صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : مجموع فتاوى ابن تيمية |
وسئل الشيخ قدس الله روحه عن رجل متول ولايات ومقطع إقطاعات وعليها من الكلف السلطانية ما جرت به العادة وهو يختار أن يسقط الظلم كله ويجتهد في ذلك بحسب ما قدر عليه وهو يعلم أنه إن ترك ذلك وأقطعها غيره وولى غيره فإن الظلم لا يترك منه شيء ؛ بل ربما يزداد وهو يمكنه أن يخفف تلك المكوس التي في إقطاعه فيسقط النصف والنصف الآخر جهة مصارف لا يمكنه إسقاطه فإنه يطلب منه لتلك المصارف عوضها وهو عاجز عن ذلك لا يمكنه ردها . فهل يجوز لمثل هذا بقاؤه على ولايته وإقطاعه ؟ وقد عرفت نيته واجتهاده وما رفعه من الظلم بحسب إمكانه أم عليه أن يرفع يده عن هذه الولاية والإقطاع وهو إذا رفع يده لا يزول الظلم بل يبقى ويزداد . فهل يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع كما ذكر ؟ وهل عليه إثم في هذا الفعل ؟ أم لا ؟ وإذا لم يكن عليه إثم . فهل يطالب على ذلك ؟ أم لا ؟ وأي الأمرين خير له : أن يستمر مع اجتهاده في رفع الظلم وتقليله أم رفع يده مع بقاء الظلم وزيادة . وإذا كانت الرعية تختار بقاء يده لما لها في ذلك من المنفعة به ورفع ما رفعه من الظلم . فهل الأولى له أن يوافق الرعية ؟ أم يرفع يده . والرعية تكره ذلك لعلمها أن الظلم يبقى ويزداد برفع يده . (7/416)
الجواب
فأجاب : الحمد لله . نعم إذا كان مجتهدا في العدل ورفع الظلم بحسب إمكانه وولايته خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره واستيلاؤه على الإقطاع خير من استيلاء غيره كما قد ذكر : فإنه يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع ولا إثم عليه في ذلك ؛ بل بقاؤه على ذلك أفضل من تركه إذا لم يشتغل إذا تركه بما هو أفضل منه . وقد يكون ذلك عليه واجبا إذا لم يقم به غيره قادرا عليه . فنشر العدل - بحسب الإمكان ورفع الظلم بحسب الإمكان - فرض على الكفاية يقوم كل إنسان بما يقدر عليه من ذلك إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه ولا يطالب والحالة هذه بما يعجز عنه من رفع الظلم . وما يقرره الملوك من الوظائف التي لا يمكنه رفعها لا يطالب بها وإذا كانوا هم ونوابهم يطلبون أموالا لا يمكن دفعها إلا بإقرار بعض تلك الوظائف وإذا لم يدفع إليهم أعطوا تلك الإقطاعات والولاية لمن يقرر الظلم أو يزيده ولا يخففه كان أخذ تلك الوظائف ودفعها إليهم خيرا للمسلمين من إقرارها كلها ومن صرف من هذه إلى العدل والإحسان فهو أقرب من غيره ومن تناوله من هذا شيء أبعد عن العدل والإحسان من غيره والمقطع الذي يفعل هذا الخير يرفع عن المسلمين ما أمكنه من الظلم ويدفع شر الشرير بأخذ بعض ما يطلب منهم فما لا يمكنه رفعه هو محسن إلى المسلمين غير ظالم لهم يثاب ولا إثم عليه فيما يأخذه على ما ذكره ولا ضمان عليه فيما أخذه ولا إثم عليه في الدنيا والآخرة إذا كان مجتهدا في العدل والإحسان بحسب الإمكان . وهذا كوصي اليتيم وناظر الوقف والعامل في المضاربة والشريك وغير هؤلاء ممن يتصرف لغيره بحكم الولاية أو الوكالة إذا كان لا يمكنه فعل مصلحتهم إلا بأداء بعضه من أموالهم للقادر الظالم : فإنه محسن في ذلك غير مسيء وذلك مثل ما يعطي هؤلاء المكاسين وغيرهم في الطرقات والأشوال والأموال التي اؤتمنوا ؛ كما يعطونه من الوظائف المرتبة على العقار والوظائف المرتبة على ما يباع ويشترى ؛ فإن كل من تصرف لغيره أو لنفسه في هذه الأوقات من هذه البلاد ونحوها فلا بد أن يؤدي هذه الوظائف فلو كان ذلك لا يجوز لأحد أن يتصرف لغيره لزم من ذلك فساد العباد وفوات مصالحهم . والذي ينهى عن ذلك لئلا يقع ظلم قليل لو قبل الناس منه تضاعف الظلم والفساد عليهم فهو بمنزلة من كانوا في طريق وخرج عليهم قطاع الطريق فإن لم يرضوهم ببعض المال أخذوا أموالهم وقتلوهم . فمن قال لتلك القافلة : لا يحل لكم أن تعطوا لهؤلاء شيئا من الأموال التي معكم للناس فإنه يقصد بهذا حفظ ذلك القليل الذي ينهى عن دفعه ولكن لو عملوا بما قال لهم ذهب القليل والكثير وسلبوا مع ذلك فهذا مما لا يشير به عاقل فضلا أن تأتي به الشرائع فإن الله تعالى بعث الرسل لتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان . فهذا المتولي المقطع الذي يدفع بما يوجد من الوظائف ويصرف إلى من نسبه مستقرا على ولايته وإقطاعه ظلما وشرا كثيرا عن المسلمين أعظم من ذلك ولا يمكنه دفعه إلا بذلك إذا رفع يده تولى من يقره ولا ينقص منه شيئا هو مثاب على ذلك ولا إثم عليه في ذلك ولا ضمان في الدنيا والآخرة . وهذا بمنزلة وصي اليتيم وناظر الوقف الذي لا يمكنه إقامة مصلحتهم إلا بدفع ما يوصل من المظالم السلطانية إذا رفع يده تولى من يجور ويريد الظلم فولايته جائزة ولا إثم عليه فيما يدفعه ؛ بل قد تجب عليه هذه الولاية . وكذلك الجندي المقطع الذي يخفف الوظائف عن بلاده ولا يمكنه دفعها كلها ؛ لأنه يطلب منه خيل وسلاح ونفقة لا يمكنه إقامتها إلا بأن يأخذ بعض تلك الوظائف وهذا مع هذا ينفع المسلمين في الجهاد فإذا قيل له : لا يحل لك أن تأخذ شيئا من هذا ؛ بل ارفع يدك عن هذا الإقطاع فتركه وأخذه من يريد الظلم ولا ينفع المسلمين : كان هذا القائل مخطئا جاهلا بحقائق الدين ؛ بل بقاء الخيل من الترك والعرب الذين هم خير من غيرهم وأنفع للمسلمين وأقرب للعدل على إقطاعهم مع تخفيف الظلم بحسب الإمكان خير للمسلمين من أن يأخذ تلك الإقطاعات من هو أقل نفعا وأكثر ظلما . والمجتهد من هؤلاء المقطعين كلهم في العدل والإحسان بحسب الإمكان يجزيه الله على ما فعل من الخير ولا يعاقبه على ما عجز عنه ولا يؤاخذه بما يأخذ ويصرف إذا لم يكن إلا ذلك [ و ] كان ترك ذلك يوجب شرا أعظم منه . والله أعلم .
وسئل شيخ الإسلام عن رجل أخذ ماله ظلما بغير حق وانتهك عرضه أو نيل منه في بدنه فلم يقتص في الدنيا وعلم أن ما عند الله خير وأبقى . فهل يكون عفوه عن ظالمه مسقطا عند الله ؟ أم نقصا له ؟ أم لا يكون ؟ أو يكون أجره باقيا كاملا موفرا ؟ وأيما أولى مطالبة هذا الظالم والانتقام منه يوم القيامة - وتعذيب الله له . أو العفو عنه وقبول الحوالة على الله تعالى ؟ (7/417)
الجواب
فأجاب : لا يكون العفو عن الظالم ولا قليله مسقطا لأجر المظلوم عند الله ولا منقصا له ؛ بل العفو عن الظالم يصير أجره على الله تعالى ؛ فإنه إذا لم يعف كان حقه على الظالم فله أن يقتص منه بقدر مظلمته وإذا عفا وأصلح فأجره على الله . وأجره الذي هو على الله خير وأبقى . قال تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين } . فقد أخبر أن جزاء السيئة سيئة مثلها بلا عدوان وهذا هو القصاص في الدماء والأموال والأعراض ونحو ذلك . ثم قال : { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } وقد ذكر [ عن ] الإمام أحمد لما ظلم في محنته المشهورة أنه لم يخرج حتى حلل من ظلمه . وقال : ذكرت حديثا ذكر عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال : { إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ألا ليقم من وجب أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا وأصلح } . وقد قال تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } وأباح لهم سبحانه وتعالى إذا عاقبوا الظالم أن يعاقبوه بمثل ما عاقب به ثم قال : { ولئن صبرتم لهو خير للصابرين } فعلم أن الصبر عن عقوبته بالمثل خير من عقوبته . فكيف يكون مسقطا للأجر أو منقصا له وقد قال تعالى : { والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له } . فجعل الصدقة بالقصاص الواجب على الظالم - وهو العفو عن القصاص - كفارة للعافي والاقتصاص ليس بكفارة له فعلم أن العفو خير له من الاقتصاص . وهذا لأن ما أصابه من المصائب مكفر للذنوب ويؤجر العبد على صبره عليها ويرفع درجته برضاه بما يقضيه الله عليه منها . قال الله تعالى : { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه } قال بعض السلف : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه } . وفي المسند : { أنه لما نزل قوله تعالى : { من يعمل سوءا يجز به } قال أبو بكر : يا رسول الله نزلت قاصمة الظهر وأينا لم يعمل سوءا فقال : يا أبا بكر ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ ألست تصيبك اللأواء . فذلك ما تجزون به } وفيه أيضا : { المصائب حطة تحط الخطايا عن صاحبها كما تحط الشجرة القائمة ورقها } . والدلائل على أن المصائب كفارات كثيرة إذا صبر عليها أثيب على صبره فالثواب والجزاء إنما يكون على العمل - وهو الصبر - وأما نفس المصيبة فهي من فعل الله ؛ لا من فعل العبد وهي من جزاء الله للعبد على ذنبه وتكفيره ذنبه بها . وفي المسند " أنهم دخلوا على أبي عبيدة بن الجراح وهو مريض . فذكروا أنه يؤجر على مرضه فقال : ما لي من الأجر ولا مثل هذه . ولكن المصائب حطة " فبين لهم أبو عبيدة - رضي الله عنه - أن نفس