صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)

الصفحة السابقة   //   الصفحة التالية
 

[ خزانة الأدب - إبن حجة الحموي ]
الكتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
المؤلف : تقي الدين أبي بكر علي بن عبد الله الحموي الأزراري
الناشر : دار ومكتبة الهلال - بيروت
الطبعة الأولى ، 1987
تحقيق : عصام شعيتو
عدد الأجزاء : 2

ومثله قول أبي الحسين الجزار
( أمولاي ما من طباعي الخروج ... ولكن تعلمته من خمولي )
( أتيت لبابك أرجو الغنى ... فأخرجني الضرب عند الدخول )
ومثله قول الوداعي في مطلع قصيد
( ما كنت أول مغرم محروم ... من باخل بادي النفار كريم )
ومثله قول مجير الدين بن تميم
( لما لبست لبعده ثوب الضنا ... وغدوت من ثوب اصطباري عاريا )
( أجريت واقف مدمعي من بعده ... وجعلته وقفا عليه جاريا )
وكتبت من هذا النوع إلى القاضي كمال الدين بن النجار وكيل بيت المال بدمشق المحروسة
( كمال الدين يا مولاي يا من ... يغير البحر من بذل النوال )
( أيجمل أن يقول الناس إني ... أتيت لحاجة لم تقضها لي )
( وأصبح بينهم مثلا لأني ... أتاني النقص من جهة الكمال )
ومثله قول الشيخ جمال الدين بن نباتة رحمه الله تعالى
( إني إذا آنست هما طارقا ... عجلت باللذات قطع طريقه )
( ودعوت ألفاظ الحبيب وكأسه ... فنعمت بين حديثه وعتيقه )
ومثله قوله
( قصدت معاليك أرجو الندى ... وأشكو من العسر داء دفينا )
( فما كان بيني وبين اليسار ... سوى أن مددت إليك اليمينا )
ومثله قوله
( حزني من مهفهف القدر أم ... أسهم اللحظ ما أسد وأرشق )
( كلما قلت يفتح الله بالوصل ... رماني من سحر عينيه يغلق )

(1/164)


ومثله قوله
( إن أساء الحبيب قامت بعذر ... وجنة منه فوقها شامات )
( يا لها وجنة أقابل منها ... حسنات تمحى بها سيئات )
ومثله قوله
( قام غلام الأمير يحسب في ... يوم طهور البنين طاووسا )
( فأنزل الحاضرون من شبق ... وعاد ذاك الطهور تنجيسا )
وما ألطف قوله من هذا النوع
( يا غائبين تعللنا لغيبتكم ... بطيب لهو ولا والله لم يطب )
( ذكرت والكاس في كفي لياليكم ... فالكاس في راحة والقلب في تعب )
ومثله قوله في براعة قصيد
( يوم صحو فاجعله لي يوم سكر ... )
وما أحلى ما قال بعده في الشطر الثاني
( فأدر كأسي رضاب وخمر ... )
منها ولم يخرج عما نحن فيه
( جفن عينيه فاتر مستحيي ... إنما خده المشعشع جمري )
ومثله قوله من قصيدة
( فريد وهو فتان التثني ... فيا لله من فرد تثنى )
وله في روضة من قصيدة
( مطابقة الأوصاف أما نسيمها ... فصح وأما ماؤها فتكسرا )
أنظر ما أحسن تصريحه بالنوع هنا في قوله مطابقة الأوصاف
ومثله قول الشيخ برهان الدين إبراهيم القيراطي من قصيدة
( بأبي غني ملاحة أشكو له ... فقري فيصبح بالغنى يتطرب )
ومنها في هذا النوع
( غدا ينادمني وكأس حديثه ... أشهى إلي من العتيق وأطيب )

(1/165)


ومثله قوله
( في جفنه سيف مضاربه ... يا صاح أسبق لي من العذل )
( وبخده والردف لي خبر ... قد سار بين السهل والجبل )
ومثله قول الشيخ زين الدين بن الوردي
( تجادلنا أماء الزهر أزكى ... أم الخلاف أم ورد القطاف )
( وعقبي ذلك الجدل اصطلحنا ... وقد حصل الوفاق على الخلاف )
ومثله قول الشيخ بدر الدين بن الصاحب وهو في غاية الظرف
( كم جار صرف الدهر في حكمه ... وضر بي من حيث بي يعتني )
( ألبسني من شيبتي حلة ... قلت له والله عريتني )
ومنه قول الشيخ صلاح الدين الصفدي وقد أهدى إلى الشيخ جمال الدين بن نباتة تخفيفة
( أيا فاضلا تدنو الأفاضل نحوه ... وتشكر في جميع المناقب تصريفه )
( إذا كنت بالإحسان ثقلت كاهلي ... فلا عجب إن كنت تقبل تخفيفه )
ومنه قول الشيخ صفي الدين الحلي من قصيدة
( والريح تجري رخاء فوق بحرتها ... وماؤها مطلق في زي مأسور )
( قد جمعت جمع تصحيح جوانبها ... والماء يجمع فيها جمع تكثير )
ومنه قول المعمار
( أصاب قلبي خطائي ... بلحظه لشفائي )
( فرحت من فرط وجدي ... أشكو إلى الحكماء )
( قالوا أصبت بعين ... فقلت من عظم دائي )
( إن كان هذا صوابا ... فتلك عين الخطاء )
وحسن هنا قول البدر يوسف بن لؤلؤ الذهبي
( وحديقة مطلولة باكرتها ... والشمس ترشف ريق أزهار الربا )
( يتكسر الماء الزلال على الحصى ... فإذا عدا بين الرياض تشعبا )

(1/166)


ومنه قول الشيخ شمس الدين بن الصائغ الحنفي
( بروحي أفدي خاله فوق خده ... ومن أنا في الدنيا فأفديه بالمال )
( تبارك من أخلى من الشعر خده ... وأسكن كل الحسن في ذلك الخال )
ومثله قول الشيخ عز الدين الموصلي
( سموا مني مهجتي سعيدا ... ولي شقاء به يزيد )
( إذا اجتمعنا يقول ضدي ... هذا شقي وذا سعيد )
وظريف قول جمال الدين عبد الله السوسي
( ورب أقطع يشدو ... ساروا وما ودعوني )
( ما أنصفوا أهل ودي ... واصلتهم قاطعوني )
وألطف منه قول الشيخ جلال الدين ابن الخطيب داريا
( يا معشر الأصحاب قد عن لي ... رأي يزيل الحمق فاستظرفوه )
( لا تحضروا إلا بأخفافكم ... ومن تثاقل منكم خففوه )
ومثله قوله
( تصفحت ديوان الصفي فلم أجد ... لديه من السحر الحلال مرامي )
( فقلت لقلبي دونك ابن نباتة ... ولا تتبع الحلي فهو حرامي )
وظريف هنا قول الشيخ بدر الدين البشتكي وإن لم يكن فيه تورية فقد صرح باسم النوع من جنس الغزل
( وقالوا يا قبيح الوجه تهوي ... مليحا دونه السمر الرشاق )
( فقلت وهل أنا إلا أديب ... فكيف يفوتني هذا الطباق )

(1/167)


ومن المطابقة بالتورية قول القاضي بدر الدين بن الدماميني رحمه الله
( بدر إذا شمت فوق الخد عارضه ... يوما أرى الصبح بالظلماء مختلطا )
( وظن أن صوابا هجر عاشقه ... لما رأى منه شيبا باديا وخطا )
ومن العجيب في هذا النوع قول شيخنا العلامة شهاب الدين بن حجر فسح الله في أجله
( خليلي ولي العمر منا ولم نتب ... وننوي فعال الصالحين ولكنا )
( فحتى متى نبني بيوتا مشيدة ... وأعمارنا منا تهد وما تبنا )
وما أحلى قوله فيه
( أتى من أحبائي رسول فقال لي ... ترفق وهن واخضع تفز برضانا )
( فكم عاشق قاسى الهوان بحبنا ... فصار عزيزا حين ذاق هوانا )
ومثله قوله
( نأى رقيبي وحبيبي دنا ... وحسنه للطرف قد أدهشا )
( آنسني المحبوب يوم اللقا ... لكن رقيبي فيه ما أوحشا )
وما أظرف قوله فيه
( أشكو إلى الله ما بي ... وما حوته ضلوعي )
( قد طابق السقم جسمي ... بنزلة وطلوع )
أنظر كيف جمع بين قصر الوزن وعدم الحشو وصحة التركيب والمطابقة بالتورية وتسمية النوع من جنس الغزل ومثله قوله
( قال حبي أكتم الهوى ... خوف لاح وواشيه )
( كيف أسطيع كتمه ... وسقامي علانيه )
وأنشدني من لفظه لنفسه ابن مكانس وقد أوقفته في الشرح على هذا النوع فقال
( يا سادتي والعشق لم يبق لي ... من بعدكم روحا ولا حسا )
( صبحني الهم لهجرانكم ... والضر لما بنتم مسا )

(1/168)


وله
( لثغرك طعم ونشر يلذ ... ونسقى به يا أخا البدر عشقا )
( فدعنا نمت ونعش في الهوى ... غراما وننعم ذوقا ونشقا )
ومثله قوله
( رب خذ بالعدل قوما ... أهل ظلم متوالي )
( كلفوني بيع خيلي ... برخيص وبغال )
ونقلت من ديوان والده المقر الفخري
( زارت معطرة الشذا ملفوفة ... كي تختفي فأبى شذا العطر )
( يا معشر الأدباء هذا وقتكم ... فتناظموا في اللف والنشر )
ونقلت أيضا من ديوانه
( لم أنس معشوقة زارت بجنح دجى ... فبت في مسك أنفاس وطيب سمر )
( حتى الصباح وعيناها تظن بأن ... هاروت حل عشاء فيهما وسحر )
ونقلت منه ما امتدح به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه
( يا ابن عم النبي إن أناسا ... قد توالوك بالسعادة فازوا )
( أنت للعلم في الحقيقة باب ... يا إماما وما سواك مجاز )
وقوله
( علقتها معشوقة خالها ... إن عمها بالحسن قد خصصا )
( يا وصلها الغالي ويا هجرها ... لله ما أغلى وما أرخصا )
وقلت في هذا المعنى من قصيدة
( وكيف أكتم حبا في هواه ولي ... من أحمر الدمع فوق الخد تشهير )
( ونار خديه قلبي أرخصت وغلت ... لما غدت ولها في القلب تسعير )
( وقال أغمدت سيف اللحظ عنك فكيف ... الحال قلت له والله مشهور )

(1/169)


وقلت من قصيدة وصرحت باسم النوع
( طابقت رقة حالي بالجفا عبثا ... فما طباقك إلا رقة وجفا )
وقلت من قصيدة
( شرفونا بمدمع العين عجبا ... ليتهم عند موتنا قبلونا )
وقلت بعده
( حبكم فرضنا وسيف جفاكم ... قد غدا في بعادنا مسنونا )
حتى تخلصت إلى مدح أمين الدين من غزل هذه القصيدة ولم أخرج عما نحن فيه من المطابقة
ومن غريب ما وقع لي في هذا النوع قولي من قصيدة
( بدر منير قسا برؤيته ... لكن يرى عند خده شفقه )
وقلت من قصيدة
( لي في حماكم أهيف من عامر ... وخراب بيت تصبر بالعامري )
( سلطان حسن ظاهر لما بدا ... جال الهوى في باطني بالظاهري )
( وضفرت شعرك إذ ظفرت بمهجتي ... يفديك محلول العرا من ظافر )
( وحميت برد الثغر إذ طابقته ... في ضمن تورية بجفن فاتر )
أنظر ما أحلى قولي في ضمن تورية والمراد المطابقة بالتورية
وقلت مطابقا والتورية ثلاثية
( بمر هجرك عجبا قد قضيت لنا ... وشاهد الحسن بالإحسان حلاك )
وكتبت إلى بعض المخاديم بحماة المحروسة حرسها الله تعالى أطلب منثورا أبيض فماطلني مدة والمنثور الأبيض عزيز بحماة
( زهر الوعود ذوي من طول مطلكم ... لأنه من نداكم غير ممطور )
( والعبد قد جهز المنظوم ممتدحا ... فطابقوه إذا وافى بمنثور )

(1/170)


وقلت
( هويت غصنا لأطيار القلوب على ... قوامه في رياض الوجد تغريد )
( قالت لواحظه أنا نسود على ... بيض الظبا قلت أنتم سود وا )
وقد طال الشرح ولكن هذا الطول تنشرح له الصدور وتعلو به همة الطالب ولم يرض بعدها بالرخيص من هذا الفن ويتأيد إن الذين اقتديت برأيهم ومشيت على سننهم لم يرضوا بالمطابقة المجردة ولم ينظموها إلا في سلك التورية وقد أوردت لهم هنا من ذلك ما شنف الأسماع ورقص عند السماع والكمال لله فإن الشيخ صفي الدين لم يأت بالمطابقة إلا مجردة وبيته
( قد طال ليلي وأجفاني به قصرت ... عن الرقاد فلم أصبح ولم أنم )
وبيت العميان مثله لكنه عامر بالركة والعقادة وهو
( واسهر إذا نام سار وامض حيث ونى ... واسمح إذا شح نفسا وأسر إن يقم )
وبيت عز الدين
( أبكي فيضحك عن در مطابقة ... حتى تشابه منثور بمنتظم )
لعمري إن بيت صفي الدين وبيت العميان يتنزلان عند هذا البيت العامر بالمحاسن منزلة الأطلال البالية فإن الشيخ عز الدين جمع فيه بين تسمية النوع من جنس الغزل وبين غرابة المعنى وحسن الانسجام ورقة النسيب وبديع اللف والنشر ولم يأت كل منهما إلا بمجرد المطابقة
وأما قول العميان في آخر بيتهم وأسر إن يقم فهذا اللفظ من بقية ما سقط من حجارة البيت
وبيت بديعتي هو
( بوحشة بدلوا أنسي وقد خفضوا ... قدري وزادوا علوا في طباقهم )
فالمطابقة والتورية وتسمية النوع البديعي اجتمعت هنا في قافية هذا البيت الذي علا بطباقه وتفيأ أهل البديع بظل رواقه

(1/171)


ذكر النزاهة
( نزهت لفظي عن فحش وقلت هم ... عرب وفي حيهم يا غربة الذمم )
النزاهة ما نظمها أحد في بديعيته إلا صفي الدين الحلي وقد تقدم القول أنه ذكر عن بديعيته أنها نتيجة سبعين كتابا في هذا الفن
وهو نوع غريب تجول سوابق الذوق السليم في حلبة ميدانه وتغرد سواجع الحشمة على بديع أفنانه لأنه هجو في الأصل ولكنه عبارة عن الإتيان بألفاظ فيها معنى الهجو الذي إذا سمعته العذراء في خدرها لا تنفر منه وهذه عبارة عمرو بن العلاء لما سئل عن أحسن الهجو
وقد وقع من النزاهة في الكتاب العزيز عجائب منها قوله تعالى ( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون ) فإن ألفاظ الذم المخبر عنها في كلام الآية أتت منزهة عما يقع في غير هذا القسم من الفحش في الهجاء والمرض
هنا عبارة عن إبطان الكفر
ومن النزاهة البديعية في النظم قول أبي تمام
( بني فعيلة ما بالي وبالكم ... وفي البلاد مناديح ومضطرب )
( لحاجة لي فيكم ليس يشبهها ... إلا لجاجتكم في أنكم عرب )

(1/172)


ومن غريب هذا النوع قول معبد بن الحسين بن جبارة لرجل كان يدعو قوما إلى سماع قينة له ثم انكشف له بعد هذا أنهم كانوا ينالون منها القبيح
( ألم أقل لك إن القوم بغيتهم ... في ربة العود لا في رنة العود )
( لا تأسفن على الشاة التي عقرت ... فأنت غادرتها في مسرح السيد )
فانظر إلى مصاحبة هذه المعاني ونزاهة ألفاظها عن الفحش
ومن ذلك قول جرير
( فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولا كلابا )
وقالوا أحسن ما وقع في هذا الباب قوله أيضا
( لو أن تغلب جمعت أنسابها ... يوم التفاخر لم تزن مثقالا )
فانظر إلى هذا الهجو المنكي كيف بالغ في تنزيه ألفاظه عن الفحش وفيه معنى الهزل الذي يراد به الجد وهو غاية في هذا النوع
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي
( حسبي بذكرك لي ذما ومنقصة ... فيما نطقت فلا تنقص ولا تذم )
وقال إنها بالذال المعجمة فإن جل قصده الذم هنا والذي أقوله إن هذا البيت شموس إيضاحه آفلة في غيوم العقادة وليته استضاء بما قاله جرير ومشى على سنته
والعميان لم ينظموا هذا النوع وبيت الشيخ عز الدين نظمه في بديعيته لأجل معارضة الصفي وقال في بيته يخاطب العاذل
( لقد تفيهقت بالتشديق في عذلي ... كيف النزاهة عن ذا الأشدق الخصم )
قد تقرر أن النزاهة هجو ولكن شرطوا أن لا ينظم هجوها إلا بألفاظ لا تنفر منها العذراء في خدرها
والذي أقوله وأنا أستغفر الله إن ألفاظ عز الدين في بيته ينفر منها

(1/173)


الجان فكيف حال العذراء وحاصل القضية أنه نزه ألفاظه عن النزاهة ولم يتفيهق ولم يتشدق غيره وما أحقه بقول القائل
( وما مثله إلا كفارغ حمص ... خلي من المعنى ولكن يفرقع )
وبيت بديعيتي
( نزهت لفظي عن فحش وقلت هم ... عرب وفي حيهم يا غربة الذمم )
وحشمة النزاهة لا تخفى على أهل الذوق السليم والعلم مع ما فيها من عدم التكليف في الميل عن التعسف
والذي أقوله إن بيتي في هذا الباب جر أذيال البلاغة مع جرير وشاركه في العذوبة والتباري ولكن له نبأ في التسمية صدر عن خيبر

