صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)

الصفحة السابقة   //   الصفحة التالية
 

الكتاب : جامع البيان في تأويل القرآن
المؤلف : محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري،
[ 224 - 310 هـ ]
المحقق : أحمد محمد شاكر
الناشر : مؤسسة الرسالة
الطبعة : الأولى ، 1420 هـ - 2000 م
عدد الأجزاء : 24
مصدر الكتاب : موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف
www.qurancomplex.com
[ ترقيم الكتاب موافق للمطبوع ، والصفحات مذيلة بحواشي أحمد ومحمود شاكر ]

قوله:( لتنزيل رب العالمين ) قال: هذا القرآن.
واختلف القراء في قراءة قوله( نزل به الروح الأمين ) فقرأته عامة قراء الحجاز والبصرة( نزل ) به مخففة( الروح الأمين ) رفعا بمعنى: أن الروح الأمين هو الذي نزل بالقرآن على محمد، وهو جبريل. وقرأ ذلك عامة قراء أهل الكوفة.( نزل ) مشددة الزاي( الروح الأمين ) نصبا، بمعنى: أن رب العالمين نزل بالقرآن الروح الأمين، وهو جبريل عليه السلام.
والصواب من القول فى ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضتان فى قراء الأمصار، متقاربتا المعنى، فأيتهما قرأ القارئ فمصيب، وذلك أن الروح الأمين إذا نزل على محمد بالقرآن، لم ينزل به إلا بأمر الله إياه بالنزول، ولن يجهل أن ذلك كذلك ذو إيمان بالله، وأن الله إذا أنزله به نزل.
وبنحو الذي قلنا في أن المعني بالروح الأمين في هذا الموضع جبريل قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبى، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس. في قوله:( نزل به الروح الأمين ) قال: جبريل.
حدثنا الحسين، قال أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قول الله:( نزل به الروح الأمين ) قال: جبريل.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج قال:( الروح الأمين ) جبريل.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( الروح الأمين ) قال: جبريل.
وقوله( على قلبك ) يقول: نزل به الروح الأمين فتلاه عليك يا محمد، حتى وعيته بقلبك. وقوله:( لتكون من المنذرين ) يقول: لتكون من رسل الله الذين كانوا ينذرون من أرسلوا إليه من قومهم، فتنذر بهذا التنزيل قومك المكذبين بآيات الله. وقوله:( بلسان عربي مبين ) يقول: لتنذر قومك بلسان عربي مبين، يبين لمن سمعه أنه عربي، وبلسان العرب نزل، والباء من قوله( بلسان ) من صلة قوله:( نزل )، وإنما ذكر

(19/396)


وإنه لفي زبر الأولين (196) أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل (197) ولو نزلناه على بعض الأعجمين (198) فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين (199) كذلك سلكناه في قلوب المجرمين (200) لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم (201)

تعالى ذكره أنه نزل هذا القرآن بلسان عربي مبين في هذا الموضع، إعلاما منه مشركي قريش أنه أنزله كذلك، لئلا يقولوا إنه نزل بغير لساننا، فنحن إنما نعرض عنه ولا نسمعه، لأنا لا نفهمه، وإنما هذا تقريع لهم، وذلك أنه تعالى ذكره قال:( وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين ) . ثم قال: لم يعرضوا عنه لأنهم لا يفهمون معانيه، بل يفهمونها، لأنه تنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين بلسانهم العربي، ولكنهم أعرضوا عنه تكذيبا به واستكبارا( فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ) . كما أتى هذه الأمم التي قصصنا نبأها في هذه السورة حين كذبت رسلها أنباء ما كانوا به يكذبون.
القول في تأويل قوله تعالى : { وإنه لفي زبر الأولين (196) أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل (197) ولو نزلناه على بعض الأعجمين (198) فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين (199) كذلك سلكناه في قلوب المجرمين (200) لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم (201) }
يقول تعالى ذكره: وإن هذا القرآن لفي زبر الأولين: يعني في كتب الأولين، وخرج مخرج العموم ومعناه الخصوص، وإنما هو: وإن هذا القرآن لفي بعض زبر الأولين; يعني: أن ذكره وخبره في بعض ما نزل من الكتب على بعض رسله. وقوله:( أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ) يقول تعالى ذكره: أولم يكن لهؤلاء المعرضين عما يأتيك يا محمد من ذكر ربك، دلالة على أنك رسول رب العالمين، أن يعلم حقيقة ذلك وصحته علماء بني إسرائيل. وقيل: عني بعلماء بني إسرائيل في هذا الموضع: عبد الله بن سلام ومن أشبهه ممن كان قد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل في عصره.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:( أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ) قال: كان عبد الله بن سلام من علماء بنى إسرائيل، وكان من خيارهم، فآمن بكتاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لهم الله: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني

(19/397)


إسرائيل وخيارهم.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:( علماء بني إسرائيل ) قال: عبد الله بن سلام وغيره من علمائهم.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج:( أولم يكن لهم آية ) قال محمد:( أن يعلمه ) قال: يعرفه.( علماء بني إسرائيل ). قال ابن جريج، قال مجاهد: علماء بني إسرائيل: عبد الله بن سلام، وغيره من علمائهم.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:( أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ) قال: أولم يكن للنبي آية، علامة أن علماء بني إسرائيل كانوا يعلمون أنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم؟. وقوله:( ولو نزلناه على بعض الأعجمين ) يقول تعالى ذكره: ولو نزلنا هذا القرآن على بعض البهائم التي لا تنطق، وإنما قيل على بعض الأعجمين، ولم يقل على بعض الأعجميين، لأن العرب تقول إذا نعتت الرجل بالعجمة وأنه لا يفصح بالعربية: هذا رجل أعجم، وللمرأة: هذه امرأة عجماء، وللجماعة: هؤلاء قوم عجم وأعجمون، وإذا أريد هذا المعنى وصف به العربي والأعجمي، لأنه إنما يعني أنه غير فصيح اللسان، وقد يكون كذلك، وهو من العرب ومن هذا المعنى قول الشاعر:
من وائل لا حي يعدلهم... من سوقة عرب ولا عجم (1)
فأما إذا أريد به نسبة الرجل إلى أصله من العجم، لا وصفه بأنه غير فصيح اللسان،
__________
(1) السوقة: الرعية التي تسوسها الملوك. يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث والمذكر. والعجم بضم العين: جمع أعجم. قال أبو عبيدة في مجاز القرآن (مصورة الجامعة الورقة 175): يقال: رجل أعجم: إذا كان في لسانه عجمة، ورجل عجمي: أي من العجم. والدواب: عجم، لأنها لا تتكلم. وفي (اللسان: عجم) قال أبو إسحاق: الأعجم: الذي لا يفصح ولا يبين كلامه، وإن كان عربي النسب، كزياد الأعجم. والأنثى: عجماء، وكذلك الأعجمي. فأما العجمي فالذي من جنس العجم: أفصح أو لم يفصح، والجمع: عجم (بالتحريك) كعربي وعرب. ورجل أعجمي وأعجم: إذا كانت في لسانه عجمة، وإن أفصح بالعجمية وكلام أعجم وأعجمي: بين العجمة. وفي لتنزيل: (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي). وجمعه بالواو والنون، تقول: أحمري وأحمرون، وأعجمي وأعجمون، على حد أشعثي وأشعثين وأشعري وأشعرين وعليه قوله عز وجل: (ولو نزلناه على بعض الأعجمين)

(19/398)