المرض لا يؤجر عليه بل يكفر به عن خطاياه . وكثيرا ما يفهم من الأجر غفران الذنوب فيكون فيه أجر بهذا الاعتبار . ومن الناس من يقول : لا بد فيه من التعويض والأجر والامتنان وقد يحصل له ثواب بغير عمل كما يفعل عنه من أعمال البر . وأما الصبر على المصائب ففيها أجر عظيم قال تعالى : { وبشر الصابرين } { الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون } { أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون } . فالرجل إذا ظلم بجرح ونحوه فتصدق به كان الجرح مصيبة يكفر بها عنه ويؤجر على صبره وعلى إحسانه إلى الظالم بالعفو عنه ؛ فإن الإحسان يكون بجلب منفعة وبدفع مضرة ؛ ولهذا سماه الله صدقة . وقد قال تعالى : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين } { الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين } فذكر : أنه يحب المحسنين والعافين عن الناس . وتبين بهذا أن هذا من الإحسان . والإحسان ضد الإساءة وهو فعل الحسن سواء كان لازما لصاحبه أو متعديا إلى الغير ومنه قوله : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها } . فالكاظم للغيظ والعافي عن الناس قد أحسن إلى نفسه وإلى الناس ؛ فإن ذلك عمل حسنة مع نفسه ومع الناس ومن أحسن إلى الناس فإلى نفسه . كما يروى عن بعض السلف أنه قال : ما أحسنت إلى أحد وما أسأت إلى أحد وإنما أحسنت إلى نفسي وأسأت إلى نفسي . قال تعالى : { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها } وقال تعالى : { من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها } . ولو لم يكن الإحسان إلى الخلق إحسانا إلى المحسن يعود نفعه عليه لكان فاعلا إثما أو ضررا ؛ فإن العمل الذي لا يعود نفعه على فاعله ؛ إما حيث لم يكن فيه فائدة وإما شر من العبث ؛ إذا ضر فاعله . والعفو عن الظالم أحد نوعي الصدقة : المعروف والإحسان إلى الناس . وجماع ذلك الزكاة . والله سبحانه دائما يأمر بالصلاة والزكاة وهي الصدقة . وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنه قال : { كل معروف صدقة } وذلك نوعان : أحدهما : اتصال نفع إليه . الثاني : دفع ضرر عنه . فإذا كان المظلوم يستحق عقوبة الظلم ونفسه تدعوه إليه فكف نفسه عن ذلك ودفع عنه ما يدعوه إليه من إضراره فهذا إحسان منه إليه وصدقة عليه والله تعالى يجزي المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين . فكيف يسقط أجر العافي وهذا عام في سائر ما للعبد من الحقوق على الناس ؛ ولهذا إذا ذكر الله في كتابه حقوق العباد وذكر فيها العدل ندب فيها إلى الإحسان فإنه سبحانه يأمر بالعدل والإحسان . كما قال تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون } . فجعل الصدقة على المدين المعسر بإسقاط الدين عنه خيرا للمتصدق من مجرد إنظاره . وقال تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } فسمى إسقاط الدية صدقة . وقال تعالى : { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى } فجعل العفو عن نصف الصداق الواجب على الزوج بالطلاق قبل الدخول أقرب للتقوى من استيفائه . وعفو المرأة إسقاط نصف الصداق باتفاق الأمة . وأما عفو الذي بيده عقدة النكاح . فقيل : هو عفو الزوج وأنه تكميل للصداق للمرأة وعلى هذا يكون هذا العفو من جنس ذلك العفو فهذا العفو إعطاء الجميع وذلك العفو إسقاط الجميع . والذي حمل من قال هذا القول عليه ؛ أنهم رأوا أن غير المرأة لا يملك إسقاط حقها الواجب كما لا يملك إسقاط سائر ديونها . وقيل : الذي بيده عقدة النكاح . هو ولي المرأة المستقل بالعقد بدون استئذانها : كالأب للبكر الصغيرة وكالسيد للأمة وعلى هذا يكون العفوان من جنس واحد . ولهذا لم يقل : إلا أن يعفون أو يعفوا هم والخطاب في الآية للأزواج . وقال تعالى حكاية عن لقمان أنه قال لابنه : { وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور } وقال تعالى : { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل } { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم } { ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } . فهناك في قول لقمان ذكر الصبر على المصيبة فقال : { إن ذلك من عزم الأمور } وهنا ذكر الصبر والعفو فقال : { إن ذلك لمن عزم الأمور } وذكر ذلك بعد قوله : { ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل } { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق } فذكر سبحانه الأصناف الثلاثة في باب الظلم الذي يكون بغير اختيار المظلوم ؛ وهم : العادل والظالم والمحسن . فالعادل من انتصر بعد ظلمه وهذا جزاؤه أنه ما عليه من سبيل فلم يكن بذلك ممدوحا ولكن لم يكن بذلك مذموما . وذكر الظالم بقوله : { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق } فهؤلاء عليهم السبيل للعقوبة والاقتصاص . وذكر المحسنين فقال : { ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } . والقرآن فيه جوامع الكلم . وهذا كما ذكر في آخر البقرة أصناف الناس في المعاملات التي تكون باختيار المتعاملين وهم ثلاثة : محسن وظالم وعادل . فالمحسن : هو المتصدق . والظالم : هو المربي . والعادل : هو البائع . فذكر هنا حكم الصدقات وحكم الربا وحكم المبايعات والمداينات . وكما أن من توهم أنه بالعفو يسقط حقه أو ينقص : غالط جاهل ضال ؛ بل بالعفو يكون أجره أعظم ؛ فكذلك من توهم أنه بالعفو يحصل له ذل ويحصل للظالم عز واستطالة عليه فهو غالط في ذلك . كما ثبت في الصحيح وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { ثلاث إن كنت لحالفا عليهن : ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما نقصت صدقة من مال وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله } . فبين الصادق المصدوق : أن الله لا يزيد العبد بالعفو إلا عزا وأنه لا تنقص صدقة من مال وأنه ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله . وهذا رد لما يظنه من يتبع الظن وما تهوى الأنفس من أن العفو يذله والصدقة تنقص ماله والتواضع يخفضه . وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : { ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادما له ولا امرأة ولا دابة ولا شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ولا نيل منه قط شيء فانتقم لنفسه ؛ إلا أن تنتهك محارم الله فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء . حتى ينتقم لله } . وخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن أكمل الأخلاق وقد كان من خلقه أنه لا ينتقم لنفسه وإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله فيعفو عن حقه ويستوفي حق ربه . والناس في الباب أربعة أقسام : منهم من ينتصر لنفسه ولربه وهو الذي يكون فيه دين وغضب . ومنهم من لا ينتصر لا لنفسه ولا لربه وهو الذي فيه جهل وضعف دين . ومنهم من ينتقم لنفسه ؛ لا لربه وهم شر الأقسام . وأما الكامل فهو الذي ينتصر لحق الله ويعفو عن حقه . كما قال { أنس بن مالك : خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي : أف قط . وما قال لي لشيء فعلته : لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله : لم لا فعلته ؟ وكان بعض أهله إذا عتبني على شيء يقول : دعوه لو قضي شيء لكان } . فهذا في العفو عما يتعلق بحقوقه وأما في حدود الله فلما { شفع عنده أسامة بن زيد - وهو الحب ابن الحب وكان هو أحب إليه من أنس وأعز عنده - في امرأة سرقت شريفة أن يعفو عن قطع يدها : غضب وقال : يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله إنما أهلك من كان قبلكم . أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفس محمد بيده لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها } . فغضب على أسامة لما شفع في حد لله وعفا عن أنس في حقه . وكذلك لما { أخبره أسامة أنه قتل رجلا بعد أن قال : لا إله إلا الله : قال أقتلته بعد ما قال : لا إله إلا الله فما زال يكررها حتى قلت : ليته سكت } . والأحاديث والآثار في استحباب العفو عن الظالم وأن أجره بذلك أعظم كثيرة جدا . وهذا من العلم المستقر في فطر الآدميين . وقد قال تعالى لنبيه : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } فأمره أن يأخذ بالعفو في أخلاق الناس وهو ما يقر من ذلك . قال ابن الزبير : أمر الله نبيه أن يأخذ بالعفو من أخلاق الناس وهذا كقوله : { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } من أموالهم . هذا من العفو ويأمر بالمعروف ويعرض عن الجاهلين . وهذه الآية فيها جماع الأخلاق الكريمة ؛ فإن الإنسان مع الناس إما أن يفعلوا معه غير ما يحب أو ما يكره . فأمر أن يأخذ منهم ما يحب ما سمحوا به ولا يطالبهم بزيادة . وإذا فعلوا معه ما يكره أعرض عنهم وأما هو فيأمرهم بالمعروف . وهذا باب واسع .
