله، فبادر بنزع أقياده عنه، وأتني به. فخرجت فنزعت قيوده وأدخلته إلى الرشيد. فما هو أن رآه حتى رأيت الحياء يجول في وجه الرشيد. فدنا الأموي فسلم بالخلافة ووقف، فرد عليه السلام ردا جميلا، وأمره بالجلوس فجلس. وأقبل عليه الرشيد يسائله عن حاله، ثم قال له: بلغنا عنك فضل هيئة، وأمور أحببنا أن نراك معها، ونسمع كلامك فاذكر حاجتك، فأجاب الأموي جوابا جميلا وشكر ودعا وقال: أما حاجتي فلا حاجة لي إلا واحدة. قال: مقضية فما هي؟ قال: يا أمير المؤمنين، تردني إلى بلدي وأهلي وولدي، قال: نحن نفعل ذلك، ولكن سل ما تحتاج إليه من صلاح جاهك ومعاشك، فمثلك لا يخلو أن يحتاج إلى شيء من هذا. فقال: عمال أمير المؤمنين منصفون، وقد استغنيت بعدله عن مسألة شيء من أمواله، وأموري منتظمة، وأحوالي مستقيمة، وكذلك أمور بلدي بالعدل الشامل في ظل دولة أمير المؤمنين، فلا استغنم ماله. فقال الرشيد: انصرف محفوظا إلى بلدك، واكتب إلينا بأمر إن عرض لك. فودعه الأموي. فلما ولى خارجا قال لي الرشيد: يا منارة احمله من وقته، فسر به راجعا كما سيرته إلينا حتى إذا أوصلته إلى المجلس الذي أخذته منه فدعه فيه وانصرف. ففعلت ذلك.
حدث أبو عبد الله بن محمد السمري كاتب ديوان البصرة قال: وكان أبو محمد المهلبي في وزارته قد قبض علي بالبصرة، وطالبني بما لا قدرة لي عليه، وأطال حبسي حتى أيست من الفرج. فرأيت ليلة من الليالي، وأنا أشد ما كنت فيه من الهم، كأن قائلا يقول لي: اطلب من ابن الراهبوني دفترا خلقا عنده، على ظهره دعاء فادع به فإن الله عز وجل يفرج عنك. قال: وكان ابن الراهبوني هذا صديقا لي من أبناء أهل واسط، وهو مقيم بالبصرة حينئذ. فلما كان من غد أنفذت إليه: أعندك دفتر على ظهره دعاء؟ فقال: نعم. فقلت: جئني به، فجاءني به، فرأيت على ظهره مكتوبا: اللهم أنت أنت، انقطع الرجاء إلا منك، وخاب الأمل إلا فيك، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، ولا تقطع اللهم منك رجائي، ولا رجاء من يرجوك في شرق الأرض ولا في غربها، يا قريبا غير بعيد، يا شاهدا لا يغيب ويا غالبا غير مغلوب، اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا، وارزقني رزقا واسعا من حيث لا أحتسب، إنك على كل شيء قدير. قال: فواصلت الدعاء بذلك، فما مضت إلى أيام يسيرة حتى وجه المهلبي فأخرجني من الحبس وقلدني الإشراف على أبي الحسن أحمد بن محمد الطويل بأسافل الأهواز.

(2/447)