فإنه يقال: هذا رجل عجمي، وهذان رجلان عجميان، وهؤلاء قوم عجم، كما يقال: عربي، وعربيان، وقوم عرب. وإذا قيل: هذا رجل أعجمي، فإنما نسب إلى نفسه كما يقال للأحمر: هذا أحمري ضخم، وكما قال العجاج:
والدهر بالإنسان دواري (1)
ومعناه: دوار، فنسبه إلى فعل نفسه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن المثنى، قال: ثنا عبد الأعلى، قال: ثنا داود، عن محمد بن أبي موسى، قال: كنت واقفا إلى جنب عبد الله بن مطيع بعرفة، فتلا هذه الآية:( ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين ) قال: لو نزل على بعيري هذا فتكلم به ما آمنوا به( لقالوا لولا فصلت آياته ) حتى يفقهه عربي وعجمي، لو فعلنا ذلك.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت داود بن أبي هند، عن محمد بن أبي موسى، قال: كان عبد الله بن مطيع واقفا بعرفة، فقرأ هذه الآية( ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين ) قال: فقال: جملي هذا أعجم، فلو أنزل على هذا ما كانوا به مؤمنين.
__________
(1) هذا بيت من مشطور الرجز للعجاج الراجز المشهور (اللسان: دور. وأراجيز العرب للسيد توفيق البكري 174) وهو من أرجوزة له حزينة، بدأها بقوله: بكيت والمحترن البكي ... وإنما يأتي الصبا الصبي
أطربا وأنت قنسري ... والدهر بالإنسان دواري
أفنى القرون وهو قعسري ... وبالدهاء يختل المدهي
يقول: بكيت ومن حزم كان بكاؤك. والقنسري: المسن القديم. ودواري: دائر، أي أنه يتصرف بالإنسان ويدور به أطوارا وأحوالا. والقعسري: الشديد، يريد الدهر. ومحل الشاهد في قوله: "دواري" قال في اللسان: أي دائر به، على إضافة الشيء إلى نفسه (أي نسبته إلى نفسه، لأن دواري منسوب إلى دوار، فلفظ المنسوب إليه كلفظ المنسوب). قال ابن سيده: هذا قول اللغويين قال الفارسي هو على لفظ النسب، وليس بنسب، ونظيره بختى وكرسي. وفي (اللسان: عجم) وينسب إلى الأعجم الذي في لسانه عجمة، فيقال: لسان أعجمي، وكتاب أعجمي، ولا يقال رجل أعجمي فتنسب إلى نفسه، إلا أن يكون أعجم وأعجمي بمعنى، مثل دوار ودواري، وجمل قعسر وقعسري؛ هذا إذا ورد وردا لا يمكن رده. ا ه.

(19/399)


وروي عن قتادة في ذلك ما حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:( ولو نزلناه على بعض الأعجمين ) قال: لو نزله الله أعجميا كانوا أخسر الناس به، لأنهم لا يعرفون بالعجمية.
وهذا الذي ذكرناه عن قتادة قول لا وجه له، لأنه وجه الكلام أن معناه: ولو أنزلناه أعجميا، وإنما التنزيل( ولو نزلناه على بعض الأعجمين ) يعني: ولو نزلنا هذا القرآن العربي علي بهيمة من العجم أو بعض ما لا يفصح، ولم يقل: ولو نزلناه أعجميا. فيكون تأويل الكلام ما قاله.
وقوله( فقرأه عليهم ) يقول: فقرأ هذا القرآن على كفار قومك يا محمد الذين حتمت عليهم أن لا يؤمنوا ذلك الأعجم ما كانوا به مؤمنين. يقول: لم يكونوا ليؤمنوا به، لما قد جرى لهم في سابق علمي من الشقاء، وهذا تسلية من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عن قومه، لئلا يشتد وجده بإدبارهم عنه، وإعراضهم عن الاستماع لهذا القرآن، لأنه كان صلى الله عليه وسلم شديدا حرصه على قبولهم منه، والدخول فيما دعاهم إليه، حتى عاتبه ربه على شدة حرصه على ذلك منهم، فقال له:( لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين ) ثم قال مؤيسه من إيمانهم وأنهم هالكون ببعض مثلاته، كما هلك بعض الأمم الذين قص عليهم قصصهم في هذه السورة. ولو نزلناه على بعض الأعجمين يا محمد لا عليك، فإنك رجل منهم، ويقولون لك: ما أنت إلا بشر مثلنا، وهلا نزل به ملك، فقرأ ذلك الأعجم عليهم هذا القرآن، ولم يكن لهم علة يدفعون بها أنه حق، وأنه تنزيل من عندي، ما كانوا به مصدقين، فخفض من حرصك على إيمانهم به، ثم وكد تعالى ذكره الخبر عما قد حتم على هؤلاء المشركين، الذين آيس نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من إيمانهم من الشقاء والبلاء، فقال: كما حتمنا على هؤلاء أنهم لا يؤمنون بهذا القرآن( ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم كذلك سلكناه ) التكذيب والكفر( في قلوب المجرمين ). ويعني بقوله: سلكنا: أدخلنا، والهاء في قوله( سلكناه ) كناية من ذكر قوله( ما كانوا به مؤمنين )، كأنه قال: كذلك أدخلنا في قلوب المجرمين ترك الإيمان بهذا القرآن.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.

(19/400)


* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله:( كذلك سلكناه ) قال: الكفر( في قلوب المجرمين ).
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( كذلك سلكناه في قلوب المجرمين . لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ). (1)
حدثني علي بن سهل، قال: ثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن سفيان، عن حميد، عن الحسن، في هذه الآية:( كذلك سلكناه في قلوب المجرمين ) قال: خلقناه.
قال: ثنا زيد، عن حماد بن سلمة، عن حميد، قال: سألت الحسن في بيت أبي خليفة، عن قوله( كذلك سلكناه في قلوب المجرمين ) قال: الشرك سلكه في قلوبهم. وقوله:( لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم ) يقول: فعلنا ذلك؛ بهم لئلا يصدقوا بهذا القرآن، حتى يروا العذاب الأليم في عاجل الدنيا، كما رأت ذلك الأمم الذين قص الله قصصهم في هذه السورة. ورفع قوله( لا يؤمنون ) لأن العرب من شأنها إذا وضعت في موضع مثل هذا الموضع "لا"ربما جزمت ما بعدها، وربما رفعت فتقول: ربطت الفرس لا تنفلت، وأحكمت العقد لا ينحل، جزما ورفعا. وإنما تفعل ذلك لأن تأويل ذلك: إن لم أحكم العقد انحل، فجزمه على التأويل، ورفعه بأن الجازم غير ظاهر.
ومن الشاهد على الجزم في ذلك قول الشاعر:
لو كنت إذ جئتنا حاولت رؤيتنا... أو جئتنا ماشيا لا يعرف الفرس (2)
وقول الآخر:
__________
(1) سقط تفسير ابن زيد لما أراد من الآية، ولعله الكفر أو الشرك، أو نحوه، أو مثله.
(2) البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (مصورة الجامعة الورقة 230) قال: وقوله: (كذلك سلكناه) تقول: سلكنا التكذيب في قلوب المجرمين كيلا يؤمنوا به حتى يروا العذاب الأليم. وإذا كان موقع كى في مثل هذا "لا" و "إن" جميعا، صلح الجزم في "لا" والرفع. والعرب تقول: ربطت الفرس لا ينفلت: جزما ورفعا وأوثقت العبد لا يفر: جزما ورفعا؛ وإنما جزم، لأن تأويله: إن لم أربطه فر؛ فجزم على التأويل. أنشدني بعض بني عقيل: وحتى رأينا أحسن الفعل بيننا ... مساكتة لا يفرق الشر فارق
ينشد رفعا وجزما. وقال الآخر: "لو كنت إذ جئتنا.." البيت: رفعا وجزما، وقوله: "لطالما حلأتماها.." الشاهد الآتي بعد من ذلك.