(1/174)


ذكر التخيير
( تخيروا لي سماع العذل وانتزعوا ... قلبي وزادوا نحولي مت من سقمي )
التخيير هو أن يأتي الشاعر ببيت يسوغ فيه أن يقفي بقواف شتى فيتخير منها قافية يرجحها على سائرها
يستدل بتخييرها على حسن اختياره كقول الشاعر
( إن الغريب الطويل الذيل ممتهن ... فكيف حال غريب ما له قوت )
فإنه يسوغ أن يقال ما له مال ما له سبب ما له أحد ما له قوت فإذا تأملت ما له قوت وجدتها أبلغ من الجميع وأدل على القافية وأمس بذكر الحاجة وأبين للضرورة وأشجى للقلوب وأدعى للاستعطاف فلذلك رجحت على ما ذكرناه
ومن هذا النوع في الكتاب العزيز قوله تعالى ( إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون ) فالبلاغة تقتضي أن تكون فاصلة الآية الأولى للمؤمنين لأنه سبحانه وتعالى ذكر العالم بجملته حيث قال ( السموات والأرض ) ومعرفة ما في العالم من الآيات الدالة على أن المخترع قادر عليم حكيم ولا بد من التصديق أولا بالصانع حتى يصح أن يكون ما في المصنوع من الآيات دليلا على أنه موصوف بتلك الصفات والتصديق هو الإيمان وكذلك قوله تعالى في الآية الثانية ( لقوم يوقنون ) فإن خلق الإنسان وتدبير

(1/175)


خلق الحيوان والتفكر في ذلك مما يزيده يقينا في معتقده الأول وكذلك معرفة جزئيات العالم من اختلاف الليل والنهار وإنزال الرزق من السماء وإحياء الأرض بعد موتها وتصريف الرياح يقتضي رجاحة العقل ليعلم أن من صنع هذه الجزئيات هو الذي صنع العالم الكلي بعد قيام البرهان على أن للعالم الكلي صانعا مختارا فلذلك اقتضت البلاغة أن تكون فاصلة الآية الثالثة ( لقوم يعقلون )
وإن احتيج للعقل في الجميع إلا أن ذكره هنا أمتن بالمعنى من الأول ويروى أن أعرابيا سمع شخصا يقرأ ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله ) غفور رحيم فقال ما ينبغي أن يكون الكلام هكذا
فقيل إن القارئ غلط والقراءة ( والله عزيز حكيم )
فقال نعم هكذا تكون فاصلة هذا الكلام فإنه لما عز حكم
وإذا تأملت فواصل القرآن وجدتها كلها لم تخرج عن المناسبة كقوله تعالى ( فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر ) لا يجوز التبديل بينهما
إذ لا يجوز النهي عن انتهار اليتيم لمكان تهذيبه وتأديبه وإنما ينهى عن قهره وغلبته كما لا يجوز أن ينهر السائل إذا حرم بل يرده ردا جميلا
ويعجبني قول ديك الجن
( قولي لطيفك ينثني ... عن مضجعي عند المنام )
عند الرقاد عند الهجوع عند الهجود عند الوسن
( فعسى أنام فتنطفي ... نار تأجج في العظام )
في الفؤاد في الضلوع في الكبود في البدن
( جسد تقلبه الأكف ... على فراش من سقام )
من قتاد من دموع من وقود من حزن
( أما أنا فكما علمت ... فهل لوصلك من دوام )
من معاد من رجوع من وجود من ثمن
فهذه القوافي المثبتة يقابل كل بيت بما يليق به منها والأولى أولى وأرجح

(1/176)


وبيت صفي الدين الحلي رحمه الله تعالى
( عدمت صحة جسمي إذ وثقت بهم ... فما حصلت على شيء سوى الندم )
فلذكر عدمت في صدر البيت يليق أن تكون القافية العدم ولذكر الصحة يليق أن تكون القافية السقم ولذكر الوثوق يليق أن تكون القافية الندم والبيت في غاية الرقة والانسجام
وبيت عز الدين
( تخيير قلبي هوى السادات صح به ... عهدي وإني لحزني ثابت الألم )
أما تخيير هذا البيت فإني تركته لأهل الذوق السليم بل تخير البيت بكماله
ولم ينظم العميان في بديعيتهم هذا النوع
وبيتي هو
( تخيروا لي سماع العذل وانتزعوا ... قلبي وزادوا نحولي مت من سقمي )
فسماع العذل يليق به السأم وانتزاع القلب يليق به الألم وزيادة النحول يليق بها السقم وتقديم السقم هنا لقربه من النحول ولم يدخل إلى هذا البيت من الأجانب قافية

(1/177)


ذكر الإبهام
( وزاد إبهام عذلي عاذلي ودجا ... ليلي فهل من بهيم يشتفي ألمي )
الإبهام بباء موحدة وهو أن يقول المتكلم كلاما مبهما يحتمل معنيين متضادين لا يتميز أحدهما عن الآخر ولا يأتي في كلامه بما يحصل به التمييز فيما بعد بل يقصد إبهام الأمر فيهما
والإبهام مختص بالفنون كالمديح والهجاء وغيرهما ولكن لا يفهم من ألفاظه مدح ولا هجاء بل يكون لفظه صالحا للأمرين ومثاله ما يحكى أن بعض الشعراء هنأ الحسن بن سهل باتصال ابنته بالمأمون مع من هنأه فأثاب الناس كلهم وحرمه فكتب إليه إن أنت تماديت على حرماني عملت فيك بيتا لا تعلم مدحتك فيه أو هجوتك
فاستحضره وسأله عن قوله فاعترف وقال لا أعطيك أو تفعل
فقال
( بارك الله للحسن ... ولبوران في الختن )
( يا إمام الهدى ظفرت ... ولكن ببنت من )
فلم يعلم ما أراد بقوله ببنت من في الرفعة أو في الصغر واستحسن منه الحسن ذلك وناشده أسمعت هذا المعنى أم ابتكرته فقال لا والله بل نقلته من شعر شاعر مطبوع كثير العبث بهذا النوع اتفق أنه فصل قباء عند خياط أعور اسمه زيد فقال له

(1/178)


الخياط على طريق العبث به سآتيك به لا تدري أقباء هو أم دواج
فقال له الشاعر إن فعلت ذلك لأعملن فيك بيتا لا يعلم أحد ممن سمعه أدعوت لك أم دعوت عليك ففعل الخياط فقال الشاعر
( خاط لي زيد قباء ... ليت عينيه سواء )
فما علم أحد أن الصحيحة تساوي السقيمة أو بالعكس فاستحسن الحسن صدقه أضعاف استحسانه حذقه
وغالب الناس يسمون الخياط عمرا ويقولون
( خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء )
ولكن نقل زكي الدين بن أبي الأصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير أن الخياط كان اسمه زيدا وأورد البيت مصرعا مرفوع العروض والضرب ووجه الرفع ظاهر فيهما
ولم يتفق للمتأخرين ولا للسلف من قبل في هذا الإبهام غير البيت المتعلق بالخياط زيد والبيت المتعلق بالحسن بن سهل وقد تقدم ذكرهما وقد عززتهما بثالث لما وقفت على تاريخ زين الدين بن قرناص الحلبي ووجدته قريبا من قباء زيد الخياط فقلت
( تاريخ زين الدين فيه عجائب ... وبدائع وغرائب وفنون )
( فإذا أتاه مناظر في جمعه ... خبره عني إنه مجنون )
وكذلك الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته وتبعه الشيخ عز الدين الموصلي لأجل المناظرة ويأتي الكلام على بيتيهما
وقد كشفت عنه قناع الأشكال وأبرزت بدوره المتحجبة في أفق الكمال فإني كتبت فيه تقريضا لم أرض بقراضة الذهب أن تكون له رملا ولا سبقني إليه أديب ولا ولد منه على هذا الطريق شكلا وما ذاك إلا أنه ورد إلى الديار المصرية وأنا منشئ دواوين الإنشاء المؤيدي خلد الله ملكه الشيخ شمس الدين محمد بن ناهض الفقاعي في شهر شوال سنة ثمانية عشر وثمانمائة وقد صنف سيرة مشتملة على نظم ونثر للسلطان الملك المؤيد ولم يكن للمشار إليه إلمام بتعاطي الأدب في مبادي عمره فسألني أن أكتب له عليها تقريظا قبل تقديمها فامتنعت من ذلك مدة فدخل علي بمن

(1/179)


لا تمكن مخالفته فحسنت له كتابة شيخنا القاضي بدر الدين بن الدماميني أولا فتوجه إليه فالتزم بالأيمان المغلظة أنه لا يكتب له إلا إذا كتبت له فلزمتني الكتابة من وجوه فكتبت له هذا التقريظ الذي صلت البلغاء خلفه فإنه للمحاسن جامع وأوضحت طريقه فضاع نشره الذي كان من غير تورية ضائع وهو
وقفت على قواعد الأدب من هذه السيرة الناهضية فوجدت مطرب لحنها قد أعرب عن التنكيت لأهل النكتب الأدبية ونويت معها سلوك الأدب لاحتشامها بالصفات المؤيدية فإنها ما قوبلت بأدب إلا تقوت بسلطانها ولا جارتها سيرة مطولة إلا كانت قاصرة عن الجري في ميدانها ولا ذكرت التواريخ المقدمة معها إلا تأخرت وكبت خلفها ولا ناظرها ذو قصص إلا ثقل عليه أمرها ونظر إلى قصصه فاستخفها ولا بالغ أهل التقاريض في تقاريضهم إلا وكانت دونها واستحق لها هذا الوصف في ذمة أهل الأدب فاستوفت منه ديونها فلو نظر الصفدي إلى هذا التاريخ وراجع النظر لسلخ جلده أو تصفحه الكتبى لعدد على تاريخه وما عده أو كاثره ابن كثير لرأى نقصه متزايدا عنده أو عاصره ابن خلكان لقال لم أمازج شراب الفقاعي بخلي فإن عنده حمضة وبرده أو لمحه الذهبي وموه بتاريخه لقيل له هذا ما ينطلي معه وعلم أن خلاصة الذهب تظهر بالسبك فهضم من جانبه ووضعه ولو أدركه البديع لرمى بديعه وعلم أنه بدعة أو لحقه الوهراني لرآه في المنان إن حصل له بعد مطالعته هجعة نسب هذا التأليف إلى الدولة المؤيدية فصار له على كل أهل الأرض صوله فلو ناظره مؤلف بمجلد لقلنا هذا جراب الدولة تحمس في شعره وتغالى فألقى لنا في سوق الكلام رخصه ولو زايده أبو تمام لتحقق عجزه وأرانا بنفسه نقصه نعم هذه الأشعار التي ما زاحمها شاعر بديوانه إلا تلت عليه بعد الزلزلة الواقعة وتقوم القيامة وهي إلى الحشر مرمية على القارعة ولقد أقام أوزانها بالقسط ولكن رجحها على القيراطي بفضله ونقص عنها الراجح الحلي لأن فيها زيادة على مثله فيا له من شعر قصر عن بحره الطويل كل معارض وكيف لا وناظمه ذو همة علية وناهض وابن ناهض وقد وقف ابن حجة وقوف معترف أن عنده في نظمه وقفه وسيكتب المقر البدري على اعترافه أنه قاضي الأدب وإمامه الذي صلت البلغاء خلفه وفتحت لعلماء الأدب هذا الباب وأرجو أن يكون فتحا مبينا فإن رضوني براعة بحسن الختام وإذا حصل العلل من هذا النهر روينا نعم وقفت وغير خاف عن علومهم الكريمة أن شرط الواقف ما يهمل وامتثلت

(1/180)


مراسيم المصنف مع سلوك الأدب الذي يذوقه من له فيه أعذب منهل والله يجمعنا على هذا الشرب لتحلو موارده بالموارده ولا يحجبنا عن الكلام الذي يحسن السكوت عليه وتتم به الفائدة
وكتب بعد ذلك سيدنا القاضي بدر الدين المشار إليه وقفت أنا ولا أكاد أثبت نظري لشدة الخجل وسألت المهلة في وصف هذه الألفاظ فإذا هي قد جاءت على عجل فقلت أما المقام الشريف الممدوح عز نصره ولا زالت تفخر بدولته القاهرة مصره فملك مد على الرعية جناح العدل وحمى بيضة الإسلام وتواردت على تجريح عداته وتعديل صفاته السنة السيوف والأقلام وسار على أقوم طريق فأذكرنا السيرة العمريه وطلع في سماء الكواكب كالبدر فقل ما شئت في الطلعة القمرية ودعا إلى نسك طاعته فلبته في ذلك الموقف النفوس ونادى على أعدائه منادي الحتف فأرانا كيف يكون الترخيم بحذف الرؤس ناهيك بها مناقب سرت القلوب وسارت ونافست النجوم جواهر الألفاظ في مدحها فغارت وشملت البرايا بالمن والمنح وقابلت المسيء بالعفو والصفح حماها الله تعالى من الغير وجعل صفاتها الشريفة جمال الكتب والسير
وأما منشئ السيرة فماذا أقول وقد رأيت الخطب جليلا وماذا أصف وقد حملني العجز عبئا ثقيلا هو كبير أناس مزمل من البلاغة بأنواع وأجناس يأتم به الهداة كأنه علم وتروم الأدباء المقايسة به فيقاسون ولكن من شدة الألم له في الأدب صريمه وشهامه وفراهة تجريه إلى المقامات الرائقة فلا تعتريه سآمه ما هم بتركيب معنى إلا وشرح الصدور بذلك الهم ولا شن فارس فكره غارة إلا وتم منها على بيوت الشعراء ما تم
طالما أظهر برغم أنوف الحسدة في المجالس فضله وصعبت الآداب على غيره لكنها أصبحت عليه سهلة وعقل غرائب نكته عما سواه فلله ما أبدع عقله كدر عيش الحلي بما ابتدعه من العجائب ولا ينكر لمثله تكدير الصفي واكتفى في ميدان البراعة بجواد فكره الذي جال وهو مكر مفر وهكذا يكون المكتفي أتى في تاريخه بألفاظ لو رآها ابن الأثير لتأثر وابن سعيد لتعثر وابن بسام لأصيب منها بالقارعة فعبس وتولى أو الحجازي لرمي منها بالداهية التي هدمت ما بناه وثقلت عليه حملا وكتب خطا لو لمحه ابن مقلة لأصيب منه بنظره أو ابن البواب لهتك ستره وجاء بأدب لو وازن أحد به الراجح الحلي لما أقام له وزنا ولا رجحه ولو تأمل المليحي ملاحة لفظه الذي ما مر

(1/181)


مثله بالذوق إلا قال لسان التعجب ما أملحه ولو قيس به ابن الرومي المتعاظم لأنشد الناظم
( ولو أني بليت بهاشمي ... خؤولته بنو عبد المدان )
( لهان علي ما ألقى ولكن ... تعالوا وانظروا بمن ابتلاني )
ولو تشبه به مادح كافور لعاد من برده بكبد حرا ولو كلف مجاراته صاحب القطر النباتي لقال ربنا أفرغ علينا صبرا ولو تعرض ديك الجن لعزائمه في الأدب لما زادته إلا خبالا ولرأى سطورا تتوالد منها المعاني العجيبة والليالي كما علمت حبالي ولو أصبح ابن قادوس فخارا بمثل أدبه لقلنا له حسبه أن يدور في الدولاب ولو تسرح الزغاري إلى تصيد معانيه الشاردة لقطعت عليه أذناب الكلاب ولو تسلق المعمار عليها لعلم أنه ينحت من الجبال بيوتا ولو رآه أبو نواس لقال هذا الذي نقل الأدب خبرا وعلم من أين يؤتى ولو عورض به ابن مماتي لطال على قريحته الميتة النحيب أو ذكر الصابي لقال الذوق السليم ليس لعصرنا من صاب سوى هذا الأديب ولو أدرك آدابه الحكيم ابن دانيال لعلم أنه ما تخيل نظيرها في الوهم ولا تصور مثلها في الخيال وإذا كان الأمر كما قال حسان بن ثابت الأنصاري
( وإنما الشعر عقل المرء يعرضه ... على البرية إن كيسا وإن حمقا )
فما أوفر عقل هذا الشاعر وأوفاه وما أقدره على تخيل المعاني الغريبة وأقواه وما أحمق من قاسه على قرنائه من هذه الصناعة التي تعاطاها بسواه كم تصور معنى في الذهن فأبرزه في الخارج أغرب الأشياء أسلوبا وكم ركب جناسا إذا ذكر البستي عنده قال الأدب دعنا من تركيبه للجناس مقلوبا
ولقد كنت أرتجي بابا أدخل منه للتقريض ففتح لي المقر التقوي بابا مرتجا ونهج الطريق إلى المدح فاقتفيت آثاره واهتديت حيث رأيت منهجا أبقاه الله لإبهام يوضحه وفساد عاجز يصلحه والله تعالى يحفظ على منشئ هذه السيرة قريحته التي هي لعجائب الأدب حائزه ويجعله ممن يسرح في رياض الصدقات الشريفة بما يسوقه إليه من وفور الجائزه

(1/182)