وسئل رحمه الله عن الرجل يكون له على الرجل دين فيجحده أو يغصبه شيئا . ثم يصيب له مالا من جنس ماله . فهل له أن يأخذ منه مقدار حقه ؟ (7/418)
الجواب
فأجاب : وأما إذا كان لرجل عند غيره حق من عين أو دين . فهل يأخذه أو نظيره بغير إذنه ؟ فهذا نوعان : أحدهما : أن يكون سبب الاستحقاق ظاهرا لا يحتاج إلى إثبات مثل استحقاق المرأة النفقة على زوجها واستحقاق الولد أن ينفق عليه والده واستحقاق الضيف الضيافة على من نزل به فهنا له أن يأخذ بدون إذن من عليه الحق بلا ريب ؛ كما ثبت في الصحيحين { أن هند بنت عتبة بن ربيعة قالت : يا رسول الله : إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني من النفقة ما يكفيني وبني . فقال : خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف } فأذن لها أن تأخذ نفقتها بالمعروف بدون إذن وليه . وهكذا من علم أنه غصب منه ماله غصبا ظاهرا يعرفه الناس فأخذ المغصوب أو نظيره من مال الغاصب . وكذلك لو كان له دين عند الحاكم وهو يمطله فأخذ من ماله بقدره ونحو ذلك . والثاني : ألا يكون سبب الاستحقاق ظاهرا . مثل أن يكون قد جحد دينه أو جحد الغصب ولا بينة للمدعي . فهذا فيه قولان : أحدهما : ليس له أن يأخذ وهو مذهب مالك وأحمد . والثاني : له أن يأخذ وهو مذهب الشافعي . وأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فيسوغ الأخذ من جنس الحق ؛ لأنه استيفاء ولا يسوغ الأخذ من غير الجنس لأنه معاوضة فلا يجوز إلا برضا الغريم . والمجوزون يقولون : إذا امتنع من أداء الواجب عليه ثبتت المعاوضة بدون إذنه للحاجة ؛ لكن من منع الأخذ مع عدم ظهور الحق استدل بما في السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك } وفي المسند عن { بشير بن الخصاصية أنه قال : يا رسول الله إن لنا جيرانا لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها فإذا قدرنا لهم على شيء أنأخذه ؟ قال : لا أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك } . وفي السنن عن { النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له : إن أهل الصدقة يعتدون علينا أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا ؟ قال : لا } رواه أبو داود وغيره . فهذه الأحاديث تبين أن [ حق ] المظلوم في نفس الأمر إذا كان [ سببه ليس ] ظاهرا [ و ] أخذه خيانة لم يكن له ذلك وإن كان هو يقصد أخذ نظير حقه ؛ لكنه خان الذي ائتمنه فإنه لما سلم إليه ماله فأخذ بعضه بغير إذنه والاستحقاق [ ليس ] ظاهرا كان خائنا . وإذا قال : أنا مستحق لما أخذته في نفس الأمر لم يكن ما ادعاه ظاهرا معلوما . وصار كما لو تزوج امرأة فأنكرت نكاحه ولا بينة له فإذا قهرها على الوطء من غير حجة ظاهرة فإنه ليس له ذلك . ولو قدر أن الحاكم حكم على رجل بطلاق امرأته ببينة اعتقد صدقها وكانت كاذبة في الباطن لم يكن له أن يطأها لما هو الأمر عليه في الباطن . فإن قيل لا ريب أن هذا يمنع منه ظاهرا وليس له أن يظهر ذلك قدام الناس ؛ لأنهم مأمورون بإنكار ذلك ؛ لأنه حرام في الظاهر ؛ لكن الشأن إذا كان يعلم سرا فيما بينه وبين الله ؟ قيل : فعل ذلك سرا يقتضي مفاسد كثيرة منهي عنها فإن فعل ذلك في مظنة الظهور والشهرة وفيه ألا يتشبه به من ليس حاله كحاله في الباطن فقد يظن الإنسان خفاء ذلك فيظهر مفاسد كثيرة ويفتح أيضا باب التأويل . وصار هذا كالمظلوم الذي لا يمكنه الانتصار إلا بالظلم كالمقتص الذي لا يمكنه الاقتصاص إلا بعدوان فإنه لا يجوز له الاقتصاص . وذلك أن نفس الخيانة محرمة الجنس . فلا يجوز استيفاء الحق بها ؛ كما لو جرعه خمرا أو تلوط به أو شهد عليه بالزور : لم يكن له أن يفعل ذلك ؛ فإن هذا محرم الجنس . والخيانة من جنس الكذب . فإن قيل : هذا ليس بخيانة ؛ بل هو استيفاء حق . والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن خيانة من خان وهو أن يأخذ من ماله مالا يستحق نظيره . قيل هذا ضعيف لوجوه : أحدها : أن الحديث فيه { أن قوما لا يدعون لنا شاذة ولا فاذة إلا أخذوها . أفنأخذ من أموالهم بقدر ما يأخذون ؟ فقال : لا أد الأمانة إلى من ائتمنك . ولا تخن من خانك } . وكذلك قوله في حديث الزكاة : { أفنكتم من أموالنا بقدر ما يأخذون منا ؟ فقال : لا } . الثاني : أنه قال : { ولا تخن من خانك } . ولو أراد بالخيانة الأخذ على طريق المقابلة لم يكن فرق بين من خانه ومن لم يخنه وتحريم مثل هذا ظاهر لا يحتاج إلى بيان وسؤال . وقد قال : { ولا تخن من خانك } فعلم أنه أراد أنك لا تقابله على خيانته فتفعل به مثل ما فعل بك . فإذا أودع الرجل مالا فخانه في بعضه ثم أودع الأول نظيره ففعل به مثل ما فعل فهذا هو المراد بقوله : { ولا تخن من خانك } . الثالث : أن كون هذا خيانة لا ريب فيه وإنما الشأن في جوازه على وجه القصاص ؛ فإن الأمور منها ما يباح فيه القصاص كالقتل وقطع الطريق وأخذ المال . ومنها ما لا يباح فيه القصاص : كالفواحش والكذب ونحو ذلك . قال تعالى في الأول : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } . وقال : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } . وقال : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } . فأباح العقوبة والاعتداء بالمثل . فلما قال هاهنا : { ولا تخن من خانك } علم أن هذا مما لا يباح فيه العقوبة بالمثل .
وسئل رحمه الله عن رجل مديون وله عند صاحب الدين بضاعة والثمن سبعون درهما ومقدار البضاعة تسعون درهما وقد توفي المديون واحتاط على موجوده فأراد صاحب الدين أن يطلع الورثة على البضاعة فاختشى أن يأخذوها ولم يوصلوه إلى حقه وإن أخفاها فيبقى إثم فرطها عليه ويخاف أن يطالبه بغير البضاعة ؟ (7/419)
الجواب
فأجاب : يبيعها ويستوفي من الثمن ما له في ذمة الميت من الأجرة والثمن وما بقي يوصله إلى مستحق تركته . وإذا حلفوه فله أن يحلف أنه ليس له عندي غير هذا وإن أحب أن يشتري بضاعة مثل تلك البضاعة ويحلف أنه لا يستحق عنده إلا هذا . بشرط أن تكون البضاعة مثل تلك أو خيرا منها .
وسئل عن رجل له مال غصب أو مطل في دين ثم مات . فهل تكون المطالبة له في الآخرة ؟ أم للورثة ؟ أفتونا مأجورين . (7/420)
الجواب
فأجاب : أما من غصب له مال أو مطل به فالمطالبة في الآخرة له . كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من كانت لأخيه عنده مظلمة في دم أو مال أو عرض فليستحلل من قبل أن يأتي يوم لا دينار فيه ولا درهم فإن كانت له حسنات أخذ من حسناته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فألقيت عليه } . فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الظلامة إذا كانت في المال طالب المظلوم بها ظالمه ولم يجعل المطالبة لورثته وذلك أن الورثة يخالفونه في الدنيا فما أمكن استيفاؤه في الدنيا كان للورثة وما لم يمكن استيفاؤه في الدنيا فالطالب به في الآخرة المظلوم نفسه . والله أعلم .
وسئل عن قوم دخل في زرعهم جاموسان . فعرقبوهما فماتا وقد يمكن دفعهما بدون ذلك فما يجب عليهم ؟ وما يجب على أرباب المواشي من حفظها ؟ وعلى أرباب الزرع من حفظه ؟ (7/421)
الجواب
فأجاب : ليس لهم دفع البهائم الداخلة إلى زرعهم إلا بالأسهل فالأسهل . فإذا أمكن إخراجهما بدون العرقبة فعرقبوهما عزروا على تعذيب الحيوان بغير حق . وعلى العدوان على أموال الناس بما يردعهم عن ذلك وضمنوا للمالك بدلهما . وعلى أهل الزرع حفظ زرعهم بالنهار وعلى أهل المواشي حفظ مواشيهم بالليل كما قال بذلك النبي صلى الله عليه وسلم .
وسئل عن المال المغصوب من الإبل وغيرها إذا نمت عند الغاصب ثم تاب كيف يتخلص من المال . وهل هو حرام ؟ أم لا ؟ (7/422)
الجواب
فأجاب : أعدل الأقوال في ذلك : أن يجعل نماء المال بين المالك والعامل كما لو دفعه إلى من يقوم عليه بجزء من نمائه ثم إن الأصل ونصيب المالك إذا تعذر دفعه إلى مالكه صرفه في مصالح المسلمين .
وسئل عمن غصب شاة ثم تراضى هو ومالكها . هل يجوز أكلها ؟ (7/423)
الجواب
فأجاب : نعم إذا تراضى هو ومالكها جاز أكلها .
وسئل رحمه الله عن غلام في يده فرس فطلعت نعامة من إصطبل وهجمت على الخيل والغلام ماسك الفرس واثنان قعود فرفس أحدهما وتوفي فما يجب على الغلام ؟ وما يجب على صاحب الفرس ؟ . (7/424)
الجواب
فأجاب : إذا رفسته برجلها فلا ضمان على الغلام ولا على صاحب الفرس ؛ بل الفرس باق على ملك صاحبه وهذا مذهب جمهور الأئمة ؛ كمالك وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم . وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الرجل جبار } وقال الشافعي : يضمن ما ضربه برجله إذا كان على الفرس راكب أو قائد أو سائق كما وافقه أحمد وغيره على ذلك في اليد . وأما إذا لم يفرط الغلام الذي هو ممسك للفرس فلا ضمان عليه باتفاق العلماء مثل أن تجفل الفرس ويحذر القريب منها . فيقول : حاذروا . فإذا قال ذلك فمن رفست منهما كان هو المفرط ولم يكن على أحد ضمان باتفاق الأئمة والله أعلم .
وسئل رحمه الله عن جمل كبير مربوط على الربيع وإلى جانبه قعود صغير لآخر غير صاحب الجمل الكبير ثم غاب أصحاب الجملين فانقلب الكبير على الصغير فقتله . فما حكمه ؟ . (7/425)
الجواب
فأجاب : إذا كان صاحب الجمل الكبير لم يفرط في منعه فلا ضمان عليه مثل أن يكون قيده القيد الذي يمنعه . وأما إذا كان قد فرط بأن قيده قيدا خفيفا لا يمنعه فعليه ضمان ما أتلفه . والله أعلم .
باب الشفعة قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فصل اتفق الأئمة على ثبوت الشفعة في العقار الذي يقبل القسمة - قسمة الإجبار - كالقرية والبستان ونحو ذلك . وتنازعوا فيما لا يقبل قسمة الإجبار ؛ وإنما يقسم بضرر أو رد عوض فيحتاج إلى التراضي . هل تثبت فيه الشفعة ؟ على قولين . أحدهما : تثبت وهو مذهب أبي حنيفة واختاره بعض أصحاب الشافعي : كابن سريج . وطائفة من أصحاب أحمد : كأبي الوفاء بن عقيل . وهي رواية المهذب عن مالك . وهذا القول هو الصواب كما سنبينه إن شاء الله . والثاني : لا تثبت فيه الشفعة وهو قول الشافعي نفسه واختيار كثير من أصحاب أحمد . وهذا القول له حجتان : أحدهما قولهم : إن الشفعة إنما شرعت لرفع ضرر مؤنة القسمة وما لا تجب قسمته ليس فيه هذا الضرر . والثاني : أنه لو وجبت فيه الشفعة لتضرر الشريك ؛ فإنه إن باعه لم يرغب الناس في الشراء ؛ لخوفهم من انتزاعه بالشفعة . وإن طلب القسمة لم تجب إجابته فلا يمكنه البيع ولا القسمة فلا يقدر أن يتخلص من ضرر شريكه . فلو أثبتنا فيه الشفعة لرفع ضرر الشريك الذي لم يبع لزم إضرار الشريك البائع . والضرر لا يزال بالضرر . والقول الأول أصح ؛ فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من كان له شريك في أرض أو ربعة أو حائط . فلا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به } ولم يشترط النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض والربعة والحائط أن يكون مما يقبل القسمة : فلا يجوز تقييد كلام الرسول بغير دلالة من كلامه ؛ لا سيما وقد ذكر هذا في باب تأسيس إثبات الشفعة . وليس عنه لفظ صحيح صريح في الشفعة أثبت من هذا . ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة } فلم يمنع الشفعة إلا مع إقامة الحدود وصرف الطرق وهذا الحديث في الصحيح عن جابر . وفي السنن عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الجار أحق بشفعة جاره ينتظره بها . وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا } فإذا قضى بها للاشتراك في الطريق ؛ فلأن يقضي بها للاشتراك في رقبة الملك أولى وأحرى . وقد تنازع الناس في شفعة الجار على ثلاثة أقوال . أعدلها هذا القول : إنه إن كان شريكا في حقوق الملك ثبتت له الشفعة وإلا فلا . وأيضا فمن المعلوم أنه إذا أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الشفعة فيما يقبل القسمة فما لا يقبل القسمة أولى بثبوت الشفعة فيه ؛ فإن الضرر فيما يقبل القسمة يمكن رفعه بالمقاسمة وما لا يمكن فيه القسمة يكون ضرر المشاركة فيه أشد . وظن من ظن أنها تثبت لرفع المقاسمة ؛ لا لضرر المشاركة كلام ظاهر البطلان ؛ فإنه قد ثبت بالنص والإجماع . أنه إذا طلب أحد الشريكين القسمة فيما يقبلها وجبت إجابته إلى المقاسمة ولو كان ضرر المشاركة أقوى لم يرفع أدنى الضررين بالتزام أعلاهما ولم يوجب الله ورسوله الدخول في الشيء الكثير لرفع الشيء القليل ؛ فإن شريعة الله منزهة عن مثل هذا . وأما قولهم : هذا يستلزم ضرر الشريك البائع . فجوابه أنه إذا طلب المقاسمة ولم يمكن قسمة العين ؛ فإن العين تباع ويجبر الممتنع على البيع ويقسم الثمن بينهما . وهذا مذهب جمهور العلماء : كمالك وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل . وذكر بعض المالكية أن هذا إجماع . وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من أعتق شركا له في غلام وكان له من المال ما يبلغ ثمن الغلام قوم عليه قيمة عدل لا وكس ولا شطط فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق } فدل هذا الحديث على أن حق الشريك في نصف قيمة الجميع ؛ لا في قيمة نصف الجميع ؛ فإنه إذا بيع العبد كله ساوى ألف درهم مثلا وإذا بيع نصفه ساوى أقل من خمسمائة درهم وحق الشريك نصف الألف . فهكذا في العقار الذي لا يقسم يستحق نصف قيمته جميعه فيباع جميع العقار ويعطى حصته من الثمن إذا طلب ذلك وبهذا يرتفع عنه الضرر وبهذا يتبين كمال محاسن الشريعة وما فيها من مصالح العباد في المعاش والمعاد . والحمد لله وحده . (7/426)
وسئل عن رجل له ملك وله شركة فيه . فاحتاج إلى بيعه فأعطاه إنسان فيه شيئا معلوما فباعه . فقال : زن لي ما قلت فنقصه عن المثل . فهل يجب عليه أداؤه ؟ أم لا ؟ وهل يصح للشريك شفعة ؟ أم لا ؟ . (7/427)
الجواب
فأجاب : إذا باعه بثمن معلوم كان على المشتري أداء ذلك الثمن . وإن كان البيع فاسدا ؛ وقد فات : كان عليه قيمة مثله . وإذا كان الشقص مشفوعا فللشريك فيه الشفعة . والله أعلم .