(19/401)


فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون (202) فيقولوا هل نحن منظرون (203) أفبعذابنا يستعجلون (204) أفرأيت إن متعناهم سنين (205) ثم جاءهم ما كانوا يوعدون (206)

لطالما حلأتماها لا ترد... فخلياها والسجال تبترد (1)
القول في تأويل قوله تعالى : { فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون (202) فيقولوا هل نحن منظرون (203) أفبعذابنا يستعجلون (204) }
يقول تعالى ذكره: فيأتي هؤلاء المكذبين بهذا القرآن، العذاب الأليم بغتة، يعني فجأة( وهم لا يشعرون ) يقول: لا يعلمون قبل ذلك بمجيئه حتى يفجأهم بغتة.( فيقولوا ) حين يأتيهم بغتة( هل نحن منظرون ) : أي هل نحن مؤخر عنا العذاب، ومنسأ في آجالنا لنئوب، وننيب إلى الله من شركنا وكفرنا بالله، فنراجع الإيمان به، وننيب إلى طاعته؟. وقوله:( أفبعذابنا يستعجلون ) يقول تعالى ذكره: أفبعذابنا هؤلاء المشركون يستعجلون بقولهم: لن نؤمن لك حتى( تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ) .
القول في تأويل قوله تعالى : { أفرأيت إن متعناهم سنين (205) ثم جاءهم ما كانوا يوعدون (206) }
__________
(1) البيت في (اللسان: حلأ). وروايته: قد طالما.. إلخ، قال: حلأ الإبل والماشية عن الماء تحليئا وتحلئة: طردها أو حبسها عن الورود، ومنعها أن ترده. وكذلك حلأ القوم عن الماء. وقال ابن الأعرابي: قالت قريبة: كان رجل عاشق لمرأة فتزوجها، فجاءها النساء، فقال بعضهن لبعض * قد طالما حلأتماها لا ترد *
البيت. والسجال: جمع سجل وهو الدلو الضخمة المملوءة ماء (اللسان) والبيت شاهد كالذي قبله، على أن "لا ترد" يجوز فيه الرفع والجزم على التأويل الذي ذكره الفراء.

(19/402)


ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون (207)

القول في تأويل قوله تعالى : { ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون (207) }
يقول تعالى ذكره: ثم جاءهم العذاب الذي كانوا يوعدون على كفرهم بآياتنا، وتكذيبهم رسولنا.( ما أغنى عنهم ) يقول: أي شيء أغنى عنهم التأخير الذي أخرنا في آجالهم، والمتاع الذي متعناهم به من الحياة، إذ لم يتوبوا من شركهم، هل زادهم تمتيعنا إياهم ذلك إلا خبالا؟، وهل نفعهم شيئا؟، بل ضرهم بازديادهم من الآثام، واكتسابهم من الإجرام ما لو لم يمتعوا لم يكتسبوه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( أفرأيت إن متعناهم سنين ) إلى قوله( ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ) قال: هؤلاء أهل الكفر.

(19/402)


وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون (208) ذكرى وما كنا ظالمين (209) وما تنزلت به الشياطين (210) وما ينبغي لهم وما يستطيعون (211) إنهم عن السمع لمعزولون (212)

القول في تأويل قوله تعالى : { وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون (208) ذكرى وما كنا ظالمين (209) وما تنزلت به الشياطين (210) وما ينبغي لهم وما يستطيعون (211) إنهم عن السمع لمعزولون (212) }
يقول تعالى ذكره:( وما أهلكنا من قرية ) من هذه القرى التي وصفت في هذه السور( إلا لها منذرون ) يقول: إلا بعد إرسالنا إليهم رسلا ينذرونهم بأسنا على كفرهم وسخطنا عليهم.( ذكرى ) يقول: إلا لها منذرون ينذرونهم، تذكرة لهم وتنبيها لهم على ما فيه النجاة لهم من عذابنا. ففي الذكرى وجهان من الإعراب: أحدهما النصب على المصدر من الإنذار على ما بينت، والآخر: الرفع على الابتداء (1) كأنه قيل: ذكرى.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:( وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون . ذكرى ) قال: الرسل. قال ابن جريج: و قوله:( ذكرى ) قال: الرسل.
قوله:( وما كنا ظالمين ) يقول: وما كنا ظالميهم في تعذيبناهم وإهلاكهم، لأنا إنما أهلكناهم، إذ عتوا علينا، وكفروا نعمتنا، وعبدوا غيرنا بعد الإعذار عليهم والإنذار، ومتابعة الحجج عليهم بأن ذلك لا ينبغي أن يفعلوه، فأبوا إلا التمادي في الغي.
وقوله:( وما تنزلت به الشياطين ) يقول تعالى ذكره: وما تنزلت بهذا القرآن الشياطين على محمد، ولكنه ينزل به الروح الأمين.( وما ينبغي لهم ) يقول: وما ينبغي للشياطين أن ينزلوا به عليه، ولا يصلح لهم ذلك.( وما يستطيعون ) يقول: وما يستطيعون أن يتنزلوا به، لأنهم لا يصلون إلى استماعه في المكان الذي هو به من السماء.( إنهم عن السمع لمعزولون ) يقول: إن الشياطين عن سمع القران من المكان
__________
(1) يجوز أن يكون قوله تعالى (ذكرى) مرفوعا على الابتداء والخبر محذوف، أي ذكرى لهم. ويجوز أن يكون مرفوعا على أنه خبر عن مبتدأ، تقديره: "هم" أي المنذرون، ذكرى لهم.

(19/403)


فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين (213) وأنذر عشيرتك الأقربين (214) واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين (215)

الذي هو به من السماء لمعزولون، فكيف يستطيعون أن يتنزلوا به.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:( وما تنزلت به الشياطين ) قال: هذا القرآن. وفي قوله( إنهم عن السمع لمعزولون ) قال: عن سمع السماء.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة، بنحوه، إلا أنه قال: عن سمع القرآن.
والقراء مجمعة على قراءة( وما تنزلت به الشياطين ) بالتاء ورفع النون، لأنها نون أصلية، واحدهم شيطان، كما واحد البساتين بستان. وذكر عن الحسن أنه كان يقرأ ذلك: "وما تنزلت به الشياطون"بالواو، وذلك لحن، وينبغي أن يكون ذلك إن كان صحيحا عنه، أن يكون توهم أن ذلك نظير المسلمين والمؤمنين، وذلك بعيد من هذا.
القول في تأويل قوله تعالى : { فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين (213) وأنذر عشيرتك الأقربين (214) واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين (215) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:( فلا تدع ) يا محمد( مع الله إلها آخر ) أي لا تعبد معه معبودا غيره( فتكون من المعذبين ) فينزل بك من العذاب ما نزل بهؤلاء الذين خالفوا أمرنا وعبدوا غيرنا. وقوله:( وأنذر عشيرتك الأقربين ) يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وأنذر عشيرتك من قومك الأقربين إليك قرابة، وحذرهم من عذابنا أن ينزل بهم بكفرهم.
وذكر أن هذه الآية لما نزلت، بدأ ببني جده عبد المطلب وولده، فحذرهم وأنذرهم.