وألح المصنف بعد ذلك على المقر المجدي فضل الله بن مكانس فكتب يا لطيف نظرت هذه السيرة التي يعرض عنها المعارض وينزو مؤلفها في رياض الأدب على بكر من سوام المعاني وفارض فوجدته قد نهض بعبء ثقيل من الكلام وقام وأوقف البلغاء في مقام العجز ويعذر العاجز إذ شرفها بذكر مولانا السلطان في هذا المقام خلد الله ملكه الشريف وعم بعدله المبسوط مدائن فضل ذات ظل وريف وجعل أيامه الزاهرة تواريخ السعود ومغانم الوفود ومواسم الكرم والجود وثبت قواعد سلطانه على التخوم ورفع جنابه المعظم على الأفلاك حتى تسير لخدمته ممنطقات بمناطق النجوم وأعز دولته عزا يذل له الدبر والأملس وتلبس أثوابه في الأرض ويخص محله الرفيع من تلك الأفلاك بالأطلس هنالك ينحني الهلال لتقبيل أقدامه ويمتد كف الثريا لاستجداء صوب غمامه ويتضاءل كل منهما فيصير هذا نعل فرسه وهذا حلية لجامه وملكه رقاب العباد وأمضى أحكام سيوفه في رقاب أهل العناد حتى يشهد الدين أنه قام بحقوقه نافلة وفرضا وسعى في مراضي الله فزلزل ديار الكفار سماء وأرضا ضاعف الله ثواب عمله المقبول وأنشد بشكره لسان العالم حتى ينطق ويقول
( السيد المالك الملك المؤيد سيف ... الدين شيخ حوى العليا وأرضاها )
( وشيد الدين والدنيا ببيض ظبا ... إن لم تضاه به في الحرب أمضاها )
ثم كررت النظر فيها واستنهضت القلم المكتابة عليها حسب سؤال منشيها فنكس القلم من الخجل رأسه وصعد من صريره أنفاسه وقال لست ممن يجيد في هذا التقريض عباره ولا ينهض في وصف ما جاء به هذا الرجل من متين كلمه الذي أفحم الفحول فكأنما ألقمهم حجاره فلقد ترفع قلمه في أرض قرطاسه وسما وأتى من الرقيق بشيء يحسبه الظمآن ماء وقذف الرعب في القلوب بذكر الوقائع فورمت خوفا وشكت

(1/183)


مما قذف بها ورما فلو وازنه القيراطي لثقل في الحقيقة عليه أو حام على حمى ابن أبي حجلة لفر طائرا من بين يديه أو جلا على ابن نباتة سلاف نظمه لم يقل إلي بكاسك الأشهى إلي أو أورى زنده مع الشواء لأحرق قلبه ولم يستحسن منه شيئا أو عاصر ابن الساعاتي لم يلتذ بطيب المنام أو جارى النصير الحمامي لألقى شعره في سرب الحمام أو تقدم لزمان أبي تمام وناظره لعلم الناس أنه غير لبيب وقال له علماء البديع هذا ضدك يا حبيب أو ابن حجاج لأظهر فساد عقله السخيف ورمى بجميع ما قاله في الكنيف فهو أولى منهم بما جره الفضل وجذب وأحق وإن اشتهرت فضائلهم أن يشتهر بالأدب فإنه لو كلف الغريب من القول لأتى به على كنهه أو أقام الاعتذار عن قبيح لقام العذر عما جاء به وذهب على وجهه ولو تصدى لتهجين حسن لزان بما يملأ الطروس من ذلك وشحن أو حاجج بالباطل من يعرب عن الحق لنهض بحجته واستمر يلحن فسبحان من أقدره على ما تقصر عن إدراكه الإفهام وتعجز عن تصوره عقول الأنام
ولقد استعفاه القلم عن الكتابة خشية من عرض فضائحه وسأله طي هذه الصحيفة خوفا من نشر قيائحه فأبى إلا إظهار المكتوم وفض المختوم فيا خجلتاه لما كتب ويا فضيحتاه إذا لام الفاضل على ما جاء به وعتب ولكنه جرى خلف الجوادين السابقين واقتدى بإمامتهما التي اعترف الآفاق أنها ملأت الخافقين أبقاهما الله مدى الزمان وأسبغ عليهما غطاء الفضل وبلغهما غاية الأماني يوم الخوف والأمان وأمتع بجناب منشئها الأحباب وأقر به أعين الإخوان وبسط به أنفس الأصحاب وألهمنا أجمعين تجنب ما خفي علينا من عوراتنا وكشف حجب قلوبنا بمنه وكرمه
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي
( ليت المنية حالت دون نصحك لي ... فيستريح كلانا من أذى التهم )
هذا البيت ليس له نظير في هذا الباب فإنه اشتمل على الرقة والسهولة والانسجام وما زاده حسنا إلا تقويته بليت التي استعان بها الشاعر في إبهام بيته على زيد الخياط

(1/184)


فإن الشيخ صفي الدين لما قال لعاذله ليت المنية حالت دون نصحك لي حسن إبهامه بقوله فيستريح كلانا من أذى التهم وصار الأمر مبهما بينه وبين العاذل
وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته يخاطب فيها العاذل
( أبهمت نصحي مشيرا بالأصابع لي ... ليت الوجود رمى الإبهام بالعدم )
وهذا الإبهام هنا يشار إليه بالأصابع وتعقد عليه الخناصر فإن الشيخ عز الدين رحمه الله تعالى أجاد فيه إلى الغاية ولم يتفق له في نظم بديعيته بيت نظيره ولا اتفق لغيره ممن نظم بديعية فإنه جمع بين السهولة والانسجام والتصوير والتورية البارزة في أحسن القوالب بتسمية نوع الإبهام الذي هو المقصود ولعمري إنه بالغ في عطف القلوب بهذا السحر الحلال
ولم ينظم العميان في بديعيتهم هذا النوع وبيت بديعيتي
( وزاد إبهام عذلي عاذلي ودجا ... ليلي فهل من بهيم يشتفي ألمي )
فإن الإبهام هنا بين بهيم الليل وبين العاذل فإن اشتراك البهيم صالح لهما ولكن لم يحصل التمييز لأحدهما عن الآخر كما وقع الشرط بين الأمر بينهما مبهما ولا يعلم من هو المقصود منهما وهذا هو الفرق بين الإبهام والتورية إذ المراد من التورية المعنى البعيد المورى عنه بالقريب

(1/185)


ذكر إرسال المثل
( وكم تمثلت إذ أرخوا شعورهم ... وقلت بالله خلوا الرقص في الظلم )
إرسال المثل نوع لطيف في البديع ولم ينظمه في بديعيته غير الشيخ صفي الدين وهو عبارة عن أن يأتي الشاعر في بعض بيت بما يجري مجرى المثل من حكمة أو نعت أو غير ذلك مما يحسن التمثل به كقوله تعالى ( ليس لها من دون الله كاشفة ) وقوله تعالى ( وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء ) وقوله تعالى ( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ) وقوله تعالى ( إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها )
ومما جاء من ذلك في السنة الشريفة قوله ( لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين )
وقوله ( لا ضرر ولا ضرار )
وقوله ( خير الأمور أوساطها )
وقوله ( المرء مع من أحب )
وقوله ( المستشار مؤتمن وهو بالخيار ما لم يتكلم )
وقوله ( ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها يوم القيامة )
وقوله ( البلاء موكل بالمنطق )
وقد احتوى كتاب أبي أحمد العسكري على كثير من هذا الباب ومن أمثلته في الشعر قول زهير
( وهل ينبت الخطمي إلا وشيجة ... وتغرس إلا في منابتها النخل )

(1/186)


ومثله قول النابغة
( ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب )
ومثله قول بشار
( فعش واحدا أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه )
وما أحلى ما قال بعده
( إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفوا مشاربه )
وقول أبي تمام
( فلو صورت نفسك لم تزدها ... على ما فيك من كرم الطباع )
وكقوله
( نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول )
وذكر ابن أبي الأصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير إنه استخرج أمثال أبي تمام من شعره فوجدها تسعين نصفا وثلثمائة بيت وأربعة وخمسين بيتا واستوعب أمثال أبي الطيب المتنبي فوجدها مائة نصف وثلاثة وسبعين نصفا وأربعمائة بيت ولكنه أخرج من أمثال أبي الطيب ما ولده من أمثال أبي تمام وصدر الجميع بما وقع في الكتاب العزيز من الأمثال بزيادات على ذلك وهي أمثال الأشعار السنية والحماسة وأمثال أبي نواس بعد أن ألحق أمثال القرآن بأمثال دواوين الإسلام السنية وختم الجميع بأمثال العامة في كتاب الأمثال له
ومما سار من أمثال الطغرائي في لامية العجم قوله
( حب السلامة يثني عزم صاحبه ... عن المعالي ويغري المرء بالكسل )
( لو أن في شرف المأوى بلوغ مني ... لم تبرح الشمس يوما دارة الحمل )
( أعلل النفس بالآمال أرقبها ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل )
( وعادة النصل أن يزهى بجوهره ... وليس يعمل إلا في يدي بطل )
( ما كنت أوثر أن يمتد بي زمني ... حتى أرى دولة الأوغاد والسفل )

(1/187)


( هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا ... من قبله فتمنى فسحة الأجل )
( وإن علاني من دوني فلا عجب ... لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل )
( فاصبر لها غير محتال ولا ضجر ... في حادث الدهر ما يغني عن الحيل )
( أعدي عدوك أدنى من وثقت به ... فحاذر الناس واصحبهم على دخل )
( وإنما رجل الدنيا وواحدها ... من لا يعول في الدنيا على رجل )
( يا واردا سؤر عيش كله كدر ... أنفقت صفوك في أيامك الأول )
( فيم اقتحامك لج البحر تركبه ... وأنت تكفيك منه مصة الوشل )
( ملك القناعة لا يخشى عليه ولا ... يحتاج فيه إلى الأنصار والخول )
( ترجو البقاء بدار لا بقاء لها ... فهل سمعت بظل غير منتقل )
( ويا أمينا على الأسرار مطلعا ... اصمت ففي الصمت منجاة من الزلل )
وممن سار في مجرى هذه القصيدة ووزنها أبو الطيب المتنبي في قصيدته التي أولها
( أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل ... دعا فلباه قبل الركب والإبل )
( وما صبابة مشتاق على أمل ... من اللقاء كمشتاق بلا أمل )
( والهجر أقتل لي مما أراقبه ... أنا الغريق فما خوفي من البلل )
( قد ذقت شدة أيامي ولذتها ... فما حصلت على صاب ولا عسل )
( خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل )
أنظر إلى محاسن هذين الفحلين إلى الغاية التي تمثلا بها في الشمس وزحل وتأخر سوابق الأفهام عن معرفة السابق منهما إلى الغاية ومنها قوله
( وقد وجدت مكان القول ذا سعة ... وإن وجدت لسانا قائلا فقل )
( لعل عتبك محمود عواقبه ... فربما صحت الأجسام بالعلل )

(1/188)


( لأن حلمك حلم لا تكلفه ... ليس التكحل في العينين كالكحل )
( وما ثناك كلام الناس عن كرم ... ومن يسد طريق العارض الهطل )
وقد عن لي أن أجمع هنا ما حلا بذوقي من أمثال أبي الطيب المتنبي وإن كان فيها ما ولده من شعر أبي تمام كما ذكره ابن أبي الأصبع فإن القصد أن نصيرها عمدة لأهل الإنشاء إذا أوردوها في الوقائع التي تليق بها على اختلاف أنواعها فمن ذلك قوله
( إذا صديق نكرت جانبه ... لم تعيني في فراقه الحيل )
( في سعة الخافقين مضطرب ... وفي بلاد من أختها بدل )
وقوله من قصيدة
( أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا )
( ومن يك ذا فم مر مريض ... يجد مرا به الماء الزلالا )
وقوله من قصيدة
( ذل من يغبط الذليل بعيش ... رب عيش أخف منه الحمام )
( كل حلم أتى بغير اقتدار ... حجة لاجئ إليها اللئام )
( من يهن يسهل الهوان عليه ... ما لجرح بميت إيلام )
( خير أعضائنا الرؤوس ولكن ... فضلتها بقصدك الأقدام )
وقوله
( ما كل من طلب المعالي نافذا ... فيها ولا كل الرجال فحولا )
( تلف الذي اتخذ الجراءة خلة ... وعظ الذي اتخذ الفرار خليلا )
وقوله
( ومكايد السفهاء واقعة بهم ... وعداوة الشعراء بئس المقتني )
ويعجبني قوله في الهجو وهو مما نحن فيه
( فلو كنت امرأ تهجى هجونا ... ولكن ضاق قطر عن مسير )

(1/189)


وقوله
( فقر الجهول بلا لب إلى أدب ... فقر الحمار بلا رأس إلى رسن )
( قد هون الصبر عندي كل نازلة ... ولين العزم خد المركب الخشن )
( لا يعجبن مضيما حسن بزته ... وهل تروق دفينا جودة الكفن )
وقال من أبيات قوله
( عرفت الليالي قبل ما صنعت بنا ... فلما دهتني لم تزدني بها علما )
( وكنت قبيل الموت أستعظم النوى ... فقد صارت الصغرى التي كانت العظمى )
( فلا عبرت بي ساعة لا تعزني ... ولا صحبتني مهجة تقبل الظلما )
وقوله أيضا
( وأنا الذي اجتلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل )
( أنعم ولذ فللأمور أواخر ... أبدا كما كانت لهن أوائل )
( للهو آونة تمر كأنها ... قبل تزودها حبيب راحل )
( جمح الزمان فما لذيذ خالص ... مما يشوب ولا سرور كامل )
( وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني فاضل )
وقال من قصيدة وهي أبلغ ما يكون في المدح
( أعيا زوالك عن محل نلته ... لا تخرج الأقمار من هالاتها )
وقال من قصيدة
( وأشجع مني كل يوم سلامتي ... وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر )
( ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها ... فمفترق جاران دارهما عمر )
( ومن ينفق الساعات في جمع ماله ... مخافة فقر فالذي فعل الفقر )
( وأستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغر الخبر الخبر )
( وإني رأيت الضر أحسن منظرا ... وأهون من مرأى صغير به كبر )

(1/190)


ويعجبني من المديح منها شعر
( وما أنا وحدي قلت ذا الشعر كله ... ولكن لشعري فيك من نفسه )
وقال من قصيدة
( وما ليل بأطول من نهار ... يظل بلحظ حسادي مشوبا )
( ولا موت بأنقص من حياة ... أرى لهم معي فيها نصيبا )
( عرفت نوائب الحدثان حتى ... لو انتسبت لكنت لها نقيبا )
وما أظرف ما قال منها
( وشيخ في الشباب وليس شيخا ... يسمى كل من بلغ المشيبا )
( قسا فالأسد تفزع من يديه ... ورق فنحن نفزع أن يذوبا )
وقال من قصيدة وهي التي ذكروا أنه ادعى فيها النبوة
( ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوا له ما من صداقته بد )
وقال من قصيدة
( قد كنت أشفق من دمعي على بصري ... فاليوم كل عزيز بعدكم هانا )
( إذا قدمت على الأهوال شيعني ... قلب إذا شئت أن يسلاكم خانا )
( أبدو فيسجد من بالسوء يذكرني ... ولا أعاتبه صفحا وأهوانا )
( وهكذا كنت في أهلي وفي وطني ... إن النفيس عزيز حيثما كانا )
( لا أشرئب إلى ما لم يفت طمعا ... ولا أبيت على ما فات حسرانا )
( ولا أسر بما غيري الحميد به ... ولو حملت إلي الدهر ملآنا )
وقوله من قصيدة
( فما لي وللدنيا طلابي نجومها ... ومسعاي منها في شدوق الأراقم )

(1/191)


( من الحلم أن يستعمل الجهل دونه ... إذا اتسعت في الحلم طرق المظالم )
( ومن عرف الأيام معرفتي بها ... وبالناس روي سيفه غير راحم )
( ولولا احتقاري الأسد شبهتها بهم ... ولكنها معدودة في البهايم )
( وكاد سروري لا يفي بندامتي ... على تركه في عمري المتقادم )
وقال من قصيدة
( وأحسب أني لو هويت فراقكم ... لفارقتكم والدهر أخبث صاحب )
( فيا ليت ما بيني وبين أحبتي ... من البعد ما بيني وبين المصائب )
( يهون على مثلي إذا رام حاجة ... وقوع العوالي دونها والقواضب )
( كثير حياة المرء مثل قليلها ... يزول وباقي عيشه مثل ذاهب )
( بأي بلاد لم أجر ذوائبي ... وأي مكان لم تطأه ركائبي )
وتخلص إلى مديح طاهر ولكنه أتى في تخلصه بالعجائب فقال
( كأن رحيلي كان من كف طاهر ... فأثبت كوري في ظهور المواهب )
ما يقول أثبت كوري في ظهور المواهب إلا المتنبي
ومن أبياته التي سارت أمثالا قوله
( إذا غامرت في شرف مروم ... فلا تقنع بما دون النجوم )
( فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم )
( وكل شجاعة في المرء تغني ... ولا مثل الشجاعة في الحليم )
( وكم من عائب قولا صحيحا ... وآفته من الفهم السقيم )
( ولكن تأخذ الأسماع منه ... على قدر القرائح والفهوم )

(1/192)


