صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)

الصفحة السابقة   //   الصفحة التالية
 

الكتاب : تفسير النيسابوري
المؤلف : النيسابوري
مصدر الكتاب : موقع التفاسير
http://www.altafsir.com
[ الكتاب مرقم آليا غير موافق للمطبوع ]

المسألة الثانية في حكاية أقوال الناس في المحكم والمتشابه . عن ابن عباس أن المحكمات هي الآيات الثلاث في سورة الأنعام { قل تعالوا } [ آية : 151 ] إلى آخرها ، وعلى هذا فالمحكم عنده ما لا يتغير باختلاف الشرائع ، لأن هذه الآية كذلك . والمتشابهات هي التي اشتبهت على اليهود كأوائل السور ، أولوها على حساب الجمل ليستخرجوا بقاء هذه الأمة فاختلط الأمر عليهم واشتبه . وعنه أن المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ . وقال الأصم : المحكم هو الذي يكون دلائله واضحة لائحة كإنشاء الخلق في قوله : { فخلقنا النطفة علقة } [ المؤمنون : 14 ] والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل كآيات البعث ، فإن التأمل يجعلها محكمة ، فإن من قدر على الإنشاء قدر على الإعادة . فإن عنى الأصم بوضوح الدلائل رجحانها ، وبالخفاء خلاف ذلك ، فهذا هو الذي ذكرنا من أن المحكم عبارة عن النص والظاهر ، والمتشابه المجمل والمؤول . وإن عنى بالواضح ما تعلم صحته بضرورة العقل ، وبالخفي ما تعرف صحته بدليل العقل ، فكل القرآن متشابه . فإن إنشاء الخلق أيضا يفتقر إلى دليل عقلي ، فإن الدهري ينسب ذلك إلى الطبيعة ، والمنجم إلى تأثير الكواكب . ولعل الأصم يسمي ما هو الأبعد عن الغلط لقلة مقدماته وضبطها محكما ، والذي هو غير ذلك متشابها . وقيل : كل ما أمكن تحصيل العلم به سواء كان ذلك بدليل جلي أو دليل خفي فهو المحكم ، وكل ما لا سبيل إلى معرفته كالعلم بوقت القيامة وبمقادير الثواب والعقاب في حق كل مكلف فذاك متشابه .
المسألة الثالثة في أنه لم جعل بعض القرآن محكما وبعضه متشابها . من الملحدة من طعن فيه وقال : كيف يليق بالحكيم أن يجعل كتابه المرجوع إليه في دينه ، الموضوع إلى يوم القيامة بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب ، فمثبت الرؤية يتمسك بقوله { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 22 ، 23 ] ونافيها يتشبث بقوله { لا تدركه الأبصار } [ الأنعام : 103 ] ومثبت الجهة { يخافون ربهم من فوقهم } [ النحل : 50 ] { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] والنافي { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] فكل منهم يسمي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة والمخالفة متشابهة ، وربما آل الأمر في ترجيح بعضها على بعض إلى وجوه ضعيفة وتراجيح خفية ، وهذا لا يليق بالحكمة مع أنه لو جعل كله ظاهرا جليا خالصا عن المتشابه نفيا كان أقرب إلى حصول الغرض .

(2/205)


والجواب أنه متى كانت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق ، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب . وأيضا لو كان كله محكما كان مطابقا لمذهب واحد فقط فكان ينفر أرباب سائر المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه والانتفاع به ، وإذا كان مشتملا على القسمين فحينئذ يطمع صاحب كل مذهب أن يجد فيه ما يؤيد مقالته فيجتهد في فهم معانيه ، وبعد الفحص والاستكشاف ، صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات ، ويتخلص المبطل عن باطلة ويصل إلى الحق . وأيضا إذا كان فيه محكم ومتشابه افتقر الناظر فيه إلى الاستعانة بالدلائل العقلية ، فيتخلص من ظلمة التقليد إلى ضياء البينة والاستدلال والطمأنينة ، وافتقر أيضا إلى تحصيل علوم أخر كالصرف والنحو والمعاني والبيان وأصول الفقه وأصول الكلام إلى غير ذلك ، ولما في المشابهة من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه . وههنا سبب أقوى وهو أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام ، وطباع العامة تنبو في الأغلب عن إدراك الحقائق ، فمن سمع منهم في أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم ولا متحيز ولا مشار إليه ظن أن هذا عدم ونفي فوقع في التعطيل ، فكان الأصلح أن يخاطبوا بألفاظ دالة على بعض ما توهموه وتخيلوه مخلوطا بما يدل على الحق الصريح . فالأول وهو الذي يخاطبون به في أول الأمر من باب المتشابهات ، والثاني وهو الذي يكشف لهم آخر الحال من قبيل المحكمات .
قوله { هن أم الكتاب } الأم في اللغة الأصل الذي يتكون منه الشيء . فلما كانت المحكمات مفهومة بذواتها ، والمتشابهات إنما تصير مفهومة بإعانة المحكمات ، فلا جرم صارت المحكمات أصولا للمتشابهات . وإنما لم يقل أمهات الكتاب ليطابق المبتدأ لأن مجموع المحكمات في تقدير شيء واحد هو الأصل لمجموع المتشابهات ، وهذا كقوله { وجعلنا ابن مريم وأمه آية } [ المؤمنون : 50 ] على معنى أن مجموعها آية واحدة . { وأخر } أي ومنه آيات آخر { متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي ميل عن الحق { فيتبعون ما تشابه منه } لا يتمسكون إلا بالمتشابه . قال الربيع : هم وفد نجران حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسيح فقالوا : أليس هو كلمة الله وروحا منه؟ قال صلى الله عليه وسلم : بلى . قالوا : حسبنا . وقال الكلبي : هم اليهود طلبوا علم مدة بقاء هذه الأمة من الحروف المقطعة في أوائل السور . وقال قتادة والزجاج : هم منكرو البعث لأنه قال في آخره { وما يعلم تأويله إلا الله } وما ذاك إلا وقت القيامة فإنه تعالى أخفاها عن الخلائق حتى الملائكة والأنبياء . والتحقيق أنه عام لكل مبطل متشبث بأهداب المتشابهات ، لأن اللفظ عام وخصوص السبب لا يمنع عن عموم اللفظ . ويدخل فيه كل ما فيه لبس واشتباه .

(2/206)


ومن جملته ما وعد الله به الرسول من النصرة والكفار من النقمة فكانوا يقولون ائتنا بعذاب الله ، ومتى الساعة ، ولو ما تأتينا بالملائكة ، فموهوا الأمر على الضعفة . قال أهل السنة : ويدخل في هذا الباب استدلال المشبهة بقوله { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] فإنه لما ثبت بصريح العقل امتناع كون الإله في مكان وإلا لزم انقسامه ، وكل منقسم مركب ، وكل مركب ممكن . فمن تمسك به كان متمسكا بالمتشابهات . ومن جملة ذلك استدلال المعتزلة بالظواهر الدالة على تفويض الفعل بالكلية إلى العبد فإنه لما ثبت بالبرهان العقلي أن صدور الفعل يتوقف على حصول الداعي وأنه من الله تعالى وإلا تسلسل ، فيكون حصول الفعل مع تلك الداعية وعدمه عند عدمها واجبا فيبطل التفويض ويثبت أن الكل بقضاء الله وقدره . وإذا لاحت الدلائل العقلية يجوز للعاقل أن يسمي الآيات الدالة على القضاء والقدر بالمتشابه؟ بناء على ما اشتهر بين الجمهور من أن كل آية توافق مذهبهم فهي المحكمة ، وكل آية تخالفهم فهي المتشابهة . والإنصاف أن الآيات ثلاثة أقسام : أحدها ما يتأكد ظواهرها بالدلائل العقلية فذاك هو المحكم حقا . وثانيها التي قامت الدلائل القاطعة على امتناع ظواهرها فذاك هو الذي يحكم فيه بأن مراد الله غير ظاهره . وثالثها الذي لا يوجد مثل هذه الدلائل على طرفي ثبوته وانتفائه فهو المتشابه بمعنى أن الأمر اشتبه فيه ولم يتميز أحد الجانبين عن الآخر . لكن ههنا عقدة أخرى وهي أن الدليل العقلي مختلف فيه أيضا بحسب ما رتبه كل فريق وتخيله صادقا في ظنه مادة وصورة . فكل فريق يدعي بمقتضى فكره أن الدليل العقلي قد قام على ما يوافق مذهبه وتأكد به الظاهر الذي تعلق به ، فلا خلاص من البين إلا بتأييد سماوي ونور إلهي { ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور } [ النور : 40 ] ثم إنه تعالى بين أن للزائغين غرضين : أحدهما { ابتغاء الفتنة } وهي في اللغة الاستهتار بالشيء والغلو فيه ، يقال : فلان مفتون بطلب الدنيا ، والرجل مفتون بابنه وبشعره . فكان التمسك بذلك المتشابه يقرر البدعة والباطل في قلبه فيصير مفتونا به عاشقا لا ينقطع عنه تخيله ألبتة . وقيل : الفتنة في الدين هو الضلال عنه أي طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم . وعن الأصم : إنهم متى أوقعوا تلك المتشابهات في البين صار بعضهم مخالفا للبعض في الدين ، وذلك يفضي إلى التقاتل والهرج والمرج فذاك هو الفتنة . الغرض الثاني { ابتغاء تأويله } أي طلب المعنى الذي يرجع إليه اللفظ بحسب ما يشتهونه من غير أن يكون قد وجد له في كتاب الله بيان . قال القاضي أبو بكر : هؤلاء الزائغون قد ابتغوا المتشابه من وجهين أحدهما أن يحملوه على غير الحق وهو المراد من قوله { ابتغاء الفتنة } والثاني أن يحكموا بحكم في الموضع الذي لا دليل فيه وهو قوله { وابتغاء تأويله } ثم قال عز من قائل { وما يعلم تأويله إلا الله } والعلماء اختلفوا في هذا الموضع .

(2/207)


منهم من يقف ههنا ، فعلى هذا لا يعلم المتشابه إلا الله وهو قول ابن عباس وعائشة والحسن ومالك بن أنس والكسائي والفراء ، ومن المعتزلة قول أبي علي الجبائي . ومنهم من لم يجعل الواو في { والراسخون } للابتداء وإنما يجعله للعطف حتى يكون العلم بالمتشابه حاصلا عند الله وعند الراسخين ، لأن وصفهم بالرسوخ في العلم - وهو الثبوت والتعمق وبعد الغور فيه - يناسب ذلك . وهذا قول مجاهد والربيع بن أنس وأكثر المتكلمين ، وقد يروى عن ابن عباس أيضا . والمختار هو الأول لوجوه منها : ما ذهب إليه كثير من العلماء أن « أما » فيه معنى التفصيل ألبتة ، وهذا إنما يستقيم لو قدر و « أما الراسخون في العلم فيقولون » . ومنها أن اللفظ إذا كان له معنى راجح ثم دل دليل أقوى منه على أن ذلك الظاهر غير مراد ، علم أن مراد الله بعض مجازات تلك الحقيقة وفي المجازات كثرة . وترجيح البعض على البعض لا يكون إلا بالتراجيح اللغوية الظنية ، ومثل ذلك لا يصح الاستدلال به في المسائل القطعية مثاله { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] فإنه دل الدليل على أن الإله يمتنع أن يكون في المكان ، فعرفنا أنه ليس مرادا لله من هذه الآية ما أشعر به ظاهرها إلا أن في مجازات هذا اللفظ كثرة لا يتعين أحدها إلا بدليل لغوي ظني ، والقول بالظن في ذات الله وصفاته غير جائز بإجماع المسلمين ، ولهذا قال مالك بن أنس : الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة . ومنها ما قيل إن هذه الآية ذم لطالب تأويل المتشابه حيث قال { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه } وتخصيص بعض المتشابهات بذلك كطلب وقت الساعة ونحوه ترجيح من غير مرجح ، فالذم يتوجه على الكل وهو المطلوب . ومنها أنه تعالى مدح الراسخين في العلم بأنهم { يقولون آمنا به } وقال تعالى في أول البقرة : { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم } [ البقرة : 26 ] فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الإيمان به مدح ، ولا في قولهم { كل من عند ربنا } لأن كل من عرف شيئا على التفصيل فإنه لا بد أن يؤمن به إنما الراسخون في العلم هم الذين علموا بالدلائل القطعية أن الله تعالى عالم بالمعلومات التي لا نهاية لها ، وعلموا أن القرآن كلام الله تعالى ، وأنه لا يتكلم بالباطل والعبث ، فإذا سمعوا آية ودلت الدلائل القاطعة على أنه لا يجوز أن يكون ظاهرها مرادا لله تعالى عرفوا أن مراد الله تعالى منه شيء غير ذلك الظاهر ، ثم فوضوا تعيين ذلك المراد إلى علمه وقطعوا بأن ذلك المعنى أي شيء كان فهو الحق والصواب .

(2/208)


فهؤلاء هم الراسخون في العلم بالله بحيث لم يزعزعهم قطعهم بترك الظاهر ولا عدم علمهم بالمراد عن الإيمان بالله والجزم بصحة القرآن ، ولم يصر كون ظاهره مردودا شبهة لهم في الطعن في كلام الله تعالى . ثم إن جعل قوله { والراسخون } عطفا على اسم { الله } فقوله { يقولون آمنا به } كلام مستأنف موضح لحال الراسخين بمعنى هم يقولون آمنا بالمتشابه كل من عند ربنا أي كل واحد من المحكم والمتشابه من عنده . وفي زيادة { عند } مزيد توضيح وتأكيد وتفخيم لشأن القرآن ، ويحتمل أن يعود الضمير في { آمنا به } إلى الكتاب أي يقولون ، آمنا بالكتاب كل من محكمه ومتشابهه من عند الله الحكيم الذي لا يتناقض كلامه ولا يختلف كتابه ، ويحتمل أن يكون قوله { يقولون } حالا إلا أن فيه إشكالا وهو أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره وههنا قد تقدم ذكر الله وذكر الراسخين ، والحال لا يمكن إلا من الراسخين فيلزم ترك الظاهر . { وما يذكر إلا أولوا الألباب } ما يتعظ إلا ذوو العقول الكاملة الذين يستعملون أذهانهم في فهم القرآن فيعلمون ما الذي يطابق ظاهره دلائل العقل فيكون محكما ، وما الذي هو بالعكس فيكون متشابها ، ثم يعتقدون أن الكل كلام من لا يجوز في كلامه التناقض ، فيحكمون بأن ذلك المتشابه لا بد أن يكون له معنى صحيح عند الله وإن دق عن فهومنا . وقيل : هو مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل حتى علموا من التأويل ما علموا . ثم إنه تعالى حكى عن الراسخين نوعين من الدعاء : الأول قولهم { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } أي بعد وقت هدايتنا ، والثاني قولهم { وهب لنا من لدنك رحمة } سألوا ربهم أولا أن لا يجعل قلوبهم مائلة إلى الأباطيل والعقائد الفاسدة ، ثم أن ينور قلوبهم بأنوار المعرفة ويزين جوارحهم وأعضاءهم بزينة الطاعة والعبودية والخدمة . ونكر رحمة ليشمل جميع أنواعها . فأولها أن يحصل في القلب نور الإيمان والتوحيد والمعرفة ، وثانيها أن يحصل في الجوارح والأعضاء نور الطاعة والعبودية والخدمة ، وثالثها أن يحصل له في الدنيا سهولة أسباب المعيشة من الأمن والصحة والكفاية ، ورابعها أن يحصل عند الموت سهولة سكرات الموت ، وخامسها سهولة السؤال والظلمة والوحشة في القبر ، وسادسها في القيامة سهولة العقاب والخطاب وغفران السيئات وتبديلها بالحسنات ، وسابعها في الجنة ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين ، وثامنها في الحضرة رفع الأستار ورؤية الملك الجبار . وفي قولهم { من لدنك } تنبيه على أن هذا المقصود لا يحصل إلا من عنده ويؤكده قوله { إنك أنت الوهاب } فالمطالب وإن كانت عظيمة فإنها تكون حقيرة بالنسبة إلى غاية كرمك ونهاية وجودك وموهبتك .