(19/404)


*ذكر الرواية بذلك:
حدثني أحمد بن المقدام، قال: ثنا محمد بن عبد الرحمن، قال: ثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما نزلت هذه الآية:( وأنذر عشيرتك الأقربين ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا صفية بنت عبد المطلب، يا فاطمة بنت محمد يا بني عبد المطلب إني لا أملك لكم من الله شيئا، سلوني من مالي ما شئتم".
حدثنا ابن وكيع، قال: ثني أبي ويونس بن بكير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، قال: ثنا عنبسة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: لما نزلت( وأنذر عشيرتك الأقربين ) قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا فاطمة بنت محمد، ويا صفية ابنة عبد المطلب"ثم ذكر نحو حديث ابن المقدام.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: ثنا سلامة، قال: قال عقيل: ثني الزهري، قال: قال سعيد بن المسيب، وأبو سلمة بن عبد الرحمن: إن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه( وأنذر عشيرتك الأقربين ): "يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، سليني ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا".
حدثني محمد بن عبد الملك، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب عن الزهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه:( وأنذر عشيرتك الأقربين ) قال: "يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله"ثم ذكر نحو حديث يونس، عن سلامة; غير أنه زاد فيه "يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا"ولم يذكر في حديثه فاطمة.
حدثني يونس، قال: ثنا سلامة بن روح، قال: قال عقيل: ثني ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه( وأنذر عشيرتك الأقربين ) جمع قريشا،

(19/405)


ثم أتاهم، فقال لهم: "هل فيكم غريب؟ "فقالوا: لا إلا ابن أخت لنا لا نراه إلا منا، قال: "إنه منكم"، فوعظهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لهم في آخر كلامه: "لا أعرفن ما ورد علي الناس يوم القيامة يسوقون الآخرة، وجئتم إلي تسوقون الدنيا".
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أخبرني سعيد بن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه( وأنذر عشيرتك الأقربين ) : "يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت لا أغني عنك من الله شيئا".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، قال: سمعت الحجاج يحدث، عن عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لما أنزل الله:( وأنذر عشيرتك الأقربين ) قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، ألا إن لكم رحما سأبلها ببلالها".
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو أسامة، عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة، قال: لما نزلت هذه الآية:( وأنذر عشيرتك الأقربين ) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا، فعم وخص، فقال: "يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله، يا معشر بني كعب بن لؤي، يا معشر بني عبد مناف، يا معشر بني هاشم، يا معشر بني عبد المطلب"، يقول لكلهم: "أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني والله ما أملك لكم من الله شيئا، ألا إن لكم رحما سأبلها ببلالها".
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر، عن أبيه، قال: ثنا أبو عثمان، عن زهير بن عمرو وقبيصة بن مخارق: أنهما قالا أنزل الله على نبي الله صلى الله عليه وسلم:( وأنذر عشيرتك الأقربين )، فحدثنا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه علا صخرة من

(19/406)


جبل، فعلا أعلاها حجرا، ثم قال: "يا آل عبد منافاه، يا صباحاه، إني نذير، إن مثلي ومثلكم مثل رجل أتى الجيش، فخشيهم على أهله، فذهب يربؤهم (1) فخشي أن يسبقوه إلى أهله، فجعل يهتف بهم: يا صباحاه"! أو كما قال.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب ومحمد بن جعفر، عن عوف، عن قسامة بن زهير، قال: بلغني أنه لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم( وأنذر عشيرتك الأقربين ) جاء فوضع أصبعه في أذنه، ورفع من صوته، وقال: "يا بني عبد مناف واصباحاه"!
قال: ثني أبو عاصم، قال: ثنا عوف، عن قسامة بن زهير، قال: أظنه عن الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
حدثني عبد الله بن أبي زياد، قال: ثنا أبو زيد الأنصاري سعد بن أوس، عن عوف، قال: قال قسامة بن زهير، حدثني الأشعري، قال: لما نزلت، ثم ذكر نحوه; إلا أنه قال: وضع أصبعيه في أذنيه.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن نمير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية( وأنذر عشيرتك الأقربين ) قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا، ثم نادى: "يا صباحاه"، فاجتمع الناس إليه، فبين رجل يجيء، وبين آخر يبعث رسوله، فقال: "يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني يا بني، أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟ "قالوا: نعم، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"فقال أبو لهب: تبا لكم سائر اليوم، ما دعوتموني إلا لهذا؟ فنزلت:( تبت يدا أبي لهب وتب ) .
حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم الصفا، فقال: "يا صباحاه!"فاجتمعت إليه قريش، فقالوا له:
__________
(1) يقال ربأ القوم يربؤهم، وربأ لهم إذا وقف على مكان عال، ونظر بعيدا، يرقب عدوا أو جيشا مغيرا، أو نحو ذلك

(19/407)


مالك؟ فقال: "أرأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ألا كنتم تصدقونني؟ "قالوا: بلى، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". قال أبو لهب: تبا لك، ألهذا دعوتنا أو جمعتنا!، فأنزل الله:( تبت يدا أبي لهب )... إلى آخر السورة.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية:( وأنذر عشيرتك الأقربين ) ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف: "يا صباحاه!" فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ فقالوا: محمد، فاجتمعوا إليه، فقال: "يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف"، فاجتمعوا إليه، فقال: " أرأيتكم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ "قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، فقال أبو لهب: تبا لك، ما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام فنزلت هذه السورة:( تبت يدا أبي لهب ) و قد تب، كذا قرأ الأعمش، إلى آخر السورة.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا أبو معاوية بن هشام، عن سفيان، عن حبيب، عن سعيد، عن ابن عباس، قال: لما نزلت( وأنذر عشيرتك الأقربين ) خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام على الصفا، فقال: "يا صباحاه"!
قال ثنا خالد بن عمرو، قال: ثنا سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لما نزلت( وأنذر عشيرتك الأقربين )، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصفا، فقال: "يا صباحاه !"فجعل يعددهم: "يا بني فلان، ويا بني فلان، ويا بني عبد مناف".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن عمرو بن مرة الجملي، قال: لما نزلت:( وأنذر عشيرتك الأقربين ) قال: أتى جبلا فجعل يهتف: "يا صباحاه"، فأتاه من خف من الناس، وأرسل إليه المتثاقلون من الناس رسلا فجعلوا يجيئون يتبعون الصوت ; فلما انتهوا إليه قال: "إن منكم من جاء لينظر، ومنكم من أرسل لينظر من الهاتف"، فلما اجتمعوا وكثروا قال: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا مصبحتكم من هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟ "قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبا، فقرأ عليهم هذه

(19/408)


الآيات التي أنزلن، وأنذرهم كما أمر، فجعل ينادي: "يا قريش، يا بني هاشم"حتى قال: "يا بني عبد المطلب، إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عمرو: أنه كان يقرأ:( وأنذر عشيرتك الأقربين ) ورهطك المخلصين.
قال: ثنا سلمة، قال: ثني محمد بن إسحاق، عن عبد الغفار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، عن عبد الله بن عباس، عن علي بن أبي طالب: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم( وأنذر عشيرتك الأقربين ) دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: "يا علي، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين"، قال: "فضقت بذلك ذرعا، وعرفت أنى متى ما أنادهم بهذا الأمر أر منهم ما أكره، فصمت حتى جاء جبرائيل، فقال: يا محمد، إنك إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك. فاصنع لنا صاعا من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عسا من لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب، حتى أكلمهم، وأبلغهم ما أمرت به"، ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم له، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه، فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب; فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم، فجئت به. فلما وضعته تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم حذية من اللحم (1) فشقها بأسنانه، ثم ألقاها في نواحي الصحفة، قال: "خذوا باسم الله"، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء حاجة، وما أرى إلا مواضع أيديهم; وايم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد ليأكل ما قدمت لجميعهم، ثم قال: "اسق الناس"، فجئتهم بذلك العس، فشربوا حتى رووا منه جميعا، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله; فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم، بدره أبو لهب إلى الكلام، فقال: لهد (2) ما سحركم به صاحبكم، فتفرق القوم ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "الغد يا علي، إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما
__________
(1) في (اللسان: حذا): أعطيته حذية من لحم، وحذة وفلذة، كل هذا إذا قطع طولا. ا ه. وقيل: هي القطعة الصغيرة.
(2) في (اللسان: هد) وفي الحديث "أن أبا لهب قال: لهد ما سحركم صاحبكم" قال لهد: كلمة يتعجب بها، يقال: لهد الرجل: أي ما أجلده. قلت: وهو كقولنا لشد ما قال فلان، أي ما أشد

(19/409)