وقال من قصيدة
( والهم يحترم الجسيم مخافة ... ويشيب ناصية الصبي ويهرم )
( ذو العقل يشقى في النعيم بعقله ... وأخو الجهالة في الشقاء منعم )
( لا تخدعنك من عدو دمعة ... وارحم شبابك من عدوك ترحم )
وما أعظم ما قال بعده
( لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه الدم )
( والظلم من شيم النفوس فإن تجد ... ذا عفة فلعلة لا يظلم )
( ومن البلية عذل من لا يرعوي ... عن جهله وخطاب من لا يفهم )
( والذل يظهر في الذليل مودة ... وأود منه لمن يود الأرقم )
( ومن العداوة ما ينالك نفعه ... ومن الصداقة ما يضر ويؤلم )
( أفعال من تلد الكرام كريمة ... وفعال من تلد الأعاجم أعجم )
وقوله
( كريشة بمهب الريح ساقطة ... لا تستقر على حال من القلق )
ويعجبني قوله من أبيات يتمثل بها في كثرة الإحسان المفرط
( ولم تملل تفقدك الموالي ... ولم تذمم أياديك الجساما )
( ولكن الغيوث إذا توالت ... بأرض مسافر كره المقاما )
( وصار أحب ما يهدى إليه ... لغير قلى وداعك والسلاما )
وقال
( والغنى في يد اللئيم قبيح ... قدر قبح الكريم في الإملاق )
وقال من قصيدة
( وقد يتزيا بالهوى غير أهله ... ويستصحب الإنسان من لا يلائمه )

(1/193)


( بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه )
( وما استغربت عيني فراقا رأيته ... ولا علمتني غير ما أنا عالمه )
وقوله
( وإذا كانت النفوس كبارا ... تعبت في مرادها الأجسام )
وقال من قصيدة
( إذا اعتاد الفتى خوض المنايا ... فأهون ما تمر به الوحول )
وقوله
( رماني الدهر بالأرزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبال )
( فصرت إذا أصابتني سهام ... تكسرت النصال على النصال )
وقوله
( يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل )
( ولو زلتم ثم لم أبككم ... بكيت على حبي الزائل )
وقوله
( هل الولد المحبوب إلا تعلة ... وهل جلوة الحسناء إلا أذى البعل )
( وقد ذقت حلواء البنين على الصبا ... فلا تحسبني قلت ما قلت عن جهل )
( وما الدهر أهل أن تؤمل عنده ... حياة وإن يشتاق فيه إلى النسل )
وقال
( إذا ما الناس جربهم لبيب ... فإني قد أكلتهم وذاقا )
وقوله
( فما ترجي النفوس من زمن ... أحمد حاليه غير محمود )
وقوله
( ووجه البحر يعرف من بعيد ... إذا يسجو فكيف إذا يموج )
وقال
( ليس الجمال لأنف صح مارنه ... أنف العزيز بقطع العز يجتدع )
( من كان فوق محل الشمس موضعه ... فليس يرفعه شيء ولا يضع )
( إن السلاح جميع الناس تحمله ... وليس كل ذوات المخلب السبع )
وقوله مفتخرا
( وإنا إذا ما الموت صرح في الوغى ... لبسنا إلى حاجاتنا الضرب والطعنا )
وقوله
( أهم بشيء والليالي كأنها ... تطاردني عن كونه وأطارد )
( وحيد من الخلان في كل بلدة ... إذا عظم المطلوب قل المساعد )

(1/194)


( ولكن إذا لم يحمل القلب كفه ... على حالة لم يحمل الكف ساعد )
منها
( بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد )
( وكل يرى طرق الشجاعة والندى ... ولكن طبع النفس للنفس قائد )
( فإن قليل الحب بالعقل صالح ... وإن كثير الحب بالجهل فاسد )
وقوله
( وما كل وجه أبيض بمبارك ... ولا كل جفن ضيق بنجيب )
( كأن الردى عاد على كل ماجد ... إذا لم يعوذ مجده بعيوب )
( ولولا أيادي الدهر في الجمع بيننا ... غفلنا فلم نشعر له بذنوب )
( فرب كئيب ليس تندى جفونه ... ورب كثير الدمع غير كئيب )
( وفي تعب من يجحد الشمس ضوءها ... ويجهد أن يأتي لها بضريب )
وقوله
( ومن صحب الدنيا طويلا تقلبت ... على عينه حتى يرى صدقها كذبا )
( ومن تكن الأسد الضواري جدوده ... يكن ليله صبحا ومطعمه غصبا )
( ولست أبالي بعد إدراكي بالعلا ... أكان تراثا ما تناولت أم كسبا )
ويعجبني من هذه القصيدة قوله في مديح سيف الدولة وقد كسر الدمستق على مرعش
( أتى مرعشا يستقرب البعد مقبلا ... وأدبر إذ أقبلت تستبعد القربا )
( كذا يترك الأعداء من يكره القنا ... ويقفل من كانت غنيمته رعبا )
( مضى بعدما التف الرماحان ساعة ... كما يلتقي الهدب في الرقدة الهدبا )
( ولكنه ولى وللطعن سورة ... إذا ذكرتها نفسه لمس الجنبا )
( فحب الجبان النفس أوردها البقا ... وحب الشجاع الحرب أوردها الخربا )
وما أحلى ما قال بعده
( ويختلف الرزقان والفعل واحد ... إلى أن ترى إحسان هذا لذا ذنبا )

(1/195)


ومن أنصاف مطالعه التي يتمثل بها الناس
( واحر قلباه ممن قلبه شبم ... )
ونصفه الثاني لأجل تمام شخص المطلع
( ومن بجسمي وحالي عنده سقم ... )
ويعجبني من هذه القصيدة قوله يخاطب سيف الدولة ويشير إليه أنه سمع فيه كلام الأعداء وقد أحضرهم لمواجهته ولم يخرج عن إرسال المثل
( يا أعدل الناس إلا في معاملتي ... فيك الخصام وأنت الخصم والحكم )
( أعيذها نظرات منك صادقة ... أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم )
( وما انتفاع أخي الدنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظلم )
ومما سار من أمثالها قوله
( إذا رأيت نيوب الليث بارزة ... فلا تظنن أن الليث مبتسم )
( يا من يعز علينا أن نفارقهم ... وجداننا كل شيء بعدكم عدم )
( إن كان سركم ما قال حاسدنا ... فما لجرح إذا أرضاكم ألم )
( وبيننا لو رعبتم ذاك معرفة ... إن المعارف في أهل النهى ذمم )
( كم تطلبون لنا عيبا فيعجزكم ... ويكره الله ما تأتون والكرم )
ومنها وليس لمثله مثيل
( إذا ترحلت عن قوم وقد قرروا ... أن لا تفارقهم فالراحلون هم )
وما أحلى ما قال بعده
( شر البلاد مكان لا صديق به ... وشر ما يكسب الإنسان ما يصم )
وقال من أبيات
( وإن كان ذنبي كل ذنب فإنه ... محا الذنب كل المحو من جاء تائبا )
وقال من قصيدة
( وما كمد الحساد شيئا قصدته ... ولكنه من يزحم البحر يغرق )
( وإطراق طرف العين ليس بنافع ... إذا كان طرف القلب ليس بمطرق )

(1/196)


وقوله
( لولا مفارقة الأحباب ما وجدت ... لها المنايا إلى أرواحنا سبلا )
وقوله
( لا بقومي شرفت بل شرفوا بي ... وبنفس فخرت لا بجدودي )
وما أحلى ما قال من غزلها
( أي يوم سررتني بوصال ... لم ترعني ثلاثة بصدود )
منها
( أين فضلي إذا قنعت من الدهر ... بعيش معجل التنكيد )
( عش عزيزا أو مت وأنت كريم ... بين طعن القنا وخفق البنود )
وقال من قصيدة
( وعذلت أهل العشق حتى ذقته ... فعجبت كيف يموت من لا يعشق )
وقوله من قصيدة
( تحقر عندي همتي كل مطلب ... ويقصر في عيني المدى المتطاول )
وما أحلى ما قال بعده
( وما زلت طودا لا تزول مناكبي ... إلى أن بدت للضيم في زلازل )
وله من قصيدة
( ليس التعلل بالآمال من أربي ... ولا القناعة بالإقلال من شيمي )
( ولا أظن بنات الدهر تتركني ... حتى تسد عليها طرقها هممي )
وما ألطف ما قال منها
( أرى أناسا ومحصولي على غنم ... وذكر جود ومحصولي على الكلم )
( لقد تصبرت حتى لات مصطبر ... فالآن أقحم حتى لات مقتحم )

(1/197)


وقال
( وكاتم الحب يوم البين منهتك ... وصاحب الدمع لا تخفى سرائره )
وقوله
( إذا قيل رفقا قال للحلم موضع ... وحلم الفتا في غير موضعه جهل )
وقال من قصيدة
( فموتي في الوغى عيشي لأني ... رأيت العيش من أرب النفوس )
وقال من أخرى
( إن ترمني نكبات الدهر عن كثب ... ترمي امرأ غير رعديد ولا نكس )
وقال
( خير الطيور على القصور وشرها ... يأوي الخراب ويسكن الناووسا )
وقال أيضا
( يخفي العداوة وهي غير خفية ... نظر العدو بما أسر يبوح )
وقال أيضا
( وهبني قلت هذا الصبح ليل ... أيعمى العالمون عن الضياء )
وقال أيضا
( وشغل النفس عن طلب المعالي ... يبيع الشعر في سوق الكساد )
ومنها
( وما ماضي الشباب بمسترد ... ولا يوم يمر بمستعاد )
( متى لحظت بياض الشيب عيني ... فقد وجدته منها في السواد )
( وما العضب الطريف وإن تقوى ... بمنتصف من الكرم التلاد )
( فإن الجرح يدمي بعد حين ... إذا كان البناء على فساد )
( وكيف يبيت مضطجعا جبان ... فرشت لجنبه شوك القتاد )
وما أحلى قوله من قصيدة
( إني وإن لمت حاسدي فما ... أنكر أني عقوبة لهم )
( كفاني الذم أنني رجل ... أكرم مال ملكته الكرم )
وما أحلى ما قال بعده
( يجني الغنى للئام لو عقلوا ... ما ليس يجني عليهم العدم )
وقال أيضا
( خليلك أنت لا من قلت خلي ... وإن كثر التجمل والكلام )
( ولو لم يعل إلا ذو محل ... تعالى الجيش وانحط القتام )

(1/198)


وما أحلى قوله منها
( تلذ له المروءة وهي تؤذي ... ومن يعشق يلذ له الغرام )
ومما سار من أمثالها
( لقد حسنت بك الأيام حتى ... كأنك في فم الدنيا ابتسام )
( تروع ركانة وتذوب ظرفا ... فما ندري أشيخ أم غلام )
وقال من قصيدة
( أظمتني الدنيا فلما جئتها ... مستمطرا أمطرت علي مصائبا )
وقال منها
( خذ من ثناي عليك ما أسطيعه ... لا تلزمني في الثناء الواجبا )
وقال من غيرها
( ومن لبه مع غيره كيف حاله ... ومن سره في جفنه كيف يكتم )
وقوله
( أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ... وإذا نطقت فإنني الجوزاء )
( وإذا خفيت على الغبي فعاذر ... أن لا تراني مقلة عمياء )
( إن الكريم إذا أقام ببلدة ... سال النضار بها وقام الماء )
وقال من قصيدة
( لا تعذل المشتاق في أشواقه ... حتى يكون حشاك في أحشائه )
وما أحلى ما قال بعده
( إن القتيل مضرجا بدموعه ... مثل القتيل مضرجا بدمائه )
وما أحلى ما قال من قصيدة
( إذا ما قدرت على نطفة ... فإني على تركها أقدر )
( أصرف نفسي كما أشتهي ... وأملكها والقنا أحمر )

(1/199)


ويطربني من مديحها قوله منها أيضا
( كفتك المروءة ما تتقي ... وآمنك الود ما تحذر )
وقال
( فلا تطمعن من حاسد في مودة ... وإن كنت تبديها له وتنيل )
( يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراض لنا وعقول )
وقوله
( وما أخصك في برء بتهنئة ... إذا سلمت فكل الناس قد سلموا )
وقال
( ومن يجعل الضرغام للصيد بازه ... تصيده الضرغام فيما تصيدا )
( وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ... ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا )
وما أحلى ما قال بعده
( إذا أنت أكرمت الكريم ملكته ... وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا )
( ووضع الندى في موضع السيف بالعلا ... مضر كوضع السيف في موضع الندى )
ويعجبني منها في افتخاره
( وما الدهر إلا من رواة قصائدي ... إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا )
( فسار به من لا يسير مشمرا ... وغنى به من لا يغني مغردا )
ومن أمثالها
( فدع كل صوت بعد صوتي فإنني ... أنا الصائح المحكي والآخر الصدى )
( وقيدت نفسي في ذراك محبة ... ومن وجد الإحسان قيدا تقيدا )
ولقد أجاد في مديحها بقوله
( إذا سأل الإنسان أيامه الغنى ... وكنت على بعد جعلتك موعدا )
ومن الأمثال السائرة مطلع هذه القصيدة لكل امرئ من دهره ما تعودا
وقال من قصيدة
( وما التيه ظني فيهم غير أنني ... بغيض إلي الجاهل المتغافل )

(1/200)


وقوله
( وكيف يتم بأسك في أناس ... تصيبهم فيؤلمك المصاب )
وما ألطف ما قال بعده
( ترفق أيها المولى عليهم ... فإن الرفق بالجاني عتاب )
( وما تركوك معصية ولكن ... يعاف الورد والموت الشراب )
( وما جهلت أياديك البوادي ... ولكن ربما خفي الصواب )
( وكم ذنب يولده دلال ... وكم بعد يولده اقتراب )
( وجرم جره سفهاء قوم ... وحل بغير جارمه العذاب )
ومن مطالعه التي سارت أمثالا
( على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام الكرام )
ويعجبني من مديحها
( إذا كان ما تنويه فعلا مضارعا ... مضى قبل أن تلقي عليه الجوازم )
( وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم )
وقال من قصيدة
( وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا ... إذا لم يكن فوق الكرام كرائم )
وقال من غيرها
( وما الحسن في وجه الفتى شرف له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق )
وقال من قصيدة
( وما في سطوة الأرباب عيب ... ولا في زلة العبدان عار )

(1/201)


وقال من قصيدة
( وإذا لم تجد من الناس كفؤا ... ذات خدر أرادت الموت بعلا )
( وإذا الشيخ قال أف فما مل ... حياة وإنما الضعف ملا )
( آلة العيش صحة وشباب ... فإذا وليا عن المرء ولى )
وما أحلى ما قال بعده
( أبدا تسترد ما تهب الدنيا ... فيا ليت جودها كان بخلا )
وقال من قصيد
( رب أمر أتاك لا تحمد الفعال ... فيه وتحمد الأفعالا )
( وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا )
ومن أنصافها هكذا هكذا وإلا فلا لا
وقال من قصيدة مطلعها
( الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني )
( ولربما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الأقران )
( لولا العقول لكان أدنى ضيغم ... أدنى إلى شرف من الإنسان )
( ولما تفاضلت النفوس ودبرت ... أيدي الكماة عوالي المران )
( وإذا الرماح شغلن مهجة ثائر ... شغلته مهجته عن الإخوان )
وقال أيضا
( وإذا خامر الهوى قلب صب ... فعليه لكل عين دليل )
( وكثير من السؤال اشتياق ... وكثير من رده تعليل )
( ما الذي عنده تدار المنايا ... كالذي عنده تدار الشمول )
وقال من قصيدة
( ومن تفكر في الدنيا ومهجته ... أقامه الفكر بين العجز والتعب )

(1/202)


ومن مطالعه التي سارت أمثالا
( كفى بك داء أن ترى الموت شافيا ... وحسب المنايا أن يكن أمانيا )
وقوله منها
( إذا كنت ترضى أن تعيش بذلة ... فلا تستعدن الحسام اليمانيا )
( وللنفس أخلاق تدل على الفتى ... أكان سخاء ما أتى أم تساخيا )
( إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى ... فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا )
( خلقت ألوفا لو رددت إلى الصبا ... لفارقت شيبي موجع القلب باكيا )
ومن أنصافها السائرة
( ومن قصد البحر استقل السواقيا ... )
وقال أيضا
( فارم بي ما أردت مني فإني ... أسد القلب آدمي الرواء )
( وفؤادي من الملوك وإن كان ... لساني يرى من الشعراء )
وقال من قصيدة
( فما الحداثة عن حلم بمانعة ... قد يوجد الحلم في الشبان والشيب )
ويعجبني من مديحها
( كأن كل سؤال في مسامعه ... قميص يوسف في أجفان يعقوب )
( إذا اعترته أعاديه بمسألة ... فقد عرته بجيش غير مغلوب )
وقال أيضا
( وأتعب خلق الله من زاد همه ... وقصر عما تشتهي النفس وجده )
( فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده )
وما أحلى ما قال بعده
( وفي الناس من يرضى بميسور عيشة ... ومركوبه رجلاه والثوب جلده )
( ولكن قلبا بين جنبي ما له ... مدى ينتهي بي في مراد أجده )
وقال
( إذا حللت مكانا بعد صاحبه ... جعلت فيه على ما قبله تيها )

(1/203)