وسئل رحمه الله عن رجل اشترى شقصا مشفوعا وكلما طلبه الشفيع أظهر صورة أن البيع كان بدون الرؤية المعتبرة ففسخه الحاكم وأقر المشتري ببراءة البائع مما كان قبضه ووقف الشقص على المشتري كل ذلك دفعا للشفعة . فهل يكون ذلك مسقطا للشفعة ؟ وهل تكون هذه التصرفات صحيحة ؟ . (7/428)
الجواب
فأجاب : الاحتيال على إسقاط الشفعة بعد وجوبها لا يجوز بالاتفاق ؛ وإنما اختلف الناس في الاحتيال عليها قبل وجوبها وبعد انعقاد السبب وهو ما إذا أراد المالك بيع الشقص المشفوع ؛ مع أن الصواب أنه لا يجوز الاحتيال على إسقاط حق مسلم وما وجد من التصرفات لأجل الاحتيال المحرم فهو باطل . وما ذكر من إظهار صورة انفساخ المبيع وعود الشقص إلى البائع ثم إظهار براءة البائع ووقفه : فكل ذلك باطل والشقص باق على ملك المشتري وحق الشفيع ثابت فيه ؛ إلا أن يترك تركا يسقط الشفعة . والله أعلم .
وسئل عن شقص مشفوع ثبت وقفه وثبت أن حاكما حكم بالشفعة فيه للشريك ولم يثبت الشريك أخذها ؟ . (7/429)
الجواب
فأجاب : لا يبطل الوقف إلا إذا أثبت أن الشريك يملك الشقص المشفوع الموقوف على ما في تملكه من اختلاف العلماء . وأما مجرد حكم الحاكم باستحقاق الشفعة فلا ينقض الوقف المتقدم قبل ذلك كما لا يزيل ملك المشتري ؛ بل يبقى الأمر موقوفا فإن أخذ الشريك الشقص بالشفعة بطل التصرف الموجود فيه قبل ذلك عند من يقول به ؛ وإلا فلا .
وسئل رحمه الله عن رجل اشترى نصف حوش والنصف الآخر اشتراه رجل آخر وأوقف حصته قبل طلب الشريك الأول وأن الشريك الأول قال : أنا آخذه بالشفعة . فهل له ذلك ؟ . (7/430)
الجواب
فأجاب : إذا كان الأمر كذلك فلا شفعة له ؛ فإن المشتري الثاني وقفه فلا شفعة فيه وشفعة الأول بطلت ؛ لكونه أخر الطلب بعد علمه حتى خرجت عن ملك المشتري بوقف أو غيره فلا شفعة . وإن كان قد أخرجه من ملكه بالبيع قبل علمه بالبيع فله الشفعة . وأما الوقف والهبة ففيه نزاع . والله أعلم .
وسئل رحمه الله عن رجل له حصة مع شاهد ثم باع الشريك حصته لشاهد آخر بزيادة كثيرة على ثمن المثل في الظاهر وتواطآ بينهما في الباطن على ثمن المثل دفعا للشفعة . فهل تسقط الشفعة ؟ أم لا ؟ . (7/431)
الجواب
فأجاب : لا يحل الكذب والاحتيال على إسقاط حق المسلم ويجب على المشتري أن يسلم الشقص المشفوع بالثمن الذي تراضيا عليه في الباطن إذا طلب الشريك ذلك وإن منعه ذلك قدح في دينه . وعلى الحاكم أن يحكم بالشفعة إذا تبين حقيقة الأمر .
باب الوديعة سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن دلال أعطاه إنسان قماشا ليختمه ويبيعه فما وجد الختام فأودعه عند رجل خياط أمين عادتهم يودعون عنده فحضر صاحب القماش هو ودلال آخر وأخذوا القماش من عنده ولم يكن الذي أودعه حاضرا فادعى صاحب القماش أنه عدم له منهم ثوب وأنكر ذلك الدلال : فهل يلزم الدلال الذي كانت عنده الوديعة شيء ؟ أم لا ؟ . (7/432)
الجواب
فأجاب : الحمد لله . إذا ادعوا عدم قبض الوديعة وأنكر ذلك الدلال فالقول قوله مع يمينه ما لم تقم حجة شرعية على تصديق دعواهم . وأما إذا عدم منها شيء : فإن كان الدلال فرط بحيث فعل ما لم يؤذن فيه لفظا ولا عرفا ضمن فإذا كان من عادتهم الإيداع عند هذا الأمين وأصحاب القماش يعلمون ذلك ويقرونه عليه فلا ضمان على الدلالين . والله أعلم .
وسئل رضي الله عنه عن رجل مات وترك بنتين وزوجة وإحدى البنتين غائبة . فهل يجوز لمن له النظر على هذه التركة أن يودع مال الغائبة بحيث لا يعلم هل يحفظه المودع عنده أم يتصرف فيه لنفسه ؟ وإذا حدث مظلمة على جملة التركة : هل يختص باستدفاعها عن التركة مال الغائبة أو يعم جميع المال المتروك ؟ وإذا استودع عند [ من ] قد يحفظه وقد يتصرف لمصلحة نفسه : فهل للمستحق له مطالبة من وضع يده عليه أو من أودعه حيث لا يؤمن عليه وقد مات الناظر والمودع وطلب من تركة المودع فلم يوجد ولم يعلم هل غصب أم لا ؟ وهل الإبراء لذمة المستودع عنده أن يترك مع احتمال أن يكون قد وضع عين يده عليه أو يدفع عنه وليه من ورثته ذلك القدر عنه من صدقاته التي هي غير معينة بجهة مخصوصة ؟ . (7/433)
الجواب
فأجاب : الحمد لله هذا المال صار تحت يده أمانة فعليه أن يحفظه حفظ الأمانات ولا يودعه إلا لحاجة - فإن أودعه عند من يغلب على الظن حفظه له - كالحاكم العادل إن وجد أو غيره بحيث لا يكون في إيداعه تفريط . فلا ضمان عليه . وإن فرط في إيداعه فأودعه لخائن أو عاجز مع إمكان ألا يفعل ذلك فهو مفرط ضامن . وأما المودع إذا لم يعلم أنه وديعة عنده ففي تضمينه قولان لأهل العلم في مذهب أحمد وغيره . أظهرهما أنه لا ضمان عليه وما حصل بسبب المال المشترك من المغارم التي تؤخذ ظلما أو غير ظلم فهي على المال جميعه لا يختص بها بعضه . وإذا غصب الوديعة غاصب فللناظر المودع أن يطالبه . وللمودع أيضا أن يطالبه في غيبة المودع . وأما المستحق المالك فله أن يطالب الغاصب وله أن يطالب الناظر أو المودع إن حصل منه تفريط . فأما بدون التفريط والعدوان فليس له المطالبة . وإذا مات هذا المودع ولم يعلم حال الوديعة : هل أخذت منه أو أخذها أو تلفت فإنها تكون دينا على تركته عند جماهير العلماء . كأبي حنيفة ومالك وأحمد وهو ظاهر نص الشافعي وأحد القولين في مذهبه . وإذا كانت دينا عليه وجب وفاؤها من ماله فإن كان له مال غير الوقف وفيت منه وإن لم يكن له مال غير الوقف ففي الوقف على المدين الذي أحاط الدين بماله نزاع مشهور بين أهل العلم . وكذلك الوقف الذي لم يخرج عن يده حتى مات فإنه يبطل في أحد قولي العلماء . كمالك وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة وأحمد . وأما إن كان الوقف قد صح ولزم وله مستحقون ولم يكن صاحب الدين ممن تناوله الوقف : لم يكن وفاء الدين من ذلك ؛ لكن إن كان ممن تناوله الوقف مثل أن يكون على الفقراء وصاحب الدين فقير : فلا ريب أن الصرف إلى هذا الفقير الذي له دين على الواقف أولى من الصرف إلى غيره . والله أعلم .
وسئل رحمه الله عن رجل استودع مالا على أنه يوصله إن مات المودع لأولاده فمات وترك ورثة غير أولاده وهم زوجتان ومن إحداهما ابنان وبنتان من غيرها وادعى ذو السلطان أن أم الابنين جارية له تحت رقه وأخذها وأولادها ثم مات أحد الولدين ثم ماتت أمه . فهل يكون الأولاد مختصين بجميع المال ؟ أو هو لجميع الورثة ؟ وإذا لم تصح دعوى من ادعى أن أم الولدين مملوكة هل له أن يوصل إليه جميع ما يخص الولدين وأمهم ؟ أو له أن يبقي نصيبهم للولد رجاء في رفع الملك عنه أو يفديه من الرق . وهل له أن يتجر في المال إن أبقاه لئلا تفنيه الزكاة ؟ (7/434)
الجواب
فأجاب : إذا كان هذا المال للمودع وجب أن يوصل إلى كل وارث حقه منه سواء خص به المالك أولاده أو لم يخصهم . وليس لهذا المستودع أن يخص بعض الورثة إلا بإجازة الباقين ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث } . ولو صرح الوصي بتخصيص بعض الورثة بالمال لم يجز ذلك بدون إجازة الباقين باتفاق الأئمة . وأما المدعي المستولدة فلا يحكم له بمجرد دعواه باتفاق المسلمين ؛ لا سيما إن اعترف أنه أعطاه الجارية ؛ فإن هذا إقرار منه بالتمليك ؛ بل الأمة أم الولد وأولاده منها أحرار . ولو فرض أنها أمة المدعي في نفس الأمر وكان الواطئ يعتقد أنها أمته . فأولاده أحرار باتفاق الأئمة . وهذا المودع يحفظ نصيب هؤلاء الصغار . فإن كان في البلد حاكم عالم عادل قادر يحفظ هذا المال لهم سلمه إليه وإن لم يجد من يحفظ المال لهم أبقاه بيده وليتجر فيه بالمعروف والربح لليتيم وأجره على الله . وأم الولد لا ترث من سيدها شيئا ؛ لكن إذا مات أحد بنيها [ ورثت منه ] والله أعلم .