وذكر المدائني أن توبة العنبريقال: أكرهني يوسف بن عمر على العمل، ثم أخذني وقيدني وحبسني حتى لم يبق في رأسي شعرة سوداء؛ فأتاني آت في منامي فقال لي: يا توبة، أطالوا حبسك؟ قلت: أجل، فقال: سل الله تعالى العفو والعافية في الدنيا والآخرة ثلاثا. فاستيقظت وكتبتها، ثم توضأت وصليت ما شاء الله، ثم جعلت أدعو بها حتى وجبت صلاة الصبح فصليتها، فجاء حرسي فقال: أين توبة العنبري، فحملني في أقيادي وأدخلني عليه وأنا أتكلم بهن، فلما رآني أمر بإطلاقي، قال: وعلمتها وأنا في السجن رجلا، فقال: لم أدع إلى عذاب فقلتها إلا خلي عني، فدعي بي يوما إلى العذاب، فجعلت أتذكرها فلم أذكرها حتى جلدت مائة سوط، ثم ذكرتها فخلي عني.
قال نعيم بن أبي هند: كنت عند يزيد بن أبي مسلم وهو يعذب الناس، فذكر رجل في السجن فبعث إليه بغضب وغيظ، وأنا لا أشك في أنه سيوقع به؛ فلما وقف بين يديه رأيته يحرك شفتيه بشيء لم أسمعه، فرفع يزيد رأسه إليه وقال: خلوا سبيله. فقمت إلى الرجل فقلت له: ما الذي قلت؟ قال: قلت اللهم إني أسألك بقدرتك التي تمسك بها السموات السبع أن يقع بعضهن على بعض أن تكفينيه.
قال أبو عمرو بن العلاء: كنت هاربا من الحجاج فسمعت منشدا ينشد: (من الخفيف)
ربما تجزع النفوس من الأم ... ر له فرجة كحل العقال
فقلت له: ما الخبر؟ قال: مات الحجاج. فما أدري بأي قوليه كنت أفرح: بقوله فرجة أم بقوله مات الحجاج، وكان أبو عمرو يقرأ: " إلا من اغترف غرفة " احتاج إلى شاهد، ففرح بقوله المنشد " فرجة " وقبل هذا البيت: (من الخفيف)
صبر النفس عند كل مهم ... إن في الصبر حيلة المحتال
لا تضيقن في الأمور فقد تك ... شف لأواؤها بغير احتيال
عبد الله بن المعتز: (من الطويل)
لهذا الزمان الصعب يا نفس فاصبري ... فما ناصحات المرء إلا تجاربه
ولا تحزني إن أغلق الصبر بابه ... فبعد انغلاق الباب يأذن حاجبه
حدث عبيد الله بن سليمان بن وهب عن أبيه قال: كنت وأبا العباس أحمد بن الخصيب مع خلق من العمال والكتاب معتقلين في يد محمد بن عبد الملك الزيات في آخر وزارته للواثق، نطالب ببقايا مصادرتنا، ونحن آيس ما كنا من الفرج، إذ اشتدت علة الواثق وحجب الناس ستة أيام. فدخل عليه أبو عبد الله أحمد بن أبي داود القاضي، فقال له الواثق: يا أبا عبد الله، ذهبت مني الدنيا والآخرة، قال: كلا يا أمير المؤمنين، قال: بلى والله، أما الدنيا فقد ذهبت كما ترى من حضور الموت وذهبت الآخرة بما أسلفت من العمل القبيح، فهل عندك من دواء؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قد عزل محمد بن عبد الملك الزيات من العمال والكتاب عالما وملأ بهم الحبوس، يصادرهم ولم يحصل من جهتهم على كثير شيء، وهم عدد كثير، ووراءهم ألف يد ترتفع بالدعاء إلى الله تعالى، فتأمر بإطلاقهم لترتفع تلك الأيدي بالدعاء لك، فلعل الله سبحانه وتعالى يهب عافيتك، على كل حال فأنت محتاج إلى أن تقل خصومك. فقال: نعم ما أشرت به علي؛ وقال: وقع إليه عني بإطلاقهم، فقال: إن رأى خطي عاند ولج ولكن يغتنم أمير المؤمنين المثوبة، ويتساند ويحمل نفسه، ويوقع بخطه. فوقع الواثق بخطه وهو مضطرب إلى ابن الزيات بإطلاقهم وإطلاق من في الحبوس من غير استئمار ولا مراجعة. وتقدم إلى ايتاخ أن يمضي بالتوقيع ولا يدعه يعمل شيئا أو يطلقهم وأن يحول بينه وبين الوصول إليه أو كتب رقعة واستئمار أو اشتغال بشغل إلا بعد إطلاقهم، وإن لقيه في الطريق أن ينزله عن دابته ويجلسه على غاشيته في الطريق حتى يوقع.

(2/448)