وقوله
( وما منزل اللذات عندي بمنزل ... إذا لم أبجل عنده وأكرم )
منها
( إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه ... وصدق ما يعتاده من توهم )
( وعادى محبيه بقول عداته ... وأصبح في ليل من الشك مظلم )
( أصادق نفس المرء من قبل جسمه ... وأعرفها من فعله والتكلم )
( وأحلم عن خلي وأعلم أنه ... متى أجزه حلما من الجهل يندم )
( وما كل ناو للجميل بفاعل ... ولا كل فعال له بمتمم )
( لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ... سرور محب أو إساءة مجرم )
منها
( رضيت بما ترضى به لي محبة ... وقدت إليك النفس قود المسلم )
وقوله
( وإذا الحلم لم يكن في طباع ... لم يحلم تقدم الميلاد )
( وإذا كان في الأنابيب خلف ... وقع الطيش في صدور الصعاد )
وقوله
( وما الخيل إلا كالصديق قليلة ... وإن كثرت في عين من لا يجرب )
( وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب )
منها وأجاد إلى الغاية
( واظلم أهل الظلم من بات حاسدا ... لمن بات في نعمائه يتقلب )
وقال من قصيدة
( لا تلق دهرك إلا غير مكترث ... ما دام يصحب فيه روحك البدن )
( فما يديم سرورا ما سررت به ... ولا يرد عليك الفائت الحزن )
( ما كل ما يتمنى المرء يدركه ... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن )
( رأيتكم لا يصون العرض جاركم ... ولا يدر على مرعاكم اللبن )
( جزاء كل قريب منكم ملل ... وحظ كل محب منكم ضغن )
( وتغضبون على من نال رفدكم ... حتى يعاقبه التنغيص والمنن )
وقال من قصيدة
( ومراد النفوس أهون من أن ... تتعادى فيه وأن تتعانى )

(1/204)


( غير أن الفتى يلاقي المنايا ... كالحات ولا يلاقي الهوانا )
( ولو أن الحياة تبقى لحي ... لعددنا أضلنا الشجاعانا )
( وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تكون جبانا )
وله من قصيدة
( ولله سر في علاك وإنما ... كلام العدا ضرب من الهذيان )
وقال
( لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والأقدام قتال )
وقال
( ومن يجد الطريق إلى المعالي ... فلا يذر المطي بلا سنام )
وما أحلى ما قال بعده
( ولم أر في عيوب الناس نقصا ... كنقص القادرين على التمام )
( وملني الفراش وكان جنبي ... يمل لقاءه في كل عام )
ومن اختراعاته المخترعة قوله منها ويشير إلى حمى أصابته وكانت تغشاه إذا أتى الليل
( وزائرتي كأن بها حياء ... فليس تزور إلا في الظلام )
( بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت في عظامي )
( يضيق الجلد عن نفسي وعنها ... فتوسعه بأنواع السقام )
( إذا ما فارقتني غسلتني ... كأنا عاكفان على حرام )
( كأن الصبح يطردها فتجري ... مدامعها بأربعة سجام )
( أراقب وقتها من غير شوق ... مراقبة المشوق المستهام )
( وتصدق وعدها والصدق شر ... إذا ألقاك في الكرب العظام )
( فإن أمرض فما مرض اصطباري ... وإن أحمم فما حم اعتزامي )
( وإن أسلم فما أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام )

(1/205)


وقوله
( وللسر مني موضع لا يناله ... نديم ولا يفضي إليه شراب )
( وما العشق إلا غرة وطماعة ... يمرض قلب نفسه فيصاب )
( أعز مكان في الدنا ظهر سابح ... وخير جليس في الزمان كتاب )
منها في المديح قوله في كافور
( تجاوز قدر المدح حتى كأنه ... بأحسن ما يثني عليه يعاب )
( إذا نلت منك الود فالكل هين ... وكل الذي فوق التراب تراب )
وما أحلى ما قال بعده
( وما كنت لولا أنت إلا مهاجرا ... له كل يوم بلدة وصحاب )
وقوله
( من اقتضى بسوى الهندي حاجته ... أجاب كل سؤال عن هل بلم )
منها
( ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة ... بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم )
( لا تشتكون إلى خلق فتشمتهم ... شكوى الجريح إلى العقبان والرخم )
( وكن على حذر للناس تستره ... ولا يغرك منهم ثغر مبتسم )
منها
( أتى الزمان بنوه في شبيبته ... فسرهم وأتيناه على الهرم )
( سبحان خالق نفسي كيف لذتها ... فيما النفوس تراه غاية الألم )
ومن أمثاله التي سارت في هجو كافور قوله
( العبد ليس لحر صالح بأخ ... لو أنه في ثياب الخز مولود )
( لا تشتر العبد إلا والعصى معه ... إن العبيد لأنجاس مناكيد )

(1/206)


( ما كنت أحسبني أبقى إلى زمن ... يسيء بي فيه كلب وهو محمود )
( من علم الأسود المخصي مكرمة ... أقومه البيض أم آباؤه السود )
ومن أمثاله
( ومن جهلت نفسه قدره ... رأى غيره منه ما لا يرى )
ومن أنصافه التي سارت أمثالا ولا بد دون الشهد من إبر النحل
وقال من قصيد
( قد كنت أحذر بينهم من مثل ذا ... لو كان ينفع خائفا أن يحذرا )
( أعطى الزمان فما قبلت عطاءه ... وأراد بي فأردت أن أتخيرا )
وقال من قصيدة
( وقد يتقارب الوصفان جدا ... وموصوفاهما متباعدان )
وقوله
( نحن بنو الموتى فما بالنا ... نعاف ما لا بد من شربه )
( تبخل أيدينا بأرواحنا ... على زمان هي من كسبه )
( لو فكر العاشق في منتهى ... حسن الذي يسبيه لم يسبه )
( يموت راعي الضأن في جهله ... موتة جالينوس في طبه )
( وغاية المفرط في سلمه ... كغاية المفرط في حربه )
( فلا قضى حاجته طالب ... فؤاده يخفق من رعبه )
وقال من قصيد
( إذا اشتبكت دموع في خدود ... تبين من بكى ممن تباكى )
ولقد رأيت هنا في هذا القدر الذي أوردته من شعر أبي الطيب من إرسال المثل ما تطيب به الأذواق وتجول به فرسان الإنشاء بالحمر من جياد الأقلام في ميادين الأوراق وعلى كل تقدير فما لأبي الطيب في حكمه وأمثاله نظير
وهنا نكتة لطيفة وهي أن صلاح الدين الصفدي كان مذهبه تقديم أبي الطيب المتنبي على أبي تمام وهو مذهب أبي العلاء المعري فإنه سمي ديوانه بعدما شرحه معجز أحمد فاتفق أن صلاح الدين اجتمع بابن نباتة بالديار المصرية وذاكره في أبي

(1/207)


الطيب وأبي تمام فوجده على مذهبه واجتمعا بعد ذلك بالشيخ أثير الدين أبي حيان وذاكراه في ذلك فقدم أبا تمام فلاماه على ذلك فقال أنا لا أسمع لوما في حبيب
انتهى
ومذهبي في ذلك مذهب الشيخ صلاح الدين ومذهب الشيخ جمال الدين وإن كان الشيخ أثير الدين ما سمع في حبيبه لوما وخالف من لامه فيه وفند فمن المستحيل رجوع أبي بكر عن حب أحمد وقد عن لي أن أورد هنا ما سارت في الخافقين حكمه وأمثاله وانقاد أهل الذوق السليم لطاعته لما ورد عليهم مثاله وهو تأليفي الذي وسمته بتغريد الصادح وما ذاك إلا أن سيدنا ومولانا قاضي القضاة صدر الدين بن الآدمي نور الله ضريحه وجعل من الرحيق المختوم غبوقة وصبوحه كان يقول أود أن أنتزع من الصادح والباغم أرجوزة مشتملة على أمثلة مرقصة وحكم بديعة بشرط أن يكون البيت منسجما مع الذي قبله والذي بعده ولم يتيسر لي ذلك لصعوبة المسلك انتهى
ولما قدر الله تعالى ما قدره من الاختفاء بدمشق سنة ثلاث عشرة وثمانمائة عند حلول الملك الناصر بها وأنا في خدمة المقر الأشرف القاضوي محمد بن البارزي الجهني الشافعي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية كان الصادح والباغم بين كتبه فنظر فيه يوما وذكر قول قاضي القضاة صدر الدين ورسم لي بذلك فانتزعت له هذه الأرجوزة التي سارت غرر أمثالها ولم يسمح الزمان لمؤلف بمثالها ومن سافر فيها نظره وكان الذوق السليم رفيقه علم أنها تضرب بها الأمثال على الحقيقة وسميتها بتغريد الصادح وصدرتها من نظمي بأبيات تقوم مقام الديباجة والخطبة هي
( الحمد لله الذي هذبنا ... واختارنا للعلم إذ أدبنا )
( فإن للآداب فضلا يذكر ... فلا تخاطب كل من لا يشعر )
( يا مدعي الحكمة في كلامه ... ومن يروم السحر في نظامه )
( خذ حكما وكلها أمثال ... ليس لها في عصرنا مثال )
( ألفها ابن حجة للنجبا ... لأن فيها رأس مال الأدبا )
( واختارها من مفردات الصادح ... فكان ذا من أكبر المصالح )
من كل بيت إن تمثلت به ... سكنت من سامعه في قلبه )

(1/208)


( وقد تهجمت على الشريف ... لكنني خاطبت بالمعروف )
( وجئت من كلامه بنبذة ... تجلب للسامع كل لذة )
( وترفع الأديب إن تمثلا ... بها إذا خاطب أرباب العلا )
( من حكم تتبعها وصايا ... مقبولة من أحسن السجايا )
( من أول وأوسط وآخر ... جمعتها جمع أديب شاعر )
( حتى دنا البعيد للقريب ... وانتظم البديع بالغريب )
( وانسجمت في جمعها أرجوزه ... بديعة غريبة وجيزة )
( وكل من أنكر ما أحكمت في ... ترتيبها يكون غير منصف )
( فلينظر الأصل ليعرف السبب ... ويعترف إن كان من أهل الأدب )
( أول ما يرغب في استهلاله ... من نظمه المحكم في مقاله )
وهذا أول الصادح والباغم
( العيش بالرزق وبالتقدير ... وليس بالرأي ولا التدبير )
( في الناس من تسعده الأقدار ... وفعله جميعه إدبار )
ومن هنا يأتي هذا التأليف جميعه على هذا النمط وما أردت بهذا التنبيه إلا يقظة المتأمل
( من عرف الله أزال التهمه ... وقال كل فعله للحكمة )
( من أنكر القضاء فهو مشرك ... إن القضاء بالعباد أملك )
( ونحن لا نشرك بالله ولا ... نقنط من رحمته إذ نبتلى )
( عار علينا وقبيح ذكر ... أن نجعل الكفر مكان الشكر )
( وليس في العالم ظلم جاري ... إذ كان ما يجري بأمر الباري )
( وأسعد العالم عند الله ... من ساعد الناس بفضل الجاه )
( ومن أغاث البائس الملهوفا ... أغاثه الله إذا أخيفا )
( إن العظيم يدفع العظيما ... كما الجسيم يحمل الجسيما )
( فإن من خلائق الكرام ... رحمة ذي البلاء والأسقام )
( وإن من شرائط العلو ... العطف في البؤس على العدو )

(1/209)


( وقد علمت واللبيب يعلم ... بالطبع لا يرحم من لا يرحم )
( فالمرء لا يدري متى يمتحن ... فإنه في دهره مرتهن )
( وإن نجا اليوم فما ينجو غدا ... لا يأمن الآفات إلا ذو الردى )
( لا تغترر بالحفظ والسلامة ... فإنما الحياة كالمدامه )
والعمر مثل الكاس والدهر القذر ... والصفو لا بد له من الكدر )
أنظر أيها المتأمل كيف اتبعت قوله فإنما الحياة كالمدامه بقوله فالعمر مثل الكاس
وإذا نظرت إلى آخر البيت رأيت الاتفاق العجيب منها
( وكل إنسان فلا بد له ... من صاحب يحمل ما أثقله )
( جهد البلاء صحبة الأضداد ... فإنها كي على الفؤاد )
( أعظم ما يلقى الفتى من جهد ... أن يبتلى في جنسه بالضد )
( فإنما الرجال بالإخوان ... واليد بالساعد والبنان )
( لا يحقر الصحبة إلا جاهل ... أو مارق عن الرشاد غافل )
( صحبة يوم نسب قريب ... وذمة يحفظها اللبيب )
( وموجب الصداقة المساعده ... ومقتضى المودة المعاضده )
( لا سيما في النوب الشدائد ... والمحن العظيمة الأوابد )
( فالمرء يحيى أبدا أخاه ... وهو إذا ما عد من أعداه )
( وإن من عاشر قوما يوما ... ينصرهم ولا يخاف لوما )
( وإن من حارب من لا يقوى ... لحربه جر إليه البلوى )
فحارب الأكفاء والأقرانا ... فالمرء لا يحارب السلطانا )
( واقنع إذا حاربت بالسلامه ... واحذر فعالا توجب الندامه )
( فالتاجر الكيس في التجارة ... من خاف في متجره الخساره )
( يجهد في تحصيل رأس ماله ... ثم يروم الربح باحتياله )
( وإن رأيت النصر قد لاح لكا ... فلا تقصر واحترز أن تهلكا )
( واسبق إلى الأجود سبق الناقد ... فسبقك الخصم من المكايد )

(1/210)


( وانتهز الفرصة إن الفرصه ... تصير إن لم تنتهزها غصه )
( كم نظر الغالب يفترك ... عنه التوقي واستهان فهلك )
( ومن أضاع جنده في السلم ... لم يحفظوه في لقاء الخصم )
( وإن من لا يحفظ القلوبا ... يخذل حين يشهد الحروبا )
( والجند لا يرعون من أضاعهم ... كلا ولا يحمون من أجاعهم )
( وأضعف الملوك طرا عقدا ... من غره السلم فأقصى الجندا )
( والحزم والتدبير روح العزم ... لا خير في عزم بغير حزم )
( والحزم كل الحزم في المطاولة ... والصبر لا في سرعة المزاولة )
( وفي الخطوب تظهر الجواهر ... ما غلب الأيام إلا الصابر )
( لا تيأسن من فرج ولطف ... وقوة تظهر بعد ضعف )
( فربما جاءك بعد الياس ... روح بلا كد ولا التماس )
( في لمحة الطرف بكاء وضحك ... وناجذ باد ودمع ينسفك )
( تنال بالرفق وبالتأني ... ما لم تنل بالحرص والتعني )
( ما أحسن الثبات والتجلدا ... والحيرة والتبلدا )
( ليس الفتى إلا الذي إن طرقه ... خطب تلقاه بصبر وثقه )
( إذا الرزايا أقبلت ولم تقف ... فثم أحوال الرجال تختلف )
( وكم لقيت لذة في زمني ... فاصبر الآن لهذي المحن )
( فالموت لا يكون إلا مرة ... والموت أحلى من حياة مره )
( إني من الموت على يقين ... فاجهد الآن لما يقيني )
( صبرا على أهوالها ولا ضجر ... وربما فاز الفتى إذا صبر )
( لا يجزع الحر من المصائب ... كلا ولا يخضع للنوائب )
( فالحر للعبء الثقيل يحمل ... والصبر عند النائبات يجمل )
( لكل شيء مدة وتنقضي ... ما غلب الأيام من رضي )
( قد صدق القائل ف الكلام ... ليس النهي بعظم العظام )
( لا خير في جسامة الأجسام ... بل هو في العقول والأفهام )
( فالخيل للحرب وللجمال ... والإبل للحمل وللترحال )

(1/211)


( لا تحتقر شيئا صغيرا محتقر ... فربما أسالت الدم الإبر )
( لا تحرج الخصم ففي إحراجه ... جميع ما تكره من لجاجه )
( لا تطلب الفائت باللجاج ... وكن إذا كويت ذا إنضاج )
( فعاجز من ترك الموجودا ... طماعة وطلب المفقودا )
( وفتش الأمور عن أسرارها ... كم نكتة جاءتك مع إظهارها )
( لزمت للجهل قبيح الظاهر ... وما نظرت حسن السرائر )
( ليس يضر البدر في سناه ... إن الضرير قض لا يراه )
( كم حكمة أضحت بها المحافل ... نافقة وأنت عنها غافل )
( ويغفلون عن خفي الحكمه ... ولو رأوها لأزالوا التهمه )
( كم حسن ظاهره قبح ... وسمج عنوانه مليح )
( والحق قد تعلمه ثقيل ... يأباه إلا نفر قليل )
( فالعاقل الكامل في الرجال ... لا ينثني لزخرف المقال )
( إن العدو قوله مردود ... وقلما يصدق الحسود )
( لا تقبل الدعوى بغير شاهد ... لا سيما إن كان من معاند )
( أيؤخذ البريء بالسقيم ... والرجل المحسن باللئيم )
( كذاك من يستنصح الأعادي ... يردونه بالغش والفساد )
( إن أكل من ترى أذهانا ... من حسب الإساءة الإحسانا )
( فادفع إساءة العدا بالحسنى ... ولا تخل يسراك مثل اليمنى )
( وللرجال فاعلمن مكايد ... وخدع منكرة شدائد )
( فالندب لا يخضع للشدائد ... قط ولا يغتاظ بالمكايد )
( فرقع الخرق بلطف واجتهد ... وامكر إذا لم ينفع الصدق وكد )
( فهكذا الحازم إذ يكيد ... يبلغ في الأعداء ما يريد )
( وهو بريء منهم في الظاهر ... وغيره مختصب الأظافر )

(1/212)