(2/209)


ولنعد إلى ما يتعلق بالدعاء الأول قال أهل السنة : القلب صالح لأن يميل إلى الإيمان ، وصالح لأن يميل إلى الكفر ، وكل منهما يتوقف على داعية ينشئها الله تعالى فيه ، إذ لو حدثت بنفسها لزم سد باب إثبات الصانع . فإن كانت داعية الكفر فهو الخذلان والإزاغة والصد والختم والطبع والرين وغيرها مما ورد في القرآن ، وإن كانت داعية الإيمان فهو التوفيق والرشاد والهداية والتثبيت والعصمة ونحوها . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن » يعني الداعيتين . ومما يؤكد ذلك أن الله تعالى مدح هؤلاء الراسخين بأنهم لا يتبعون المتشابهات بل يؤمنون بها على سبيل الإجمال ويتركون الخوض فيها فيبعد منهم في مثل هذا الوقت أن يتكلموا بالمتشابه ، فتكون هذه الآية من أقوى المحكمات وهو ظاهر في أن الإزاغة والهداية كلتيهما من الله تعالى . أما المعتزلة فقد قالوا : لما دلت الدلائل على أن الإزاغة لا يجوز أن تصدر من الله تعالى لأن ذلك ظلم وقبيح ، وجب صرف الآية إلى التأويل فقال الجبائي واختاره القاضي : المراد أن لا يمنع قلوبهم الألطاف التي معها يستمر قلبهم على صفة الإيمان ، وزيف بأن اللطف إن صح في حقهم وجب عندكم على الله أن يفعل ذلك وجوبا لو تركه لبطلت إلهيته ولصار جاهلا أو محتاجا . وقال الأصم : لا تبلنا ببلوى يزيغ عندها قلوبنا . والمعنى لا تكلفنا من العبادات ما لا نأمن معه الزيغ . وقد يقول القائل : لا تحملني على إيذائك أي لا تفعل ما أصير عنده مؤذيا لك . وزيف بأن التشديد في التكليف قبيح إن علم الله تعالى أن له أثرا في حمل المكلف على القبيح وإلا فوجوده كعدمه فلا فائدة في صرف الدعاء إليه . وقال الكعبى : لا تسمنا باسم الزائغ كما يقال : فلان يكفر فلانا أي يقول إنه كافر . وزيف بأن التسمية دائرة مع الفعل ، وفعل الزيغ باختيار العبد عندكم فالتسمية أيضا بسببه ، وقال الجبائي أيضا : لا تزغ قلوبنا عن جنتك وثوابك وهو كالأول إلا أن يحمل على شيء اخر وهو أنه تعالى إذا علم أنه مؤمن في الحال ، وعلم أنه لو بقي إلى السنة الثانية لكفر أماته في هذه السنة . ويرد عليه أنه لو كان علمه بأنه يكفر في السنة الثانية يوجب عليه أن يميته لكان علمه بأنه لا يؤمن قط ويبقى على الكفر طول عمره يوجب أن لا يخلقه . وعن الأصم أيضا : لا تزغ قلوبنا عن كمال العقل بالجنون بعد إذ هديتنا بنور العقل . ولا يخفى تعسفه وعدم مناسبته لقوله { فأما الذين في قلوبهم زيغ } . وقال أبو مسلم : احرسنا من الشيطان ومن شرور أنفسنا حتى لا نزيغ . ثم إنهم لما طلبوا أن يصونهم عن الزيغ وأن يخصهم بالهداية والرحمة فكأنهم قالوا ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا فإنها منقضية ، ولكن الغرض ما يتعلق بالآخرة فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم لا ريب فيه أي في وقوعه .

(2/210)


فاللام للوقت ، أو جامع الناس لجزاء يوم فحذف المضاف { إن الله لا يخلف الميعاد } قيل : هو كلام الله تعالى كأنه يصدقهم فيما قالوه ، ولو كان من تمام قول المؤمنين لقيل : إنك لا تخلف . إلا أن يحمل على الالتفات ومعناه أن الإلهية تنافي خلف الميعاد كقولك : إن الجواد لا يخيب سائله . ولا سيما وعد الحشر والجزاء لينتصف للمظلومين من الظالمين . والميعاد المواعدة والوقت والموضع قاله في الصحاح .
واعلم أنه لا يلزم من أنه تعالى لا يخلف الوعد القطع بوعيد الفساق كما زعم المعتزلة ، لأن كل ما ورد في وعيد الفساق فهو عندنا مشروط بشرط عدم العفو ، كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة بدليل منفصل . قال الواحدي : ولم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء ، لأن خلف الوعيد كرم عند العرب . قال بعضهم :
إذا وعد السراء أنجز وعده ... وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه
وناظر أبو عمرو بن العلاء عمرو بن عبيد فقال : ما تقول في أصحاب الكبائر؟ فقال : إن الله وعد وعدا وأوعد إيعادا . فهو منجز إيعاده كما هو منجز وعده . فقال أبو عمرو إنك أعجم لا أقول أعجم اللسان ولكن أعجم القلب ، لأن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما وعن الايعاد كرما وأنشد :
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمكذب إيعادي ومنجز موعدي
وذلك أن الوعد حق عليه ، والوعيد حق له ، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم ، ومن أسقط حق غيره فذلك هو اللؤم فهذا هو الفرق بين الوعد والوعيد . على أنا لا نسلم أن الوعيد ثابت جزما من غير شرط بل هو مشروط بعدم العفو فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى . ثم إنه سبحانه لما حكى عن المؤمنين دعاءهم وتضرعهم حكى كيفية حال الكافرين وشدة عذابهم فقال : { إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا } وقيل : المراد وفد نجران وذلك أنا روينا في قصتهم أن أبا حارثة بن عقلمة قال لأخيه : إني أعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا ، ولكي إن أظهرت ذلك أخذ ملوك الروم مني ما أعطوني من المال . فالله تعالى بين أن أموالهم وأولادهم لا تدفع عنهم عذاب الله في الدنيا والآخرة ، لكن خصوص السبب لا يمنع عموم اللفظ .
واعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنه كل ما كان منتفعا به ويجتمع عليه جميع الأسباب المؤلمة . أما الأول فإليه أشار بقوله : { لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم } لأنهما أقرب الأمور التي يفزع إليها المرء عند الخطوب .

(2/211)


وإذا لم يفد أقرب الطرق إلى دفع المضار في ذلك اليوم فما عداه بالتعذر أولى ومثله { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } [ الصافات : 149 ] { المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير } [ الكهف : 46 ] . وأما الثاني فإليه أشار بقوله : { وأولئك هم وقود النار } فإنه لا عذاب أزيد من أن تشتعل النار فيهم كاشتعالها في الحطب اليابس : و « من » في قوله { من الله } للبدل مثله في قوله { إن الظن لا يغني من الحق شيئا } [ النجم : 28 ] أي بدله والمضاف محذوف تقديره لن تغني عنهم بدل رحمة الله أو طاعته شيئا . أو في الحديث « ولا ينفع ذا الجد منك الجد » أي لا ينفعه جده وحظه في الدنيا بدل طاعتك وعبادتك وما عندك وأنشد أبو علي :
فليت لنا من ماء زمزم شربة ... مبردة باتت عليها طهيان
وطهيان من بلاد الأزد . قلت : يجوز أن يقال « من » للابتداء تقديره من عذاب الله ، والجار والمجرور مقدم حالا من شيء أو « من » زائدة لتأكيد النفي التقدير : لن تغني عنهم عذاب الله شيئا من الغناء أي لن تدفع . وقال أبو عبيدة « من » بمعنى « عند » والمعنى : لن تغني عند الله شيئا .
قوله تعالى : { كدأب آل فرعون } يقال : دأب فلان في عمله أي جد وتعب دأبا دؤبا فهو دئيب . وأدأبته أنا ، والدائبان الليل والنهار ، والدأب العادة والشان ، وكل ما عليه الإنسان من صنيع وحالة ، وقد يحرك وأصله من دأبت إطلاقا لاسم الخاص على العام أي جد هؤلاء الكفار واجتهادهم أو شأنهم أو صنيعهم في تكذيب محمد وكفرهم بدينه كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام . ثم إنا أهلكنا أولئك بذنوبهم فكذلك نهلك هؤلاء . فقوله : { كذبوا بآياتنا } تفسير لدأبهم على أنه جواب سؤال مقدر كأنه قيل : ما فعلوا وما فعل بهم؟ فقيل : كذبوا بآياتنا بالمعجزات الدالة على صدق رسلنا . { فأخذهم الله بذنوبهم } أي صاروا عند نزول العذاب كالمأخوذ المأسور الذي لا يقدر على وجه الخلاص ألبتة . وقيل : المعنى كدأب الله في آل فرعون أي يجعلهم الله وقود النار كعادته وصنيعه في آل فرعون والمصدر يضاف تارة إلى الفاعل وتارة إلى المفعول . وقال القفال : يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى وللعادة المضافة إلى الكفار كأنه قيل : إن عادة هؤلاء الكفار ومذهبهم في إيذاء محمد كعادة من قبلهم في إيذاء الرسل ، وعادتنا أيضا في إهلاك هؤلاء كعادتنا في إهلاك أولئك الكفرة . وقيل : الدؤب والدأب اللبث والدوام والتقدير : دؤبهم في النار كدؤب آل فرعون . وقيل : مشقتهم وتعبهم في النار كمشقة آل فرعون بالعذاب { النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب }

(2/212)


[ غافر : 46 ] . وقيل : المشبه هو أن أموالهم وأولادهم لا تنفعهم في إزالة العذاب والمعنى : إنكم قد عرفتم ما حل بآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين بالرسل من العذاب المعجل الذي عنده لم ينفعهم مال ولا ولد ، فكذلك حالكم أيها الكفار المكذبون بمحمد فينزل بكم مثل ما نزل بهم ولا تغني عنكم الأموال والأولاد . ويحتمل أن يكون وجه التشبيه أنه كما نزل بمن تقدم العذاب المعجل بالاستئصال وهو قوله { فأخذهم الله بذنوبهم } ثم صاروا إلى دوام العذاب وهو قوله { والله شديد العقاب } فسينزل بمن كذب بمحمد أمران : أحدهما المحن المعجلة من القتل والسبي والإذلال وسلب الأموال وإليه الإشارة بقوله فيما بعد { قل للذين كفروا ستغلبون } والثاني المصير إلى العذاب الدائم وذلك قوله { وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } .
التأويل : { آلم } الألف إظهار الوحدة مطلقا ذاتا وصفة . فإن الألف واحد في ذاته وصفاته في وضع الحساب ، ومتفرد بالأولية والانقطاع عن غيره في وضع الحروف ، ويشير باستقامته وعدم تغيره في جميع الأحوال إلى عدم تغيره عن الوجود الوحداني أزلا وأبدا . فإن الألف مصدر جميع الحروف ، فإن من استقامته يخرج كل حرف معوج . ثم في اللام والميم المتصل كل حرف منهما بالآخر إثبات أن كل موجود سوى الوحدة موصوفة بالإثنينية وذلك قسمان : قسم لم يكن فكان ثم يزول ، وقسم ما كان فكان ولا يزول . وهذان قسمان محدثان وموجدهما الواحد القديم الذي لا زال كان ولا يزال يكون وإليه الإشارة بالألف . وأما اللام فإشارة إلى القسم الذي لم يكن فكان ولا يكون باقيا وهو عالم الصورة والملك والأجساد . فوقوعه في المرتبة الثانية ، من الألف إشارة إلى أنه مسبوق بالوجود والألف سابق عليه ، والانكسار فيه يشير إلى تغيره وزواله . والميم إشارة إلى القسم الذي لم يكن فكان ولا يزال يبقى وهو عالم المعنى والملكوت والأرواح . وذلك أن الميم أول حرف من اسمه المبدىء وآخر حرف من اسمه القيوم ، فيشير إلى أنه كما أبدأه المبدىء حين لم يكن يقيمه القيوم حين كان لا يزال . وبوجه آخر الألف إشارة إلى وجود حقيقي قائم بذاته ، واللام يشير إلى إثبات ونفي . فالإثبات في لام التمليك { له ما في السموات وما في الأرض } والنفي في « لا » النافية أي لا وجود لشيء بالحقيقة سواه ، والميم يشير أيضا إلى إثبات ونفي . فالإثبات ميم اسمه القيوم والنفي « ما » النافية أي ما في الوجود حقيقة إلا هو . ودليل الوجهين في { آلم الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ف { الله } إثبات ذات القديم ، { لا إله إلا هو } نفى الشرك عن وجوده وإثبات وحدته في وجوده و { الحي القيوم } إثبات جميع صفات كماله ونفي جميع سمات النقص عن ذاته .

(2/213)


وقد أودع مجموع معاني هذه الآية في قوله { آلم } فمعنى قوله { الله } أودع في أول حرف من حروفه وهو الألف ، ومعنى قوله { لا إله إلا هو } أودع في أول حرف من حروفه وهو اللام . ومعنى قوله { الحي القيوم } أودع في آخر حرف من حروفه وهو الميم . وإنما أودع في آخر حروفه ههنا ليكون السر مودعا في الآية من أول حرفها إلى آخر حرفها مكتوما فيما بينهما . والحروف الثلاثة من قوله { آلم } يكون الألف من أولها دالا على المعنى الذي هو في الكلمة الأولى وهي { الله } واللام من أوسطها دالا على المعنى الذي في الكلمة الثانية وهي { لا إله إلا هو } والميم من آخرها دالا على المعنى الذي هو مودع في الثالثة وهو { الحي القيوم } فيكون الاسم الأعظم مودعا في { آلم } كما روي عن سعيد بن جبير وغيره ، وهو سر القرآن وصفوته كما روي عن أبي بكر وعلي عليه السلام . ثم إنه تعالى بعد أن أظهر أسرار ألوهيته المودعة في { آلم } بقوله { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } أظهر ألطاف ربوبيته المكنونة في أستار العزة مع حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم فقال { نزل عليك الكتاب بالحق } أي نزل حقائق القرآن وأنواره على قلبك بالحقيقة متجلية لسرك ، مخيفة عن زورك ، فصرت مشاهدا لسر الله المودع في { آلم } وهو الذي بين يدي { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } فصرت مصدقا له تصديق تحقيق لا تصديق تقليد فأفهم إذ لم تتعلم ، ولا تعلم أنك لا تفهم لأنه منطق الطير وأنت بعد بيضة لا من الطيارين ولا من السيارين . { وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس } فلا تظنن يا محمد أن إنزال الكتب على الأنبياء كان كتنزيل القرآن بالحقيقة على قلبك كما قال : { ولكن جعلناه نورا } [ الشورى : 52 ] حتى صرت مكاشفا عند تجلي أنواره بأسراره ، وحقائق بيني وبينك لا يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل ، وإنما إنزال الكتب على الأنبياء كان بالصورة مكتوبة في صحائف وألواح يقرؤها كل قاريء ، ويستوي في هداها الأنبياء والأمم قاطبة { هدى للناس } وكنت مخصوصا بالهداية عند تجلي أنوار القرآن بالتنزيل على قلبك كما قال : { ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } [ الشورى : 52 ] { وأنزل الفرقان } الذي يفرق بين تنزيله على قلبك وبين إنزال الكتب على صورة الأنبياء ، ويفرق بين تعليمك القرآن وبين تعليمهم الكتب . فإن كانوا يتدارسون الكتب فأنت تتخلق بالقرآن ، فشتان بين نبي يجيء وهو بذاته نور ومعه كتاب { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } [ المائدة : 15 ] وبين نبى يجىء ومعه نور من الكتاب { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس } [ الأنعام : 91 ] وشتان بين نبي تشرف بكتابة الموعظة له في الألواح

(2/214)


{ وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة } [ الأعراف : 145 ] وبين نبي تشرف أمته بكتابة الإيمان لهم في قلوبهم { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } [ المجادلة : 22 ] { إن الذين كفروا بآيات الله } يسترون بحجب الغفلات وتتبع الشهوات قلوبهم فتعمى عن مشاهدة هذه الآيات البينات { لهم عذاب شديد } من هذا العمى والحرمان وهم في خسران من الركون إلى هذا النقصان { والله عزيز ذو انتقام } يعز أهل الغرام بنيل المرام وينتقم من أهل السلوة بحجاب العزة . ثم أخبر تعالى عن كمال علمه بقوله { إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء } وكيف يخفى وإنه { هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز } عن نقص الأحكام { الحكيم } فيما يجري من الأزل إلى الأبد وجفت به الأقلام . وفي الآية إشارة إلى أنه إذا سقطت من صلب ولاية رجل من رجال الحق نطفة إرادة في رحم قلب مريد صادق يستسلم لتصرفات ولاية الشيخ وهو بمثابة ملك الأرحام ، ويضبط المريد أحواله الظاهرة والباطنة على وفق أمر الشيخ ويختار الخلوة والعزلة لئلا يصدر منه حركة عنيفة أو يجد رائحة غريبة يلزم منه سقوط النطفة وفسادها ، ويقعد بأمر الشيخ وتدبيره فالله تعالى بتصرف ولاية الشيخ المؤيد بتأييد الحق بمرور كل أربعين عليه بشرائطها يحولها من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام إلى أن يرجع إلى حظائر القدس ورياض الأنس التي منها صدر إلى عالم الإنس ، فيتكون الجنين في رحم القلب وهو طفل خليفة الله في أرضه فيستحق الآن أن ينفخ فيه الروح المخصوص بأنبيائه وأوليائه { يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده } [ النحل : 2 ] { كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه } [ المجادلة : 22 ] فإذا نفخ فيه الروح يكون آدم وقته فيسجد له بالخلافة الملائكة كلهم أجمعون . الآيات المحكمات تنزيلها شرب الخواص والعوام لبسط الشرع والاهتداء ، والمتشابهات تأويلها شرب الخواص وخواص الخواص لإخفاء الأسرار عن الأغيار والابتلاء { فأما الذين في قلوبهم زيغ } ألبست قلوبهم غطاء الريب وحرموا أنوار الغيب وهم أهل الأهواء والبدع { فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة } ليضلوا بأهوائهم { وابتغاء تأويله } ليضلوا الناس بآرائهم { والراسخون في العلم يقولون آمنا به } بما شاهدوا من أنوار الحق في تحقيق التأويل { كل من عند ربنا } بتوفيقه وإعلامه وتعريفه { وما يذكر إلا أولوا الألباب } الذين خرجوا في متابعة النبي صلى الله عليه وسلم من ظلمات قشور وجودهم النفساني إلى نور لباب وجودهم الروحاني ، وهم الراسخون في قشور العلوم الكسبية الواصلون إلى حقائق لباب العلوم اللدنية من لدن حكيم خبير . وفي الآية إشارة إلى أن علوم الراسخين كلها بتعليم الله تعالى إياهم في الميثاق إذ تجلى بصفة الربوبية للذرات ، وأشهدهم على أنفسهم بشواهد الربوبية ألست بربكم؟ فبشهود تلك الشواهد ركز في جبلة الذرات علم التوحيد فقالوا : بلى .