فتوجه ايتاخ فلقي ابن الزيات يريد دار الخليفة، فقال له: تنزل عن دابتك وتجلس على غاشيتك فارتاع، وظن أن الحال قد نزلت به، فنزل وجلس على غاشيته. فأوصل إليه التوقيع فامتنع، وقال: إذا أطلقت هؤلاء فمن أين أنفق الأموال وأقيم الأنزال؟ فقال: لا بد من ذلك. فقال: أركب وأستأذنه، فقال: ليس إلى ذلك سبيل، قال: فدعني أكاتبه. قال: ولا إلى هذا. فما تركه من موضعه حتى وقع بإطلاق الكل. فصار ايتاخ إلينا ونحن في الحبس آيس ما كنا من الفرج، وقد بلغنا اشتداد علة الواثق، وأرجف لابنه بالخلافة، وكان صبيا. فخفنا أن يتم ذلك، فيجعل ابن الزيات الصبي شيخا ويتولى التدبير فيتلفنا. وقد امتنعنا لفرط الغم والهم من الأكل والشرب. فلما دخل ايتاخ لم نشك أنه ما دخل إلا لبلية، فأطلقنا وعرفنا الصورة. فدعونا الله لابن أبي داود والخليفة، وانصرفنا إلى منازلنا. فجلسنا لحظة ثم خرجنا فوقفنا لابن أبي داودفحين رأيناه ترجلنا له ودعونا له وشكرناه، فأكبر ذلك ومنعنا من الترجل فلم نمتنع، ووقف حتى ركبنا وسايرناه. فأخذ يخبرنا الخبر حتى زدنا في الشكر، وهو يستقصر ما فعله ويقول: هذا أقل حقوقكم علي، وكان الذي لقيه أنا وأحمد بن الخصيب، وقال: وستعلمان ما أفعله مستأنفا.
ورجع ابن أبي داود إلى دار الخليفة عشاء فقال له الواثق: قد تبركت برأيك يا أبا عبد الله، ووجدت خفا من العلة، ونشطت وأكلت خمسة دراهم خبزا بصدر دراج. فقال له: يا أمير المؤمنين، تلك الأيدي التي كانت ترتفع بالدعاء عليك صارت ترتفع بالدعاء لك غدوة وعشية، ويدعو لك بسببهم خلق كثير من رعيتك، إلا أنهم قد صاروا إلى دور خراب وأحوال قبيحة، بلا فرش ولا كسوة ولا دواب ولا ضياع، موتى جوعا وهزلا، قال: فما ترى؟ قال: يا أمير المؤمنين، في الخزائن والاصطبلات بقايا ما أخذ منهم، فلو أمرت بأن ينظر في ذلك، فكل من وجد له شيء باق من هذا رد عليه، وأطلقت عن ضياعهم، فعاشوا وخف الإثم، وتضاعف الدعاء، وقويت العافية. قال: قال فوقع بذلك عني، فوقع ابن أبي داود، فما شعرنا من الغد إلا وقد رجعت نعمتنا علينا. ومات الواثق بعد ثلاثة أيام أو أربعة، وفرج الله عنا بابن أبي داود، وبقيت له المكرمة العظيمة في أعناقنا.

(2/449)


وحدث جماعة من أهل الموصل: أن فاطمة بنت أحمد الهزارمردي الكردي زوجة أبي ثعلب بن حمدان اتهمت غلام لها يقال له ابن ابي قبيصة من الموصل بجناية من مالها، فقبضت عليه وحبسته في قلعتها ثم رأت أن تقتله، وكتبت إلى الموكل بالقلعة بقتله. فورد عليه الكتاب، وكان أميا وليس عنده من يقرأ أو يكتب إلا ابن أبي قبيصة، فدفع الكتاب إليه، وقال له: اقرأه. فلما رأى الأمر فيه بقتله قرأ الكتاب بأسره إلى الموضع الذي أمر فيه بقتله، ورد الكتاب عليه. قال ابن أبي قبيصة: ففكرت وقلت: أنا مقتول على كل حال إن أقمت، فلا بد أن يرد كتاب آخر في معناي، ويتفق حضور من يقرأه فينفذ في الأمر، فسبيلي أن أحتال فيه بحيلة، إن تمت سلمت وإن لم تتم فليس غير القتل، ولا يلحقني