( والشهم من يصلح أمر نفسه ... ولو بقتل ولده وعرسه )
( فإن من يقصد قلع ضرسه ... لم يعتمد إلا صلاح نفسه )
( وإن من خص اللئيم بالندا ... وجدته كمن يربي أسدا )
( وليس في طبع اللئيم شكر ... وليس في أصل الدنيء نصر )
( وإن من ألزمه وكلفه ... ضد الذي في طبعه ما أنصفه )
( كذاك من يصطنع الجهالا ... ويؤثر الأرذال والأنذال )
( لو أنكم أفاضل أحرار ... ما ظهرت بينكم الأسرار )
( إن الأصول تجذب الفروعا ... والعرق دساس إذا أطيعا )
( ما طاب فرع أصله خبيث ... ولا زكا من مجده حديث )
( قد يدركون رتبا في الدنيا ... ويبلغون وطرا من بغيا )
( لكنهم لا يبلغون في الكرم ... مبلغ من كاب له فيها قدم )
( وكل من تمايلت أطرافه ... في طيها وكرمت أسلافه )
( كان خليقا بالعلا وبالكرم ... وبرعت في أصله حسن الشيم )
( لولا بنو آدم بين العالم ... ما بان للعقول فضل العالم )
( فواحد يعطيك فضلا وكرم ... فذاك من يكفره فقد ظلم )
( وواحد يعطيك للمصانعة ... أو حاجة له إليك واقعه )
( لا تشرهن إلى حطام عاجل ... كم أكلة أودت بنفس الآكل )
( واحذر أخي يا فتى من الشره ... وقس بما رأيته ما لم تره )
( فليس من عقل الفتى أو كرمه ... إفساد شخص كامل لقرمه )
( فالبغي داء ماله دواء ... ليس لملك معه بقاء )
( والبغي فاحذره وخيم المرتع ... والعجب فاتركه شديد المصرع )
( والغدر بالعهد قبيح جدا ... شر الورى من ليس يرعى العهدا )

(1/213)


( عند تمام الأمر يبدو نقصه ... وربما ضر الحريص حرصه )
( وربما ضرك بعض مالكا ... وساءك المحسن من رجالكا )
( فالمرء يفدي نفسه بوفره ... عساه أن ينجو به من أسره )
تمت وختمها شيخنا رحمه الله بقوله
( لا تعطين شيئا بغير فائده ... فإنها من السجايا الفاسده )
( هذا الذي ألفته واخترته ... من رجز الشريف وانتخبته )
( وحرمة الآداب يا أهل الأدب ... إن الشريف قد أتانا بالعجب )
( قلنا جميعا إذ سمعنا رجزه ... كم قد أتى محمد بمعجزة )
( من كل بيت شطره قصيد ... وكلنا لبيته عبيد )
( فرحمة الله له في الآخرة ... خاتمة مع الهبات الوافره )
( ثم الصلاة والسلام دائما ... على الذي للرسل جاء خاتما )
انتهى ما أوردته من أمثال أبي الطيب المتنبي وأمثال الصادح والباغم ولم أقصد بذلك إلا أخذ ما يحتاج المتأدب إليه في إرسال المثل على أنواعه خصوصا أهل الإنشا فإنه حلبة جولاتهم وعمدة فرسانهم وبيت الشيخ صفي الدين في بديعيته
( رجوتكم نصحاء في الشدائد لي ... لضعف رشدي واستسمنت ذا ورم )
فقوله استسمنت ذا ورم من الأمثال السائرة ولم ينظم العميان في بديعيتهم هذا النوع وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته
( أنوار بهجته إرسالها مثلا ... يلوح أشهر من نار على علم )
فقوله أشهر من نار على علم من الأمثال السائرة وبيتي
( وكم تمثلت إذ أرخوا شعورهم ... وقلت بالله خلوا الرقص في الظلم )
فالرقص في الظلم من الأمثال السائرة ولكن قولي لهم بعد إرخاء الشعور خلوا الرقص في الظلم لا يخفى على الحذاق من أهل الأدب

(1/214)


ذكر التهكم
( ذل العذول بهم وجدا فقلت له ... تهكما أنت ذو عز وذو شمم )
التهكم نوع عزيز في أنواع البديع لعلو مناره وصعوبة مسلكه وكثرة التباسه بالهجاء في معرض المدح وبالهزل الذي يراد به الجد ويأتي الفرق بينهما بعد إيضاح حد
والتهكم في الأصل التهدم
يقال تهكمت البئر إذا تهدمت وتهكم عليه إذا اشتد غضبه والمتهكم المحتقر
قال أبو زيد تهكمت غضبت وتهكمت تحقرت وعلى هذا يكون المتهكم لشدة الغضب قد أوعد بالبشارة أو لشدة الكبر أو لتهاونه بالمخاطب قد فعل ذلك فهذا أصله في الاستعمال
وفي المصطلح هو عبارة عن الإتيان بلفظ البشارة في موضع الإنذار والوعد في مكان الوعيد والمدح في معرض الاستهزاء فشاهد البشارة في موضع الإنذار قوله تعالى ( بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما ) وشاهد المدح في معرض الاستهزاء بلفظ المدح قوله تعالى ( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) قال الزمخشري إن في تأويل قوله تعالى له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله تهكما فإن المعقبات هم الحرس من حول السلطان يحفظونه على زعمه من أمر الله على سبيل التهكم فإنهم لا يحفظونه من أمره في الحقيقة إذا جاء والله أعلم
ومنه قوله تعالى ( قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين ) فقوله إيمانكم تهكم

(1/215)


ومن التهكم في السنة الشريفة قوله ( بشر مال البخيل بحادث أو وارث )
وشاهد المدح في موضع الاستهزاء من النظم قول ابن الذروي في ابن أبي حصينة من أبيات
( لا تظنن حدبة الظهر عيبا ... فهي في الحسن من صفات الهلال )
( وكذاك القسي محدودبات ... وهي أنكى من الظبا والعوالي )
( وإذا ما علا السنام ففيه ... لقروم الجمال أي جمال )
( وارى الانحناء في مخلب البازي ... ولم يعد مخلب الريبال )
( كون الله حدبة فيك إن شئت ... من الفضل أو من الأفضال )
( فأتت ربوة على طود علم ... وأتت موجة ببحر نوال )
( ما رأتها النساء إلا تمنت ... أن غدت حلية لكل الرجال )
وما أحلى ما ضمنها بقوله
( وإذا لم يكن من الهجر بد ... فعسى أن تزورني في الخيال )
وقول ابن الرومي
( فيا له من عمل صالح ... يرفعه الله إلى أسفل )
وقيل إن أظرف ما نظم في التهكم قول حماد عجرد
( فيا ابن طرح يا أخا ... الحلس ويا ابن القتب )
( ومن نشا والده ... بين الربا والكثب )
( يا عربي يا عربي ... يا عربي يا عربي )
وهذا النوع أعني التهكم ذكر ابن أبي الأصبع في كتابه تحرير التحبير أنه من مخترعاته ولم يره في كتب من تقدمه من أئمة البديع والعميان لم ينظموه في بديعيتهم

(1/216)


وقنع الشهاب محمود في كتابه المسمى بحسن التوسل من أشجار معاليه بالشميم فإنه ذكر بعض شواهده ولم يأت له بحد تمشي الأفهام فيه على صراط مستقيم ولكن ابن أبي الأصبع أزال بكارة أشكاله وكان أبا عذرته وأرضع الأذواق لبان فهمه وكان فارس حلبته وقال الفرق بينه وبين الهزل الذي يراد به الجد أن التهكم ظاهره جد وباطنه هزل وهو ضد الأول لأن الهزل الذي يراد به الجد يكون ظاهره هزلا وباطنه جدا
وذكر بعضهم الفرق بين التهكم والهجاء في معرض المدح فقال الفرق بينهما التصريح بلفظة في الآخر يخالف معناها معنى الالتزام في الكلام الأول وهو في هذا دون الأول
والشيخ صفي الدين نظم التهكم في بديعيته ولكن ما أسكن بيته قرينة صالحة لبيانه ولا غردت حمائم الإيضاح على أفنانه وبيته
( محضتني النصح إحسانا علي بلا ... غش وقلدتني الإنعام فاحتكم )
ولم يظهر لي من هذا البيت غير صريح المدح والشكر ولم أجد فيه لفظة تدل على الحقارة والاستهزاء ولا على البشارة في موضع الإنذار ولا على الوعد في موضع الوعيد ولم يشر في بيته إلى نوع من هذه الأنواع وقد تقدم أن العميان لم ينظموه في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين
( لقد تهكمت فيما قد منحتك من ... قولي بأنك ذو عز وذو كرم )
فالشيخ عز الدين ذكر في بيته أنه تهكم على العذول لما خاطبه بلفظ العز والكرم ولكنه لم يأت بصيغة التهكم وبيتي
( ذل العذول بهم وجدا فقلت له ... تهكما أنت ذو عز وذو شمم )
فخطاب العذول هنا بلفظ العز والشمم بعد وقوف العاذل في موقف الذل هو التهكم بعينه

(1/217)


ذكر المراجعة
( قال اصطبر قلت صبري ما يراجعني ... قال احتمل قلت من يقوى لصدهم )
المراجعة ليس نحتها كبير أمر ولو فوض إلي حكم في البديع ما نظمتها في أسلاك أنواعه وذكر ابن أبي الأصبع إنها من اختراعاته وعجبت من مثله كيف قربها إلى الذي استنبطه من الأنواع البديعة الغريبة كالتهكم والافتنان والتدبيج والهجاء في معرض المدح والاشتراك والألغاز والنزاهة ومنهم من سمى هذا النوع أعني المراجعة السؤال والجواب وهو أن يحكي المتكلم مراجعة في القول ومحاورة في الحديث بينه وبين غيره بأوجز عبارة وأرشق سبك وألطف معنى وأسهل لفظ إما في بيت واحد أو في أبيات كقول عمر بن أبي ربيعة
( بينما ينعتنني أبصرنني ... مثل قيد الرمح يعدو بي الأغر )
( قالت الكبرى ترى من ذا الفتى ... قالت الوسطى لها هذا عمر )
( قالت الصغرى وقد تيمتها ... قد عرفناه وهل يخفى القمر )

(1/218)


قال ابن أبي الأصبع لما أورد هذه الأبيات واستشهد بها على هذا النوع في كتابه المسمى بتحرير التحبير إن هذا الشاعر عالم بمعرفة وضع الكلام في مواضعه وما ذاك إلا أن قوافي الأبيات لو أطلقت لكانت مرفوعة وأما بلاغته في الأبيات فإنه جعل التي عرفته وعرفت به وشبهته تشبيها يدل على شغفها به هي الصغرى ليظهر بدليل الالتزام أنه فتي السن إذ الفتية من النساء لا تميل إلى الا الفتى من الرجال غالبا وختم قوله بما أخرجه مخرج المثل السائر موزونا ولا يقال إنما مالت الصغرى إليه دون أختيها لضعف عقلها وقلة تجريبها فإني أقول إنه تخلص من هذا المدخل بكونه أخبر أن الكبرى التي هي أعقلهن ما كانت رأته قبل ذلك وإنما كانت تهواه على السماع فلما رأته وعلمت أنه ذلك الموصوف لها أظهرت من وجدها به على مقدار عقلها ما أظهرت من سؤالها عنه ولم تتجاوز ذلك وقنعت بالسؤال عنه وقد علمته بلذة السؤال وبسماع اسمه وأظهرت تجاهل العارف الذي موجبه شدة الوله والعقل يمنعها من التصريح وأما الوسطى فسارعت إلى تعريفه باسمه العلم فكانت دون الكبرى في الثبات وأما الصغرى فمنزلتها في الثبات دون الأختين لأنها أظهرت في معرفة وصفه ما دل على شدة شغفها به فكل ذلك وإن لم يكن كذلك فألفاظ الشاعر تدل عليه
انتهى كلام ابن أبي الأصبع
ومن جيد أمثلة هذا النوع قول أبي نواس
( قال لي يوما سليمان ... وبعض القول أشنع )
( قال صفني وعليا ... أينا أبقى وأنفع )
( قلت إني إن أقل ما ... فيكما بالحق تجزع )
( قال كلا قلت مهلا ... قال قل لي قلت فاسمع )
( قال صفه قلت يعطي ... قال صفني قلت تمنع )
ومثله قول البحتري
( بت أسقيه صفوة الراح حتى ... وضع الرأس مائلا يتكفا )
( قلت عبد العزيز تفديك نفسي ... قال لبيك قلت لبيك ألفا )
( هاكها قال هاتها قلت خذها ... قال لا أستطيعها ثم أغفى )

(1/219)


وعلماء البديع أجمعوا على استحسان قول وضاح اليمن من أبيات
( قالت ألا لا تلجن دارنا ... إن أبانا رجل غائر )
( قلت فإني طالب غرة ... منه وسيفي صارم باتر )
( قالت فإن البحر ما بيننا ... قلت فإني سابح ماهر )
( قالت فإن القصر عالي البنا ... قلت فإني فوقه طائر )
( قالت أليس الله من فوقنا ... قلت بلى وهو لنا غافر )
( قالت فقد أعييتنا حيلة ... فأت إذا ما هجع السامر )
( واسقط علينا كسقوط الندى ... ليلة لا ناه ولا آمر )
وظريف هنا قول بعضهم
( قالت لقد أشمت بي حسدي ... مذ بحت بالسر لهم معلنا )
( قلت أنا قالت وإلا فمن ... قلت أنا قالت وإلا أنا )
وهي أبيات طويلة جميعها على هذا المنوال منسوج ولكن اكتفيت بالتمثيل منها على هذا القدر
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي
( قالوا اصطبر قلت صبري غير متبع ... قالوا اسلهم قلت ودي غير منصرم )
ولم ينظم العميان في بديعيتهم هذا النوع وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته
( راجعت في القول إذ أطلقت سلوتهم ... قال اسلهم قلت سمعي عنك في صمم )
والمراجعة إن لم تتكرر لم يبق لها في القلوب حلاوة ولا يطبق اسمها مسماه وقد تقدم قول الشاعر وتكراره في قوله
( قلت أنا قالت وإلا فمن ... قلت أنا قالت وإلا أنا )
وعز الدين لم يكرر مراجعته ولم يأت بها إلا في مكان واحد والذي أقوله إنه ما

(1/220)


صده عن ذلك إلا اشتغاله بتسمية النوع ولكن ليته لو دخل إلى سوق الرقيق وبيت بديعيتي
( قال اصطبر قلت صبري ما يراجعني ... قال احتمل قلت من يقوى لصدهم )
وهذا البيت متعلق ببيت التهكم الذي قبله وهو البيت المبني على خطاب العاذل وهو
( ذل العذول بهم وجدا فقلت له ... تهكما أنت ذو عز وذو شمم )

(1/221)


ذكر التوشيح
( توشيحهم بملا تلك الشعور إذا ... لفوه طيا يعرفنا بنشرهم )
اتفق علماء البديع على أن التوشيح أن يكون معنى أول الكلام دالا على لفظ آخره ولهذا سموه التوشيح فإنه ينزل فيه المعنى منزلة الوشاح وينزل أول الكلام وآخره منزلة محل الوشاح من العاتق والكشح اللذين يجول عليهما الوشاح وهذا النوع فرعه قدامة من ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت وقال فيه التوشيح هو أن يكون في أول البيت معنى إذا فهم فهمت منه قافية البيت بشرط أن يكون المعنى المقدم بلفظه من جنس معنى القافية بلفظه
وأورد ابن أبي الأصبع في تحرير التحبير من أعظم الشواهد على هذا قوله تعالى ( إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ) فإن في معنى اصطفاء المذكورين ما يعلم منه الفاصلة لأن المذكورين نوع من جنس العالمين
ومن الأمثلة الشعرية قول الراعي النميري
( فإن وزن الحصى ووزنت قومي ... وجدت حصى ضريبتهم رزينا )
فإن السامع إذا فهم أن الشاعر أراد المفاخرة برزانة الحصى وتحقق أن القافية

(1/222)


مجردة مطلقة رويها النون وحرف إطلاقها الألف ورأى في صدر البيت ذكر الزنة تحقق أن تكون القافية رزينا ليس إلا
ومن عجائب أمثلة هذا النوع ما حكي عن عمر بن أبي ربيعة أنه أنشد عبد الله بن العباس رضي الله عنهما
( تشط غدا دار جيراننا ... )
فقال له عبد الله
( وللدار بعد غد أبعد ... )
فقال عمر هكذا والله قلت فقال عبد الله بن العباس وهكذا يكون
ويقرب من هذه القصة قصة عدي بن الرقاع حين أنشد الوليد بن عبد الملك بحضرة جرير والفرزدق قصيدته التي مطلعها عرف الديار توهما فاعتادها حتى انتهى إلى قوله تزجي أغن كأن إبرة روقه
ثم شغل الوليد عن الاستماع فقطع عدي الإنشاد فقال الفرزدق لجرير ما تراه يقول فقال جرير أراه يستلب بها مثلا
فقال الفرزدق إنه سيقول قلم أصاب من الدواة مدادها
فلما عاد الوليد إلى الاستماع وعاد عدي إلى الإنشاد قال البيت
فقال الفرزدق والله لما سمعت صدر بيته رحمته فلما أنشد عجزه انقلبت الرحمة حسدا
قال زكي الدين بن أبي الأصبع الذي أقوله إن بين ابن العباس وبين الفرزدق في استخراجهما العجزين كما بينهما في مطلق الفضل وفضل ابن عباس رضي الله عنهما معلوم وأنا أذكر الفرق فإن بيت عدي بن الرقاع من جملة قصيدة تقدم مطلعها مع معظمها وعلم أنها دالية مردفة بألف وهي من وزن قد عرف ثم تقدم في صدر البيت ذكر ظبية تسوق خشفا لها قد أخذ الشاعر في تشبيه طرف قرنه بالقلم في سواده وهذه القرائن لا تخفى على أهل الذوق الصحيح أن فيها ما يدل على عجز البيت بحيث يسبق إليه من هو دون الفرزدق من حذاق الشعراء وبيت عمر بيت مفرد لم تعلم قافيته من أي ضرب هي من القوافي ولا رويه من أي الحروف ولا حركة رويه من أي الحركات فاستخراج عجزه ارتجالا في غاية العسر ونهاية الصعوبة لولا ما أمد الله تعالى به هؤلاء الأقوام من المواد التي فضلوا بها عن غيرهم
انتهى كلام ابن أبي الأصبع
وبين التوشيح والتصدير فرق ظاهر مثل الصبح ولم يحصل الالتباس إلا لكون كل منهما يدل صدره على عجزه والفرق أن دلالة التصدير لفظية ودلالة التوشيح معنوية