وسئل عن رجل تحت يده بعير وديعة فسرق من جملة إبله ثم لحق السارق وأخذ منه الإبل وامتنع من دفع ذلك البعير للمودع حتى يحلف أنه كان البعير على ملكه . فحلف بالله العظيم أنه على ملكه وقصد بذلك ملك الحفظ ؟ (7/435)
الجواب
فأجاب : أما إذا ملك قبضه والاستيلاد عليه فلا حنث عليه في ذلك ولا إثم ؛ وإن قصد أنه ملكه الملك المعروف فهذا كذب ؛ لكنه إذا اعتقد جواز هذا لدفع الظلم وفي المعاريض مندوحة عن الكذب وليستغفر الله من ذلك ويتب إليه ولا كفارة عليه . والله أعلم .
وسئل عن الاقتراض من الوديعة بلا إذنه . (7/436)
الجواب
فأجاب : وأما الاقتراض من مال المودع فإن علم المودع علما اطمأن إليه قلبه أن صاحب المال راض بذلك فلا بأس بذلك . وهذا إنما يعرف من رجل اختبرته خبرة تامة وعلمت منزلتك عنده كما نقل مثل ذلك عن غير واحد وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في بيوت بعض أصحابه وكما بايع عن عثمان رضي الله عنه وهو غائب ومتى وقع في ذلك شك لم يجز الاقتراض . وقال : إذا اشترى إنسان سلعة : جملا أو غيره وهو مودع فأودعه المشتري عند المودع ثم باعه الآخر كان البيع الثاني باطلا . وإذا سلمه المودع إلى المشتري الثاني كان لمالكه - وهو المشتري الأول - أن يطالب به المودع الذي سلمه ويطالب به المشتري الذي تسلمه .
وسئل رحمه الله عن قوم لهم عند راهب في دير وديعة وادعى عدمها مع ما كان في الدير ثم ظهر الذي ادعى أن ما عدم من الدير قد باعه . فهل يلزم بالمال ؟ أم لا ؟ وهل القول قوله ؟ ودير هذا الراهب على ساحل البحر المالح وله أخ حرامي في البحر يأوي إليه والحرامية أيضا . فما يجب على ولاة الأمور فيه ؟ وهل يجوز قتله وخراب ديره ؟ وكان أهل المال طلبوا مالهم منه فلم يسلمه لهم ولهم شهود نصارى يشهدون بذلك ؟ (7/437)
الجواب
فأجاب : الحمد لله . إذا ظهر أن المال الذي للمودع لم يذهب فادعى أن الوديعة ذهبت دون ماله فهنا يكون ضامنا للوديعة في أحد قولي العلماء : كقول مالك وأحمد في إحدى الروايتين ؛ فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضمن أنس بن مالك وديعة ادعى أنها ذهبت دون ماله . وأما إذا ادعى أنه ذهب جميع المال ثم ظهر كذبه فهنا وجوب الضمان عليه أوكد . فإذا ادعى المودع صاحب الوديعة أنه طلب الوديعة منه فلم يسلمها إليه أو أنه خان في الوديعة ولم تتلف : كان قبول قوله مع يمينه أقوى وأوكد ؛ بل يستحق في مثل هذه الصورة التعزير البليغ الذي يردعه وأمثاله عن الكذب . وهذا مع كونه من أهل الذمة . وإذا شهد عليه من أهل دينه المقبولين عندهم قبلت شهادتهم في أحد قولي العلماء وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين . وقبول شهادتهم عليه هنا أوكد . ومن لم يقبل شهادتهم فإنه يحكم بيمين المدعى عليه في مثل هذه الصورة ؛ لظهور رجحان قول المدعي في أحد قوليه أيضا . وأما من كان من أهل الذمة يؤوي أهل الحرب أو يعاونهم على المسلمين فإنه قد انتقض عهده وحل دمه وماله والواجب على ولاة الأمور ألا يتركوا مثل هؤلاء الذين لا يؤمنون على المسلمين في موضع يخاف ضررهم على المسلمين أو ينقل إليهم أولاد المسلمين ؛ فإنه قد انتقض عهده وحل دمه وماله .
وسئل عن وديعة في كيس مختوم ولم يعلم ما فيه ولا عاينه . وذكر المودع أنها ألف وخمسمائة وثلاث تفاصيل وعدمت الوديعة في جملة قماش . ولما عدمت قال صاحب الوديعة : إن ما فيها شيء يساوي سبعة آلاف . فهل يلزم المودع غرامة ما ذكره في الأول ؟ أم يلزمه ما ذكر في الآخر ؟ . (7/438)
الجواب
فأجاب : إن تلفت بغير تفريط منه ولا عدوان لم يلزمه ضمان . وإذا ذهبت مع ماله كان أبلغ وإذا ادعى ذلك بسبب ظاهر معلوم : [ كلف البينة وقبل قوله ] .
ما تقول السادة الفقهاء في إنسان يضع في بيت إنسان وديعة بيده من مدة تزيد على عشر سنين تزيد وتنقص في صندوق غير مقفول بقفل وهو يعلم ذلك فمرض المودع مرضا بلغ فيه الموت وصاحبها حاضر عنده يبيت ويصبح فسأله مرارا كثيرة أن يأخذ وديعته أو يقفل عليها بقفل فلم يفعل فعدمت الوديعة من حرزه - بغير تفريط - وحدها ولم يعلم هل عدمت في المرض أو في الصحة . فهل يجب على المودع والحالة هذه ضمانها ؟ أم لا ؟ وهل يجوز لصاحبها إلزام المودع بها وعسفه بالولاية ؟ أم محرم عليه طلب ذلك بالولاية ؟ وهل إذا أصر على ذلك يجب على ولي الأمر - وفقه الله - ردعه وزجره عن ذلك ؟ أم لا ؟ أفتونا مأجورين . إن شاء الله تعالى . (7/439)
الجواب
فأجاب : الحمد لله . إذا كان الأمر على ما وصف وعدمت بغير تفريط ولا عدوان من المودع وعدمت مع ماله ؛ لم يضمنها باتفاق الأئمة . وكذلك إذا عدمت بتفريط صاحبها كما ذكر فإنه لا ضمان على المودع سواء ضاعت وحدها أو ضاعت مع ماله .
باب إحياء الموات وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن حكم البناء في طريق المسلمين الواسع إذا كان البناء لا يضر بالمارة ؟ (7/440)
الجواب
فأجاب : إن ذلك نوعان : أحدهما : أن يبني لنفسه فهذا لا يجوز في المشهور من مذهب أحمد . وجوزه بعضهم بإذن الإمام . وقد ذكره القاضي أبو يعلى ومن خطه نقلته أن هذه المسألة حدثت في أيامه واختلف فيها جواب المفتين فذكر في مسألة حادثة في الطريق الواسع : هل يجوز للإمام أن يأذن في حيازة بعضه مبينا أن بعضهم أفتى بالجواز وبعضهم أفتى بالمنع واختاره القاضي وذكر أنه كلام أحمد ؛ فإنه قال في رواية ابن القاسم : إذا كان الطريق قد سلكه الناس فصار طريقا . فليس لأحد أن يأخذ منه شيئا قليلا ولا كثيرا . قيل له : وإن كان واسعا مثل الشوارع ؟ قال : وإن كان واسعا . قال : وهو أشد ممن أخذ حدا بينه وبين شريكه ؛ لأن هذا يأخذ من واحد وهذا يأخذ من جماعة المسلمين : قلت : وقد صنف أبو عبد الله بن بطة مصنفا فيمن أخذ شيئا من طريق المسلمين وذكر في ذلك آثارا عن أحمد وغيره من السلف وقد ذكر هذه المسألة غير واحد من المتقدمين والمتأخرين من أصحاب أحمد : منهم الشيخ أبو محمد المقدسي . قال في المغني : وما كان من الشوارع والطرقات والرحبات بين العمران : فليس لأحد إحياؤه سواء كان واسعا أو ضيقا وسواء ضيق على الناس بذلك أو لم يضيق ؛ لأن ذلك يشترك فيه المسلمون وتتعلق به مصلحتهم فأشبه مساجدهم ويجوز الارتفاق بالقعود في الواسع مع ذلك للبيع والشراء على وجه لا يضيق على أحد ولا يضر بالمارة ؛ لاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على إقرار الناس على ذلك من غير إنكار ولأنه ارتفاق بمباح من غير إضرار فلم يمنع كالاجتياز . قال أحمد في السابق إلى دكاكين السوق : دعوه فهو له إلى الليل وكان هذا في سوق المدينة فيما مضى وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم { منى مناخ من سبق } . وله أن يظلل على نفسه بما لا ضرر فيه من بارية وتابوت وكساء ونحوه ؛ لأن الحاجة تدعو إليه من غير مضرة فيه وليس له البناء ؛ لا دكة ولا غيرها ؛ لأنه يضيق على الناس وتعثر به المارة بالليل والضرير بالليل والنهار ويبقى على الدوام فربما ادعى ملكه بسبب ذلك والسابق أحق به ما دام فيه . ( قلت : هذا كله فيما إذا بنى الدكة لنفسه كما يدل عليه أول الكلام وآخره ؛ ولهذا علل بأنه قد يدعي [ أنها ] ملكه بسبب ذلك مع أن تعليله هذه المسألة يقتضي أن المنع إنما يكون في مظنة الضرر فإذا قدر أن البناء يحاذي ما على يمينه وشماله ولا يضر بالمارة أصلا فهذه العلة منتفية فيه وموجب هذا التعليل الجواز إذا انتفت العلة كأحد القولين اللذين ذكرهما القاضي . وفي الجملة في جواز البناء المختص بالباني الذي لا ضرر فيه أصلا بإذن الإمام قولان : ونظير هذا إذا أخرج روشنا أو ميزابا إلى الطريق النافذ ولا مضرة فيه . فهل يجوز بإذن الإمام ؟ على قولين في مذهب أحمد : ( أحدهما : يجوز كما اختاره ابن عقيل وأبو البركات . ( والثاني : لا يجوز كما اختاره غير واحد والمشهور عن أحمد تحريما أو تنزيها وذكر أبو بكر المروزي في " كتاب الورع " آثارا في ذلك . منها ما نقله المروزي عن أحمد أنه سقف له دارا وجعل ميزابها إلى الطريق فلما أصبح قال : ادع لي النجار حتى يحول الماء إلى الدار . فدعوته له فحوله وقال : إن يحيى القطان كانت مياهه في الطريق فعزم عليها وصيرها إلى الدار . وذكر عن أحمد أنه ذكر ورع شعيب بن حرب وأنه قال : ليس لك أن تطين الحائط ؛ لئلا يخرج إلى الطريق . وسأله المروزي عن الرجل يحتفر في فنائه البئر أو المحرم للعلو قال : لا ؛ هذا طريق المسلمين قال المروزي : قلت : إنما هو بئر يحفر ويسد رأسها قال : أليس هي في طريق المسلمين وسأله ابن الحكم عن الرجل يخرج إلى طريق المسلمين الكنيف أو الأسطوانة : هل يكون عدلا ؟ قال : لا يكون عدلا ولا تجوز شهادته . وروى أحمد بإسناده عن علي : أنه كان يأمر بالمثاعب والكنف تقطع عن طريق المسلمين . وعن عائذ بن عمرو المزني قال : لأن يصب طيني في حجلتي أحب إلي من أن يصب في طريق المسلمين . قال : وبلغنا أنه لم يكن يخرج من داره إلى الطريق ماء السماء قال : فرئي له أنه من أهل الجنة قيل له : بم ذلك ؟ قال : بكف أذاه عن المسلمين . ومن جوز ذلك احتج بحديث ميزاب العباس . ( النوع الثاني : أن يبني في الطريق الواسع ما لا يضر المارة لمصلحة المسلمين : مثل بناء مسجد يحتاج إليه الناس أو توسيع مسجد ضيق بإدخال بعض الطريق الواسع فيه أو أخذ بعض الطريق لمصلحة المسجد : مثل حانوت ينتفع به المسجد فهذا النوع يجوز في مذهب أحمد المعروف . وكذلك ذكره أصحاب أبي حنيفة ؛ ولكن هل يفتقر إلى إذن ولي الأمر ؟ على روايتين عن أحمد . ومن أصحاب أحمد من لم يحك نزاعا في جواز هذا النوع . ومنهم من ذكر رواية ثالثة بالمنع مطلقا . والمسألة في كتب أصحاب أحمد القديمة والحديثة من زمن أصحابه وأصحاب أصحابه إلى زمن متأخري المصنفين منهم كأبي البركات وابن تميم وابن حمدان وغيرهم . وألفاظ أحمد في " جامع الخلال " و " الشافي " لأبي بكر عبد العزيز " وزاد المسافر " و " المترجم " لأبي إسحاق الجوزجاني وغير ذلك . قال إسماعيل بن سعيد الشالنجي : سألت أحمد عن طريق واسع وللمسلمين عنه غنى وبهم إلى أن يكون مسجدا حاجة هل يجوز أن يبنى هناك مسجد ؟ قال : لا بأس إذا لم يضر بالطريق . " ومسائل إسماعيل بن سعيد " هذا من أجل مسائل أحمد وقد شرحها أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في " كتابه المترجم " وكان خطيبا بجامع دمشق هنا وله عن أحمد مسائل وكان يقرأ كتب أحمد إليه على منبر جامع دمشق فأحمد أجاز البناء هنا مطلقا ولم يشترط إذن الإمام . وقال له محمد بن الحكم . تكره الصلاة في المسجد الذي يؤخذ من الطريق . فقال : أكره الصلاة فيه ؛ إلا أن يكون بإذن الإمام فهنا اشترط في الجواز إذن الإمام . ومسائل إسماعيل عن أحمد بعد مسائل ابن الحكم ؛ فإن ابن الحكم صحب أحمد قديما ومات قبل موته بنحو عشرين سنة . وأما إسماعيل فإنه كان على مذهب أهل الرأي ثم انتقل إلى مذهب أهل الحديث وسأل أحمد متأخرا وسأل معه سليمان بن داود الهاشمي وغيره من علماء أهل الحديث . وسليمان كان يقرن بأحمد حتى قال الشافعي : ما رأيت ببغداد أعقل من رجلين : أحمد بن حنبل وسليمان بن داود الهاشمي . وأما الذين جعلوا في المسألة رواية ثالثة فأخذوها من قوله في رواية المروزي : حكم هذه المساجد التي قد بنيت في الطريق أن تهدم . وقال محمد بن يحيى الكحال : قلت لأحمد : الرجل يزيد في المسجد من الطريق ؟ قال : لا يصلي فيه . ومن لم يثبت رواية ثالثة فإنه يقول : هذا إشارة من أحمد إلى مساجد ضيقت الطريق وأضرت بالمسلمين وهذه لا يجوز بناؤها بلا ريب ؛ فإن في هذا جمعا بين نصوصه فهو أولى من التناقض بينها . وأبلغ من ذلك أن أحمد يجوز إبدال المسجد بغيره للمصلحة كما فعل ذلك الصحابة . قال صالح بن أحمد : قلت لأبي : المسجد يخرب ويذهب أهله : ترى أن يحول إلى مكان آخر ؟ قال : إذا كان يريد منفعة الناس فنعم ؛ وإلا فلا . قال : وابن مسعود قد حول المسجد الجامع من التمارين فإذا كان على المنفعة فلا بأس وإلا فلا . وقد سألت أبي عن رجل بنى مسجدا ثم أراد تحويله إلى موضع آخر قال : إن كان الذي بنى المسجد يريد أن يحوله خوفا من لصوص أو يكون موضعه موضعا قذرا فلا بأس . قال أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ثنا المسعودي عن القاسم قال : لما قدم عبد الله بن مسعود إلى بيت المال كان سعد بن مالك قد بنى القصر واتخذ مسجدا عند أصحاب التمر قال : فنقب بيت المال فأخذ الرجل الذي نقبه فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب فكتب عمر : أن اقطع الرجل وانقل المسجد واجعل بيت المال في قبلة المسجد ؛ فإنه لن يزال في المسجد مصل . فنقله عبد الله فخط له هذه الخطة . قال صالح : قال أبي : يقال إن بيت المال نقب في مسجد الكوفة فحول عبد الله بن مسعود المسجد موضع التمارين اليوم في موضع المسجد العتيق . يعني أحمد : أن المسجد الذي بناه ابن مسعود كان موضع التمارين في زمان أحمد وهذا المسجد هو المسجد العتيق ثم غير مسجد الكوفة مرة ثالثة . وقال أبو الخطاب سئل أبو عبد الله : يحول المسجد ؟ قال : إذا كان ضيقا لا يسع أهله فلا بأس أن يحول إلى موضع أوسع منه . وجوز أحمد أن يرفع المسجد الذي على الأرض ويبنى تحته سقاية للمصلحة . وإن تنازع الجيران . فقال بعضهم : نحن شيوخ لا نصعد في الدرج واختار بعضهم بناءه . فقال أحمد : ينظر إلى ما يختار الأكثر . وقد تأول بعض أصحابه هذا على أنه ابتدأ البناء ومحققو أصحابه يعلمون أن هذا التأويل خطأ ؛ لأن نصوصه في غير موضع صريحة بتحويل المسجد . فإذا كان أحمد قد أفتى بما فعله الصحابة حيث جعلوا المسجد غير المسجد ؛ لأجل المصلحة مع أن حرمة المسجد أعظم من حرمة سائر البقاع فإنه قد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { أحب البقاع إلى الله مساجدها وأبغض البقاع إلى الله أسواقها } فإذا جاز جعل البقعة المحترمة المشتركة بين المسلمين بقعة غير محترمة للمصلحة فلأن يجوز جعل المشتركة التي ليست محترمة كالطريق الواسع بقعة محترمة وتابعة للبقعة المحترمة بطريق الأولى والأحرى ؛ فإنه لا ريب أن حرمة المساجد أعظم من حرمة الطرقات وكلاهما منفعة مشتركة .
باب إحياء الموات وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن حكم البناء في طريق المسلمين الواسع إذا كان البناء لا يضر بالمارة ؟ (7/441)
الجواب
فصل والأمور المتعلقة بالإمام متعلقة بنوابه فما كان إلى الحكام فأمر الحاكم الذي هو نائب الإمام فيه كأمر الإمام مثل تزويج الأيامى والنظر في الوقوف وإجرائها على شروط واقفيها وعمارة المساجد ووقوفها ؛ حيث يجوز للإمام فعل ذلك فما جاز له التصرف فيه جاز لنائبه فيه . وإذا كانت المسألة من مسائل الاجتهاد التي شاع فيها النزاع لم يكن لأحد أن ينكر على الإمام ولا على نائبه من حاكم وغيره ولا ينقض ما فعله الإمام ونوابه من ذلك . وهذا إذا كان البناء في الطريق وإن كان متصلا بالطريق عند أكثر العلماء : مالك والشافعي وأحمد . وكذلك فناء الدار ؛ ولكن هل الفناء ملك لصاحب الدار ؟ أو حق من حقوقها ؟ فيه وجهان في مذهب أحمد : ( أحدهما : أنه مملوك لصاحبها وهو مذهب مالك والشافعي . حتى قال مالك في الأفنية التي في الطريق : يكريها أهلها فقال : إن كانت ضيقة تضر بالمسلمين وصنع شيء فيها منعوا ولم يمكنوا . وأما كل فناء إذا انتفع به أهله لم يضيق على المسلمين في ممرهم فلا أرى به بأسا . قال الطحاوي : وهذا يدل على أنه كان يرى الأفنية مملوكة لأهلها ؛ إذ أجاز إجارتها فينبغي أن لا يفسد البيع بشرطها . قال : والذي يدل عليه قول الشافعي : أنه إن كان فيه صلاح للدار فهو ملك لصاحبها ؛ إلا أنه لا يجوز بيعه عنده . وذكر الطحاوي أن مذهب أبي حنيفة أن الأفنية لجماعة المسلمين غير مملوكة كسائر الطريق . والذي ذكره القاضي وابن عقيل وغيرهما من أصحاب أحمد هو الوجه الثاني وهو أن الأرض تملك دون الطريق ؛ إلا أن صاحب الأرض أحق بالمرافق من غيره ولذلك هو أحق بفناء الدار من غيره وهذا مذهب أحمد في الكلأ النابت في ملكه أنه أحق به من غيره وإن كان لا يملكه على قول الجمهور : مالك والشافعي وأحمد . فإذا كان البناء في فناء المسجد والدار فإنه أحق بالجواز منه في جادة الطريق وقد ثبت في الصحيح عن عائشة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنها اتخذ مسجدا بفناء داره وهذا كالبطحاء التي كان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه جعلها خارج مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يتحدث ويفعل ما يصان عنه المسجد . فلم يكن مسجدا ولم يكن كالطريق بل اختصاص بالمسجد فمثل هذه يجوز البناء فيها بطريق الأولى والبناء كالدخلات التي تكون منحرفة عن جادة الطريق متصلة بالدار والمسجد ومتصلة بالطريق وأهل الطريق لا يحتاجون إليها ؛ إلا إذا قدر رحبة خارجة عن العادة وهي تشبه الطريق الذي ينفذ المتصل بالطريق النافذ فإنهم في هذا كله أحق من غيرهم . ولو أرادوا أن يبنوا فيه ويجعلوا عليه بابا جاز عند الأكثرين ؛ لما تقدم . وعند أبي حنيفة ليس لهم ذلك لما فيه من إبطال حق غيرهم من الدخول إليه عند الحاجة . والأكثرون يقولون : حقهم فيه إنما هو جواز الانتفاع إذا لم يحجر عليه أصحابه كما يجوز الانتفاع بالصحراء المملوكة على وجه لا يضر بأصحابها : كالصلاة فيها والمقيل فيها ونزول المسافر فيها ؛ فإن هذا جائز فيها . وفي أفنية الدور بدون إذن المالك عند جماهير العلماء . وذكر أصحاب الشافعي في الانتفاع بالفناء بدون إذن المالك قولين وذكر أصحاب أحمد في الصحراء وجها بالمنع من الصلاة فيها وهو بعيد على نصوص أحمد وأصوله ؛ فإنه يجوز أكل الثمرة في مثل ذلك . فكيف بالمنافع التي لا تضره ويجوز على المنصوص عنه رعي الكلأ في الأرض المغصوبة فيدخلها بغير إذن صاحبها لأجل الكلأ . وإن كان من أصحابه من منع ذلك . وأما الانتفاع الذي لا يضر بوجه فهو كالاستظلال بظله والاستضاءة بناره ومثل هذا لا يحتاج إلى إذن فإذا حجر عليها صاحبها صارت ممنوعة ؛ ولهذا يفرق بين الثمار التي ليس عليها حائط ولا ناطور فيجوز فيها من الأكل بلا عوض ما لا يجوز في الممنوعة على مذهب أحمد ؛ إما مطلقا وإما للمحتاج ؛ وإن لم يجز الحمل . وإذا جاز البناء في فناء الملك لصاحبه ففي فناء المسجد للمسجد بطريق الأولى وفناء الدار والمسجد لا يختص بناحية الباب ؛ بل قد يكون من جميع الجوانب قال القاضي وابن عقيل وغيرهما : إذا كان المحيي أرضا كان أحق بفنائها فلو أراد غيره أن يحفر في أصل حائطه بئرا لم يكن له ذلك وكذلك ذكر أبو حامد والماوردي وغيرهما من أصحاب الشافعي . والله أعلم .