قد سمعت من القول، فتفرق القوم قبل أن أكلمهم فأعد لنا من الطعام مثل الذي صنعت، ثم اجمعهم لي"، قال: ففعلت ثم جمعتهم، ثم دعاني بالطعام، فقربته لهم، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا حتى ما لهم بشيء حاجة، قال: "اسقهم"، فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا منه جميعا، ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا بني عبد المطلب، إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر، على أن يكون أخي"وكذا وكذا؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعا، وقلت وإني لأحدثهم سنا، وأرمصهم عينا، وأعظمهم بطنا، وأخمشهم ساقا. أنا يا نبي الله أكون وزيرك، فأخذ برقبتي، ثم قال: "إن هذا أخي"وكذا وكذا، "فاسمعوا له وأطيعوا"، قال: فقام القوم يضحكون، ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع!.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن بن أبي الحسن، قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم:( وأنذر عشيرتك الأقربين ) قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح، ثم قال: "يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا بني قصي"، قال: ثم فخذ قريشا قبيلة قبيلة، حتى مر على آخرهم،"إني أدعوكم إلى الله، وأنذركم عذابه".
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:( وأنذر عشيرتك الأقربين ) قال: أمر محمد أن ينذر قومه، ويبدأ بأهل بيته وفصيلته، قال:( وكذب به قومك وهو الحق ) .
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: ولما نزلت:( وأنذر عشيرتك الأقربين ) قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا فاطمة بنت محمد، يا صفيه بنت عبد المطلب، اتقوا النار ولو بشق تمرة".
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( وأنذر عشيرتك الأقربين ) بدأ بأهل بيته وفصيلته.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: لما نزلت:( وأنذر عشيرتك الأقربين ) جمع النبي صلى الله عليه وسلم بني هاشم، فقال: "يا

(19/410)


فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون (216) وتوكل على العزيز الرحيم (217) الذي يراك حين تقوم (218) وتقلبك في الساجدين (219) إنه هو السميع العليم (220)

بني هاشم، ألا لا ألفينكم تأتوني تحملون الدنيا، ويأتي الناس يحملون الآخرة، ألا إن أوليائي منكم المتقون، فاتقوا النار ولو بشق تمرة".
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: لما نزلت هذه الآية بدأ بأهل بيته وفصيلته; قال: وشق ذلك على المسلمين، فأنزل الله تعالى:( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ).
وقوله:( واخفض جناحك ) يقول: وألن جانبك وكلامك( لمن اتبعك من المؤمنين ) .
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ) قال: يقول: لن لهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون (216) وتوكل على العزيز الرحيم (217) الذي يراك حين تقوم (218) وتقلبك في الساجدين (219) إنه هو السميع العليم (220) }
يقول تعالى ذكره: فإن عصتك يا محمد عشيرتك الأقربون الذين أمرتك بإنذارهم، وأبوا إلا الإقامة على عبادة الأوثان، والإشراك بالرحمن، فقل لهم:( إني بريء مما تعملون ) من عبادة الأصنام ومعصية بارئ الأنام.( وتوكل على العزيز ) فى نقمته من أعدائه( الرحيم ) بمن أناب إليه وتاب من معاصيه.
( الذي يراك حين تقوم ) يقول: الذي يراك حين تقوم إلى صلاتك.
وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك ما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله:( الذي يراك حين تقوم ) قال: أينما كنت.
( وتقلبك في الساجدين ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: ويرى تقلبك في صلاتك حين تقوم، ثم تركع، وحين تسجد.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:( وتقلبك في الساجدين ) يقول: قيامك وركوعك وسجودك.

(19/411)


حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، قال: سمعت أبي وعلي بن بذيمة يحدثان عن عكرمة في قوله:( يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين ) قال: قيامه وركوعه وسجوده.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال عكرمة، في قوله:( وتقلبك في الساجدين ) قال: قائما وساجدا وراكعا وجالسا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ويرى تقلبك في المصلين، وإبصارك منهم من هو خلفك، كما تبصر من هو بين يديك منهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد :( وتقلبك في الساجدين ) كان يرى من خلفه، كما يرى من قدامه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال : ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:( وتقلبك في الساجدين ) قال: المصلين كان يرى من خلفه في الصلاة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله:( وتقلبك في الساجدين ) قال: المصلين، قال: كان يرى في الصلاة من خلفه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وتقلبك مع الساجدين: أي تصرفك معهم في الجلوس والقيام والقعود.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس، قال:( وتقلبك في الساجدين ) قال: يراك وأنت مع الساجدين تقلب وتقوم وتقعد معهم.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:( وتقلبك في الساجدين ) قال: في المصلين.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وتقلبك

(19/412)


هل أنبئكم على من تنزل الشياطين (221)

في الساجدين ) قال: في الساجدين: المصلين.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ويرى تصرفك في الناس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا ربيعة بن كلثوم، قال: سألت الحسن عن قوله:( وتقلبك في الساجدين ) قال: في الناس.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وتصرفك في أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك تفعله، والساجدون في قول قائل هذا القول: الأنبياء.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد، في قوله:( الذي يراك )... الآية، قال: كما كانت الأنبياء من قبلك.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بتأويله قول من قال تأويله: ويرى تقلبك مع الساجدين في صلاتهم معك، حين تقوم معهم وتركع وتسجد، لأن ذلك هو الظاهر من معناه. فأما قول من وجهه إلى أن معناه: وتقلبك في الناس، فإنه قول بعيد من المفهوم بظاهر التلاوة، وإن كان له وجه، لأنه وإن كان لا شيء إلا وظله يسجد لله، فإنه ليس المفهوم من قول القائل: فلان مع الساجدين، أو في الساجدين، أنه مع الناس أو فيهم، بل المفهوم بذلك أنه مع قوم سجود، السجود المعروف، وتوجيه معاني كلام الله إلى الأغلب أولى من توجيهه إلى الأنكر.
وكذلك أيضا في قول من قال: معناه: تتقلب في أبصار الساجدين، وإن كان له وجه، فليس ذلك الظاهر من معانيه.
فتأويل الكلام إذن: وتوكل على العزيز الرحيم، الذي يراك حين تقوم إلى صلاتك، ويرى تقلبك في المؤتمين بك فيها بين قيام وركوع وسجود وجلوس.
وقوله:( إنه هو السميع العليم ) يقول تعالى ذكره: إن ربك هو السميع تلاوتك يا محمد، وذكرك في صلاتك ما تتلو وتذكر، العليم بما تعمل فيها ويعمل فيها من يتقلب فيها معك مؤتما بك، يقول: فرتل فيها القرآن، وأقم حدودها، فإنك بمرأى من ربك ومسمع.
القول في تأويل قوله تعالى : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين

(19/413)


تنزل على كل أفاك أثيم (222) يلقون السمع وأكثرهم كاذبون (223)

(221) تنزل على كل أفاك أثيم (222) يلقون السمع وأكثرهم كاذبون (223) }
يقول تعالى ذكره:( هل أنبئكم أيها الناس على من تنزل الشياطين ) من الناس؟( تنزل على كل أفاك ) يعني كذاب بهات( أثيم ) يعني: آثم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:( كل أفاك أثيم ) قال: كل كذاب من الناس.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:( تنزل على كل أفاك أثيم ) قال: كذاب من الناس.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:( كل أفاك أثيم ) قال: هم الكهنة تسترق الجن السمع، ثم يأتون به إلى أوليائهم من الإنس.
حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن وهب، قال: كنت عند عبد الله بن الزبير، فقيل له: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه، فقال: صدق، ثم تلا( هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم ).
وقوله:( يلقون السمع ) يقول تعالى ذكره: يلقي الشياطين السمع، وهو ما يسمعون مما استرقوا سمعه من حين حدث من السماء، إلى( كل أفاك أثيم ) من أوليائهم من بني آدم.
وبنحو ما قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( يلقون السمع ) قال: الشياطين ما سمعته ألقته على كل أفاك كذاب.