(1/223)


والفرق بين التوشيح والتمكين أيضا أن التوشيح قد تقدم أنه لا بد أن يتقدم قافيته معنى يدل عليها والتمكين بخلاف ذلك
والعميان لم ينظموا أنواع التوشيح في بديعيتهم وبيت صفي الدين
( هم أرضعوني ثدي الوصل حافلة ... فكيف يحصل منها حال منفطمي )
فقصيدة صفي الدين قد علم أنها ميمية وقد مر على السامع منها عدة أبيات وقد صدر بيت التوشيح بذكر الرضاع والثدي فما يخفى أن تكون القافية منفطما إلا على كل أجنبي من هذا العلم
ولقد برز في حسن هذا التركيب باستجلاب الرقة على من تقدمه
وبيت الشيخ عز الدين
( نومي وعقلي بتوشيح الهوى سلبا ... فبت صبا بلا حلم ولا حلم )
قال في شرحه الهوى وشحني برداه غطاني فسلب نومي وعقلي فصرت بلا حلم ولا حلم
وهذه عبارته بنصها
وبيتي
( توشيحهم بملا تلك الشعور إذا ... لفوه طيا يعرفنا بنشرهم )
هذا النوع أعني التوشيح يفتقر الناظم إلى قدح زناد الفكر في سبك معانيه مع الملكة والبسطة في علم الأدب وحسن التصرف لا سيما إذا التزم بتسمية النوع وأبرز التسمية منتظمة في سلك التورية من جنس الغزل فتسمية النوع هنا قد عرفت والإتيان في هذا البيت بلفظة الملا هو الذي رشح جانب التوشيح الجائل على العاتق والكشح وأما توشيح الهوى في بيت الشيخ عز الدين فلم ينسج على منوال مقبول لأن استعارة الوشاح للهوى المقصور الذي هو الغرام لم يفهم منها شيء يقرب من التشبيه فإن علماء البديع قالوا الاستعارة هي ذكر الشيء باسم غيره وإثبات ما لغيره له لأجل المبالغة في التشبيه
وعلى هذا التقدير تكون استعارة الملا للشعور في حالة توشيح الأحباب بها هي الاستعارة التي يستعار منها المحاسن الأدبية فإن حسن التشبيه قد غازل بعيون كماله غزلها والتصريح في البيت بلفظ اللف والنشر والطي يعرفه من له أدنى ذوق مع أني ما اكتفيت بذلك حتى قلت بعد اللف والطي تعرفنا وتعرفنا فيها الاشتراك بين المعرفة والعرف فإذا تقرر أن القافية ميمية ما يتصور في ذوق أن تكون القافية غير نشرهم وقد اجتمع في هذا البيت من أنواع البديع التورية وحسن الاستعارة والترشيح والمطابقة والبسط والانسجام والتمكين والسهولة والتوشيح الذي هو العمدة
والله أعلم بالصواب

(1/224)


ذكر تشابه الأطراف
( شابهت أطراف أقوالي فإن أهم ... أهم إلى كل واد في صفاتهم )
هذا النوع الذي سموه تشابه الأطراف هو أيضا مثل المراجعة التي تقدمت ليس في كل منهما كبير أمر
وتالله ما خطر لي يوما ولا حسن في الفكر أن ألحق طرفا من تشابه الأطراف بذيل من أبيات شعري ولكن شروع المعارضة ملتزم وتشابه الأطراف هو أن يعيد الناظم لفظة القافية في أول البيت الذي يليها وهذا النوع كان اسمه التسبيغ بسين مهملة وغين معجمة وإنما ابن أبي الأصبع قال هذه التسمية غير لائقة بهذا المسمى فسماه تشابه الأطراف فإن الأبيات فيه تتشابه أطرافها
وأحسن ما وقع في هذا النوع قول أبي نواس
( خزيمة خير بني خازم ... وخازم خير بني دارم )
( ودارم خير تميم وما ... مثل تميم في بني آدم )
ولما كان هذا النوع لا يأتي إلا في بيتين والشيخ عز الدين لما التزم أن يأتي به لأجل التورية بالتسمية في بيت واحد شطر البيت شطرين وجعل كل شطر بمنزلة بيت كامل وأعاد لفظ القافية في الشطر الثاني فجاء به في غاية اللطف
فإن الشيخ صفي الدين أورد قبله بيت الاكتفاء ويأتي الكلام عليه في موضعه وإنما المراد هنا معرفة تشابه الأطراف وهو
( قالوا ألم تدر أن الحب غايته ... سلب الخواطر والألباب قلت لم )
( لم أدر قبل هواهم والهوى حرم ... أن الظباء تحل الصيد في الحرم )

(1/225)


تشابه الأطراف بين لم ولم في آخر البيت الأول وأول الثاني
وبيت الشيخ عز الدين
( أطرافك اشتبهت قولا متى تلم ... تلم فتى زائد البلوى فلم يلم )
أما قوله أطرافك اشتبهت يضيق الكلام فيه
وبيت بديعيتي
( شابهت أطراف أقوالي فإن أهم ... أهم إلى كل واد في صفاتهم )
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم ويا ليتني كنت معهم

(1/226)


ذكر التغاير
( أغاير الناس في حب الرقيب فمذ ... أراه أبسط آمالي بقربهم )
التغاير سماه قوم التلطف وهو أن يتلطف الشاعر بتوصله إلى مدح ما كان قد ذمه هو أو غيره
فأما مدح الإنسان ما ذمه غيره فإن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أتى فيه بما يمتزج صافي مشربه بالأرواح وينقلنا ببديع بلاغته من الإبهام إلى الإيضاح
فمن ذلك خطبته التي مدح فيها الدنيا مغايرا لأمثاله في ذمها حيث قال
أيها الذام للدنيا المغتر بغرورها بم تذمها أنت المتجرئ عليها أم هي المتجرئة عليك متى استهوتك أم متى غرتك أبمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى كم عللت ولديك وكم مرضت والديك تبغي لهم الشفاء وتستوصف لهم الأطباء لم ينفع أحدهم إشفاقك ولم تشف لهم بطبك ولم تدفع عنهم بقوتك قد مثلت لك بهم الدنيا نفسك وخيلت لك بمصرعهم مصرعك إن الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزود منها ودار موعظة لمن اتعظ بها مسجد أحباب الله ومصلى ملائكته ومهبط وحي الله ومتجر أوليائه اكتسبوا منها الرحمة وربحوا منها الجنة فمن ذا يذمها وقد أدبت بنيها ونادت بفراقها ونعت نفسها وأهليها فمثلت لهم ببلائها البلى وشوقتهم بسرورها إلى السرور وراحت بعافية وابتكرت بفجيعة ترغيبا وترهيبا فذمها رجال غداة الندامة وحمدها آخرون ذكرتهم الدنيا فذكروا وحدثتهم فصدقوا ووعظتهم فاتعظوا
ونظم ابن أبي الأصبع معاني هذه الخطبة فقال

(1/227)


( من يذم الدنيا بظلم فإني ... بطريق الإنصاف أثني عليها )
( وعظتنا بكل شيء وإنا ... حين جدت بالوعظ من مصطفيها )
( نصحتنا فلم نر النصح نصحا ... حين أبدت لأهلها ما لديها )
( أعلمتنا أن المآل يقينا ... للبلى حين جددت عصريها )
( كم أرتنا مصارع الأهل والأحباب ... لو نستفيق يوما إليها )
( يوم بؤس لها ويوم رخاء ... فتزود ما شئت من يوميها )
( وتيقن زوال ذاك وهذا ... تسل عما تراه من حادثيها )
( دار زاد لمن تزود منها ... وغرور لمن يميل إليها )
( مهبط الوحي والمصلى الذي كم ... عفرت صورة بها خديها )
( متجر الأولياء قد ربحوا الجنة ... منها وأوردوا عينيها )
( رغبت ثم رهبت ليرى ... كل لبيب عقباه في حالتيها )
وإذا أنصفت تعين أن يثني ... عليها ذو البر من ولديها )
فأما من ذم ما مدحه الناس قاطبة فابن الرومي فإنه ذم الورد وهو مشهور ووصف البحتري يوم الفراق بالقصر وقد أجمع الناس على طوله فقال
( ولقد تأملت الفراق فلم أجد ... يوم الفراق على امرئ بطويل )
( قصرت مسافته على متزود ... منه لوهن صبابة وغليل )
وهذا النوع أعني المغايرة أورده الحريري في المقامة الدينارية وبالغ في مدح الدينار وذمه فقال في مدحه
( أكرم به أصفر راقت صفرته ... جواب آفاق ترامت سفرته )
( مأثورة سمعته وشهرته ... قد أودعت سر الغنى أسرته )
( وقارنت نجح المساعي خطرته ... وحببت إلى الأنام غرته )
( كأنما من القلوب نقرته ... به يصول من حوته صرته )

(1/228)


( وإن تفانت أو توانت عثرته ... يا حبذا نضاره ونضرته )
( وحبذا مغناته ونصرته ... كم آمر به استتبت أمرته )
( ومترف لولاه دامت حسرته ... وجيش هم هزمته كرته )
( وبدر تم أنزلته بدرته ... ومستشيط تتلظى جمرته )
( أسر نجواه فلانت سرته ... وكم أسير أسلمته أسرته )
( أنقذه حتى صفت مسرته ... وحق مولى أبدعته فطرته )
( لولا التقى لقلت جلت قدرته ... )
وقال في ذمه
( تبا له من خادع مماذق ... أصفر ذي وجهين كالمنافق )
( يبدو بوصفين لعين الرامق ... زينة معشوق ولون عاشق )
( وحبه عند ذوي الحقائق ... يدعو إلى ارتكاب سخط الخالق )
( لولاه لم تقطع يمين سارق ... ولا بدت مظلمة من فاسق )
( ولا اشمأز باخل من طارق ... ولا شكا الممطول مطل العائق )
( ولا استعيذ من حسود راشق ... وشر ما فيه من الخلائق )
( أن ليس يغني عنك في المضائق ... إلا إذا فر فرار الآبق )
( واها لمن يقذفه من حالق ... ومن إذا ناجاه نجوى الوامق )
( قال له قول المحق الصادق ... لا رأي في وصلك لي ففارق )
ومن المغايرة تفضيل القلم على السيف إذ المعتاد عكس ذلك كقول ابن الرومي
( إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم )
( فالموت والموت لا شيء يعادله ... ما زال يتبع ما يجري به القلم )
( كذا قضى الله في الأقلام إذ بريت ... إن السيوف لها مذ أرهفت خدم )

(1/229)


وغاير المتنبي ذلك وقال
( حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيف ليس المجد للقلم )
والمغايرة هنا مليحة لكن المعنى مأخوذ من قول أبي تمام السيف أصدق إنباء من الكتب والمعنى في قول أبي تمام أبلغ فإن ابن أبي الأصبع قال لم يرض أبو تمام أن يقول السيف أصدق إنباء من القلم حتى قال من الكتب التي لا تكتب إلا بالأقلام والدواة والقرطاس والكاتب المطلق اليد واللسان والجنان فالحظ الفرق بينه وبين كلام المتنبي
انتهى كلام ابن أبي الأصبع
وقد عن لي هنا أن أرفع للمتأخرين في التقديم رأيه ليعلم المنكر الفرق بين البداية والنهاية فإن الشيخ جمال الدين أظهر في المغايرة بين السيف والقلم ما صدق به قول القائل
( وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل )
من ذلك قوله في رسالة المفاخرة بينهما والمغايرة في مدح كل واحد منهما وذمه فبرز القلم بإفصاحه ونشط لارتياحه ورقي من الأنامل على أعواده وقام خطيبا بمحاسنه في حلة مداده والتفت إلى السيف فقال ( بسم الله الرحمن الرحيم ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) الحمد لله الذي علم بالقلم وشرفه بالقسم وخط به ما قدر وقسم و الذي قال ( جف القلم بما هو كائن ) وعلى آله وصحبه ذوي المجد المبين وكل مجد بائن صلاة واضحة السطور فائحة من أدراج الصدور ما نقلت صحف البحار غواديها وكتبت أقلام النور على مهارق الدياجي حكمة باريها أما بعد
فإن القلم منار الدين والدنيا ونظام الشرف والعليا ومجاديح سحب الخير إذا احتاجت الهمم إلى السقيا ومفتاح باب اليمن المجرب إذا أعيا وسفير الملك المحجب وعذيق الملك المرجب وزمام أموره السائرة وقادمة أجنحته الطائرة

(1/230)


ومطلق أرزاق عفاته المتواترة وأنملة الهدى المشيرة إلى ذخائر الدنيا والآخرة به رقم كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل وسنة نبيه التي تهذب الخواطر الخواطل فبينه وبين من يفاخره الكتاب والسنة وحسبه ما جرى على يده الكريمة من منه وفي مراضي الدول عونة للشائدين ويعين الله في ليالي النفس تقلب وجهه في الساجدين إن نظمت فرائد العلوم فإنما هو سلكها وإن علت أسرة الكتب فإنما هو ملكها وإن رقمت برود البيان فإنما هو جلالها وإن تشعبت فنون الحكم فإنما هو أمانها ومآلها وإذا انقسمت أمور الممالك فإنما هو عصمتها وثمالها وإن اجتمعت رعايا الصنائع فإنما هو إمامها المتلفع بسواده وإن زخرت بحار الأفكار فإنما هو المستخرج دررها من ظلمات مداده وإن وعد أوفى بجنب النفع وإن أوعد أخاف كأنما يستمد من النقع
هذا وهو لسان الملوك المخاطب ورسيلها لأبكار الفتوح والخاطب والمنفق في تعمير دولها ومحصول أنفاسه والمتحمل أمورها الشاقة على عينه ورأسه والمتيقظ لجهاد أعدائها والسيف في جفنه نائم والمجهز لبأسها وكرمها جيشي الحروب والمكارم والجاري بما أمر الله من العد والإحسان والمسود الناصر فكأنما هو لعين الدهر إنسان طالما ذب عن حرمها فشد الله أزره ورفع ذكره وقام في المحامات عن دينها أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره وقاتل على البعد والصوارم في القرب وأوتي من معجزات النبوة نوعا من النصر بالرعب وبعث جحافل السطور فالقسي دالات والرماح ألفات واللامات لامات والهمزات كواسر الطير التي تتبع الجحافل والأتربة عجاجها المحمر من دم الكلى والمفاصل فهو صاحب فضيلتي العلم والعلم وساحب ذيلي الفخار في الحرب والسلم لا يعاديه إلا من سفه نفسه ولبس لبسه وطبع على قلبه وفل الجدال من غربه وخرج في وزن المعارضة عن ضربه
وكيف يعادى من إذا كرع في نقسه قيل ( إنا أعطيناك الكوثر ) وإذا ذكر شانئه السيف قيل ( إن

(1/231)


شانئك هو الأبتر ) أقول قولي هذا وأستغفر الله من الشرف وخيلائه والفخار وكبريائه وأتوكل على الله فيما حكم وأسأله التدبير فيما جرى به من القلم ثم أكتفي بما ذكره من أدواته وجلس على كرسي دواته متمثلا بقول القائل
( قلم يفل الجيش وهو عرمرم ... والبيض ما سلت من الأغماد )
( وهبت له الآجام حين نشابها ... كرم السيول وصولة الآساد )
فعند ذلك نهض السيف قائما عجلا وتلمظ لسانه للقول مرتجلا وقال ( بسم الله الرحمن الرحيم وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ) الحمد لله الذي جعل الجنة تحت ظلال السيوف وشرع حدها في ذوي العصيان فأغصتهم بماء الحتوف وشيد مراتب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص وعقد مرصوف وأجناهم من ورق حديدها الأخضر ثمار نعيمها الدانية القطوف و هازم الألوف وعلى آله وصحبه الذين طالما محوا بريق بريق الصوارم سطور الصفوف صلاة عاطرة في الأنوف حالية بها الأسماع كالشنوف وسلم
أما بعد فإن السيف زند الحق الوري وزنده القوي وحده الفارق بين الرشيد والغوي والنجم الهادي إلى العز وسبيله والثغر الباسم عن تباشير فلوله به أظهر الله الإسلام وقد جنح خفاء وجلى شخص الدين الحنيفي وقد جمح جفاء وأجرى سيوفه بالأباطح فأما الحق فمكث والباطل فذهب جفاء وحملته اليد الشريفة النبوية وخصته على الأقلام بهذه المزية وأوضحت به للحق منهاجا وأطلعته في ليالي النقع والشك سراجا وهاجا وفتحت باب الدين بمصباحه حتى دخل فيه الناس أفواجا فهو ذو

(1/232)