أكثر منه، وأنا حاصل فيه، قتأملت القلعة فإذا فيها موضع يمكنني أن أطرح منه نفسي إلى أسفلها، إلا أن بينه وبين الأرض ثلاثة آلاف ذراع، وفيه صخر لا يجوز أن يسلم من يقع عليه من بعد. قال: فلم أجسر؛ ثم ولد لي الفكر أن تأملت الثلج وقد سقط عدة ليال فغطى تلك الصخور، وصار فوقها أمر عظيم، يجوز أن أسقط عليه وكان في أجلي تأخير أن أسلم؛ وكنت مقيدا، فقمت لما نام الناس وطرحت نفسي من الموضع قائما على رجلي؛ فحين حصلت في الهواء ندمت وأقبلت أستغفر الله وأتشهد، وأغمضت عيني حتى لا أرى كيف أموت، وجمعت رجلي بعض الجمع لأني كنت سمعت قديما أن من اتفق عليه أن يسقط من موضع عال إذا جمع رجليه ثم أرسلهما إذا بقي بينه وبين الأرض ذراع أو أكثر قليلا أنه يسلم من أن يناله ما ينال مثله، وتنكسر حدة الوقوع، ويصير بمنزلة من سقط من ذراعين. قال: ففعلت ذلك، فلما سقطت إلى الأرض ذهب علي أمري وزال عقلي، ثم ثاب إلي عقلي، فلم أجد ما كان ينبغي أن يلحقني، فأقبلت أجس أعضائي شيئا شيئا فأجدها سالمة، وقمت وقعدت وحركت يدي ورجلي فوجدت ذلك سالما كله. فحمدت الله عز وجل على حالي، وأخذت صخرة لأكسر بها قيودي، فوجدت الحديد الذي في رجلي قد صار كالزجاج لشدة البرد. قال: فضربته فانكسر، وقطعت تكتي، فشددت بعضها على القيد إلى ساقي وقمت أمشي في الثلج على المحجة، ثم خفت أن يروا أثري في غد في الثلج علىالمحجة فيتبعوني فلا أفوتهم، فعدلت على المحجة إلى الخابور. فلما صرت على شاطئه نزلت في الماء إلى ركبتي، وأقبلت أمشي كذلك فرسخا أو أكثر حتى انقطع أثري؛ وربما حصلت في موضع لا يمكنني المشي لأنه يكون جرفا فأسبح، على ذلك أربعة فراسخ حتى حصلت في خيم فيها قوم، فأنكروني وهموا بي، فإذا هم أكراد؛ فقصصت عليهم قصتي، واستجرت بالله وبهم، فرحموني ودفأوني وغطوني، وأوقدوا بين يدي نارا، وأطعموني وستروني، وانتهى الطلب إليهم من غد فما أعطوهم خبري. فلما انقطع الطلب سيروني، فدخلت الموصل مستترا، وكان ابن حمدان بها إذ ذاك، فانحدرت إليه فأخبرته بخبري كله، فعصمني من زوجته وأحسن إلي وصرفني.
أخذ الحجاج رجلا اتهمه برأي الخوارج وكتب اسمه في أسماء من يقتل. فجاءت أمه فوقفت عليه وقال: أصلح الله الأمير! امنن علي بابني فلان، فإنه والله لضهياء دباء. فقال الحجاج لجلسائه: أتدرون ما قالت؟ قالوا: لا والله، قال: الضهياء التي لا تحيض والدباء التي لا تلد، خلوا سبيل ابنها. فدفعه إليها وقال: خذ بيدها، لعنك الله إن لم تبرها.
وأتي بأسرى فأمر بضرب رقابهم، فقال رجل منهم: لا جزاك الله يا حجاج عن السنة والمروءة خيرا، فإن الله تعالى يقول: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء " . فهذا قول الله في كتابه. وقال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق: (من الطويل)
وما نقتل الأسرى ولكن نفكهم ... إذا أثقل الأعناق حمل القلائد
فقال الحجاج: ويحكم! أعجزتم أن تخبروني ما أخبرني هذا المنافق، وأمسك عمن بقي.