(19/414)


والشعراء يتبعهم الغاوون (224) ألم تر أنهم في كل واد يهيمون (225) وأنهم يقولون ما لا يفعلون (226) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (227)

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:( يلقون السمع ) الشياطين ما سمعته ألقته( على كل أفاك ) قال: يلقون السمع، قال: القول.
وقوله:( وأكثرهم كاذبون ) يقول: وأكثر من تنزل عليه الشياطين كاذبون فيما يقولون ويخبرون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، في قوله:( وأكثرهم كاذبون ) عن عروة، عن عائشة قالت: الشياطين تسترق السمع، فتجيء بكلمة حق فيقذفها في أذن وليه; قال: ويزيد فيها أكثر من مائة كذبة.
القول في تأويل قوله تعالى : { والشعراء يتبعهم الغاوون (224) ألم تر أنهم في كل واد يهيمون (225) وأنهم يقولون ما لا يفعلون (226) إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (227) }
يقول تعالى ذكره: والشعراء يتبعهم أهل الغي لا أهل الرشاد والهدى.
واختلف أهل التأويل في الذين وصفوا بالغي في هذا الموضع فقال بعضهم: رواة الشعر.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني الحسن بن يزيد الطحان، قال: ثنا إسحاق بن منصور، قال: ثنا قيس، عن يعلى، عن عكرمة، عن ابن عباس; وحدثني أبو كريب، قال: ثنا طلق بن غنام، عن قيس; وحدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، عن قيس، عن يعلى بن النعمان، عن عكرمة، عن ابن عباس:( والشعراء يتبعهم الغاوون ) قال: الرواة.
وقال آخرون: هم الشياطين.

(19/415)


* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( والشعراء يتبعهم الغاوون ) : الشياطين.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:( يتبعهم الغاوون ) قال: يتبعهم الشياطين.
حدثنا محمد بن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن، قالا ثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن عكرمة، في قوله:( والشعراء يتبعهم الغاوون ) قال: عصاة الجن.
وقال آخرون: هم السفهاء، وقالوا: نزل ذلك في رجلين تهاجيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:( والشعراء يتبعهم الغاوون )... إلى آخر الآية، قال: كان رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحدهما من الأنصار، والآخر من قوم آخرين، وأنهما تهاجيا، وكان مع كل واحد منهما غواة من قومه، وهم السفهاء، فقال الله:( والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ).
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( والشعراء يتبعهم الغاوون ) قال: كان رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحدهما من الأنصار، والآخر من قوم آخرين، تهاجيا، مع كل واحد منهما غواة من قومه، وهم السفهاء.
وقال آخرون: هم ضلال الجن والإنس.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:

(19/416)


( والشعراء يتبعهم الغاوون ) قال: هم الكفار يتبعهم ضلال الجن والإنس.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله:( والشعراء يتبعهم الغاوون ) قال: الغاوون المشركون.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال فيه ما قال الله جل ثناؤه: إن شعراء المشركين يتبعهم غواة الناس، ومردة الشياطين، وعصاة الجن، وذلك أن الله عم بقوله:( والشعراء يتبعهم الغاوون ) فلم يخصص بذلك بعض الغواة دون بعض، فذلك على جميع أصناف الغواة التي دخلت في عموم الآية. قوله:( ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ) يقول تعالى ذكره: ألم تر يا محمد أنهم، - يعني الشعراء - في كل واد يذهبون، كالهائم على وجهه على غير قصد، بل جائرا على الحق، وطريق، الرشاد، وقصد السبيل.
وإنما هذا مثل ضربه الله لهم في افتنانهم في الوجوه التي يفتنون فيها بغير حق، فيمدحون بالباطل قوما ويهجون آخرين كذلك بالكذب والزور.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:( ألم تر أنهم في كل واد يهيمون ) يقول: في كل لغو يخوضون.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:( في كل واد يهيمون ) قال: في كل فن يفتنون.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله:( ألم تر أنهم في كل واد ) قال: فن( يهيمون ) قال: يقولون.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:( في كل واد يهيمون ) قال: يمدحون قوما بباطل، ويشتمون قوما بباطل.
وقوله:( وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) يقول: وأن أكثر قيلهم باطل وكذب.
كما حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:( وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) يقول: أكثر قولهم يكذبون.
وعني بذلك شعراء المشركين.

(19/417)


كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال عبد الرحمن بن زيد: قال رجل لأبي: يا أبا أسامة، أرأيت قول الله جل ثناؤه:( والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) فقال له أبي: إنما هذا لشعراء المشركين، وليس شعراء المؤمنين، ألا ترى أنه يقول:( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات )... إلخ. فقال: فرجت عني يا أبا أسامة; فرج الله عنك.
وقوله:( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) وهذا استثناء من قوله( والشعراء يتبعهم الغاوون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ). وذكر أن هذا الاستثناء نزل في شعراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ثم هو لكل من كان بالصفة التي وصفه الله بها.
وبالذي قلنا في ذلك جاءت الأخبار.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة وعلي بن مجاهد، وإبراهيم بن المختار، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي الحسن سالم البراد مولى تميم الداري، قال: لما نزلت:( والشعراء يتبعهم الغاوون ) قال: جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يبكون، فقالوا: قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم:( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ).
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثنا محمد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار، قال: نزلت( والشعراء يتبعهم الغاوون ) إلى آخر السورة في حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك.
قال: ثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة وطاوس، قالا قال:( والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون )، فنسخ من ذلك واستثنى، قال:( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات )... الآية.
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس،

(19/418)


قال: ثم استثنى المؤمنين منهم، يعني الشعراء، فقال:( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ).
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، فذكر مثله.
حدثنا الحسن قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا ) قال: هم الأنصار الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي حسن البراد، قال: لما نزلت:( والشعراء يتبعهم الغاوون ) ثم ذكر نحو حديث ابن حميد عن سلمة.
وقوله:( وذكروا الله كثيرا ) اختلف أهل التأويل في حال الذكر الذي وصف الله به هؤلاء المستثنين من الشعراء، فقال بعضهم: هي حال منطقهم ومحاورتهم الناس، قالوا: معنى الكلام: وذكروا الله كثيرا في كلامهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا ) في كلامهم.
وقال آخرون: بل ذلك في شعرهم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وذكروا الله كثيرا ) قال: ذكروا الله في شعرهم.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله وصف هؤلاء الذين استثناهم من شعراء المؤمنين بذكر الله كثيرا، ولم يخص ذكرهم الله على حال دون حال في كتابه، ولا على لسان رسوله، فصفتهم أنهم يذكرون الله كثيرا في كل أحوالهم.
وقوله:( وانتصروا من بعد ما ظلموا ) يقول: وانتصروا ممن هجاهم من شعراء المشركين ظلما بشعرهم وهجائهم إياهم، وإجابتهم عما هجوهم به.

(19/419)


وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:( وانتصروا من بعد ما ظلموا ) قال: يردون على الكفار الذين كانوا يهجون المؤمنين.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وانتصروا من المشركين من بعد ما ظلموا ).
وقيل: عني بذلك كله الرهط الذين ذكرت.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا علي بن مجاهد وإبراهيم بن المختار، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي الحسن سالم البراد مولى تميم الداري، قال: لما نزلت:( والشعراء يتبعهم الغاوون ) جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهم يبكون، فقالوا: قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم:( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا ).
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي حسن البراد، قال: لما نزلت( والشعراء يتبعهم الغاوون ) ثم ذكر نحوه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( وانتصروا من بعد ما ظلموا ) قال: عبد الله بن رواحة وأصحابه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:( وانتصروا من بعد ما ظلموا ) قال: عبد الله بن رواحة.
وقوله:( وسيعلم الذين ظلموا ) يقول تعالى ذكره: وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم بشركهم بالله من أهل مكة( أي منقلب ينقلبون ) يقول: أي مرجع يرجعون إليه، وأي معاد يعودون إليه بعد مماتهم، فإنهم يصيرون إلى نار لا يطفأ سعيرها، ولا يسكن لهبها.