(2/215)


ويندرج في علم التوحيد كل العلوم كما قال : { وعلم ادم الأسماء كلها } [ البقرة : 31 ] فلما ردت الذرات إلى الأصلاب واحتجبت بصفات البشرية ، ثم نقلت إلى الأرحام وتنقلت بقدم الأربعينات من حال إلى حال ومن مقام إلى مقام من مقامات البعد عن الحضرة إلى أن وضع الحمل ، وردت النفس العالمة بعلم التوحيد الناطقة به إلى أسفل سافلين القالب محتجبة بحجب البشرية ناسية تلك العلوم والتنطق بها . ثم أبواه يذكرانه تلك العلوم بالرموز والقرائن حتى يتذكر بعض تلك العلوم من وراء حجب البشرية وأستار الأطوار ، وينطق بلسان الأبوين لا بلسانه الذي أجاب به الرب وقال بلى ، فإن ذلك اللسان كان لب هذا اللسان وهذا قشر ذلك . وكذلك جميع وجود ظاهر الإنسان وباطنه قشور لباب ذلك الوجود المستمع المجيب في الميثاق . فسمعه قشر ذلك السمع الذي استمع خطاب الحق ، وبصره قشر ذلك البصر الذي أبصر جمال الحق ، وقلبه قشر ذلك القلب الذي فقه خطاب الحق ، وعلومه قشر تلك العلوم التي تعلمت من الحق . فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليذكره حقيقة تلك العلوم التي كان أبواه يذكرانه قشرها كما قال { فذكر إنما أنت مذكر } [ الغاشية : 21 ] فالتذكير عام ولكن التذكر خاص فلهذا قال { وما يذكر إلا أولوا الألباب } إنما يتذكر أولوا الألباب { ربنا لا تزغ قلوبنا } عن صراطك بغلبات ظلمات طبائعنا وطباعنا { بعد إذ هديتنا } إلى حضرة جلالك ونور جمالك حتى سمعنا بلب سمعنا لب التنزيل ، وشاهدنا بلب أبصارنا لب التأويل ، وتذكرنا بلب عقولنا علومنا { وهب لنا من لدنك رحمة } تجذبنا من لدنا إلى لدنك وتغنينا عنا بك { إنك أنت الوهاب } . وفيه إشارة إلى أن وظيفة الطالب أن لا يسكن في مقام ولا يقف مع حال بل يكون إلى الأبد طلابا كما كان الله من الأزل إلى الأبد وهابا . وكما أنه لا نهاية لمواهبه فلا غاية لمطالب طالبه ، وأن بعد هذه الدار دارا هي دار القرار يوفى فيها جزاء الأبرار والفجار . فحصول الأرب بقدر رعاية الأدب في الطلب . ومقاساة التعب والنصب ، وإن التقوى خير زاد للمعاد { إن الله لا يخلف الميعاد } { إن الذين كفروا } استروا أنوار روحانيتهم بظلمات صفات نفسانيتهم { لن تغنى عنهم } طاغوت { أموالهم وأولادهم من } أنوار الله التي حجبوا عنها { وأولئك هم وقود النار } نار الفرقة والقطيعة { نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة } [ الهمزة : 6 ، 7 ] لا نار الجحيم التي لا تحرق إلا قشور الجلود ولا تخلص إلى لب القلوب . وإن عذاب حرقة لجلود بالنسبة إلى عذاب فرقة القلوب وحرقة القطيعة عن الله كنسيم الحياة إلى سموم لممات .
في فؤاد المحب نار هوى ... أحر نار الجحيم أبردها
وكذلك دأب جميع الكفار الذين ستروا أنوار روحانيتهم بظلمات صفات النفس فعموا وصموا عن مشاهدة أنوارنا ومحافظة أسرارنا ، فأخذهم الله فعاقبهم بحجاب ذنبوبهم وحرقة قلوبهم { والله شديد العقاب } أليم نار فراقه عظيم عذاب بعده وإشراقه .
بالنار خوفني قومي فقلت لهم ... النار ترحم من في قلبه نار

(2/216)


قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد (12) قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار (13) زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب (14) قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد (15) الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار (16) الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار (17) شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم (18) إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب (19) فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد (20) إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم (21) أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين (22) ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون (23) ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون (24) فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون (25)

القراآت : { سيغلبون ويحشرون } بياء الغيبة : حمزة وعلي وخلف وعباس مخير . الباقون بتاء الخطاب { ترونهم } بتاء الخطاب : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب . الباقون بالياء { مثليهم } بضم الهاء : سهل ويعقوب وكذلك ما انفتح قبل الياء مثل { بجنتيهم } [ سبأ : 16 ] { رأى العين } بغير همز : أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف . الباقون بهمزة ساكنة { أونبئكم } بهمزة غير ممدودة بعدها واو مضمومة : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب غير عباس وأوقية وأبي شعيب ونافع غير قالون . { آونبئكم } بالمد والواو المضمومة : يزيد وقالون وعباس وأوقية وأبو شعيب . الباقون بهمزتين هشام يدخل بينهما مدة . { ورضوان } بضم الراء حيث كان : الأعشى والبرجمي وافقا يحيى وحمادا إلا في { من اتبع رضوانه } [ المائدة : 16 ] في المائدة { أن الدين } بفتح « إن » علي . الباقون بالكسر . { وجهي } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن عامر غير النجاري عن هشام وحفص والمفضل والأعشى والبرجمي . { ومن اتبعني } بإثبات الياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل وافق أبو عمر وأبا جعفر ونافع غير قالون في الوصل . { ويقاتلون الذين } : حمزة ونصير في رواية علي بن نصير . الباقون { ويقتلون } . { ليحكم } بضم الياء وفتح الكاف : أبو جعفر . الباقون بالعكس .
الوقوف : { جهنم } ط ، { المهاد } ه ، { التقتا } ط لأن التقدير منهما فئة أو إحداهما . { العين } ط { من يشاء } ط { الأبصار } ه ، { والحرث } ط { الدنيا } ج للفصل بين النقيضين مع اتفاق الجملتين . { المآب } ج { من ذلكم } ط لتناهي الاستفهام . { من الله } ط { بالعباد } ج للاية على جعل « الذين » خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين ، أو مدحا على « أعني الذين » ولجواز أنه نعت للعباد أو للمتقين . { النار } ج لأن « الصابرين » يصلح بدلا من « الذين » والوقف أجود نصبا على المدح . { بالأسحار } ط { إلا هو } ط للعطف ، ولو وقف احترازا عن وهم دخول الملائكة وأولو العلم في الاستثناء والمشاركة في الألوهية كان جيدا . { بالقسط } ط ، { الحكيم } ط إلا لمن قرأ « إن » بالفتح على البدل من « أنه » { الإسلام } ه ، { بينهم } ط لإطلاق حكم غير مخصوص بما قبله . { الحساب } ه { ومن اتبعن } ط لابتداء أمر يشمل أهل الكتاب والعرب ، والأول مختص بأهل الكتاب فلم يكن الثاني من جملة جزاء الشرط ، { أأسلمتم } ط لتناهي الاستفهام إلى الشرط { اهتدوا } ج لابتداء شرط آخر مع العطف . { البلاغ } ط ، { بالعباد } ه ، { بغير حق } ز لمن قرأ { ويقاتلون } لعدول المعنى من قوله { يقتلون } { أليم } ه ، { والآخرة } ز للابتداء بالنفي مع اتحاد المقصود . { من ناصرين } ه ، { معرضون } ه ، { معدودات } ص لأن الواو للعطف أو الحال . { يفترون } ه ، { يظلمون } ه .

(2/217)


التفسير : عن ابن عباس في رواية أبي صالح عنه قال : لما هزم الله المشركين يوم بدر قالت يهود المدينة : هذا والله النبي الأمي الذي بشرنا به موسى ونجده في كتابنا بنعته وصفته وأنه لا ترد له راية وأرادوا تصديقه واتباعه . ثم قال بعضهم لبعض : لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة أخرى . فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوا فقالوا : لا والله ما هو به . وغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا . وكان بينهم وبين رسول الله عهد إلى مدة فنقضوا ذلك العهد . وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة أبي سفيان وأصحابه فوافقوهم وأجمعوا أمرهم وقالوا : لتكونن كلمتنا واحدة . ثم رجعوا إلى المدينة فأنزل الله فيهم هذه الآية . وقال محمد بن إسحق بن يسار في رواية عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس : لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ببدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق بني قينقاع فقال : يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر ، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم ، فقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم . فقالوا : يا محمد ، لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة . أما والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس فأنزل الله { قل للذين كفروا } يعني اليهود { ستغلبون } تهزمون { وتحشرون إلى جهنم } في الآخرة . ومعنى جهنم قد مر في البقرة في قوله : { فحسبه جهنم ولبئس المهاد } [ البقرة : 206 ] وقيل : هم مشركو مكة { ستغلبون } يعني يوم بدر من قرأ بتاء الخطاب فمعناه الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحشر بأي لفظ أراد صلى الله عليه وسلم ، ومن قرأ بالياء فالأمر متوجه إلى حكاية هذا اللفظ أي قل لهم قولي لك : { سيغلبون } . وفي الآية حجاج للقائل بتكليف ما لا يطاق ، فإنه تعالى أخبر عنهم بأنهم يحشرون إلى جهنم ، فلو آمنوا وأطاعوا لانقلب الخبر كذبا . وفيها دليل على صحة البعث والحشر بإخبار الصادق وفي قوله { ستغلبون } وقد وقع كما أخبر إخبار عن الغيب فيكون معجزا دالا على صدق النبي صلى الله عليه وسلم . نظيره في حق عيسى عليه السلام { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } [ آل عمران : 49 ] ثم إنه تعالى ذكر ما يجري مجرى الدلالة على صحة ذلك الحكم فقال { قد كان لكم آية في فئتين التقتا } يوم بدر { فئة } إحداهما جماعة { تقاتل في سبيل الله } وهم المسلمون لأنهم يقاتلون لنصرة دين الله وإعلاء كلمته { وفئة } أخرى { كافرة } هم كفار قريش . وبيان كون تلك الواقعة آية من وجوه : أحدها أن المسلمين كان قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف أمور منها : قلة العدد والعدد ، كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا مع كل أربع منهم بعير ، ومعهم من الدروع ستة ومن الخيل فرسان .

(2/218)


ومنها أنهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا . ومنها أن ذلك ابتداء غارة في الحرب لأنها من أول غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان قد حصل في المشركين أضداد هذه المعاني . كانوا تسعمائة وخمسين رجلا وفيهم أبو سفيان وأبو جهل ، ومعهم مائة فرس وسبعمائة بعير ، وأهل الخيل كلهم دارعون ، وكان معهم دروع سوى ذلك ، وكانوا قد مرنوا على الحرب والغارات . وإذا كان كذلك كانت غلبة المسلمين خارقة للعادة فكانت معجزة . وثانيها أنه صلى الله عليه وسلم كان قد أخبر عن ذلك بإخبار الله في قوله تعالى { وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين } [ الأنفال : 7 ] يعني جمع قريش أو عير أبي سفيان . وكان أخبر قبل الحرب بأن هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان والإخبار عن الغيب معجز . وثالثها إمداد الملائكة كما سيجيء في هذه السورة . ورابعها قوله { يرونهم مثليهم } وفيه أربعة احتمالات لأن الضمير في « يرون » إما أن يعود إلى الفئة الكافرة أو إلى الفئة المسلمة ، وعلى كلا التقديرين يجوز عود الضمير في { مثليهم } إلى كل منهما فهذه أربعة : الأول أن الفئة الكافرة رأت المسلمين مثلي عدد المشركين قريبا من ألفين . الثاني أنها رأت المسلمين مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفا وعشرين ، ودليل هذا الاحتمال قراءة من قرأ { ترونهم } بتاء الخطاب أي ترون يا مشركي قريش المسلمين مثلي أنفسهم . ودليل الاحتمالين جميعا أن عود الضمير في « يرون » إلى الأقرب وهو الفئة الكافرة أولى ، ولأنه سبحانه جعل هذه الحالة آية للكفار حيث خاطبهم بقوله { قد كان لكم آية } فوجب أن يكون الراؤون هم الكفار حتى تكون حجة عليهم ، ولو كانت الآية مما شاهدها المؤمنون لم يصلح جعلها حجة على الكفرة . والحكمة في ذلك أن يهابهم المشركون ويجبنوا عن قتالهم وهذا لا يناقض قوله في سورة الأنفال { ويقللكم في أعينهم } [ الآية : 44 ] لاختلاف الوقتين فكأنهم قللوا أولا في أعينهم حتى اجترؤا عليهم ، فلما لاقوهم كثروا في أعينهم حتى غلبوا . على أن تقليلهم تارة في أعينهم وتكثيرهم أخرى أبلغ في القدرة وإظهار الآية . الاحتمال الثالث أن الرائين هم المسلمون والمرئيين هم المشركون . فالمسلمون رأوا المشركين مثلي المسلمين والسبب فيه ما قرر عليه أمرهم من مقاومة الواحد الاثنين في قوله تعالى : { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } [ الأنفال : 65 ] والكافرون كانوا قريبا من ثلاثة أمثالهم ، فلو رأوهم كما هم لجبنوا وضعفوا . الاحتمال الرابع أن يكون الراؤون هم المسلمين ، ثم إنهم رأوا المشركين على الضعف من عدد المشركين وهذا قول لا يمكن أن يقول به أحد لأن هذا يوجب نصرة الكفار وإيقاع الخوف في قلوب المؤمنين ، والآية تنافي ذلك .