(2/450)


وأتي معاوية يوم صفين بأسير من العراق فقال: الحمد لله الذي أمكنني منك. قال: لا، لا تقل ذلك يا معاوية فإنها مصيبة، قال: وأي نعمة أفضل من أن أمكنني الله من رجل قتل جماعة من أصحابي في ساعة واحدة؟ اضرب عنقه يا غلام. فقال الأسير: الحمد لله، أشهد أن معاوية لم يقتلني فيك، ولا أنك ترضى بقتلي في الغلبة على حطام هذه الدنيا، فإن فعل فافعل به ما هو أهله، وإن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله. قال له: ويحك! لقد سببت فأبلغت ودعوت فأحسنت، خليا عنه.
لما ظفر المأمون بأبي دلف العجلي، وكان يقطع في الجبال، قال: يا أمير المؤمنين دعني أركع ركعتين. فركع وكبر، وصنع أبياتا ثم وقف بين يديه وقال:
بع بي الخلق فإني ... خلق ممن تبيع
واتخذني لك درعا ... قلصت عنه الدروع
ارم بي بحر عدو ... فأنا السهم السريع
فأطلقه وولاه تلك الناحية، فأصلحها وحسنت آثاره.
جرف الطاعون أهل بيت فسد بابه، وثم طفل لم يشعروا به. ففتح بعد شهر فإذا الطفل وثم كلبة مجر قد عطفها الله عليه، فكانت ترضعه مع جرائها.
وسجن رجل شهرا، وقد أغلق بيته على زوجي حمام طيارين وزوجين مقصوصين فتخلص وهو لا يشك في هلاك المقصوصين، فإذا هو بهما سالمان فد هدى الله الطائرين إلى زقهما حتى عاشا.
حبس عضد الدولة أبا إسحق الصابي فأطال حبسه، واستصفى ماله، بعد أن هم بقتله. فسأله فيه عبد العزيز بن يوسف والمطهر بن عبد الله حتى استحياه واقتصر على حبسه ومصادرته. ولبث في الاعتقال سنين إلى أن دخل الصاحب على عضد الدولة بهمذان، وهو مكب على دفتر يقرأه، فقال: يا أبا القاسم، هذه رسالة لك في بعض فتوحنا، نحن نأخذها بأسيافنا، وأنت تجملها بأقلامك، فقال: المعنى مستفاد من مولانا وإن كانت الألفاظ لخادمه ثم أنشد: (من البسيط)
وأنت أكتب مني في الفتوح وما ... تجري مجيبا إلى شأوي ولا أمدي
فقال: لمن البيت؟ فقال: لعبده أبي إسحاق الصابي. فأمر بالإفراج عنه والخلعة عليه. فكان ذلك سبب خلاصه من نكبته.
سعيد بن حميد: (من الكامل المجزوء)
كم فرجة مطوية ... لك بين أثناء النوائب
ومسرة قد أقبلت ... من حيث تنتظر المصائب
رأى دهقان أصحاب نصر بن سيار ضعفاء، فأخذ دوابهم فقطع جحافلها وأذنابها، فلما أصبحوا قال نصر: أبشروا بخير فإني رأيت في النوم كأن قائلا يقول: (من المجتث)
إذا ابتليت فصبرا ... فالعسر يعقب يسرا
فبعد مدة يسيرة ولي خراسان فأخذ الدهقان فضربه ألف سوط وحبسه.
أراد عمر بن هبيرة قتل رجل فضاقت عليه الأرض بما رحبت، فرأى في منامه من يقول: (من الرجز)
ما يسبق الإنسان قيد فتر ... ما كان في اللوح عليه يجري
فلما تم عليه شهر حتى قتله أبو جعفر.
أبو الخطاب علي بن عبد الرحمن بن عيسى بن الجراح قي المقتدي: (من البسيط)
وافى البشير فأعطى السمع منيته ... وقوض الهم لما خيم الفرج
من أخبار الفرج السريع الآتي بغير سعي ولا تدبير ما كان من أمر المقتدر لما خلع ونصب أخوه القاهر أبو منصور مكانه، وجلس على السرير، وبايعه الناس، واستحكم أمره، وقبض على المقتدر وحبس في خزانة. واتفق في بقية اليوم أن شغب الرجالة في طلب حق البيعة، وأدى شغبهم إلى أن قالوا: أخرجوا لنا خليفتنا، ولم يكن وقع تأهب لهم، فلجوا في الشغب حتى هجموا على الدار، ودلهم خادم على المقتدر في حبسه، وكسروا عليه الباب؛ وظنهم يقتلونه، فاستعاذ منهم، وتضرع إليهم. فأخذوه على أعناقهم وهو يستغيث وهم يقولون: إنما نعيدك إلى الخلافة. ووضعوه على سريره وسلموا أخاه القاهر إليه، فعاد ملكه من يومه.
وقد كان خلع قبلها ونصب عبد الله بن المعتز ولقب المرتضي بالله، وبايعه الناس كلهم، وراسل المقتدر بالانتقال إلى الحريم الظاهري فأجاب. ثم إن جماعة من غلمان الدار والخدم أصعدوا في شذاءات بدجلة لينظروا الأمر وعبد الله بن المعتز في دار المحرم. فتطاير من كان معه لغير سبب، وهرب هو واستتر في دار ابن الجصاص فعثر عليه وأهلك، وعاد الأمر إلى المقتدر بغير سعي ولا أعوان.

(2/451)