باب اللقطة سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل وجد فرسا لرجل من المسلمين مع أناس من العرب فأخذ الفرس منهم ثم إن الفرس مرض بحيث إنه لم يقدر على المشي فهل للآخذ بيع الفرس لصاحبها ؟ أم لا ؟ . (7/442)
الجواب
فأجاب : الحمد لله . نعم يجوز ؛ بل يجب في هذه الحال أن يبيعه الذي استنقذه لصاحبه وإن لم يكن وكله في البيع وقد نص الأئمة على هذه المسألة ونظائرها ويحفظ الثمن . والله أعلم .
وسئل عن رجل لقي لقية في وسط فلاة وقد أنشد عليها إلى حيث دخل إلى بلده . فهل هي حلال ؟ أم لا ؟ . (7/443)
الجواب
فأجاب : يعرفها سنة قريبا من المكان الذي وجدها فيه فإن لم يجد بعد سنة صاحبها فله أن يتصرف فيها وله أن يتصدق بها . والله أعلم .
وسئل عن الدراهم المنثورة يجدها الرجل ؟ . (7/444)
الجواب
فأجاب : يعرفها حولا فإن وجد صاحبها وإلا فله أن ينفقها وله أن يتصدق بها .
وسئل عن رجل وجد لقطة وعرف بها بعض الناس بينه وبينه سرا أياما ولها عنده مدة سنين . فما الحكم فيها ؟ . (7/445)
الجواب
فأجاب : الحمد لله . لا يحل له مثل هذا التعريف ؛ بل عليه أن يعرفها تعريفا ظاهرا ؛ لكن على وجه مجمل : بأن يقول : من ضاع له نفقة أو نحو ذلك . والله أعلم .
وسئل رحمه الله عن حجاج التقوا مع عرب قد قطعوا الطريق على الناس وأخذوا قماشهم فهربوا وتركوا جمالهم والقماش فهل يحل أخذ الجمال التي للحرامية والقماش الذي سرقوه ؟ أم لا ؟ . (7/446)
الجواب
فأجاب : الحمد لله . ما أخذوه من مال الحجاج فإنه يجب رده إليهم إن أمكن ؛ فإن هذا كاللقطة تعرف سنة فإن جاء صاحبها فذاك وإلا فلآخذها أن ينفقها بشرط ضمانها : ولو أيس من وجود صاحبها فإنه يتصدق به ويصرف في مصالح المسلمين . وكذلك كل مال لا يعرف مالكه من الغصوب والعواري والودائع وما أخذ من الحرامية من أموال الناس أو ما هو منبوذ من أموال الناس ؛ فإن هذا كله يتصدق به ويصرف في مصالح المسلمين .
وسئل رحمه الله لما جاء التتار وجفل الناس من بين أيديهم وخلفوا دواب وأثاثا من النحاس وغيره وضمه مسلم وطالت مدته ولم يظهر له صاحب ولا منشد وهو يستعمل الدواب والمتاع . فما يصنع ؟ . (7/447)
الجواب
فأجاب : يجوز له أن يستعمله ويجوز له أن يتصدق به على من ينتفع به . والله أعلم .
وسئل رحمه الله عن سفينة غرقت في البحر ثم إنها انحدرت وهي معلومة إلى بعض البلاد . وقد كان فيها جرار زيت حار ثم إن أهل القرية تعاونوا على المركب حتى أخرجوها إلى البر وقلبوها فطفا الزيت على وجه الماء وبقي رائحا مع الماء ثم إن أهل القرية جاءوا إلى البحر فوجدوا الزيت على الماء فجمع كل واحد ما قدر عليه والمركب قريبة منهم فهذا الزيت المجموع حلال أم حرام ؟ ومركب رمان غرقت وجميع ما فيها انحدر في البحر فبقي كل أحد يجمع من ذلك ولم يعرف له صاحب فهل ما لا يعرف صاحبه حلال ؟ أم حرام ؟ . (7/448)
الجواب
فأجاب : الذين جمعوا الزيت على وجه الماء قد خلصوا مال المعصوم من التلف ولهم أجرة المثل والزيت لصاحبه . وأما كون الزيت لصاحبه فلا أعلم فيه نزاعا ؛ إلا نزاعا قليلا ؛ فإنه يروى عن الحسن بأنه قال : هو لمن خلصه . وأما وجوب أجرة المثل لمن خلصه . فهذا فيه قولان للعلماء . أصحهما وجوب الأجرة وهو منصوص أحمد وغيره لأن هذا المخلص متبرع . وأصحاب القول يقولون : إن خلصوه لله تعالى فأجرهم على الله تعالى وإن خلصوه لأجل العوض فلهم العوض ؛ لأن ذلك لو لم يفعل لأفضى إلى هلاك الأموال ؛ لأن الناس لا يخلصونها من المهالك إذا عرفوا أنهم لا فائدة لهم في ذلك والصحابة قد قالوا فيمن اشترى أموال المسلمين من الكفار : إنه يأخذه ممن اشتراه بالثمن ؛ لأنه هو الذي خلصه بذلك الثمن ولأن هذا المال كان مستهلكا لولا أخذ هذا وتخليصه عمل مباح ؛ ليس هو عاصيا فيه فيكون المال إذا حصل بعمل هذا والأصل لهذا فيكون مشتركا بينهما ؛ لكن لا تجب الشركة على المعين ؛ فيجب أجرة المثل ولأن مثل هذا مأذون فيه من جهة العرف ؛ فإن عادة الناس أنهم يطلبون من يخلص لهم هذا بالأجرة . والإجارة تثبت بالعرف والعادة كمن دخل إلى حمام أو ركب في سفينة بغير مشارطة وكمن دفع طعاما إلى طباخ وغسال بغير مشارطة ونظائر ذلك متعددة . ولو كان المال حيوانا فخلصه من مهلكة ملكه كما ورد به الأثر ؛ لأن الحيوان له حرمة في نفسه ؛ بخلاف المتاع ؛ فإن حرمته لحرمة صاحبه فهناك تخليصه لحق الحيوان وهو بالمهلكة قد ييأس صاحبه ؛ بخلاف المتاع ؛ فإن صاحبه يقول للمخلص : كان يجوز لك من حين أن أدعه والحق فيه لي فإذا لم تعطني حقي لم آذن لك في تخليصه . وأما الرمان إذا لم يعرف صاحبه فهو كاللقطة واللقطة إن رجي وجود صاحبها عرفت حولا وإن كانوا لا يرجون وجود صاحبه ففي تعريفه قولان ؛ لكن على القولين لهم أن يأكلوا الرمان أو يبيعوه ويحفظوا ثمنه ثم يعرفوه بعد ذلك . والله أعلم .
وسئل قدس الله روحه عمن وجد طفلا ومعه شيء من المال ثم رباه حتى بلغ من العمر شهرين . فجاء رجل آخر لترضعه امرأته لله . فلما كبر الطفل ادعت المرأة أنه ابنها وأنها ربته في حضن أبيه . فهل يقبل قولها ؟ وهل يجب عليها أن تعطي الرجل الثاني ما أنفقه عليه ؟ ويلزم الرجل الأول ما وجد مع ابنه ؟ . (7/449)
الجواب
فأجاب : إذا كان الطفل مجهول النسب وادعت أنه ابنها : قبل قولها في ذلك ويصرف من المال الذي وجد معه في نفقته مدة مقامه عند الملتقط . والله أعلم .
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سئل شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية رحمه الله تعالى عن رجل احتكر من رجل قطعة أرض بستان ثم إن المحتكر عمر في أرض البستان صورة مسجد وبنى فيها محرابا وقال لمالك الأرض : هذا عمرته مسجدا فلا تأخذ مني حكره فأجابه إلى ذلك ثم إن مالك الأرض باع البستان ولم يستثن منه شيئا . فهل يصير هذا المكان مسجدا بذلك أم لا ؟ وإذا لم يصر مسجدا بذلك : فهل يكون عدم أخذ مالك الأرض الحكر يصير مسجدا ؟ وإذا لم يصر بيع البستان جميعه : هل يجوز لباني صورة المسجد أن يضع ما بناه ؟ (7/450)
الجواب
فأجاب : إذا لم يسبل للناس كما تسبل المساجد ؛ بحيث تصلى فيه الصلوات الخمس التي تصلى في المساجد لم يصر مسجدا بمجرد الإذن في العمارة المذكورة وإذا لم يكن قربة يقتضي خروجه من المبيع دخل في المبيع ؛ فإن الشروع في تصييره مسجدا لا يجعله مسجدا . وكذلك القول في العمارة لكن ينبغي لمن أخرج ثمن ذلك أن لا يعود إلى ملكه كمن أخرج من ماله مالا ليتصدق به فلم يجد السائل ينبغي له أن يمضي ذلك ويتصدق به على سائل آخر ولا يعيده إلى ملكه وإن لم يجب . وإذا صرف مثل هذا المكان في مصالح مسجد آخر جاز ذلك بل إذا صار مسجدا وكان بحيث لا يصلي فيه أحد جاز أن ينقل إلى مسجد ينتفع به بل إذا جاز أن يباع ويصرف ثمنه في مسجد آخر بل يجوز أن يعمر عمارة ينتفع بها لمسجد آخر .