(19/420)


وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، وعلي بن مجاهد، وإبراهيم بن المختار، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي الحسن سالم البراد مولى تميم الداري:( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) يعني: أهل مكة.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) قال: وسيعلم الذين ظلموا من المشركين أي منقلب ينقلبون.
آخر تفسير سورة الشعراء

(19/421)


طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين (1) هدى وبشرى للمؤمنين (2) الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون (3)

تفسير سورة النمل
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى : { طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين (1) هدى وبشرى للمؤمنين (2) الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون (3) }
قال أبو جعفر: وقد بينا القول فيما مضى من كتابنا هذا فيما كان من حروف المعجم في فواتح السور، فقوله:(طس) من ذلك. وقد روي عن ابن عباس أن قوله:(طس) قسم أقسمه الله هو من أسماء الله.
حدثني علي بن داود، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: قوله:(طس) قسم أقسمه الله هو من أسماء الله.
فالواجب على هذا القول أن يكون معناه: والسميع اللطيف، إن هذه الآيات التي أنزلتها إليك يا محمد لآيات القرآن، وآيات كتاب مبين: يقول: يبين لمن تدبره، وفكر فيه بفهم أنه من عند الله، أنزله إليك، لم تتخرصه أنت ولم تتقوله، ولا أحد سواك من خلق الله، لأنه لا يقدر أحد من الخلق أن يأتي بمثله، ولو تظاهر عليه الجن والإنس. وخفض قوله :( وكتاب مبين ) عطفا به على القرآن. وقوله:(هدى) من صفة القرآن.
يقول: هذه آيات القرآن بيان من الله بين به طريق الحق وسبيل السلام.( وبشرى للمؤمنين ) يقول: وبشارة لمن آمن به، وصدق بما أنزل فيه بالفوز العظيم في المعاد.
وفي قوله:(هدى وبشرى ) وجهان من العربية: الرفع على الابتداء بمعنى: هو هدى وبشرى. والنصب على القطع من آيات القرآن، فيكون معناه: تلك آيات القرآن الهدى والبشرى للمؤمنين، ثم أسقطت الألف واللام من الهدى والبشرى، فصارا نكرة، وهما صفة للمعرفة فنصبا.
وقوله:(الذين يقيمون الصلاة ) يقول: هو هدى وبشرى لمن آمن بها، وأقام الصلاة المفروضة بحدودها. وقوله :(ويؤتون الزكاة ) يقول: ويؤدون الزكاة

(19/422)


إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون (4) أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون (5) وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم (6) إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون (7) فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين (8)

المفروضة. وقيل: معناه: ويطهرون أجسادهم من دنس المعاصي.
وقد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.(وهم بالآخرة هم يوقنون )يقول: وهم مع إقامتهم الصلاة، وإيتائهم الزكاة الواجبة، بالمعاد إلى الله بعد الممات يوقنون، فيذلون في طاعة الله، رجاء جزيل ثوابه، وخوف عظيم عقابه، وليسوا كالذين يكذبون بالبعث، ولا يبالون، أحسنوا أم أساءوا، وأطاعوا أم عصوا، لأنهم إن أحسنوا لم يرجوا ثوابا، وإن أساءوا لم يخافوا عقابا.
القول في تأويل قوله تعالى : { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون (4) أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون (5) }
يقول تعالى ذكره: إن الذين لا يصدقون بالدار الآخرة، وقيام الساعة، وبالمعاد إلى الله بعد الممات والثواب والعقاب.(زينا لهم أعمالهم )
يقول: حببنا إليهم قبيح أعمالهم، وسهلنا ذلك عليهم.(فهم يعمهون ) يقول: فهم في ضلال أعمالهم القبيحة التي زيناها لهم يترددون حيارى يحسبون أنهم يحسنون.
وقوله:(أولئك الذين لهم سوء العذاب ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين لا يؤمنون بالآخرة لهم سوء العذاب في الدنيا، وهم الذين قتلوا ببدر من مشركي قريش.
يقول: وهم يوم القيامة هم الأوضعون تجارة والأوكسوها باشترائهم الضلالة بالهدى(فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ).
القول في تأويل قوله تعالى : { وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم (6) إذ قال موسى لأهله إني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون (7) فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين (8) }
يقول تعالى ذكره: وإنك يا محمد لتحفظ القرآن وتعلمه(من لدن حكيم عليم ) يقول: من عند حكيم بتدبير خلقه، عليم بأنباء خلقه ومصالحهم، والكائن من أمورهم، والماضي من أخبارهم، والحادث منها.(إذ قال موسى ) وإذ من صلة عليم. ومعنى

(19/426)


الكلام: عليم حين قال موسى(لأهله ) وهو في مسيره من مدين إلى مصر، وقد آذاهم برد ليلهم لما أصلد زنده.(إني آنست نارا ) أي أبصرت نارا أو أحسستها، فامكثوا مكانكم(سآتيكم منها بخبر ) يعني من النار، والهاء والألف من ذكر النار(أو آتيكم بشهاب قبس )
اختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة: "بشهاب قبس" بإضافة الشهاب إلى القبس، وترك التنوين، بمعنى: أو آتيكم بشعلة نار أقتبسها منها. وقرأ ذلك عامة قراء أهل الكوفة:(بشهاب قبس ) بتنوين الشهاب وترك إضافته إلى القبس، يعني: أو آتيكم بشهاب مقتبس.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان في قرأة الأمصار، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وكان بعض نحويي البصرة يقول: إذا جعل القبس بدلا من الشهاب، فالتنوين في الشهاب، وإن أضاف الشهاب إلى القبس لم ينون الشهاب. وقال بعض نحويي الكوفة: إذا أضيف الشهاب إلى القبس فهو بمنزلة قوله(ولدار الآخرة ) مما يضاف إلى نفسه إذا اختلف اسماه ولفظاه توهما بالثاني أنه غير الأول قال: ومثله حبة الخضراء، وليلة القمراء، ويوم الخميس وما أشبهه. وقال آخر منهم: إن كان الشهاب هو القبس لم تجز الإضافة، لأن القبس نعت، ولا يضاف الاسم إلى نعته إلا في قليل من الكلام، وقد جاء:(ولدار الآخرة ) و(وللدار الآخرة ) .
والصواب من القول في ذلك: أن الشهاب إذا أريد به أنه غير القبس، فالقراءة فيه بالإضافة، لأن معنى الكلام حينئذ، ما بينا من أنه شعلة قبس، كما قال الشاعر:
في كفه صعدة مثقفة... فيها سنان كشعلة القبس (1)
وإذا أريد بالشهاب أنه هو القبس، أو أنه نعت له، فالصواب في الشهاب التنوين؛ لأن الصحيح في كلام العرب ترك إضافة الاسم إلى نعته، وإلى نفسه، بل الإضافات في كلامها المعروف إضافة الشيء إلى غير نفسه وغير نعته.
__________
(1) البيت من شواهد أبي عبيدة في مجاز القرآن (الورقة 175) قال: "بشهاب قبس" أي بشعلة نار. ومجاز قبس: ما اقتبست منها ومن الجمر، قال: "في كفه.." البيت. والصعدة: القناة تنبت مستقيمة. والشاهد في البيت: إضافة الشعلة إلى القبس أي شعلة مقتبسة من نار كما في قول الله عز وجل (بشهاب قبس) في قراءة من قرأه بالإضافة. ويجوز تنوين "شهاب" وجعل قبس صفة له إذا اعتبر الشهاب هو نفس القبس، لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه، ولا إلى صفته.