وكانت له نوبة أخرى أول أمره وفي بداية خلافته. وذاك أن الناس أنكروا صغر سنه، فعزم الوزير العباس بن الحسين وهو المستولي على التدبير حينئذ على خلعه، وأعد لذلك أبا عبد الله محمد بن المعتمد وخالفه وقرر القاعدة معه، وانتظر قدوم بارس صاحب أحمد بن إسماعيل من خراسان ليتقوى به على ما هم به، فاتفق أن فلج محمد بن المعتمد ومات، وانتقض ذلك الأمر وحيل دونه، وقضاء الله لا يرد، وحكمه لا يغالب.
حدثني النقيب أبو الغنائم بن المختار العلوي قال: حدثني اصفهسلار شيخ مقدم الخراسانية على باب محمد بن مشلكاه قال: لما قبض السلطان محمد على وزيره سعد الملك أبي المحاسن سعد بن علي الآبي وصلبه، قبض على أصحابه ومن جملتهم أبو إسماعيل الكاتب المنشئ وسلمه إلي، وكان صديقي وله علي حقوق؛ ثم إنه استدعاني في بعض الأيام ووقفني حيث لم تجر عادتي به وتقدم إلي وأمرني بالخروج من حضرته وعرض أبا إسماعيل على العذاب حتى يؤدي عشرين ألف دينار أو يموت تحت العقوبة، وتشدد علي، فخرجت وأحضرته مقيدا وعرفته بما جرى. فحلف أنه لا يقدر على أكثر من أربعة آلاف دينار هي مودعة عند إنسان ذكره، وليس لي ملك ولا ذخيرة. فقلت لا بد من إنفاذ أمر السلطان فيك. فتضور وبكى. فلم أتمكن من الدفع عنه مع مودتي له خوفا من السلطان ولتمكن هيبته في النفوس. قال: فأمرت به فضرب ثلاث مقارع، فإذا بمن يستدعيني إلى السلطان حثيثا. فأمرت أصحابي بأن يكون على حاله إلى أن أرجع. فلما دخلت عليه قال: ما فعلت في أمر أبي إسماعيل؟ فأخبرته. فلما انتهيت إلى ذكر العقوبة، قال: ليتك لم تكن فعلت. ثم قال: اخرج فاحمله إلى الحمام، وأمط عنه الدرن، وخذ له من الخزانة جبة وعمامة، ومره بأن يبادر إلى الدار قبل الكتاب وقبل الناس كلهم. فخرجت من بين يديه وأنا شديد التعجب، وأمرت به إلى الحمام فارتاب بي، وأخذ يتمرغ على قدمي، ويقول: من أنا حتى أقتل في الحمام؟ وأنا أقول له: لا بأس عليك. وكلما سكنته انزعج، إلى أن أحضرت المزين فأخذ من شعره وألبسته ثيابا نظيفة، وجيء بالجبة والعمامة من الخزانة فلبسها، وركب وأصحابي معه. وشاع الخبر، فاستغربه الوزير وجماعة الكتاب. وحضر أبو إسماعيل من بكرة غد، فوصل إلى الخدمة السلطانية، وأقام ستة شهور يخلو بالسلطان كل يوم من بكرة إلى الظهر، والناس يهابونه ويواصلونه بالتحف والخدم والألطاف، وأنا منهم، ولا نعرف السبب فيما اتفق له به. ثم ظهر من بعد أن السلطان ورد عليه مكتوب مستظهري، وقد كتب عنه جوابه بخط الكاتب، ومن العادة أن يكون عنوان الكتاب السلطاني إلى الخليفة بخط السلطان، فتأمل خط الخليفة فاستحسنه واسترذل خطه، وقال: كيف أكتب الجواب عن هذا الخط الحسن بهذا الخط الرذل؟ فألهمه الله لما قدره من خلاص أبي إسماعيل أن يجود خطه وأن يعول عليه في ذلك. وأسر إليه هذا الأمر وطواه عن كل أحد، وكانت خلوته لأجله، وقربه منه وقدمه وجعله طغرائيا، وكبر محله عنده.
كنت واقفا على فرسي بسوق الخيل، وبهروز الخادم إذ ذاك والي بغداد، وقد ورد الخبر بتولية آخر مكانه. وقد أخرج من حبسه اثنان: أحدهما قاطع طريق والآخر عليه قود، وقدما للقتل. فبدأ بقاطع الطريق فقتل، ثم قرب الآخر إلى السياف فطلعت خيل أخر، فاشتغل أصحاب بهروز وأعادوا الرجل إلى الحبس، ونحن وقوف؛ وخرج منه أصحاب الجرائم وذلك الرجل فيهم وهو يحجل في عتلته، وتبعه أرباب الدم وكانوا أطفالا ونساء فعجزوا عنه وهرب حتى لحق بالدار السلطانية، واعتصم بها فنجا.
حدثت عن نجاح الخادم المسترشدي قال: أعطيت رقعة عن محبوس ونحن بحلوان في الخدمة المقتفية، فعرضتها بين يدي فوقع فيها: ليخلد في السجن. فانزعجت وقلت في نفسي: ليتني لم أكن عرضتها، ولم يكن لي فيها حيلة، فإنه وقع فيها وألقاها بين الرقاع لتخرج في الجمع إلى الوزير على العادة. قال: ثم أعاد التأمل للرقاع فوقعت تلك الرقعة في يده، فخرق التوقيع الأول ووقع: يسأل عن حاله؛ وألقاها في الجمع. ثم قلب الرقاع فعادت في يده، فخرق التوقيع الثاني ووقع فيها: ليفرج عنه.