وسئل رحمه الله عمن بنى مسجدا وأوقف حانوتا على مؤذن ومقيم معين ولم يتسلم من ريع الحانوت شيئا في حياته . فهل يجوز تناوله بعد وفاته ؟ . (7/451)
الجواب
فأجاب : الحمد لله رب العالمين . إذا وقف وقفا ولم يخرج من يده ففيه قولان مشهوران لأهل العلم : أحدهما : يبطل وهو مذهب مالك والإمام أحمد في إحدى الروايتين وقول أبي حنيفة وصاحبه محمد . والثاني : يلزم وهو مذهب الشافعي والإمام أحمد في إحدى الروايتين عن أحمد . والقول الثاني في مذهب أبي حنيفة . وقول أبي يوسف . والله أعلم .
وسئل عن حقوق زاوية وهو بظاهرها وقد أقيم فيه محراب منذ سنين فرأى من له النظر على المكان المذكور المصلحة في بناء طبقة على ذلك المحراب : إما لسكن الإمام أو لمن يخدم المكان من غير ضرورة تعود على المكان المذكور ولا على أهله . فهل يجوز ذلك ؟ . (7/452)
الجواب
فأجاب : إذا لم يكن ذلك مسجدا معدا للصلوات الخمس بل هو من حقوق المكان : جاز أن يبنى فيه ما يكون من مصلحة المكان ومجرد تصوير محراب لا يجعله مسجدا لا سيما إذا كان المسجد المعد للصلوات ففي البناء عليه نزاع بين العلماء .
وسئل رحمه الله عمن استأجر أرضا وبنى فيها دارا ودكانا أو شيئا يستحق له كري عشرين درهما كل شهر إذا يعمر وعليه حكر في كل شهر درهم ونصف ؟ توقف قديما : فهل يجوز للمستأجر أن يعمر مع ما قد عمره من الملك مسجدا لله ويوقف الملك على المسجد ؟ (7/453)
الجواب
فأجاب : يجوز أن يقف البناء الذي بناه في الأرض المستأجرة . سواء وقفه مسجدا أو غير مسجد ولا يسقط ذلك حق أهل الأرض فإنه متى انقضت مدة الإجارة وانهدم البناء زال حكم الوقف سواء كان مسجدا أو غير مسجد وأخذوا أرضهم فانتفعوا بها وما دام البناء قائما فيها فعليه أجرة المثل ولو وقف على ربع أو دار مسجدا ثم انهدمت الدار أو الربع فإن وقف العلو لا يسقط حق ملاك السفل كذلك وقف البناء لا يسقط على ملاك الأرض .
وسئل رحمه الله عمن وصى أو وقف على جيرانه فما الحكم ؟ (7/454)
الجواب
فأجاب : إذا لم يعرف مقصود الواقف والوصي لا بقرينة لفظية ولا عرفية ولا كان له عرف في مسمى الجيران : رجع في ذلك إلى المسمى الشرعي وهو أربعون دارا من كل جانب ؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { الجيران أربعون من هاهنا وهاهنا والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه } . والله أعلم .
وسئل عن رجل معرف على المراكب وبنى مسجدا وجعل للإمام في كل المراكب شهر أجرة من عنده : فهل هو حلال ؟ أم حرام ؟ وهل تجوز الصلاة في المسجد ؟ أم لا ؟ (7/455)
الجواب
فأجاب : إن كان يعطي هذه الدراهم من أجرة المراكب التي له جاز أخذها وإن كان يعطيها مما يأخذ من الناس بغير حق فلا . والله أعلم .
وسئل رحمه الله عن قوم بيدهم وقف من جدهم من أكثر من مائة وخمسين سنة على مشهد مضاف إلى شيث وعلى ذرية الواقف والفقراء ونظره لهم والوقف معروف بذلك من الزمان القديم . وقد ثبت ذلك في مجلس الحكم الشريف وبيدهم مراسيم الملوك من زمان نور الدين وصلاح الدين تشهد بذلك وتأمر بإعفاء هذا الوقف ورعاية حرمته وقد قام نظار هذا الوقف في هذا الوقت طلبوا أن يفرقوا نصف المغل في عمارة المشهد والنصف الذي يبقى لذريته يأخذونه لا يعطونهم إياه ولا يصرفونه في مصارف الوقف ؟ . (7/456)
الجواب
فأجاب : لا يجوز هذا للناظر ولا يجوز تمكينهم من أن يصرفوا الوقف في غير مصارفه الشرعية ولا حرمان ورثة الواقف والفقراء الداخلين في شرط الواقف ؛ بل ذريته والفقراء أحق بأن يصرف إليهم ما شرط لهم من المشهد المذكور ؛ فكيف يحرمون - والحال هذه - بل لو كان الوقف على المشهد وحده لكان صرف ما يفضل إليهم مع حاجتهم أولى من صرفه إلى غيرهم . فمن صرف بعض الوقف على المشهد ؛ وأخذ بعضه يصرفه فيما لم يقتضه الشرط ؛ وحرم الذرية الداخلين في الشرط ؛ فقد عصى الله ورسوله ؛ وتعدى حدوده من وجوب أداء الوقف على ذرية الواقف ؛ جائر باتفاق أئمة المسلمين المجوزين للوقف ؛ وهو أمر قديم من زمن الصحابة والتابعين . وأما بناء المشاهد على القبور والوقف عليها فبدعة ؛ لم يكن على عهد الصحابة ؛ ولا التابعين ؛ ولا تابعيهم ؛ بل ولا على عهد الأربعة . وقد اتفق الأئمة على أنه لا يشرع بناء هذه المشاهد على القبور ؛ ولا الإعانة على ذلك بوقف ولا غيره ؛ ولا النذر لها ؛ ولا العكوف عليها ؛ ولا فضيلة للصلاة والدعاء ( فيها على المساجد الخالية عن القبور ؛ فإنه يعرف أن هذا خلاف دين الإسلام المعلوم بالاضطرار المتفق عليه بين الأئمة ؛ فإنه إن لم يرجع فإنه يستتاب ؛ بل قد نص الأئمة المعتبرون على أن بناء المساجد على القبور مثل هذا المشهد ونحوه حرام ؛ لما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد } يحذر ما فعلوا ؛ قالت عائشة رضي الله عنها ولولا ذلك لأبرز قبره ؛ ولكن كره أن يتخذ مسجدا . وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : قبل أن يموت بخمس : { إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ؛ ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ؛ فإني أنهاكم عن ذلك } وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لعن الله زوارات القبور ؛ والمتخذين عليها المساجد والسرج } فقد لعن من يبني مسجدا على قبر ؛ ويوقد فيه سراجا : مثل قنديل ؛ وشمعة ؛ ونحو ذلك فكيف يصرف مال أحدهم إلى ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويترك صرف ما شرط لهم ؛ مع استحقاقهم ذلك في دين الله ؟ نعم لو كان هذا مسجدا لله خاليا عن قبر لكانوا هم وهو في تناول شرط الواقف لهما سواء . أما ما يصرف لبناء المشهد فمعصية لله . والصرف إليهم واجب . وإن كان المسجد منفصلا عن القبر فحكمه حكم سائر مساجد المسلمين ؛ ولكن لا فضيلة له على غيره . والله أعلم .
وسئل رحمه الله عن رجل وقف وقفا على مدرسة . وشرط في كتاب الوقف أنه لا ينزل بالمدرسة المذكورة إلا من لم يكن له وظيفة بجامكية ؛ ولا مرتب . وأنه لا يصرف ريعها لمن له مرتب في جهة أخرى ؛ وشرط لكل طالب جامكية معلومة : فهل يصح هذا الشرط والحالة هذه ؛ وإذا صح فنقص ريع الوقف ؛ ولم يصل كل طالب إلى الجامكية المقررة له : فهل يجوز للطالب أن يتناول جامكية في مكان آخر ؟ وإذا نقص ريع الوقف ولم يصل كل طالب إلى تمام حقه . فهل يجوز للناظر أن يبطل الشرط المذكور أم لا ؟ وإذا حكم بصحة الوقف المذكور حاكم : هل يبطل الشرط والحالة هذه ؟ . (7/457)
الجواب
فأجاب : أصل هذه المسائل أن شرط الواقف إن كان قربة وطاعة لله ورسوله كان صحيحا ؛ وإن لم يكن شرطا لازما . وإن كان مباحا كما لم يسوغ النبي صلى الله عليه وسلم السبق إلا في خف أو حافر أو نصل ؛ وإن كانت المسابقة بلا عوض قد جوزها بالأقدام وغيرها ؛ ولأن الله تعالى قال في مال الفيء : { كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم } فعلم أن الله يكره أن يكون المال دولة بين الأغنياء . وإن كان الغنى وصفا مباحا فلا يجوز الوقف على الأغنياء ؛ وعلى قياسه سائر الصفات المباحة ؛ ولأن العمل إذا لم يكن قربة لم يكن الواقف مثابا على بذل المال فيه فيكون قد صرف المال فيما لا ينفعه ؛ لا في حياته ولا في مماته ثم إذا لم يكن للعامل فيه منفعة في الدنيا ؛ كان تعذيبا له بلا فائدة تصل إليه ؛ ولا إلى الواقف ؛ ويشبه ما كانت الجاهلية تفعله من الأحباس المنبه عليها في سورة الأنعام ؛ والمائدة . وإذا خلا العمل المشروط في العقود كلها عن منفعة في الدين ؛ أو في الدنيا كان باطلا بالاتفاق في أصول كثيرة ؛ لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى ؛ فيكون باطلا ؛ ولو كان مائة شرط . مثال ذلك أن يشرط عليه التزام نوع من المطعم ؛ أو الملبس ؛ أو المسكن الذي لم تستحبه الشريعة ؛ أو ترك بعض الأعمال التي تستحب الشريعة عملها ونحو ذلك . يبقى الكلام في تحقيق هذا المناط في اعتبار المسائل ؛ فإنه قد يكون متفقا عليه وقد يكون مختلفا فيه ؛ لاختلاف الاجتهاد في بعض الأعمال ؛ فينظر في شرط ترك من جهة أخرى ؛ فما لم يكن فيه مقصود شرعي - خالص أو راجح - كان باطلا ؛ وإن كان صحيحا ؛ ثم ( إذا نقص الريع عما شرطه الواقف جاز للمطالب أن يرتزق تمام كفايته من جهة أخرى ؛ لأن رزق الكفاية لطلبة العلم من الواجبات الشرعية ؛ بل هو من المصالح الكلية التي لا قيام للخلق بدونها ؛ فليس لأحد أن يشرط ما ينافيها ؛ فكيف إذا لم يعلم أنه قصد ذلك ؟ . ويجوز للناظر مع هذه الحالة أن يوصل إلى المرتزقة بالعلم ما جعل لهم [ و ] أن لا يمنعهم من تناول تمام كفايتهم من جهة أخرى يرتبون فيها ؛ وليس هذا إبطالا للشرط ؛ لكنه ترك العمل به عند تعذره ؛ وشروط الله حكمها كذلك وحكم الحاكم لا يمنع ما ذكر . وهذه الأرزاق المأخوذة على الأعمال الدينية إنما هي أرزاق ومعاون على الدين ؛ بمنزلة ما يرتزقه المقاتلة ؛ والعلماء من الفيء . والواجبات الشرعية تسقط بالعذر ؛ وليست كالجعالات على عمل دنيوي ؛ ولا بمنزلة الإجارة عليها فهذه حقيقة حال هذه الأموال . والله أعلم .