(2/219)


وفي الآية احتمال خامس وهو أن أول الآية قد بينا أنه خطاب مع اليهود فيكون المراد : ترون أيها اليهود المشركين مثلي المؤمنين في القوة . وههنا بحث وهو أن الاحتمال الأول والثاني يقتضي أن المعدوم صار مرئيا ، والاحتمال الثالث يوجب أن يكون الموجود والحاضر غير مرئي . أما الأول فهو محال عقلا والقول به سفسطة فلهذا قيل : لعل الله تعالى أنزل الملائكة حتى صار عسكر المسلمين كثيرا . وعلى هذا تكون الرؤية البصر ، ويكون { مثليهم } نصبا على الحال ، أو تحمل الرؤية على الظن والحسبان فإن من اشتد خوفه قد يظن في الجمع القليل أنه في غاية الكثرة ، لكن قوله : { رأى العين } لا يجاوب ذلك إذ معناه رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات . وأما الثاني فهو جائز عند الأشاعرة إذ عند حصول الشرائط وصحة الحاسة لا يكون الإدراك واجب الحصول بل يكون عندهم جائزا لا واجبا والزمان زمان خوارق العادات . وأما المعتزلة فعندهم الإدراك واجب الحصول عند استجماع الشروط وسلامة الحس ، فاعتذروا عن ذلك بأن الإنسان عند الخوف لا يتفرغ للتأمل البالغ ، فقد يرى البعض دون البعض . أو لعل الغبار صار مانعا عن إدراك البعض ، أو خلق الله تعالى في الهواء ما صار مانعا عن رؤية ثلث العسكر ، أو يحدث في عيونهم ما يستقل به الكثير كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين وكل ذلك محتمل . { والله يؤيد بنصره من يشاء } إما بالغلبة كيوم بدر ، وإما بالحجة والعاقبة كيوم أحد . { إن في ذلك } الذي ذكره من الآية { لعبرة } نوع عبور وهو المجاوزة من منزل الجهل إلى مقام العلم { لأولي الأبصار } ذوي العقول التي تصير القضايا معها كالمشاهد المعاين . ثم ذكر ما هو كالشرح والبيان لمعتبر الإنسان وهو أنه { زين للناس } اللذات الجسمانية والآخرة . وهي عالم الروحانيات - خير وأبقى ، وأنها معدة لمن واظب على العبودية واتصف بالخصال الحميدة . وأما ما يتعلق بالقصة فإنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنه يمنعه من اتباعه حب المال والجاه . وروينا أيضا أنه صلى الله عليه وسلم لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالعدة والعدد ، فبين الله تعالى في هذه الآية أن تلك الأشياء متاع الدنيا وزينتها ، والآخرة خير . والمزين هو الله تعالى . أما عند الأشاعرة فلأنه خالق أفعال العباد كلها ، ولو كان المزين هو الشيطان فمن الذي زين الكفر والبدعة للشيطان؟ وأما عند جمهور المعتزلة فلحكمة الابتلاء { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا } [ الكهف : 7 ] ولأنها وسائل إلى منافع الآخرة وهو أن يتصدق بها أو يتقوى بها على طاعة الله أو يشتغل بشكرها .

(2/220)


كان الصاحب بن عباد يقول : شرب الماء البارد في الصيف يستخرج الحمد لله من أقصى القلب . ولأن القادر على وجوه اللذات إذا تركها وأقبل على أداء وظائف الخدمة كان أشق له وأكثر ثوابا . وعن الجبائي واختاره القاضي ، أن كل ما كان واجبا أو مندوبا أو مباحا فالتزيين فيه من الله تعالى ، وكل ما كان حراما فالتزيين فيه من الشيطان . وحكي عن الحسن أنه قال : الشيطان زينها لهم وكان يحلف بالله على ذلك . واحتجاجه في الآية بأنه أطلق الشهوات فيدخل فيها المحرمات ، وإن تزيينها وظيفة الشيطان . وذكر القناطير المقنطرة وحب المال الكثير إلى هذه الغاية لا يليق إلا بمن جعل الدنيا قبلة طلبه ومنتهى مقصوده . وقال في معرض الذم { ذلك متاع الحياة الدنيا } والذام للشيء لا يكون مزينا له . وقال { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } والغرض تقبيح الدنيا فكيف يكون مزينا لها؟ . ثم إنه تعالى جعل الأعيان المشتهاة شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصا على الاستمتاع بها وذلك للتعلق والاتصال كما يقال للمقدور « قدرة » وللمرجو « رجاء » . وفيه فائدة أخرى هي أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء ، مذموم من اتبعها ، شاهد على نفسه بالبهيمية . فكان المقصود من ذكر هذا اللفظ تخسيسها والتنفير عنها . قال المتكلمون : في الآية دليل على أن الحب غير الشهوة لأن المضاف يجب أن يكون مغايرا للمضاف إليه . فالشهوة من فعل الله تعالى ، والمحبة من أفعال العباد ، وهي أن يجعل الإنسان كل همته مصروفة إلى اللذات والطيبات . واعلم أن الإنسان قد يحب شيئا ولكنه يحب أن لا يحبه ، وقد يحبه ويحب أن يحبه ويعتقد مع ذلك أن تلك المحبة حسنة وفضيلة وهذا هو كمال المحبة ، ومنه قوله تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام { إني أحببت حب الخير } [ ص : 32 ] ومعناه أحب الخير وأحب أن أكون محبا للخير . فقوله : { حب الشهوات } قريب من ذلك لأن الشهوة نوع محبة . ولفظ { الناس } عام فظاهره يقتضي أن هذا المعنى عام لجميع الناس ولا شك أنه موجود في الأغلب وفي أكثر الأوقات فلا يبعد التعميم ، فطالما أعطى للأغلب حكم الكل . على أن من همته بجوامعها مقصورة على طلب اللذات الروحانية في غاية الندرة ، وبقاء ذلك النادر في جميع الأحيان على ذلك الخاطر أعز وأمنع . ثم شرع في بيان تلك الأعيان المشتهيات فذكر منها ما هي الأمهات ورتبها في سبع مراتب : الأولى النساء لأن الالتذاذ بهن أكثر والاستئناس بهن أتم { خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } [ الروم : 21 ] وقال صلى الله عليه وسلم : « إن أخوف ما أخاف على متي النساء » الثانية الأولاد ولا سيما البنين ولهذا خصوا بالذكر ، ومحبة النساء والأولاد كأنها حالة غريزية ولولاها لم يتصور بقاء النسل للحيوانات .

(2/221)


الثالثة والرابعة القناطير المقنطرة من الذهب والفضة . قال الزجاج : القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه ومنه القنطرة . والمال الكثير قنطار لأن الإنسان يتوثق بها في دفع النوائب . أبو عبيد : إنه وزن لا يحد . روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : « القنطار اثنا عشر ألف أوقية » وروى أنس عنه هو ألف دينار . وروى أبي بن كعب عنه هو ألف ومائتا أوقية . وقال ابن عباس : ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم وهو مقدار الدية . وبه قال الحسن . وزعم الكلبي أن القنطار بلسان الروم ملء مسك ثور من ذهب أو فضة . وعن سعيد بن جبير أنه مائة ألف دينار . والمقنطرة مبنية من لفظ القنطار للتوكيد كقولهم « ألف مؤلفة وبدرة مبدرة وإبل مؤبلة » . قال الكلبي : القناطير ثلاثة والمقنطرة المضاعفة فكان المجموع ستة . وإنما كان الذهب والفضة محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء .
وكل الصيد يوجد في الفرا ... ولولا التقى لقلت جلت قدرته
وصفة المالكية هي القدرة ، وأنها صفة كمال والكمال محبوب لذاته . والخامسة الخيل المسومة قال الواحدي : الخيل جمع لا واحد له من لفظه كالقوم والنساء والرهط ، وسميت الأفراس خيلا لاختيالها وهو جولانها في مشيتها . ويسمى الخيال خيالا لجولان هذه القوة في استحضار الصور . والمسومة قيل المرعية . أسمت الدابة وسومتها إذا أرسلتها في مرجها للرعي . ولا شك أنها إذا رعت ازدادت حسنا وبهاء . وقيل : هي المعلمة من السومة العلامة . ثم اختلفوا في تلك العلامة فعن أبي مسلم : الغرة والتحجيل ، وقال الأصم : هي البلق . وقال قتادة : الشية - وقيل : الكي . وقال مجاهد وعكرمة : المسومة المطهمة أي الحسان . قال الأصمعي : رجل مطهم وفرس مطهم وفرس مطهم أي تام ، كل شيء على حدته فهو بارع الجمال . السادسة الأنعام وهو جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم . ولا يقال للجنس الواحد منها نعم إلا للإبل خاصة فإنها غلبت عليها . السابعة الحرث وهو الزراعة ذلك الذي ذكر متاع الحياة الدنيا لأن وجوه الانتفاعات الدنيوية للإنسان إما أن تكون من بني نوعه أو من غيره . والأول أصل وهو المرأة وفرع وهو الولد ، وإنما فرض الكلام في الذكور لشرفهم . والثاني إما أن تكون من المعدنيات وأكثرها فائدة وأعمها عائدة الجوهران الثمينان فخصا بالذكر ، وإما أن تكون من الحيوانات للركوب والكر والفر وهو الخيل ، أو للحمل واللحم وهو الأنعام ، وإما أن تكون من النباتات وهو الحاصل من الزراعة وإنما لم يتعرض للدور والقصور لأنها لم تكن معتادة عند العرب ، والقرآن يخاطب أولا معهم . { والله عنده حسن المآب } أي المرجع . وإنما لم يذكر المآب القبيح وهو النار لأنها غير مقصودة بالذات لأنه سبحانه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب ولهذا قال :

(2/222)


« سبقت رحمتي غضبي » ثم بين أن ذلك المرجع كما أنه حسن في نفسه فهو أحسن وأفضل من هذه الدنيا . والمقصود أن يعلم العبد أنه كما أن الدنيا أطيب وأفسح من بطن الأم فكذلك الآخرة أفسح وأوسع من الدنيا ، أو لأنه لما عدد نعم الدنيا بين أن منافع الآخرة خير منها فقال مستفهما على سبيل التقرير { قل أؤنبئكم بخير } أي بشيء هو خير { من ذلكم } الذي عددنا . ثم استأنف بيانه وتقريره فقال : { للذين اتقوا عند ربهم جنات } كما تقول : هل أدلكم على حبر خير من فلان؟ عندي رجل من صفته كيت وكيت . وبيان الخيرية ظاهر من وصف الجنات والأزواج مع قيد الخلود ، فإن النعمة وإن عظمت ، فتوهم الانقطاع والزوال ينغص صفوها وينقص لذتها ، وبعد زوال هذا الوهم لن يتكامل طيبها إلا بالنساء فبهن يحصل الأنس . ثم وصف الأزواج بصفة واحدة جامعة فقال : { مطهرة } أي من الأقذار والمنفرات . وبعد ذكر تمام النعمة ذكر ماهو فوق التمام فقال : { ورضوان من الله } ويندرج فيه جميع المطالب والمقاصد لأن العبد إذا رضي عنه المولى لم يتصور منصب أجل منه وأعلى ، وكأن المولى وما يملكه للعبد ، كنما أن العبد وما يملكه للمولى { ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم } [ التوبة : 72 ] ويحتمل أن يكون اللام في قوله : { للذين اتقوا } متعلقا بخير . واختص المتقين لأنهم هم المنتفعون به ويرتفع { جنات } على الخبر أي هو جنات ويعضده قراءة بعضهم { جنات } بالجر على البدل من { خير } وذلك أن اللام في هذه القراءة يتعين أن يكون متعلقا بخير . وقوله : { عند ربهم } يحتمل أن يتعلق بما يتعلق بما تعلق به قوله : { للذين } أي ثبت لهم عند ربهم . ويحتمل أن يكون صفة لخير ، ويحتمل أن يكون من تمام قوله : { اتقوا } فيكون إشارة إلى أن هذا الثواب لا يحصل إلا لمن كان متقيا عند الله تعالى فلا يدخل فيه إلا من كان مؤمنا في علم الله { والله بصير بالعباد } عالم بمصالحهم فيجب أن يرضوا لأنفسهم ما اختار لهم من نعيم الآخرة ، وأن يزهدوا فيما زهدهم فيه من أمور الدنيا ، أو بصير بهم يثيب ويعاقب بحسب الاستحقاق ، أو بصير بالذين اتقوا ربهم وبأحوالهم فلذلك أعد لهم الجنات { الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا } توسلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة . وقد حكى الله تعالى ذلك عنهم في معرض المدح لهم والثناء عليهم فقيل : دل ذلك على أن الإيمان هو التصديق فقط ، فإن العمل الصالح لو كان داخلا فيه كما زعموا كان إدخاله في النار قبيحا عندهم فيكون ممتنع الوقوع من الله تعالى ، وضده واجب الوقوع ، وسؤال الواجب وقوعه عبث فلا يصلح للمدح . ويمكن أن يجاب عنه بأن العبد قد يدعو بما يعلم أنه حاصل له إظهار الذل العبودية وإبداء للاستكانة والخشوع .

(2/223)


وأيضا صورة العمل الصالح لا تفيد ما لم تقع في حيز القبول . فعلى المتقي أن لا يتكل عليها ويبتهل إلى الله في مواجب الغفران . ثم عدد من أوصاف عباده خمسة ووسط العاطف بينها دلالة على كمالهم في كل واحد منها ، أو إشارة إلى أن كل واحد منها يكفي في استحقاق المدح والثواب فقال : { الصابرين } أي في أداء الطاعات وعلى ترك المحظورات وعند المحن والشدائد . وقف رجل على الشبلي فقال : أي صبر أشد على الصابرين؟ فقال : الصبر في الله تعالى . فقال : لا . فقال : الصبر لله . فقال : لا . فقال : الصبر مع الله . قال : لا . قال : فأي شيء؟ قال : الصبر عن الله . فصرخ الشبلي صرخة كاد يتلف روحه . { والصادقين } أي في الأقوال وفي الأفعال بأن لا ينصرف عنها قبل تمامها ، وفي النيات بأن يمضي العزم على الخيرات . { والقانتين } والمقيمين على الطاعات والمواظبين عليها { والمنفقين } ما تيسر على من تيسر بشروطه ومصارفه وجوبا وندبا { والمستغفرين بالأسحار } أي فيها . والسحر قبل طلوع الفجر . وخص هذا الوقت لأنهم كانوا يقدمون قيام الليل حتى إذا كان السحر أخذوا في الدعاء والاستغفار هذا ليلهم وذلك نهارهم . وللاستغفار بالأسحار مزيد آثار وأنوار لأن السحر وقت النوم والغفلة ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة عرض الذلة على حضرة العزة لا يبعد أن يفيض عليه سجال المغفرة وأن يطلع صبح العالم الصغير عند طلوع صبح العالم الكبير فيستنير قلب المؤمن بأنوار المعارف وآثار اللطائف . أما بيان ترتيب الأوصاف ، فالصبر يشمل أداء جميل التكاليف . ثم الإنسان قد يلتزم من نفسه ما هو غير واجب عليه ، فالصادق من يخرج عن عهدة ذلك { رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } [ الأحزاب : 23 ] ثم المواظبة على سلوك سبيل الخيرات أمر محمود فأشير إلى ذلك بقوله : { والقانتين } ثم إن ههنا أمرين يعينان على الطاعة : الخدمة بالمال والابتهال والتضرع إلى حصرة القدس والجلال وذلك قوله : { والمنفقين والمستغفرين بالأسحار } فقوله : { والمنفقين } معناه الشفقة على خلق الله وباقي الأوصاف حاصله التعظيم لأمر الله . قال الكلبي : لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام ، فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه : ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخرج في آخر الزمان! فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت فقالا : أنت محمد؟ قال : نعم . قالا : وأنت أحمد؟ قال : نعم . قالا : إنا نسألك عن شهادة فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك . فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : سلاني . قالا : أخبرنا من أعظم شهادة في كتاب الله فأنزل الله على نبيه { شهد الله أنه لا إله إلا هو } فأسلم الرجلان وصدقا رسول الله صلى الله عليه وسلم .

(2/224)


ووجه النظم أنه مدح المؤمنين وأثنى عليهم بقوله : { ربنا إننا آمنا } ثم بين أن دلائل الإيمان ظاهرة جلية .
واعلم أن الشهادة من الله تعالى ومن الملائكة ومن أولي العلم يحتمل أن تكون بمعنى واحد ، ويحتمل أن لا تكون كذلك . أما الأول فتقريره من وجهين : أحدهما أن الشهادة عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم ، فهذا المعنى مفهوم واحد وهو حاصل في حق الله تعالى وفي حق الملائكة وفي حق أولي العلم . أما من الله فذلك أنه أخبر في القرآن أنه إله واحد لا إله إلا هو وذلك في مواضع كثيرة كالإخلاص وآية الكرسي وغيرهما ، التمسك بالدلائل السمعية في هذه المسألة جائز لأن العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم لا يتوقف على العلم بها . وأما من الملائكة وأولي العلم وهم الذين عرفوا وحداينة الله تعالى بالدلائل القاطعة ، فكلهم أخبروا أيضا أن الله واحد لا شريك له . وثاني الوجهين أن تجعل الشهادة عبارة عن الإظهار والبيان . فالله تعالى أظهر ذلك وبين بأن خلق ما يدل على ذلك ، والملائكة وأولو العلم أظهروا ذلك وبينوه . أيضا الملائكة للرسل والرسل للعلماء والعلماء لعامة الخلق . فالتفاوت إنما وقع في الشيء الذي به حصل الإظهار والبيان . فأما مفهوم الإظهار والبيان فشيء واحد في حق الكل ، فكأنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن وحدانية الله تعالى أمر قد ثبت بشهادة الله وشهادة جميع المعتبرين من خلقه ، ومثل هذا الدين المبين والمنهج القويم لا يضعف بمخالفة بعض الجهال من النصارى وعبدة الأوثان ، فأثبت أنت وقومك يا محمد على ذلك ، فإنه هو الإسلام والدين عند الله هو الإسلام . وأما الثاني فهو قول من يقول شهادة الله تعالى على توحيده عبارة عن أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده ، وشهادة الملائكة وأولي العلم عبارة عن إقرارهم بذلك ونظيره قوله تعالى : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } [ الأحزاب : 56 ] فالصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة . فإن قيل : المدعي للوحدانية هو الله . فكيف يكون المدعي شاهدا؟ فالجواب أنه ليس الشاهد بالحقيقة إلا الله لأنه خلق الأشياء وجعلها دلائل على توحيده ، ثم وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل والتوصل بها إلى معرفة الوحدانية ، ثم وفقهم حتى أرشدوا غيرهم إلى ذلك ولهذا قال : { قل أي شيء أكبر شهادة قل الله } [ الأنعام : 19 ] وفي انتصاب { قائما بالقسط } وجوه : الأول أنه حال مؤكدة والتقدير : شهد الله قائما بالقسط ، أو لا إله إلا هو قائما بالقسط . وهذا أوجه لكون الإلهية والتفرد بها مقتضيا للعدالة مثل : هذا أبوك عطوفا . أو لا رجل إلا عبد الله شجاعا . ويحتمل أن يكون حالا من « أولي العلم » أي حال كون كل واحد منهم قائما بالقسط في أداء هذه الشهادة .