(2/452)


كان اسفنديار بن رستم العارض دينا كثير العبادة والصدقة. وهو مع ذاك يتعمل ويخدم السلاطين. فقبض عليه المسترشد، وقصده الوزير أبو علي بن صدقة وقرر عليه خمسمائة دينار أخذ خطه بها وهو في الاعتقال ليؤديها. وكان الوزير يدخل على الخليفة ويلقاه كل جمعة. فدخل عليه في يوم نوبته فقال له: أفرج عن اسفنديار بن رستم. فقال له: يا مولانا قد أخذنا خطه بخمسمائة دينار. فقال: أعد عليه خطه ولا تأخذ منه شيئا. فراجعه فقال: قد أمر في حقه من لا يمكن مخالفة أمره. فخرج الوزير من الخدمة، وأحضره وأعاد خطه عليه، وصرفه إلى منزله، فأخذ في شكره والدعاء للخليفة. فقال: لا تشكر أحدا، والزم ما أنت عليه.
وقيل أنه رأى في النوم الأمر بتخلية سبيله.
وقد كان اسفنديار هذا قبض عليه دبيس بن صدقة بن منصور، فاعتقله في مخيمه تحت الرقة ببغداد، وكان ينقم عليه صحبته وخدمته لسعيد بن حميد العمري صاحب جيش أبيه، وخافه اسفنديار على نفسه. فبينا هو على حاله إذ انتبه دبيس نصف الليل، وجلس على فراشه، واستدعى اسفنديار من محبسه، فانزعج وظن أنه يريد به الهلاك في ذلك الوقت، وإخفاء أمره. فلما حضر عنده قام واعتنقه، واعتذر إليه وصرفه.
وكان ذلك لمنام رآه. ومن العجب أن أمه كانت تلك الليلة بمقابر قريش ملازمة تدعو له. فرأت في منامها البشارة بالإفراج عنه، فجاءت فرأته مخلى سبيله.
؟حدثني أبو الحارث بن المعجون المغني، قال: كنت في شرب بالكرخ وقد صلب الشحنة جماعة من العيارين على باب السماكين. فلما انتصف الليل تعاطى الجماعة شدة القلب والجلد، فقالوا: من يخرج فيقف على هؤلاء المصلوبين في هذا الوقت ويأتي بعلامة منهم؟ فانتدب أحدهم، فلما وصلهم رأى رجلا منهميتضور في خناقه، فدنا منه فوجده حيا، وقد وقع الحبل تحت حنكه، وهو بآخر رمق؛ فأرخى الحبل وحطه وحمله على ظهره إلينا، وقال: هذه علامة لا تنكر. وعاش الرجل، فكان ما تعاطاه أولئك الجهلة في نصف الليل سببا لحياته واستنقاذه.
حدثني أبو طالب بن البابقوني قال: حبست في محبس المخزن بسعي تقدم من أبي القاسم بن الأيسر في حقي، وكان يتولى مكروهي وانتدب لأذيتي. واتفق من بعد فساد حال ابن الأيسر، وظهر عليه أخذه أموال الناس بما كان يعتمده من تخويفهم بشره، وانكشف من ذلك مال عظيم أعيد عليهم ما تهيأ منه، وقبض عليه وحمل إلى الموضع الذي أنا فيه، وجمعنا الحبس. قال: فكان كل وقت يطلب أن أحاله فأمتنع عليه وأقول له: لا مال لي يؤخذ فأطيب نفسا عنه، وما بقي إلا روحي وما أحالك عنها، وأنا هالك ها هنا. فقال لي: كلانا هالكان، فقلت: لا جرم أنني آمل الجنة لأني أهلك مظلوما، وأنت تدخل النار بظلمك. قال: فبت في بعض الليالي آيسا قلقا، ولجأت إلى الله تعالى، ونذرت عتق عبد كان لي، والصدقة والزيارة والحج إن وجدت النفقة، ونمت فأريتوقت السحر في المنام امرأة حسناء وضعت يدها على بدني كأني أجد لين مسها يقظان، وقالت لي: قم واخرج ولا تنتظر هذا يعني ابن الأيسر فإنه يقيم ها هنا ست سنين. قال: فانتبهت أروي: هل أخبره بالرؤيا أم لا؟ فبينا أنا في ذلك إذ فتح الباب وأخرجت ولا أعلم كيف ذاك ولا ما سببه إلى الآن.
نوادر من هذا الفن
قدم عبد الله بن علي بعض الأمويين للقتل، وجرد السيف ليقتله، فضرط الأموي، فانزعج السياف فألقى السيف من يده، فضحك عبد الله بن علي وأمر بتخليته. فقال الأموي: وهذا أيضا من الإدبار: كنا ندفع الموت بأسيافنا ونحن الآن ندفعه بأستاهنا.
بسم الله الرحمن الرحيم وما توفيقي إلا بالله

(2/453)