الرأي الصائب وشهاب العزم الثاقب وسماء العز التي زينت من آثاره بزينة الكواكب والحد الذي كأنه ماء دافق يخرج عند قطع الأجساد من بين الصلب والترائب لا تجحد آثاره ولا ينكر قراره إذا اشتبت في الدجى والنقع ناره يجمع بين الحالتين البأس والكرم ويصاغ في طوق الحليتين فهو إما طوق في نحور الأعداء وإما خلخال في عراقيب أهل النقم ويحسم به أهواء الفتن المضلة ويحذف بهمته الجازمة حروف العلة وإذا انحنى في سماء القتام بالضرب فقل يسألونك عن الأهلة فهو القوي الاستطاعة الطويل المعمر إذا قصف سواه في ساعة فما أولاه بطول الإحسان وما أجمل ذكره في أخبار المعمرين ومقاتل الفرسان كأن الغيث في غمده للطالب المنتجع وكأنه زناد يستضاء به إلا أن دفع الدماء شرره الملتمع كم قد مد فأدرك الطلاب ودعا النصر بلسانه المحمر من أثر الدماء فأجاب وتشعبت الدول لقائم نصره المنتظر وحازت أبكار الفتوح بحدة الذكر وغدت أيامها به ذات حجول معلومة وغرر وشدت به الظهور وحمدت علائقه في الأمور واتخذته الملوك حرزا لسلطانها وحصنا على أوطانها وقطانها وجردته على صروف الأقدار في شانها وندب فما أعيت عليه المصالح وباشر اللمم فهو على الحقيقة بين الهدى والضلال فرق واضح وأغاث في كل فصل فهو إما لغمده سعد الأخبية وإما لحامله سعد السعود وأما لضده سعد الذابح يجلس على رؤوس الأعداء قهرا ويشرح أنباء الشجاعة قائلا للقلم ( ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا ) وهل يفاخر من وقف الموت على بابه وعض الحرب الضروس بنابه وقذفت شياطين القراع بشهبه ومنح آيات شريفة منها طلوع الشمس من غربه ومنها أن الله أنشأ برقه فكان للمارد مصرعا وللرائد مرتعا ( ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا ) كم اتخذ من جسد طرسا وكتب عليه حرفا لا ينسى فيه للألباب عبرة وللأذهان السابحة غمرة بعد غمرة
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم من لفظ يجمح ورأي إلى الخصام يجنح

(1/233)


ولسان يحوجه اللدد إلى أن يخرج فيجرح وأتوكل عليه في صد الباطل وصرفه وأسأله الإعانة على كل باحث عن حتفه بظلفه ثم اختفى في بعض الخمائل وتمثل بقول القائل
( سل السيف عن أصل الفخار وفرعه ... فإني رأيت السيف أفصح مقولا )
فلما وعى القلم خطبته الطويلة الطائلة ونشطته الجليلة الجائلة وفهم كتابته وتلويحه وتعريضه بالذم وتصريحه وتعديله في الحديث وتجريحه استغاث باللفظ النصير واحتد وما أدراك ما حدة حده القصير وقام في دواته وقعد واضطرب على وجه القرطاس وارتعد وعدل إلى السب الصراح ورأى أنه إن سكت تكلم ولكن بأفواه الجراح فانحرف إلى السيف وقال أيها المعتز بطبعه المغتر بلمعه الناقض حبل الإنس بقطعه الناسخ بهجيره من ظلال العيش فيأ السراب الذي ( يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ) الحبيس الذي طالما عادت عليه عوائد شره الكمين الإبليس الذي لو أمر لي بالسجود لقال ( خلقتني من نار وخلقته من طين ) أتعرض بسبي وتتعرض لمكايد حربي ألست ذا الخدع البالغة والحرب خدعة والمنن النافعة ولا خير فيمن لا تبغي الأنام نفعه ألست المسود الأحق بقول القائل
( نفس عصام سودت عصاما ... وعلمته الجود والإقداما )
أتفاخرني وأنا للوصل وأنت للقطع وأنا للعطاء وأنت للمنع وأنا للصلح وأنت للضراب وأنا للعمارة وأنت للخراب وأنا المعمر وأنت المدمر وأنت المقلد وأنا صاحب التقليد وأنت العابث وأنا المجود ومن أولى من القلم بالتجويد فما أقبح شبهك وما أشنع يوما ترى فيه العيون وجهك أعلى مثلي يشق القول ويرفع

(1/234)


الصوت والصول وأنا ذو اللفظ المكين وأنت ممن دخل تحت قوله تعالى ( أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ) فقد تعديت حدك وطلبت ما لم تبلغ به جهدك هيهات أنا المنتصب لمصالح الدول وأنت في الغمد طريح والمتعب في تمهيدها وأنت غافل مستريح والساهر وقد مهد لك في الغمد مضجع والجالس عن يمين الملك وأنت عن يساره فأي الحالتين أرفع والساعي في تدبير حال القوم والمغني لنفعهم العمر إذا كان نفعك يوما أو بعض يوم فاقطع عنك أسباب المفاخرة واستر أنيابك عند المكاشرة فما يحسن بالصامت محاورة المفصح والله يعلم المفسد من المصلح على أنه لا ينكر لمثلك التصدي ولا يستغرب منه على مثلي التعدي ما أنا أول من أطاع الباري وتجرأت عليه ومددت يد العدوان إليه أولست الذي قيل فيه
( شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ... ويستحل دم الحجاج في الحرم )
قد سلبت الرحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء وجلبت القوة فكم هيجت سبة حمراء وأثرت دهماء وخمشت الوجوه وكيف لا وأنت كالظفر كونا وقطعت اللذات ولم لا وأنت كالصبح لونا أين بطشك من حلمي وجهلك من علمي وجسمك من جسمي
( شتان ما بين جسم صيغ من ذهب ... وذاك جسمي وجسم صيغ من بهق )
أين عينك الزرقاء من عيني الكحيلة ورؤيتك الشنعاء من رؤيتي الجميلة أين لون الشيب من لون الشباب وأين نذير الأعداء من رسول الأحباب هذا وكم أكلت الأكباد غيظا وحميت الأضغان قيظا وشكوت الصدأ فسقيت ولكن بشواظ من نار وأخنت عليك الأيام حتى انتعل بأبعاضك الحمار ولولا تعرضك إلي لما وقعت في المقت ولولا إساءتك لما كنت تصقل في كل وقت فدع عنك هذا الفخر المديد

(1/235)


وتأمل وصفي إذا ( فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ) وافهم قول ابن الرومي
( إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم )
( فالموت والموت لا شيء يعادله ... ما زال يتبع ما يجري به القلم )
( بذا قضى الله في الأقلام إذ بريت ... إن السيوف لها مذ أرهفت خدم )
فعند ذلك وثب السيف على قده وكاد الغضب يخرجه عن حده وقال أيها المتطاول على قصره والماشي على طريق غرره والمتعرض مني إلى الدمار والمتحرش بي فهو كما تقول العامة ذنبه قش ويحترس بالنار لقد شمرت عن ساقك حتى أغرقتك الغمرات وأتعبت نفسك فيما لا تدرك إلى أن أذهبها التعب حسرات أولست الذي طالما أرعش السيف للهيبة عطفك ونكس للخدمة رأسك وطرفك وأمر بعض رعيته وهو السكين فقطع قفاك وشق أنفك ورفعك في مهمات خاملة وحطك وجذبك للاستعمال وقطك فليت شعري كيف جسرت وعبست على مثلي وبسرت وأنت السوقة وأنا الملك وأنا الصادق وأنت المؤتفك وأنت لصون الحطام وأنا لصون الممالك وأنت لحفظ المزارع وأنا لحفظ المسالك وأنت للفلاحة وأنا للفلاح وأنت حاطب الليل من نفسه وأنا ساري الصباح وأنا الباصر وأنت الأرمد وأنا المخدوم الأبيض
وأنت الخادم الأسود وأقسم بمن صير في قبضتي أنواع اليمن المسخرة وجعل شخصك وشخصي كقوله تعالى ( وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ) إنك عن بلوغ قدري لأذل رتبة وعن بري كفي لأخيب طلبة فإني لا أنكر قول بعض أربابك حيث قالوا
( أف لرزق الكتبه ... أف له ما أصعبه )
( يرتشف الرزق به ... من شق تلك القصبه )
( يا قلما يرفع في ... الطرس لوجهي ذنبه )
( ما أعرف المسكين إلا ... كاتبا ذا متربه )

(1/236)


إن عاينت الديوان وقعت في الحساب والعذاب أو البلاغة سحرت وبالغت فأنت ساحر كذاب أو فخرت بتقييد العلوم فما لك منها سوى لمحة الطرف أو برقم المصاحف فإنك تعبد الله على حرف أو جمعت عملا فإنما جمعك للتكسير أو رفعت إلى طرفك رجع البصر خاسئا وهو حسير وهل أنت في الدول إلا خيال تكتفي الهمم بطيفه أو أصبع يلعق بها الرزق إذا أكل الضارب بقائم سيفه وساع على رأسه قل ما أجدى وسار ربما أعطى قليلا وأكدى
ثم وقف وأكدى أين أنت من حظي الأسنى وكفي الأغنى وما خصصت به من الجوهر الفرد إذا عجزت أنت عن العرض الأدنى كم برزت فما أغنيت في مهمه وكم خرجت من دواتك لتسطير سيئة فخرجت كما قيل من ظلمة إلى ظلمة وهب أنك كما قلت مفتوق اللسان جريء الجنان مداخل بمخلبك بين ذوي الاقتناص معدود من شياطين الدول وأنت في الطرس والنقس بين بناء وغواص فلو جريت خلفي إلى أن تحفى وصحت بصريرك إلى أن تخفت وتخفى فما كنت مني إلا بمنزلة المدرة من السماك الرامح والبعرة على تيار الخضم الطافح فلا تعد نفسك بمعجزي فإنك ممن يمين ولا تحلف لها أن تبلغ مداي فليس لمخضوب البنان يمين ومن صلاح نجمك أن تعترف بفضلي الأكبر وتؤمن بمعجزتي التي بعثت منك إلى الأسود والأحمر لتستوجب حقا وتسلم من نار حر تلظى لا يصلاها إلا الأشقى إن لم يتضح لرأيك إلا الإصرار وأبت حصائد لسانك إلا أن توقعك في النار فلا رعى الله عزائمك القاصرة ولا جمع عقارب ليل نفسك التي إن عادت فإن نعال السيوف لها حاضرة ثم قطع الكلام وتمثل بقول أبي تمام
( السيف أصدق إنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب )
( بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب )
فلما تحقق تحريف القلم حرجه وفهم مقدار الغيظ الذي أخرجه وسمع هذه المقالة التي يقطر من جوانبها الدم ورأى أنه هو البادي بهذه المناقشة والبادي أظلم

(1/237)


رجع إلى خداعه وتنحى عن طريق قراعه وعلم أن الدهر دهره والقدر على حكم الوقت قدره وأنه أحق بقول القائل
( لحنها معرب وأعجب من ذا ... أن إعراب غيرها ملحون )
فالتفت إليه وقال أيها المتلهب في قدحه والخارج عما نسب إليه من صفحه ما هذه الزيادة في السباب والتطفيف في كيل الجواب وأين علم الشيوخ عند جهل الشباب أما كان الأحسن بك أن تترك هذا الرفث وتعلم أخاك على الشعث وتحلم كما زعمت أنك السيد وتزكو على الغيظ كما يزكو على النار الجيد أما تعلم أني معينك في تشييد الممالك ورفيقك فيما تسلكه لنفعها من المسالك أما أنا وأنت للملك كاليدين وفي تشييده كالركنين الأشدين وما أراك عبتني في الأكثر إلا بتحول جسدي الذي ليس خلقه علي وضعفه الذي ليس أمره إلي على أن أشهى الخصور أنحفها وأقوى الجفون أضعفها وأزكى النسيمات أعلها وأدنفها وهذه سادات العرب تعد ذلك من فضلها الأظهر وحسنها الأشهر ولو أنك تقول بالفصاحة وتقف في هذه الساحة لأسمعتك في ذلك من أشعارهم وأتحفتك بما يفخرون به من آثارهم وكذلك عيبك سواد خلقتي التي
( أكسبها الحب حلية صبغت ... صبغة حب القلوب والحدق )
فيا لله ويا للحجر الأسود من هذه الحجة البائره والكرة الخاسره وعلى هذه النسبة ما عبتني به من فقر الأنبياء وذل الحكماء على أن إطلاقات معروفي معروفة وسطوات

(1/238)


أمري في وجوه الأعداء المكسوفة مكشوفة فأستغفر الله مما فرط في مقالك والتقويض من عوائد احتمالك فلا تشمت بنا الأضداد ولا تسلط بفرقتنا المفسدين في الأرض إن الله لا يحب الفساد واغضض الآن من خيلائك بعض هذا الغض ولا تشك أني قسيمك ولو قيل لك يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض وإن أبيت إلا أن تهدد وتجرد الشغب وتحدد فاذكر محلنا من اليد الشريفة السلطانية الملكية المؤيدية أيد الله نعمها وجازى بالإحسان شيمها وأيقظ في الآجال والآمال سيفها وقلمها ولا عطل مشاهد المدح من أنسها ولا أخلى قرائض الباس والكرم من قيام خمسها فأقسم من بأسه بالليل وما وسق ومن بشر طلعته بالقمر إذا اتسق لو تجاور الأسد والظباء بتلك اليد لوردا بالأمن في منهل ورتعا في روض لا يجهل ولو لجأ إليها النهار لما راعه بمشيئة الله الليل بزجر أو الليل لما غلب على خيطه الأسود الخيط الأبيض من الفجر وعلى ذلك فما ينبغي لنا بين تلك الأنامل غير سلوك الأدب والمعاضدة على محو الأزمات والنوب والاستقامة على الحق ولا عوج والحديث من تلك الراحة عن البحر ولا حرج هذه نصيحتي إليك والدين النصيحة والله تعالى يطلعك على معاني الرشد الصريحة ويجعل بينك وبين الغي حجابا مستورا وينسيك ما تقدم من القول وكان ذلك في الكتاب مسطورا
فعند ذلك نكس السيف طرفه وقبل خديعة القلم قائلا لأمر ما جدع قصير أنفه وأمسك عن المشاغبة خيفة الزلل فإن السيوف معروفة بالخلل ثم قال أيها الضعيف الجبار البازغ في ليل المداد نجما وكم في النجوم غرار لقد تظلمت من أمر أنت البادي بظلمه وتسورت إلى فتح باب أنت السابق إلى فتح ختمه وقد فهمت الآن ما ذكرت من أمر اليد الشريفة ونعم ما ذكرت وأحسن بما أشرت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره وقد تغافلت عن قولك الأحسن ورددتك إلى أمك الدواة كي تقر عينها ولا تحزن وسألت الله تعالى أن يزيد محاسن تلك اليد العالية تماما على الذي أحسن فإنها اليد التي
( لو أثر التقبيل في يد منعم ... لمحا براجم كفها التقبيل )
والراحة التي
( تسعى القلوب لغوثها ولغيثها ... فيجيبه التأمين والتأميل )

(1/239)


والأنامل التي علمها الله بالسيف والقلم ومكنها من رتبتي العلم والعلم ودارك بكرمها آمال العفاة بعد أن ولا ولم ولولا أن هذا المضمار يضيق عن وصفه السابق إلى غاية الخصل ومجده الذي إذا جر ذيله ود الفضل لو تمسك منه بالفضل لأطلت الآن في ذكر مجدها الأوضح وأفصحت في مدحها ولا ينكر لمثلها إن أنطقت الصامت فأفصح ثم إنك بعدما تقدم من القول المزيد والمجادلة التي عز أمرها على الحديد أقررت أنت أننا للملك كاليدين ولم تقر أينا اليمين وفي آفاقه كالقمرين ولم تذكر أينا الواضحة الجبين وما يشفي ضناي ويروي صداي إلا أن يحكم بيننا من لا يرد حكمه ولا يتهم فهمه فيظهر أينا المفضول من الفاضل والمخذول من الخاذل ويقصر عن القول المناظر ويستريح المناضل وقد رأيت أن يحكم بيننا المقام الأعظم الذي أشرت إلى يده الشريفة وتوسلت بمحاسنها اللطيفة فإنه مالك زمامنا ومنشئ غمامنا ومصرف كلامنا وحامل أعبائنا الذي ما هوى للهوى وصاحب أمرنا ونهينا وتالله ما ضل صاحبكم وما غوى ليفصل الأمر بحكمه ويقدمنا إلى مجلسه الشريف فيحكم بيننا بعلمه فقدم خيرة الله على ذلك الاشتراط وقل بعد تقبيلنا الأرض له في ذلك البساط خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط فنشط القلم فرحا ومشى في أرض الطرس مرحا وطرب لهذا الجواب وخر راكعا وأناب وقال سمعا وطاعة وشكر الله على هذه الساعة يا برد ذاك الذي قالت على كبدي
الآن ظهر ما تبغيان وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان وحكم بيننا الرأي المنير ونبأنا بحقيقة الأمر ولا ينبئك مثل خبير ثم تفاصلا على ذلك وتراضيا على ما يحكم به المالك وكانوا أحق بها وأهلها وانتبه المملوك من سنة فكره وطالع بما اختلج سواد هذه الليلة في سره والله تعالى يديم أيام مولانا السلطان التي هي نظام المفاخر ومقام المآثر وغوث الشاكي وغيث الشاكر ويمتع بظلال مقامه الذي لا تكسر الأيام مقدار ما هو جابر ولا تجبر ما هو كاسر إن شاء الله تعالى
تمت رسالة الشيخ جمال الدين التي كشف بها عن قناع المغايرة وأتى فيها بكل مثال ليس له مثيل ووسمها بصاحب حماة فأطاعه عاصي الأدب ووهب الله له على الكبر إسماعيل
نرجع إلى أبيات البديعيات فبيت الشيخ صفي الدين
( فالله يكلؤ عذالي ويلهمهم ... عذلي فقد فرجوا كربي بذكرهم )

(1/240)


الصفحة السابقة   //   الصفحة التالية