(2/225)


الثاني أن يكون صفة للمنفي كأنه قيل : لا إله قائما بالقسط إلا هو . وقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف . الثالث أن يكون نصبا على المدح وإن كان نكرة كقوله :
ويأوي إلى نسوة عطل ... وشعثا مراضيع مثل السعالى
ومعنى كونه قائما بالقسط قائما بالعدل كما يقال : فلان قائم بالتدبير أي يجريه على سن الاستقامة ، أو مقيما للعدل فيما يقسم من الأرزاق والآحال ، ويثيب ويعاقب وفيما يأمر به عباده من إنصاف بعضهم لبعض والعمل على السوية فيما بينهم . واعلم أن وجوب الوجود يلزمه الغنى المطلق والعلم التام والفيض العام والحكمة الكاملة والرحمة الشاملة وعدم الانقسام بجهة من الجهات وعدم الافتقار بوجه من الوجوه إلى شيء من الأشياء وعدم النقص والنقض في شيء من الأفعال والأحكام إلى غير ذلك من الأسماء الحسنى والصفات العليا . ومركوز في العقل السليم أن من هذا شأنه لا يصدر منه شيء إلا على وفق العدالة وقضية التسوية ورعاية الأصلح عموما أو خصوصا . فكل ما يخيل إلى المكلف أنه خارج عن قانون العدالة أو يشبه الجور أو القبح ، وجب أن ينسب ذلك إلى قصور فهمه وعدم إحاطته التامة بسلسلة الأسباب والمسببات والمبادىء والغايات ، فانظر في كيفية خلقه أعضاء الإنسان حتى تعرف عدل الله وحكمته فيها ، ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحسن والقبح والغنى والفقر والصحة والسقم وطول العمر وقصره واللذة والألم ، واقطع بأن كل ذلك عدل وصواب . ثم انظر في كيفية خلقه العناصر وأجرام الأفلاك والكواكب وتقدير كل منها بقدر معين وخاصية معينة ، فكلها حكمة وعدالة . وانظر إلى تفاوت الخلائق في العلم والجهل والفطانة والبلادة والهداية والغواية واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط ، فإن الإنسان بل كل ما سوى الله تعالى لم يخلق مستعدا لإدراك تفاصيل كلمات الله . فالخوض في ذلك خوض فيما لا يعنيه بل لا يسعه ولا ينفعه إلا العلم الإجمالي بأنه تعالى واحد في ملكه ، وملكه لا منازع له فيه ولا مضاد ولا مانع لقضائه ولا راد ، وأن الكل بقضائه وقدره ، وفي كل واحد من مصنوعاته ولكل شيء من أفعاله حكم ومصالح لا يحيط بذلك علما إلا موجده وخالقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . هذا هو الدين القويم والاعتقاد المستقيم ، والعدول عنه مراء ، والجدال فيه هراء . فمن نسبه إلى الجور في فعل من الأفعال فهو الجائر لا على غيره بل على نفسه إذ لا يعترف بجهله وقصوره ، ولكن ينسب ذلك إلى علام الخفيات والمطلع على الكليات والجزئيات من أزل الآزال إلى أبد الآباد . ومن زعم أن شيئا من الأشياء خيرا أو شرا في اعتقاده حسنا أو قبيحا بحسب نظره خارج عن مشيئته وإرادته فقد كذب ابن أخت خالته ، لأنه يدعي التوحيد ثم يثبت قادرا آخر أو خالقا غير الله تعالى ، ولا خالق إلا هو ، فلهذا كرر مضمون الشهادة وقال : { لا إله إلا هو } والتقدير : شهد الله أنه لا إله إلا هو .

(2/226)


وإذا شهد بذلك فقد صح أنه لا إله إلا هو كقولك : الدليل دل على وحدانية الله ، ومتى كان كذلك فقد صح القول بوحدانية الله . وفيه إيقاظ لأمة محمد أن يقولوا على وفق شهادة الله والملائكة وأولي العلم { لا إله إلا هو } وإعلام بأن هذه الكلمة يجب أن يكررها المسلم ما أمكنه
هو المسك ما كررته يتضوع ... ثم أكد كونه منفردا بالألوهية وقائما بالعدل بقوله : { الغزيز الحكيم } فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة ، والحكيم إشارة إلى كمال العلم . ولا تتم القدرة إلا بالتفرد والاستقلال ، ولا العدالة إلا بالاطلاع على المصالح والأحوال { إن الدين عند الله الإسلام } جملة مستأنفة مؤكدة للأولى . والدين في اللغة الجزاء ثم الطاعة . سميت دينا لأنها سبب الجزاء . والإسلام في اللغة الانقياد والدخول في السلم أو في السلامة أو في إخلاص العبادة من قولهم : « سلم له الشيء » أي خلص له . والإسلام في عرف الشرع يطلق تارة على الإقرار باللسان في الظاهر ومنه قوله تعالى : { قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } [ الحجرات : 17 ] ويطلق أخرى على الانقياد الكلي وهو المراد ههنا . وفيه إيذان بأن الدين هو العدل والتوحيد . أما التوحيد فأن يعلم أن الله تعالى لا شريك له ولا نظير في الذات ولا في صفة من الصفات كما شهد هو به ، وأما العدل فهو أن يعلم أن كل ما خلق وأمر المكلف به ونهاه عنه فإنه عدل وصواب وفيه حكم ومصالح ، فيأتمر بذلك وينتهي عنه ليكون عبدا منقادا معترفا بأنه تعالى قائم بالقسط . ومن قرأ بفتح « أن » فتقديره عند البصريين ذلك بدل من الأول ، بدل الكل فكأنه قيل : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام فيكون من باب وضع الظاهر موضع المضمر كقوله :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... وقيل : تقديره شهد الله أنه لا إله إلا هو وأن الدين عند الله الإسلام . وقيل : شهد الله أنه لا إله إلا هو أن الدين عند الله الإسلام . لأن كونه تعالى واحدا يوجب أن يكون الدين الحق هو الإسلام ، لأن دين الإسلام مشتمل على هذه الواحدانية . وقرىء الأول بالكسر والثاني بالفتح على أن الفعل واقع على الثاني وما بينهما اعتراض . ثم ذكر أنه أوضح الدلائل وأزل الشبهات ، والقوم ما كفروا إلا لقصورهم وتقصيرهم فقال : { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } قيل : هم اليهود واختلافهم أن موسى عليه موسى عليه السلام لما قرب وفاته سلم التوراة إلى سبعين رجلا من الأحبار وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع ، فلما مضى قرن بعد قرن اختلف أبناء السبعين بعد ما جاءهم التوراة بغيا بينهم وتحاسدا على طلب الدنيا .

(2/227)


وقيل : المراد النصارى واختلافهم في أمر عيسى عليه السلام بعد ما جاءهم العلم أنه عبد الله ورسوله . وقيل : المراد اليهود والنصارى واختلافهم هو أنه قالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله . وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : نحن أحق بالنبوة من قريش لأنهم أميون ونحن أهل كتاب . { إلا من بعد ما جاءهم العلم } أي الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم . لأنا لو حملناه على العلم لزم نسبة العناد إلى جمع عظيم وهو بعيد قاله في التفسير الكبير . { ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب } لا يصعب عليه عدة أفعاله ومعاصيه وإن كانت كثيرة ، أو المراد أنه سيصل إلى الله سريعا فيحاسبه أي يجازيه على كفره . ثم بين للرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله في محاجتهم فقال : { فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله } قال الفراء : أي أخلصت عملي لله . فعلى هذا « الوجه » في معنى العمل . وقيل : أي أسلمت وجه عملي لله . فحذف المضاف والمعنى كل ما يصدر مني من الأعمال . فالوجه في الإتيان بها هو عبودية الله والانقياد لإلهيته وحكمه . وقيل : الوجه مقحم ، والتقدير : أسلمت نفسي لله ، وليس في العبادة مقام أعلى من إسلام النفس كأنه موقوف على عبادته معرض عن كل ما سواه ، وقوله : { ومن اتبعن } معطوف على الضمير المرفوع في { أسلمت } وحسن للفصل . أو مفعول معه والواو بمعنى « مع » . ثم في كيفية إيراد هذا الكلام طريقان : أحدهما أن هذا إعراض عن المحاجة لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد أظهر المعجزات كالقرآن ودعاء الشجرة وكلام الذئب وغيرها ، وقد مر في هذه السورة إبطال إلهية عيسى وإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . ثم بين نفي الضد والند والصاحبة والولد بقوله : { شهد الله أنه لا إله إلا هو } وذكر أن اختلاف هؤلاء اليهود والنصارى إنما هو لأجل البغي والحسد فلم يبق إلا أن يقول : أما أنا ومن اتبعن فمنقادون للحق مستسلمون له مقبلون على عبودية الله تعالى . وهذا طريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه . وثانيهما أن قوله : { أسلمت } محاجة وبيانه أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع وكونه مستحقا للعبادة ، فكأنه صلى الله عليه وسلم قال هذا القول متفق عليه بين الكل فأنا متمسك بهذا القدر المتفق عليه وداعي الخلق إليه ، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك . فاليهود يدعون التشبيه والجسمية ، والنصارى يدعون إلهية عيسى ، والمشركون يدعون وجوب عبادة الأوثان . فهؤلاء هم المدعون لهذه الأشياء فعليهم إثباتها ونظير هذه الآية { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا }

(2/228)


[ آل عمران : 64 ] وعن أبي مسلم أن الآية في هذا الموضع كقول إبراهيم عليه السلام { إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض } [ الأنعام : 79 ] كأنه قيل : فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل : أنا متمسك بطريقة إبراهيم وأنتم معترفون بأنه كان محقا في قوله صادقا في دينه ، فيكون من باب التمسك بالإلزامات وداخلا تحت قوله : { وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل : 125 ] { وقل للذين أوتوا الكتاب } من اليهود والنصارى { والأميين } وهم مشركو العرب الذين لا كتاب لهم { أأسلمتم } ومعناه الأمر وفائدته التعيير بالعناد وقلة الإنصاف كقولك لمن لخصت له المسئلة ولم تأل جهدا في سلوك طريقة الكشف والبيان له : هل فهمتها؟ فإنه يكون توبيخا له بالبلادة وكلال الذهن ومثله في آية تحريم الخمر { فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] إشارة إلى التقاعد عن الانتهاء . { فإن أسلموا فقد اهتدوا } إلى ما يهدي الله إليه أو إلى الفوز والنجاة في الآخرة { وإن تولوا } أعرضوا عن الإسلام لي والاتباع لك { فإنما عليك البلاغ } . ما عليك إلا أن تبلغ الرسالة وتنبه على طريق الرشاد { والله بصير بالعباد } يوفق للصلاح من شاء ويترك على الضلالة من أراد . ثم وصف المتولي بصفات ثلاث وأردفه بوعيده فقال : { إن الذين يكفرون بآيات الله } أي ببعضها المعهود لأن اليهود كانوا مقرين ببعض الآيات الدالة على وجود الصانع وقدرته وعلمه وشيء من المعاد أو بكلها كما هو ظاهر الجمع المضاف ، وتوجيهه أن المكذب ببعض آيات الله كالكافر بجميعها { ويقتلون النبيين } أي المعهودين لأنهم ما قتلوا كلهم ولا أكثرهم { بغير حق } من غير ما شبهة عندهم { ويقتلون } أو يقاتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس . عن الحسن أن في الآية دلالة على أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر تلي منزلته عند الله منزل الأنبياء فلهذا ذكرهم عقيبهم . « وروي أن رجلا قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أي الجهاد أفضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم : أفضل الجهاد كلمة حق عند سطان جائر » فإن قيل : إذا كان قوله : { إن الذين يكفرون } في حكم المستقبل لا أقل من الحال لأنه وعيد لمن هو في زمن رسول الله ، ولم يقع منهم قتل الأنبياء ولا القائمين بالقسط ، فكيف يصح الكلام؟ قلنا : إن القوم كانوا يريدون قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين جميعا ، إلا أنه تعالى عصمهم منهم فصح إطلاق القاتل عليهم كما يقال : السم قاتل أي ذلك من شأنه إن وجد القابل . أو نقول : وصفوا بسيرة أسلافهم لأنهم راضون بذلك . عن أبي عبيدة بن الجراح قلت : يا رسول الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال : رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف ونهى عن منكر ثم قرأ هذه الآية .

(2/229)


ثم قال : يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة . فقام مائة واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار { فبشرهم بعذاب أليم } إنما دخلت الفاء لتضمن اسم « إن » معنى الشرط ، فإن لا يغير معنى الابتداء بخلاف « ليت » و « لعل » .
واعلم أنه تعالى قسم وعيدهم إلى ثلاثة أقسام : الأول اجتماع أسباب الآلام والمكاره عليهم وهو العذاب الأليم ، واستعارة البشارة ههنا للتهكم . الثاني زوال أسباب المنافع عنهم بالكلية وهو قوله : { أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة } أما في الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن وأسباب الاحترام والاحتشام بأصناف الذل والهوان من السبي والقتل والجزية ، وأما في الآخرة فكما قال عز من قائل { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا } [ الفرقان : 23 ] الثالث لزوم ذلك في حقهم وهو قوله : { وما لهم من ناصرين } ثم ذكر غاية عناد أهل الكتاب فقال : { ألم تر إلى الذين } عن ابن عباس قال : « دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من اليهود فدعاهم إلى الله فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد؟ فقال : على ملة إبراهيم . فقالا : إن إبراهيم كان يهوديا . فقال رسول الله : فهلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم فأبيا » فنزلت . وقال الكلبي : نزلت في اللذين زنيا من خيبر وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما بالرجم وأنكر اليهود عليه صلى الله عليه وسلم وسوف تجيء القصة في سورة المائدة مفصلة . وقيل : دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم أو إياهم والنصارى إلى الآيات الدالة على صحة نبوته من التوراة أو منها ومن الإنجيل فأبوا فنزلت . ومعنى قوله : { أوتوا نصيبا } أي حظا وافرا من علم الكتاب يريد أحبار اليهود . و « من » إما للتبعيض وإما للبيان . والكتاب يراد به غير القرآن من الكتب التي كانوا مقرين بحقيتها . وقيل : أي حصلوا من جنس الكتب المنزلة أو من اللوح التوراة وهي نصيب عظيم . ثم بين سبب التعجيب بقوله : { يدعون إلى كتاب الله } وهو التوراة كما مر في أسباب النزول ، ولأنه تعالى عجب رسوله من تمردهم وإعراضهم ، وإنما يتوده التعجيب إذا تمردوا عن حكم الكتاب الذي يعتقدون صحته . وعن ابن عباس أنه القرآن وليس ببعيد لأنهم دعوا إليه بعد قيام الحجج على أنه كتاب من عند الله ليحكم أي الكتاب بينهم أي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحذف الثاني للعلم به . أو يراد الحكم في الاختلاف الواقع بينهم كما في قصة الزانيين ، ولهذا راجعوا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم ، قال في الكشاف : والوجه أن يراد ما وقع من الاختلاف والتعادي بين من أسلم من أحبارهم وبين من لم يسلم وأنهم دعوا إلى كتاب الله الذي لا اختلاف بينهم في صحته وهو التوراة ليحكم بين المحق والمبطل منهم { ثم يتولى فريق منهم } وهم الرؤساء والأحبار أو الذين لم يسلموا من أحبارهم ومعنى « ثم » استبعاد ما بين رتبتي الدعاء والتولي { وهم معرضون } قوم لا يزال الإعراض ديدنهم وهجيراهم .