الحمد لله الغني عن عباده وهم الفقراء، القوي بقدرته عليهم وهم الضعفاء،الذي قدر الأرزاق وقسمها في خلقه، وجعل حذق المرء محسوبا عليه من رزقه، قرن الغنى بالعناء في الدنيا والخطر في دار المنامة، والفقر بالراحة فيها والسلامة، إلا من عمل في ذاك بطاعته، فكان نعم المطية إلى آخرته، أو تلقى هذا بسوء الاحتمال، فانقلبت به إلى شر عقبى ومآل؛ وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة غني به عن سواه، عالم ألا معبود إلا إياه، وأعوذ به من بطر الثراء واليسر، واسأله العصمة في قنوط العدم واليسر؛ والصلاة على محمد رسوله الذي صبر نفسه مع عيل صحابته، ودعا بأن يكون المحيا والممات مع مساكين أمته، وعلى آله مؤثري الافتقارعلى اليسار، وعلى عترته، وسلم تسليما كثيرا.
الباب الثامن والثلاثون
ما جاء في الغنى والفقر
قد دل قوله تعالى: " كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى " ، على ذم الغنى إذ كان سبب الطغيان.
وسئل أبو حنيفة عن الغنى والفقر فقال: وهل طغى من طغى من خلق الله إلا بالغنى؟ وتلا هذه الآية.
والمحققون يرون الغنى والفقر في الأنفس لا في المال. وفي قوله تعالى: " الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا " ، وقوله عز وجل: " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف " ، معنى في هذا وإشارة إليه.
قال رسول اله صلى الله عليه وسلم : " هلاك أمتي في شيئين: ترك العلم وجمع المال " .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: " لا يعجبك امرؤ كسب مالا حراما، فإنه إن أنفق لم يقبل منه، وإن أمسك لم يبارك الله له فيه، وإن مات وتركه كان زاده إلى النار " .
وفي الحديث: " مثل الفقر للمؤمن كمثل فرس مربوط بحكمته إلى أخية، كلما رأى شيئا مما يهوى ردته حكمته " .
قال وهب: وجدت في كتب الأنبياء: من استغنى بأموال الفقراء، جعلت عاقبته الفقر، وأي دار بنيت بالضعفاء جعلت عاقبتها الخراب.
حدث أبو سعيد الخدري أنه أصبح ذات يوم وليس لهم طعام، وأصبح وقد عصب على بطنه حجرا من الجوع، فقالت امرأتي: ائت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد أتاه فلان فأعطاه. فأتيته وهو يخطب وهو يقول: من يستعف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن سألنا شيئا فوجدناه أعطيناه وواسيناه، ومن استعف واستغنى فهو أحب إلينا. قال: فرجعت وما سألته حتى ما أعلم أهل بيت من الأنصار أكثر أموالا منا.
قال جابر بن عبد الله: جاء عبد الرحمن بن عوف يوما إلى عمر رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، أعني بنفسك وبمن حضر من المسلمين، قال عمر: وما ذاك؟ قال: جهزت ألف بعير إلى الشام فيها مائتا مملوك يمتارون لي ما قدروا عليه من أصناف التجارات، فلما قمت الليلة أصلي وردي حدثت نفسي وقدرت الإبل كأنها قدمت وساومني التجار بما فيها، وضعفوا لي ما كنت أتمناه، فوالله ما أدري على ما أصبحت: على قرآن أم هذيان، فدونكها بأحمالها وأقتابها وأحلاسها ومماليكها، فاجعلها في سبيل الله، فلا حاجة لي فيما يشغلني عن عبادة ربي.
قال محمد بن كعب القرظي: سمعت عليا عليه السلام يقول: لقد رأيتني وأنا أربط على الحجر على بطني في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الجوع، وإن صدقتي اليوم أربعون ألف دينار.
وكانت الصحابة رضوان الله عليهم ترى الفقر فضيلة ومنزلة يتنافس عليها، وفي بعض هذه الأخبار ما يدل على ذلك.
وروي أن عمر رضي الله عنه خطب الناس وهو خليفة، وعليه إزار فيه ثلاث عشرة رقعة إحداها من أدم، وعليه عمامة وبيده الدرة.
وقال ابن سيرين: كنا عند أبي هريرة وعليه ممشقتان من كتان فتمخط فيهما فقال: بخ بخ أبو هريرة يتمخط في الكتان، لقد رأيتني أجر فيما بين منبر رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حجرة عائشة مغشيا علي من الجوع، فيجيء الرجل فيجلس على صدري فأرفع رأسي فأقول: إنه ليس ذاك إنما هو الجوع.
وقال أبو بردة عن أبيه: لو رأيتنا مع نبينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ظننت أن ريحنا ريح الضأن، لباسنا الصوف وطعامنا الأسودان: الماء والتمر.
وقال محمد بن سيرين: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجتزئ أحدهم بالفلذة يشويها، فإذا لم يجد شيئا أقام صلبه بخشبة أو حجر يوثقه على صلبه.

(2/454)


الصفحة السابقة   //   الصفحة التالية