(2/230)


والضمير في « هم » إما أن يرجع إلى الفريق أي هم جامعون بين التولي والإعراض لا عن استماعهم الحجة في ذلك المقام فقط ، بل عنه وعن سائر المقامات . وإما أن يرجع إلى الباقين منهم فيكون قد وصف العلماء والرؤساء بالتولي والباقين بالإعراض لأجل إعراض علمائهم ومتقدميهم . وإما أن يرجع إلى كل أهل الكتاب أي هم قوم عادتهم الإعراض عن قبول الحق ذلك التولي والإعراض ، أو ذلك العقاب أو الوعيد بسبب أنهم كانوا يتساهلون في أمر العقاب ولا يفرقون بين ما يتعلق بأصول الدين وبين ما يتعلق بفروعها فقالوا : { لن تمسنا النار إلا أياما معدودات } [ البقرة : 8 ] هي أيام عبادة العجل فاستوجبوا الذم من وجوه : أحدها استقصار مدة العذاب ومن أين لهم العلم بذلك؟ وثانيها أن عبادة العجل كفر والكفر يستحق به الكافر عذابا دائما . وثالثها أن استثناء الأيام المعدودات فقط فيه دليل على أنهم استحقروا تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وذلك كفر صريح . { وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون } من قولهم : { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] أو من قولهم : { لن تمسنا النار إلا إياما } [ البقرة : 8 ] أو من قولهم « نحن أولى بالنبوة من قريش » أو من زعمهم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم . { فكيف } يصنعون؟ أو فكيف حالهم؟ وفي هذا الحذف فخامة لما فيه من تحريك النفس على استحضار كل نوع من العذاب { إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه } قال الفراء : إذا قلت جمعوا اليوم الخميس معناه جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس . أما إذا قلت : جمعوا في يوم الخميس فلا تضمر فعلا . وأيضا من المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدة فيه إلا المجازاة والفرق بين المثاب والمعاقب . { ووفيت كل نفس ما كسبت } من ثواب أو عقاب أو جزاء ما عملت { وهم لا يظلمون } يرجع إلى كل نفس على المعنى لأنه في معنى كل الناس كما تقول : ثلاثة أنفس تريد ثلاثة أناسي . روي أن أول راية ترفع لأهل الموقف من رايات الكفار راية اليهود فيفضحهم الله على رؤوس الإشهاد ثم يأمر بهم إلى النار .
التأويل : { ستغلبون } إشارة إلى أن المبتلى بالكفر مغلوب الحكم الأزلي بالشقاوة { ربنا غلبت علينا شقوتنا }

(2/231)


[ المؤمنون : 106 ] ثم مغلوب الهوى والنفس والشيطان ولذات الدنيا . فبغلبات النفس والهوى يرد إلى أسفل سافلي الطبيعة فيعيش فيها ثم يموت على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه في قعر جهنم وبئس المهاد ، مهاد مهده في معاشه . { قد كان لكم آية في فئتين التقتا } إن لله تعالى فئتين في الظاهر من المؤمن والكافر ، وفئتين في الباطن من القلب وصفاته والنفس وصفاتها الذميمة ، ولهما الحرب والالتقاء على الدوام وهو الجهاد الأكبر { والله يؤيد بنصره من يشاء } من القلب وجنوده وهم الروح والسر والأوصاف الحميدة والملائكة ، ومن النفس وأعوانها وهم الهوى والدنيا والأوصاف الذميمة والشياطين ثم أخبر عن جنود الفئتين وأعوان الفرقتين بقوله : { زين للناس } . واعلم أن الله خلق الخلق على طبقات ثلاث : العوام ويعبر عنهم بلفظ الناس والغالب عليهم الهوى وهم أصحاب النفوس ، والخواص ويعبر عنهم بلفظ المؤمن وهم أرباب الأرواح والغالب عليهم التقوى ، وخواص الخواص ويذكرهم بلفظ الولي { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } [ يونس : 62 ] والغالب فهيم المحبة والشوق . ثم إن لجهنم سبع دركات محفوفة بالشهوات . فأشار بالنساء إلى شهوة الفرج ، وبالبنين إلى شهوة الطبيعة الحيوانية المائلة إلى الولد ، وبالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة إلى شهوة الحرص على المال ، وبالخيل المسومة إلى شهوة الجاه والخيلاء بالركوب عليها ، وبالأنعام إلى شهوة الجمال والاقتناء { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون } [ النحل : 6 ] وبالحرث إلى شهوة الحكم والرياسة على الرعايا وأهل القرى . ثم ذكر درجات الجنات الثمانية للخواص منها التقوى للذين اتقوا والرضا بالقضاء { ورضوان من الله } والإيمان { ربنا إننا آمنا } والصبر والصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار بالأسحار هذه جنات عاجلة تجري من تحتها الأنهار الألطاف والواردات . والأزواج المطهرة الأخلاق الفاضلة التي تتولد منها ، فإذا عاش في الجنات مات وحشر كذلك . ثم أشار إلى أحوال خواص الخواص مستورة من نظر الخواص محفوظة عن فهم العوام بقوله : { والله عنده حسن المآب } ما احلولى لهم الدنيا يا دنيا مري على أوليائي ولا وقفوا عند جنة المأوى { ما زاغ البصر وما طغى } [ النجم : 17 ] وإنما طلبوا قرب المولى { للذين أحسنوا الحسنى } [ يونس : 26 ] { شهد الله } بكلامه الأزلي عن عمله السرمدي على ذاته الأحدي وكونه الصمدي { أنه لا إله إلا هو } وهي شهادة الحق للحق بالحق أنه الحق ، وهو متفرد بهذه الشهادة الأزلية الأبدية لا يشاركه فيها أحد ، فكما أن ذاته لا تشبه الذوات وصفاته لا تشبه الصفات ، فشهادته لا تشبه الشهادات . شهد بجلال قدره على كمال عزه حين لا حين ولا أين ولا عقل ولا جهل ولا غير ولا شرك ولا عرش ولا فرش ولا الجنة ولا النار ولا الليل ولا النهار ولا الجن ولا الإنس ولا الملائكة ولا أولو العلم ولا الإنكار ولا الإقرار ، فأخبر الذي كان عما كان كما كان وهو أنه لا إله إلا هو ، ثم أبدع الموجودات كما شاء على ما شاء لما شاء .

(2/232)


فكل جزء من أجزائها ، وكل ذرة من ذراتها ، بوجوده مفصح ، ولربوبيته موضح ، وعلى قدمه شاهد ، ولكن ينبوع ماء التوحيد هو القدم فجرى في مجاري أنهار المحدثات إلى أن ظهر من عيون الملائكة وأولي العلم . ثم الملائكة وإن كانوا مظهر ماء التوحيد كما كان أولو العلم ، ولكن اختص أولو العلم منهم بمشربية { وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها } [ الفتح : 26 ] .
لي سكرتان وللندمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي
فحقيقة معنى الآية : شهد الله أنه لا إله إلا هو وهو قائم بالقسط على أمور عباده حتى يشهد على شهادته الملائكة وأولو العلم . ثم فائدة التكرار بقوله { لا إله إلا هو } عائدة إلى أولي العلم الذين لهم شركة مع الملائكة في مظهرية ماء التوحيد بالشهادة ، ولهم اختصاص بالمشربية لماء التوحيد فشاهدوا حقيقة { لا إله إلا هو العزيز } الذي لا يشاهد عزته إلا أعزته من بين البرية { الحكيم } الذي بحكمته اختارهم لهذه العزة من جملة الخليقة . { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } الاختلاف في الصورة من نتائج تناكر الأرواح في عالم المعنى والأرواح فما تعارف منها في الميثاق لتقاربهم في الصف أو لتقابلهم في المنزل ائتلف ، وما تناكر منها لتباعدهم في الصف أو لتدابرهم في المنزل اختلف . { إلا من بعد ما جاءهم العلم } فيه أن العلم مظنة الحسد ، ولكن المحمود منه ما يخص باسم الغبطة . { ويقتلون النبيين } الإنسان خلق مستعدا لقبول فيض صفات لطف الحق وقهره ، فكما أن كمال الإنسان في قبول فيض اللطف أن يفدي نفسه في متابعة الأنبياء حتى يكون خير البرية ، فنقصانه في قبول فيض القهر أن يقتل الأنبياء حتى يكون شر البرية ، فلهذا تحبط أعماله ولا ترجى توبته وترجى توبة إبليس { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } فيه إشارة إلى أن من أوتي حظا من العلم فعليه إذا دعي إلى حكم من أحكام الله أو إلى ترك الدنيا ومخالفة الهوى أن يمتثل وينقاد وإلا كان مغرورا بالدنيا مفتريا في الدعوى ، وهذه حال أكثر من أوتي نصيبا من علم الظاهر ولم يؤت حظا من علم الباطن ، فهم أهل العزة بالله فكيف حال المغرورين إذا جمعهم الله؟

(2/233)


قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير (26) تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب (27) لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير (28) قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير (29) يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد (30) قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم (31) قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين (32) إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33) ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم (34)

القراآت : { الحي من الميت والميت من الحي } بالتشديد على « فيعل » حيث كان : أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب وعاصم غير أبي بكر وحماد . الباقون بالتخفيف على « فيل » . { منهم تقية } بكسر القاف وفتح الياء وتشديدها : أبو زيد عن المفضل وسهل ويعقوب . الباقون { تقاة } بضم التاء . وقرأ حمزة وعلي وخلف بالإمالة .
الوقوف : { ممن تشاء } ط لتناهي الجملتين المتضايفتين معنى إلى جملتين مثلهما { ونذل من تشاء } ط { الخير } ط { قدير } ه ، { في الليل } ز للفصل بين الجملتين المتضادتين { من الحي } ز لعطف المتفقتين { حساب } ه ، { المؤمنين } ج { تقاة } ط { نفسه } ط { المصير } ه ، { يعلمه الله } ط { وما في الأرض } ط { قدير } ه ، { محضرا } ج والأجوز أن يوقف على { سوء } تقديره وما عملت من سوء كذلك . { بعيدا } ط { نفسه } ط { بالعباد } ه { ذنوبكم } ط { رحيم } ه { والرسول } ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب . { الكافرين } ه ، { العالمين } ( لا ) لأن { ذرية } بدل . { من بعض } ج { عليم } ( لا ) لاحتمال أن « إذ » متعلق بالوصفين أي سمع دعاءها وعلم رجاءها حين قالت ، أو اصطفى آل عمران وقت قولها ولاحتمال نصب « إذ » بإضمار « اذكر » .
التفسير : إنه سبحانه لما ذكر من طريقة المعاندين ما ذكر ، علم نبيه صلى الله عليه وسلم طريقة مباينة لطريقتهم من كيفية التمجيد والتعظيم فقال : { قل اللهم } ومعناه عند سيبويه يا الله والميم المشددة عوض عن الياء . وإنما أخرت تبركا باسم الله تعالى وهذا من خصائص اسم الله . كما اختص بدخول تاء القسم ، وبدخول حرف النداء عليه مع لام التعريف ، وبقطع همزته في يا الله . وعند الكوفيين أصله يا الله أمنا بخير أي أقصدنا ، فلما كثر في الكلام حذفوا حرف النداء . وخففت الهمزة من أم . وزيف بأن التقدير لو كان كذلك لزم أن يذكر الدعاء بعده بالعطف مثل : اللهم واغفر لنا . ولجاز أن يتكلم به على أصله من غير تخفيف الهمزة وبإثبات حرف النداء وأجيب بأنه إنما لم يوسط العاطف لئلا يصير السؤال سؤالين ضرورة مغايرة المعطوف للمعطوف عليه بخلاف ما لو جعل الثاني تفسيرا للأول فيكون آكد . وبأن الأصل كثيرا ما يصير متروكا مثل : ما أكرمه فإنه لا يقال : شيء ما أكرمه في التعجب . { ومالك الملك } نداء مستأنف عند سيبويه . فإن النداء باللهم لا يوصف كما لا توصف أخواته من الأسماء المختصة بالنداء نحو : يا هناه ويا نومان ويا ملكعان وفل . وأجاز المبرد نصبه على النعت كما جاز في « يا ألله » . عن ابن عباس وأنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين افتتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم فقال المنافقون واليهود : هيهات هيهات من أين لمحمد ملك فارس والروم؟ هم أعز وأمنع من ذلك فنزلت الآية .

(2/234)


وعن عمرو بن عون « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خط الخندق عام الأحزاب وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرون ، خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول ، فوجهوا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يخبره صلى الله عليه وسلم ، فأخذ المعول من سلمان فضربها صلى الله عليه وسلم ضربة صدعتها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها كالمصباح في جوف بيت مظلم ، وكبر صلى الله عليه وسلم وكبر المسلمون وقال صلى الله عليه وسلم : أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب ، ثم ضرب الثانية فقال صلى الله عليه وسلم : أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم ، ثم ضرب صلى الله عليه وسلم الثالثة فقال : أضاءت لي قصور صنعاء ، وأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة على كلها فأبشروا . فقال المنافقون : ألا تعجبون يمنيكم ويعدكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا » فنزلت . وقال الحسن : إن الله تعالى أمر نبيه أنيسأله أن يعطيه ملك فارس والروم ويرد ذل العرب عليهما . وأمره بذلك دليل على أن يستجيب له صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء وهكذا منازل الأنبياء إذا أمروا بدعاء استجيب دعاؤهم . { مالك الملك } أي تملك جنس الملاك فيتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون ، وفيه أن قدرة الخلق في كل ما يقدرون عليه ليست إلا بأقدار الله تعالى . ثم لما بين كونه مالك الملك وأنه هو الذي يقدر كل قادر على مقدوره ويملك كل مالك على مملوكه فصل ذلك بقوله : { تؤتى الملك من تشاء } أي النصيب الذي قسمت له واقتضته حكمتك . فالأول عام شامل والآخر بعض من الكل . وهذا الملك قيل : ملك النبوة لأنها أعظم مراتب الملك لأن العلماء لهم أمر على بواطن الخلق ، والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق . والأنبياء أمرهم نافذ في البواطن والظواهر ، فعلى كل أحد أن يقبل شريعتهم ولهم أن يقتلوا من أرادوا من المتمردين . ولهذا استبعد بعض الجهلة أن يكون النبي بشرا { أبعث الله بشرا رسولا } [ الإسراء : 94 ] ومن المجوزين من كان يقول إن محمدا صلى الله عليه وسلم فقير يتيم فكيف يليق به هذا المنصب العظيم؟ { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] وكانت اليهود تقول : النبوة في أسلافنا فنحن أحق بها . وقد روينا في تفسير قوله : { قل للذين كفروا ستغلبون } [ آل عمران : 12 ] أن اليهود تكبروا على النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة عددهم وعددهم فرد الله تعالى على جميع هؤلاء الطوائف بأنه سبحانه مالك الملك يؤتي الملك - وهو النبوة - من يشاء ، وينزع الملك - النبوة - ممن يشاء لا بمعنى أنه يعزله عن النبوة فإن ذلك غير جائز بالإجماع بل بمعنى أنه ينقلها من نسل إلى نسل كما نزع عن بني إسرائيل ووضع في العرب ، أو بمعنى أنه لا يعطيه النبوة ابتداء كقوله :

(2/235)


{ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } [ البقرة : 257 ] فإنه يتناول من لم يكن في ظلمة الكفر قط . ومثله { أو لتعودن في ملتنا } [ الأعراف : 88 ] مع أن الأنبياء لم يكونوا في ملتهم قط حتى يتصور العود إليها . وقيل : المراد من الملك التسلط الظاهر وهو الاقتدار على المال بأنواعه وعلى الجاه ، وهو أن يكون مهيبا عند الناس وجيها غالبا مظفرا مطاعا . ومن المعلوم أن كل ذلك بإيتاء الله تعالى . فكم من عاقل قليل المال ، ورب جاهل غافل رخي البال ، وقد رأينا كثيرا من الملوك بذلوا الأموال لتحصيل الحشمة والجاه وما ازدادوا إلا حقارة وخمولا ، فعلمنا أن الكل بإيتاء الله تعالى سواء في ذلك ملوك العدل وملوك الجور ، لأن حصول الملك للجائر إن لم يقع بفاعل ففيه سد باب إثبات الصانع ، وإن حصل بفعل المتغلب فكل أحد يتمنى حصول الملك والدولة لنفسه ولا يتيسر له . فلم يبق إلا أن يكون من مسبب الأسباب وفاعل الكل ومدبر الأمور وناظم مصالح الجمهور .
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني ... بتخوم أقطار السماء تعلقي
لكن من رزق الحجى حرم الغنى ... ضدان مفترقان أي تفرق
ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
وكذا الكلام في نزع الملك فإنه كما ينزع الملك من الظالم فقد ينزعه من العادل لمصلحة تقتضي ذلك . والنزع يكون بالموت وبإزالة العقل والقوى والقدرة والحواس وبتلف الأموال وغير ذلك . في بعض الكتب « أنا الله ملك الملوك ، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي ، فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة . وإن العباد عصوني جعلتهم عليهم عقوبة ، فلا تشتغلوا بسب الملوك ولكن توبوا إلي أعطفهم عليكم » وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم « كما تكونوا يولى عليكم » والصحيح أن الملك عام يدخل فيه النبوة والولاية والعلم والعقل والصحة والأخلاق الحسنة وملك النفاذ والقدرة وملك محبة القلوب وملك الأموال والأولاد إلى غير ذلك ، فإن اللفظ عام ولا دليل على التخصيص { وتعز من تشاء وتذل من تشاء } كل من الإعزاز والإذلال في الدين أو في الدنيا ، ولا عزة في الدين كعزة الإيمان { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } [ المنافقون : 8 ] وفي ضده لا ذلة كذلة الكفر وعزة الدنيا كإعطاء الأموال الكثيرة من الناطق والصامت ، وتكثير الحرث وتكثير النتاج في الدواب وإلقاء الهيبة في قلوب الخلق ، وكل ذلك بتيسير الله تعالى وتقديره { بيدك الخير } أي بقدرتك يحصل كل الخيرات وليس في يد غيرك منها شيء .

(2/236)


وإنما خص الخير بالذكر وإن كان بيده الخير والشر والنفع والضر ، لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة ، أي بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك ، أو لأن جميع أفعاله من نافع وضار لا يخلو عن حكمة ومصلحة وإن كنا لا نعلم تفصيلها فكلها خير ، أو لأن القادر على إيصال الخير أقدر على إيصال الشر فاكتفى بالأول عن الثاني . وللاحتراز عن لفظ الشر مع أن ذلك صار مذكورا بالتضمن في قوله : { إنك على كل شيء قدير } ولأن الخير يصدر عن الحكم بالذات والشر بالعرض فاقتصر على الخير . { تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل } وذلك بأن يجعل الليل قصيرا ويدخل ذلك القدر في النهار وبالعكس . ففي كل منهما قوام العالم ونظامه . أو يأتي بالليل عقيب النهار فيلبس الدنيا ظلمته بعد أن كان فيها ضوء النهار ، ثم يأتي بالنهار عقيب الليل فيلبس الدنيا ضوأه . فالمراد بالإيلاج إيجاد كل منهما عقيب الآخر والأول أقرب إلى اللفظ ، فإن الإيلاج الإدخال فإذا زاد من هذا في ذلك فقد أدخله فيه { وتخرج الحي من الميت } المؤمن من الكافر { أو من كان ميتا فأحييناه } [ الأنعام : 22 ] أي كافرا فهديناه ، أو الطيب من الخبيث ، أو الحيوان من النطفة ، أو الطير من البيضة وبالعكس . والنطفة تسمى ميتا { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم } [ البقرة : 28 ] أو يخرج السنبلة من الحبة ، والنخلة من النواة وبالعكس . فإخراج النبات من الأرض يسمى إحياء { يحيي الأرض بعد موتها } [ الحديد : 17 ] { وترزق من تشاء بغير حساب } تقدم مثله في البقرة . وإذا كان كذلك فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ويؤتيه العرب ويعزهم . ثم لما علم كيفية التعظيم لأمر الله أردفه بشريطة الشفقة على خلق الله ، أو نقول : لما ذكر أنه مالك الملك وبيده العزة والذلة والخير كله . بين أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه دون أعدائه فقال : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين } بالجزم ، ولكن كسر الذال للساكنين . قال الزجاج : ولو رفع على الخبر جاز ، ولكنه لم يقرأ . والخبر والطلب يقام كل منهما مقام الآخر . وقوله : { من دون المؤمنين } يعني أن لكم في موالاة المؤمنين مندوحة عن موالاة الكافرين فلا تؤثروهم على المؤمنين . عن ابن عباس قال : كان الحجاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد وهؤلا كانوا من اليهود يباطنون نفرا من الأنصار يفتنونهم عن دينهم . فقال رفاعة بن المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر : اجتنبوا هؤلاء اليهود . فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم فنزلت هذه الآية . وعن ابن عباس أيضا في رواية الضحاك : نزلت في عبادة بن الصامت الأنصاري وكان بدريا نقيبا ، وكان له حلفاء من اليهود .

(2/237)


فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال عبادة : يا نبي الله ، إن معي خمسمائة رجل من اليهود وقد رأيت أن يخرجوا معي فأستظهر بهم على العدو فنزلت . وقال الكلبي : نزلت في المنافقين - عبد الله بن أبي وأصحابه - كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم . وقد كرر ذلك في آيات أخر كثيرة { لا تتخذوا بطانة من دونكم } [ آل عمران : 118 ] { لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } [ المائدة : 51 ] { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } [ المجادلة : 22 ] وكون المؤمن مواليا للكافر يحتمل ثلاثة أوجه : أحدها أن يكون راضيا بكفره والرضا بالكفر كفر فيستحيل أن يصدر عن المؤمن فلا يدخل تحت الآية لقوله : { يا أيها الذين آمنوا } وثانيها المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر وذلك غير ممنوع منه والثالث كالمتوسط بين القسمين وهو الركون إليهم والمعونة والمظاهرة لقرابة أو صداقة قبل الإسلام أو غير ذلك ، ولهذا قال مقاتل : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره ، وكانوا يظهرون المودة لكفار مكة مع اعتقاد أن دينهم باطل ، فهذا لا يوجب الكفر إلا أنه منهي عنه حذرا من أن يجره إلى استحسان طريقته والرضا بدينه حتى يخصه بالموالاة دون المؤمنين ، فلا جرم هدد فقال : { من يفعل ذلك فليس من الله } أي من ولايته أو من دينه { في شيء } يقع عليه اسم الولاية يعني أنه منسلخ عن ولاية الله رأسا ، وهذا كالبيان لقوله : { من دون المؤمنين } ليعلم أن الاشتراك بينهم وبين المؤمنين في الموالاة غير متصور وهذا أمر معقول ، فإن موالاة الولي وموالاة عدوه ضدان قال :
تود عدوي ثم تزعم أنني ... صديقك ليس النوك عنك بعازب
قال بعض الحكماء : هذا ليس بكلي فإنه قد يكون المشفق على العدو مشفقا على العدو الآخر كالملك العادل فإنه محب لهما ، فإن أراد أحد أن يعم الحكم لا بد له أن يزيد عليه إذا كانوا في مرتبة واحدة { إلا أن تتقوا منهم تقاة } قال الجوهري : يقال اتقى تقية وتقاة مثل اتخم تخمة ، وفاؤها واو كتراث . فالتقاة اسم وضع موضع المصدر . قال الواحدي : ويجوز أن يجعل « تقاة » ههنا مثل « دعاة » و « رماة » فيكون حالا مؤكدة ، وعلى هذين الوجهين يكون تتقوا مضمنا معنى تحذروا أو تخافوا ولذا عدي ب « من » . ويحتمل أن يكون التقاة أو التقية بمعنى المتقي مثل : ضرب الأمير لمضروبه ، فالمعنى إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه . رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم ، والمراد بتلك الموالاة محالفة ومعاشرة ظاهرة والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع من قشر العصا وإظهار الطوية كقول عيسى عليه السلام : كن وسطا وامش جانبا أي ليكن جسدك بين الناس وقلبك مع الله .

(2/238)


وللتقية عند العلماء أحكام منها : إذا كان الرجل في قوم كفار يخاف منهم على نفسه جاز له أن يظهر المحبة والموالاة ولكن بشرط أن يضمر خلافه ويعرض في كل ما يقول ما أمكن ، فإن التقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلب . ومنه أنها رخصة فلو تركها كان أفضل لما « روى الحسن أنه أخذ مسيلمة الكذاب رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال : نعم . قال : أتشهد أني رسول الله؟ قال : نعم . - وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حنيفة ومحمد رسول قريش - فتركه ودعا الآخر وقال : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فقال : نعم نعم نعم . فقال : أتشهد أني رسول الله؟ فقال : إني أصم ثلاثا ، فقدمه وقتله . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال : أما هذا المقتول فمضى على يقينه وصدقه فهنيأ له ، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه » ونظير هذه الآية { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] ومنها أنها إنما تجوز فيما يتعلق بإظهار الموالاة والمعاداة . وقد يجوز أن تكون أيضا فيما يتعلق بإظهار الدين ، فأما الذي يرجع ضرره إلى الغير كالقتل والزنا وغصب الأموال وشهادة الزور وقذف المحصنات وإطلاع الكفار على عورات المسلمين فذلك غير جائز ألبتة . ومنها أن الشافعي جوز التقية بين المسلمين كما جوزها بين الكافر محاماة على النفس . ومنها أنها جائزة لصون المال على الأصح كما أنها جائزة لصون النفس لقوله صلى الله عليه وسلم : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » و « من قتل دون ماله فهو شهيد » ولأن الحاجة إلى المال شديدة ولهذا يسقط فرض الوضوء ويجوز الاقتصار على التيمم إذا بيع الماء بالغبن . قال مجاهد : كان هذا في أول الإسلام فقط لضعف المؤمنين . وروى عوف عن الحسن أنه قال : التقية جائزة إلى يوم القيامة . وهذا أرجح عند الأئمة . { ويحذركم الله نفسه } قيل : أي عقاب نفسه . وفيه تهديد عظيم لمن تعرض لسخطه بموالاة أعدائه لأن شدة العقاب على حسب قدرة المعاقب . وفائدة ذكر النفس تصريح بأن الذي حذر منه هو عقاب يصدر من الله لا من غيره . وقيل : الضمير يعود إلى اتخاذ الأولياء أي ينهاكم الله عن نفس هذا الفعل . ثم حذر عن جعل الباطن موافقا للظاهر في وقت التقية فقال : { قل إن تخفوا ما في صدوركم } أي قلوبكم وضمائركم لأن القلب في الصدر فجاز إقامة الظرف مقام المظروف { أو تبدوه يعلمه الله } يتعلق به علمه الأزلي .

(2/239)


ثم استأنف بيانا أشفى وتحذيرا أوفى فقال : { ويعلم ما في السموات وما في الأرض } ثم قال إتماما للتحذير { والله على كل شيء قدير } ثم خلط الوعيد بالوعد والترهيب بالترغيب فقال : { يوم تجد } وفي عامله وجوه قال ابن الأنباري : وإلى الله المصير يوم تجد . وقيل : والله على كل شيء قدير يوم تجد ، وخص ذلك اليوم بالذكر وإن كان غيره من الأيام بمنزلته في قدرة الله تعالى تعظيما لشأنه مثل { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 3 ] وقيل : انتصابه بمضمر أي اذكر . والأظهر أن العامل فيه { تود } والضمير في { بينه } لليوم أي تود كل نفس يوم تجد ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء محضرا أيضا لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمدا بعيدا . والأمد الغاية التي ينتهي إليها مكانا كانت أو زمانا . والمقصود تمني بعده كقوله : { يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين } [ الزخرف : 38 ] ومعنى كون العمل محضرا هو أن يكون ما كتب فيه العمل من الصحائف حاضرا ، أو يكون جزاؤه حاضرا إذ العمل عرض لا يبقى . ثم إن لم يكن يوم متعلقا ب { تود } احتمل أن يكون { تود } صفة { سوء } والضمير في { بينه } يعود إليه ، واحتمل أن يكون حالا ، واحتمل أن يكون { ما عملت } مبتدأ من الصلة والموصول و { تود } خبره وهو الأكثر ، واحتمل أن يكون « ما » شرطية و { تود } جزاء له وهو قليل كقوله :
وإن أتاه خليل يوم مسغبة ... يقول لا غائب ما لي ولا حرم
وقراءة عبد الله { ودت } يحتملها على السواء إلا أن الحمل على الابتداء والخبر أوقع في المعنى لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم { ويحذركم الله نفسه } تأكيد للوعيد { والله رؤوف بالعباد } قال الحسن : ومن رأفته أن حذرهم نفسه وعرفهم كمال علمه وقدرته ، وأنه يمهل ولا يهمل ، ورغبهم في استيجاب رحمته ، وحذرهم من استحقاق غضبه . ويجوز أن يراد أنه رؤوف بهم حيث أمهلهم للتوبة والتلافي ، أو هو وعد كما أن التحذير وعيد ، أو المراد بالعباد عباده المخلصون كقوله : { عينا يشرب بها عباد الله } [ الدهر : 6 ] كما هو منتقم من الفساق ومحذرهم نفسه فهو رؤوف بالعباد المطيعين والمحسنين . ثم إنه تعالى دعا القوم إلى الإيمان به ورسوله من طريق آخر سوى طريق التهديد والتحذير فقال : { قل إن كنتم تحبون الله } قال الحسن وابن جريج : زعم أقوام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله فقالوا : يا محمد إنا نحب ربنا فأنزل الله هذه الآية . وروى الضحاك عن ابن عباس قال : « وقف النبي صلى الله عليه وسلم على قريش وهم في المسجد الحرام وقد نصبوا أصنامهم وعلقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها الشنوف وهم يسجدون لها فقال : يا معشر قريش ، لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل ولقد كانا على الإسلام . فقالت قريش : يا محمد إنا نعبد هذه حبا لله ليقربونا إلى الله زلفى »

(2/240)


فأنزل الله { قل إن كنتم تحبون الله } وتعبدون الأصنام لتقربكم إليه { فاتبعوني يحببكم الله } فأنا رسوله إليكم وحجته عليكم وأنا أولى بالتعظيم من أصنامكم . وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت حين زعمت اليهود أنهم أبناء الله وأحباؤه . وقيل : نزلت في نصارى نجران زعموا أنهم يعظمون المسيح ويعبدونه حبا لله وتعظيما له . والحاصل أن كل من يدعي محبة الله تعالى من فرق العقلاء فلا بد أن يكون في غاية الحذر مما يوجب سخطه ، فإذا قامت الدلائل العقلية والمعجزات الحسية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وجبت متابعته . فليس في متابعته إلا أنه يدعوهم إلى طاعة الله وتعظيمه وترك تعظيم غيره . فمن أحب الله كان راغبا فيه لأن المحبة توجب الإقبال بالكلية على المحبوب والإعراض بالكلية عن غيره ، وقد مر في تفسير قوله : { والذين آمنوا أشد حبا لله } [ البقرة : 165 ] تحقيق المحبة وأنها من الله تعالى عبارة عن إعطاء الثواب . وقال : { ويغفر لكم ذنوبكم } ليدل مع إيفاء الثواب على إزالة العقاب وهذه غاية ما يطلبه كل عاقل . { والله غفور } في الدنيا يستر على عبده أنواع المعاصي { رحيم } في الآخرة يثيبه على مثقال الذرة من الطاعة والحسنة . يروى أنه لما نزل { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني } قال عبد الله بن أبي إن محمدا يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبه كما أحب النصارى عيسى فنزلت { قل أطيعوا الله والرسول } وذلك أن الآية الأولى لما اقتضت وجوب متابعته ثم إن المنافق ألقى شبهة في البين أمره الله تعالى أن يقول : إنما أوجب الله عليكم متابعتي لا لما يقوله النصارى في عيسى بل لكوني رسولا من عند الله ومبلغ تكاليفه { فإن تولوا } أعرضوا أو تعرضوا على أن يكون التاء الأولى محذوفة ويدخل في جملة ما يقوله الرسول لهم ، فإنه لا يحصل للكافرين محبة الله لأنها عبارة عن الثناء لهم وإيصال الثواب إليهم ، والكافر يستحق الذم واللعن وهذا ضد المحبة . ثم إنه تعالى لما بين أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسل بين علو درجات الرسل وسمو طبقاتهم فقال : { إن الله اصطفى آدم ونوحا } الآية أي جعلهم صفوة خلقه والمختارين من بينهم تمثيلا بما يشاهد من الشيء الذي يصفى وينقى من الكدورة ، وذلك باستخلاصهم من الصفات الذميمة وتحليتهم بالخصال الحميدة كقوله : { الله أعلم حيث يجعل رسالاته } [ الأنعام : 124 ] وقيل : المعنى أن الله اصطفى دين آدم ودين نوح ولكن الأصل عدم الإضمار . وذكر الحليمي في كتاب المنهاج أن الأنبياء عليهم السلام مخالفون لغيرهم في القوى الجسمانية والقوى الروحانية . أما القوى الجسمانية فهي إما مدركة أو محركة .

(2/241)


أما المدركة فهي الحواس الظاهرة أو الباطنة أما الظاهرة فقوله صلى الله عليه وسلم « زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها » وقوله : « أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري » وهذا يدل على كمال القوة الباصرة ونظيرها ما حصل لإبراهيم عليه السلام { وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض } [ الأنعام : 75 ] ذكروا في تفسيره أن الله تعالى قوى بصره حتى شاهد جميع الملكوت وليس بمستبعد ، فإنه يروى أن زرقاء اليمامة كانت تبصر من مسيرة ثلاثة أيام . ويقال : إن النسر وغيره من عظام الجوارح يرتفع فيرى صيده من مائة فرسخ . وقال صلى الله عليه وسلم : « أطت السماء وحق لها أن تئط » فسمع أطيط السماء . ومثله ما زعمت الفلاسفة أن فيثاغورس راض نفسه حتى سمع حفيف الفلك . وقد سمع سليمان كلام النمل وفهمه . ومثله ما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم مع الذئب ومع البعير ، وقد وجد يعقوب صلى الله عليه وسلم ريح يوسف من مسيرة أيام . وقال صلى الله عليه وسلم « إن هذا الذراع يخبرني أنه مسموم » وهو دليل كمال قوة الذوق . وجعل النار بردا وسلاما على إبراهيم ، قيل : وهو دليل قوة اللمس كما في النعامة والسمندل وفيه نظر ، إذ لا إدراك ههنا فكيف يستدل به على قوة الإدراك؟ بل يجب أن يحمل هذا على معنى آخر وهو أنه تعالى لا يبعد أن يجعل المنافي ملائما للإعجاز أو لخاصية أودعها في المنافي حتى يصير ملائما . وأما الحواس الباطنة فمنها قوة الحفظ قال تعالى : { سنقرئك فلا تنسى } [ الأعلى : 6 ] ومنها قوة الذكاء قال علي رضي الله عنه : علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم ألف باب من العلم فاستنبطت من كل باب ألف باب . وإذا كان حال الولي هكذا فكيف حال النبي؟ وأما القوة المحركة فكعروج النبي صلى الله عليه وسلم وعروج عيسى عليه السلام إلى السماء ، وكرفع إدريس وإلياس على ما ورد في الأخبار . وأما القوة الروحانية العقلية فنقول : إن النفس القدسية النبوية مخالفة بماهيتها لسائر النفوس ، أو كالمخالفة صفاء ونورية وانجذابا إلى عالم الأرواح ، فلا جرم تجري عليها الأنوار الفائضة من المبادىء العالية أتم من سائر النفوس وأكمل ، ولهذا بعثت مكملة للناقصين ومعلمة للجاهلين ومرشدة للطالبين مصطفاة على العالمين من جميع سكان الأرضين عند من يقول الملك أفضل من البشر ، أو من سكان السموات أيضا عند من يرى البشر أفضل المخلوقات . ثم إن القرآن دل على أن أول الأنبياء اصفطاء آدم صفي الله وخليفته . ثم إنه وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة من أولاد آدم وهم : شيث وأولاده إلى إدريس ، ثم إلى نوح ثم إلى إبرهيم ثم انشعب من إبراهيم صلى الله عليه وسلم شعبتان : إسماعيل وإسحق .

(2/242)


فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وجعل إسحق مبدأ لشعبتين يعقوب وعيص . فوضع النبوة في نسل يعقوب ، ووضع الملك في نسل عيص ، واستمر ذلك إلى زمان محمد صلى الله عليه وسلم . فلما ظهر محمد صلى الله عليه وسلم نقل نور النبوة ونور الملك إليه صلى الله عليه وسلم وبقي الدين والملك في أمته صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة ، فالمراد بآل إبراهيم أولاده عليهم الصلاة والسلام وهو المطلوب بقوله : { ومن ذريتي } [ البقرة : 124 ] بعد قوله : { إني جاعلك للناس إماما } [ البقرة : 124 ] وأما آل عمران فقيل : أولاد عمران بن يصهر والدموسي وهارون . وقيل : المراد بعمران والد مريم وهو عمران بن ماثان بدليل قوله عقيبه { إذ قالت امرأة عمران } [ آل عمران : 35 ] ولا شك أنه عمران بن ماثان جد عيسى من قبل الأم ، ولأن الكلام سيق للناصرى الذين يحتجون على إلهية عيسى عليه السلام بالخوارق التي ظهرت على يده . فالله تعالى يقول : إن ذلك باصطفاء الله إياه لا لكونه شريكا للإله ولأن هذا اللفظ شديد المطابقة لقوله تعالى : { وجعلناها وابنها آية للعالمين } [ الأنبياء : 91 ] . { ذرية } بدل ممن سوى آدم { بعضها من بعض } قيل : أي في التوحيد والإخلاص والطاعة كقوله : { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } [ التوبة : 67 ] وذلك لاشتراكهم في النفاق . وقيل : معناه أن غير آدم كانوا متوالدين من آدم . وقيل : يعني أن الآلين ذرية واحدة متسلسلة بعضها متشعب من بعض ، موسى وهارون من عمران ، وعمران من يصهر ، ويصهر من قاهث ، وقاهث من لاوي ، ولاوي من يعقوب ، ويعقوب من إسحق . وكذلك عيسى من مريم ، ومريم بنت عمران بن ماثان . ثم قال في الكشاف : ماثان بن سليمان بن داود بن ايشا بن يهوذا بن يعقوب بن إسحق وفيه نظر ، لأن بين ماثان وسليمان قوما آخرين ، وكذلك بين ايشا ويهوذا . { والله سميع } لأقوال العباد { عليم } بضمائرهم وأفعالهم فيصطفي من خلقه من يعلم استقامته قولا وفعلا . ويحتمل أن يكون الكلام مع اليهود والنصارى الذين كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه تغريرا للعوام مع علمهم ببطلان هذا الكلام ، فيكون أول الكلام تشريفا للمرسلين وآخره تهديدا للمبطلين كأنه قيل : والله سميع لأقوالهم الباطلة ، عليم بأغراضهم الفاسدة فيجازيهم بحسب ذلك . ويحتمل أن يتعلق بما بعده كما في الوقوف .
التأويل : مالك هو ملك الوجود فلا وجود بالحقيقة إلا له ، تؤتي الوجود من تشاء وتنزع الوجود ممن تشاء ، فتخلق بعض الموجودات مستعدا للبقاء كالملائكة والإنسان ، توجد بعضها قابلا للفناء كالنبات والحيوان غير الإنسان . { وتعز من تشاء } بعزة الوجود النوري ، { وتذل من تشاء } بذل القبض القهري ، بيدك الخير . { إنك على كل شيء قدير } تضمين للدعاء بذكر السبب كما يقال للجواد إنك الذي يقدر على إعطاء كل خير فأتنا وأعزنا يا مفيض كل خير ، ويا كاشف كل ضير .

(2/243)


تولج ليل ظلمات الصفات البشرية النفسانية في نهار أنوار الصفات الروحانية وبالعكس ، تخرج القلب الحي بالحياة الحقيقية من النفس الميتة ، وتخرج القلب الميت عن الحياة الحقيقية من النفس الحية بالحياة المجازية الحيوانية . لا يتخذ القلب المؤمن والروح والسر وصفاتها الكافرين من النفس الأمارة والشيطان والهوى والدنيا أولياء من دون المؤمنين من القلب والروح والسر ، ومن يفعل ذلك من القلوب فليس من أنوار الله وألطافه في شيء إلا أن تخافوا من هلاك النفوس . فالنفس مركب الروح فتواسوها كيلا تعجز عن السير في الرجوع وتهلك في الطريق من شدة الرياضات وكثرة المجاهدات . { ويحذركم الله نفسه } أي من صفات قهره { قل إن تخفوا ما في صدوركم } من معاداة الحق في ضمن موالاة النفس { ويعلم ما في السموات } قلوبكم { وما في الأرض } نفوسكم { يوم تجد كل نفس ما عملت } أثر الخير والشر ظاهر في ذات المرء وصفاته ، وبحسب ذلك يبيض وجه قلبه أو يسود ولكنه في غفلة من هذا محجوب عنه بحجاب النفس والجسم كمثل نائم لدغته حية كحية الكفر والخصال الذميمة فلا يحس بها ما دام نائما نوم الغفلة ، فإذا مات انتبه وأحس ، ثم أخبر عن طريق الوصول أنه في متابعة الرسول . واعلم أن للاتباع ثلاث درجات ، ولمحبة المحب ثلاث درجات ، ولمحبة الله للمحب التابع على حسب الاتباع ثلاث درجات . أما درجات الاتباع فالأولى درجة عوام المؤمنين وهي متابعة أعماله صلى الله عليه وسلم ، والثانية درجة الخواص وهي متابعة أخلاقه ، والثالثة درجة أخص الخواص وهي متابعة أحواله . وأما درجات محبة المحب فالأولى محبة العوام وهي مطالعة المنة من رؤية إحسان المحسن « جبلت القلوب على حب من أحسن إليها » وهذا حب يتغير بتغير الإحسان وهو لمتابعي الأعمال الذين يطمعون في الأجر على ما يعملون وفيه قال أبو الطيب :
وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف هوى يرجى عليه ثواب
والثانية محبة الخواص المتبعين للأخلاق الذين يحبونه إعظاما وإجلالا له ، ولأنه أهل لذلك كما قالت رابعة :
أحبك حبين حب الهوى ... وحب لأنك أهل لذاكا
ويضطر هذا المحب في هذه الدرجة إلى إيثار الحق على غيره ، وهذا الحب يبقى على الأبد بقاء الكمال والجلال على السرمد وفيه قال :
سأعبد الله لا أرجو مثوبته ... لكن تعبد إعظام وإجلال
والثالثة محبة أخص الخواص المتبعين للأحوال وهي الناشئة من الجذبة الإلهية في مكان من « كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف » وأهل هذه المحبة هم المستعدون لكمال المعرفة بسبق العناية ،
غذينا بالمحبة يوم قالت ... له الدنيا أتينا طائعينا
وحقيقة هذه المحبة أن يفنى المحب بسطوتها وتبقى المحبة فيه بلا هو كما أن النار تفني الحطب بسطوتها وتبقى النار منه بلا هو .

(2/244)


وحقيقة هذه المحبة نار لا تبقي ولا تذر . وأما درجات محبة الله للعبد فاعلم أن كل صفة من صفات الله تعالى من العلم والقدرة والإرادة وغيرها فإنها لا تشبه في الحقيقة صفات المخلوقين ، حتى الوجود فإنه وإن عم الخالق والمخلوق إلا أن وجوده واجب بنفسه ووجود غيره ممكن في ذاته واجب به ، فليس في الكون إلا الله وأفعاله . قرأ القارى بين يدي الشيخ أبي سعيد بن أبي الخير رحمه الله قوله : { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] فقال : بحق يحبهم لأنه لا يحب إلا نفسه فليس في الوجود إلا هو ، وما سواه فهو من صنعه . والصانع إذا مدح صنعه فقد مدح نفسه . والغرض أن محبة الله للخلق عائدة إليه حقيقة إلا أنه لما كان مرورها على الخلق فبحسب ذلك اختلفت مراتبها ، مع أنها صدرت عن محل واحد هو محل « كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف » فما تعلقت إلا بأهل المعرفة وذلك قوله : « فخلقت الخلق لأعرف » لكنها تعلقت بالعوام من أهل المعرفة بالرحمة ومشربهم الأعمال فقيل لهم { فاتبعوني } بالأعمال الصالحة { يحببكم الله } يخصكم بالرحمة { ويغفر لكم } ذنوبكم التي صدرت منكم على خلاف المتابعة . وتعلقت بالخاص من أهل المعرفة بالفضل ومشربهم الأخلاق فقيل لهم : { فاتبعوني } بمكارم الأخلاق يحببكم بالفضل يخصكم بتجلي صفات الجمال { ويغفر لكم ذنوبكم } يستر ظلمة صفاتكم بأنوار صفاته . وتعلقت بالأخص من أهل المعرفة بالجذبات ومشربهم الأحوال فقيل لهم { فاتبعوني } ببذل الوجود { يحببكم الله } يخصكم بجذبكم إلى نفسه { ويغفر لكم } ذنوب وجودكم فيمحوكم عنكم ويثبتكم به كما قال : « فإذا أحببته كنت له سمعا وبصرا ولسانا ويدا » فهم بين روضة المحو وغدير الإثبات أحياء غير أموات ، ويكون في هذا المقام المحب والمحبوب والمحبة واحدا كما أن الرائي في المرآة يشاهد ذاته بذاته وصفاته بصفاته فيكون الرائي والمرئي والرؤية واحدا . { قل أطيعوا الله والرسول } فإن متابعته صورة جذبة الحق وصدف درة محبته لكم . { إن الله اصطفى آدم } وذلك أن الله تعالى خلق العالمين سبعة أنواع : الجماد والمعدن والنبات والحيوان والنفوس والعقول والأرواح ، وجمع في آدم جميع الأنواع وخصه بتشريف ثامن هو تشريف { ونفخت فيه من روحي } [ ص : 72 ] فهو المظهر لجميع آياته وصفاته وذاته وهو معنى جعله خليفة ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم « وإن الله خلق آدم على صورته » ثم ذكر خواص أولاد آدم نوحا وآل إبراهيم وآل عمران والمراد بالآل كل مؤمن تقي { بعضها من بعض } بالوراثة الدينية « العلماء ورثة الأنبياء » فالعالم كشجرة وثمرتها أهل المعرفة { والله سميع } لدعائهم { عليم } بأحوالهم وخصالهم .

(2/245)


إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم (35) فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم (36) فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب (37) هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء (38) فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين (39) قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء (40) قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار (41)

القراآت : { مني إنك } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو . { بما وضعت } على الحكاية : ابن عامر ويعقوب وأبو بكر وحماد . الباقون { وضعت } على الغيبة . { وإني أعيذها } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع . { وكفلها } مشددة : عاصم وحمزة وعلي وخلف . الباقون خفيفا { زكريا } مقصورا كل القرآن : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد . وقرأ أبو بكر وحماد بالمد والنصب ههنا . الباقون بالمد والرفع . { فناديه } بالياء والإمالة : علي وحمزة وخلف . الباقون { فنادته } بتاء التأنيث { في المحراب } بالإمالة حيث كان مخفوضا . قتيبة وابن ذكوان { إن الله } بكسر « إن » : ابن عامر وحمزة . الباقون بالفتح . { يبشرك } وما بعده من البشارة خفيفا : حمزة وعلي . الباقون بالتشديد { لي آية } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن شنبوذ عن ابن كثير .
الوقوف : { مني } ج للابتداء ولاحتمال لأنك { العليم } ه { أنثى } ط لمن قرأ { بما وضعت } بتاء التأنيث الساكنة ، ومن قرأ على الحكاية لم يقف لأنه يجعلها من كلامها . { بما وضعت } ط { كالأنثى } ج للابتداء بأن ، ولاحتمال أن المجموع كلام واحد من قولها على قراءة من قرأ { وضعت } بالضم { الرجيم } ه { حسنا } ص لمن قرأ { وكفلها } مخففا لتبدل فاعله ، فإن فاعل المخفف { زكريا } وفاعل المشدد الرب . وقد يعدى إلى مفعولين كقوله : { أكفلنيها } [ ص : 23 ] { المحراب } ( لا ) لأن { وجد } جواب { كلما } { رزقا } ج لاتحاد فاعل الفعلين مع عدم العاطف { هذا } ط { من عند الله } ط { حساب } ه { ربه } ج لما قلنا في { رزقا } { طيبة } ج للابتداء ولجواز لأنك { الدعاء } ه { في المحراب } ( لا ) وإن كسر « إن » لأن من كسر جعل النداء في معنى القول { الصالحين } ه { عاقر } ط { ما يشاء } ه { آية } ط { والإبكار } ه .
التفسير : إنه سبحانه ذكر في هذا المقام قصصا . القصة الأولى حنة أم مريم البتول زوجة ابن عمران بن ماثان بنت فاقوذ أخت إيشاع التي كانت تحت زكريا بن أذن . روي أن حنة كانت عاقرا لم تلد إلى أن كبرت وعجزت . فبينما هي في ظل شجرة بصرت بطائر يطعم فرخا له ، فتحركت نفسها للولد وتمنته فقالت : اللهم إن لك علي نذرا شكرا إن رزقتني ولدا أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمته . فحملت بمريم وهلك عمران وهي حامل . قال الحسن : إنما فعلت ذلك بإلهام الله تعالى كما ألهم أم موسى فقذفته في أليم . عن الشعبي : محررا مخلصا للعبادة . وتحرير العبد تخليصه من الرق ، وحررت الكتاب إذا أصلحته وخلص من الغلط ، ورجل حر إذا كان خالصا لنفسه ليس لأحد عليه يد وتصرف . قال الأصم : لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا سبي ، وكان في دينهم أن الولد إذا صار بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين .

(2/246)


الصفحة السابقة   //   الصفحة التالية