(19/427)


وقوله:(لعلكم تصطلون ) يقول: كي تصطلوا بها من البرد. وقوله:(فلما جاءها ) يقول: فلما جاء موسى النار التي آنسها(نودي أن بورك من في النار ومن حولها ).
كما حدثنا علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله:(نودي أن بورك من في النار ) يقول: قدس.
واختلف أهل التأويل في المعني بقوله(من في النار ) فقال بعضهم: عنى جل جلاله بذلك نفسه، وهو الذي كان في النار، وكانت النار نوره تعالى ذكره في قول جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، في قوله:(فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ) يعني نفسه; قال: كان نور رب العالمين في الشجرة.
حدثني إسماعيل بن الهيثم أبو العالية العبدي، قال: ثنا أبو قتيبة، عن ورقاء، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، في قول الله:(بورك من في النار ) قال: ناداه وهو في النار.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الحسن في قوله:(نودي أن بورك من في النار ومن حولها ) قال: هو النور.
قال معمر: قال قتادة:(بورك من في النار ) قال: نور الله بورك.
قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال الحسن البصري:(بورك من في النار ) (1) .
وقال آخرون: بل معنى ذلك: بوركت النار.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني الحارث، قال: ثنا الأشيب، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(نودي أن بورك من في النار ) بوركت النار. كذلك قاله ابن عباس.
__________
(1) لعل المؤلف لم يجيء بمقول القول، اكتفاء بنص ما قبله، لموافقته إياه لفظا ومعنى. وقد تكرر منه ذلك في مواضع.

(19/428)


حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله:(أن بورك من في النار ) قال: بوركت النار.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد:(بورك من في النار ) قال: بوركت النار.
حدثنا محمد بن سنان القزاز قال: ثنا مكي بن إبراهيم، قال: ثنا موسى، عن محمد بن كعب، في قوله:(أن بورك من في النار ) نور الرحمن، والنور هو الله(وسبحان الله رب العالمين ).
واختلف أهل التأويل في معنى النار في هذا الموضع، فقال بعضهم: معناه: النور، كما ذكرت عمن ذكرت ذلك عنه.
وقال آخرون: معناه النار لا النور.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن سعيد بن جبير، أنه قال: حجاب العزة، وحجاب الملك، وحجاب السلطان، وحجاب النار، وهي تلك النار التي نودي منها. قال: وحجاب النور، وحجاب الغمام، وحجاب الماء، وإنما قيل: بورك من في النار، ولم يقل: بورك فيمن في النار على لغة الذين يقولون: باركك الله. والعرب تقول: باركك الله، وبارك فيك.
وقوله:(ومن حولها ) يقول: ومن حول النار. وقيل: عنى بمن حولها: الملائكة.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:(ومن حولها ) قال: يعني الملائكة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن الحسن، مثله.
وقال آخرون: هو موسى والملائكة.
حدثنا محمد بن سنان القزاز، قال: ثنا مكي بن إبراهيم، قال: ثنا موسى، عن محمد بن كعب(ومن حولها ) قال: موسى النبي والملائكة، ثم قال:(ياموسى

(19/429)


يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم (9) وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون (10) إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم (11)

إنه أنا الله العزيز الحكيم ).
وقوله:(وسبحان الله رب العالمين ) يقول: وتنزيها لله رب العالمين، مما يصفه به الظالمون.
القول في تأويل قوله تعالى : { يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم (9) وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون (10) إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم (11) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيله لموسى:(إنه أنا الله العزيز ) في نقمته من أعدائه( الحكيم ) في تدبيره في خلقه، والهاء التي في قوله:( إنه ) هاء عماد، وهو اسم لا يظهر في قول بعض أهل العربية. وقال بعض نحويي الكوفة: يقول هي الهاء المجهولة، ومعناها: أن الأمر والشأن: أنا الله. وقوله:(وألق عصاك فلما رآها تهتز ) في الكلام محذوف ترك ذكره، استغناء بما ذكر عما حذف، وهو فألقاها فصارت حية تهتز(فلما رآها تهتز كأنها جان ) يقول: كأنها حية عظيمة، والجان: جنس من الحيات معروف.
وقال ابن جريج في ذلك ما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جريج:(وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ) قال: حين تحولت حية تسعى، وهذا الجنس من الحيات عنى الراجز بقوله:
يرفعن بالليل إذا ما أسدفا... أعناق جنان وهاما رجفا
وعنقا بعد الرسيم خيطفا (1)
__________
(1) هذه أبيات ثلاثة من مشطور الرجز للخطفي وهو حذيفة بن بدر جد جرير بن عطية شاعر تميم يصف إبله وسيرها في الليل. وأسدف: أظلم. والجنان جنس من الحيات، إذا مشت رفعت رءوسها والهام. جمع هامة. والرجف جمع راجفة أي مضطربة، لاهتزازها في مشيها وسرعتها. والعنق: ضرب من السير السريع. والرسيم سير خفيف. والخيطف: السريع ويروى: خطفا وبهذا لقب حذيفة جد جرير الخطفي، لمجيء اللفظة في شعره وفي (اللسان خطف) والخيطفي سرعة انجذاب السير، كأنه يختطف في سيره عنقه، أي يجتدبه وجمل خيطف أي سريع المر ويقال عنق خيطف وخطفي، قال جد جرير * وعنقا بعد الرسيم خيطفا *
وقيل هو مأخوذ من الخطف، وهو الخلس وجمل خيطف سيره كذلك أي سريع المر

(19/430)


وقوله:(ولى مدبرا ) يقول تعالى ذكره: ولى موسى هاربا خوفا منها(ولم يعقب ) يقول: ولم يرجع . من قولهم: عقب فلان: إذا رجع على عقبه إلى حيث بدأ.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله:(ولم يعقب ) قال: لم يرجع.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان عن معمر، عن قتادة، قال: لم يلتفت.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:(ولم يعقب ) قال: لم يرجع(ياموسى ) قال: لما ألقى العصا صارت حية، فرعب منها وجزع، فقال الله:(إني لا يخاف لدي المرسلون ) قال: فلم يرعو لذلك، قال: فقال الله له:(أقبل ولا تخف إنك من الآمنين ) قال: فلم يقف أيضا على شيء من هذا حتى قال:(سنعيدها سيرتها الأولى ) قال: فالتفت فإذا هي عصا كما كانت، فرجع فأخذها، ثم قوي بعد ذلك حتى صار يرسلها على فرعون ويأخذها.
وقوله:( يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ) يقول تعالى ذكره: فناداه ربه: يا موسى لا تخف من هذه الحية، إني لا يخاف لدي المرسلون. يقول: إني لا يخاف عندي رسلي وأنبيائي الذين أختصهم بالنبوة، إلا من ظلم منهم، فعمل بغير الذي أذن له في العمل به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قوله:(ياموسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون ) قال: لا يخيف الله الأنبياء

(19/431)


إلا بذنب يصيبه أحدهم، فإن أصابه أخافه حتى يأخذه منه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عبد الله الفزاري، عن عبد الله بن المبارك، عن أبي بكر، عن الحسن، قال: قوله:( يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ) قال: إني إنما أخفتك لقتلك النفس، قال: وقال الحسن: كانت الأنبياء تذنب فتعاقب.
واختلف أهل العربية في وجه دخول إلا في هذا الموضع، وهو استثناء مع وعد الله الغفران المستثنى من قوله:(إني لا يخاف لدي المرسلون ) بقوله:(فإني غفور رحيم ).وحكم الاستثناء أن يكون ما بعده بخلاف معنى ما قبله، وذلك أن يكون ما بعده إن كان ما قبله منفيا مثبتا كقوله: ما قام إلا زيد، فزيد مثبت له القيام، لأنه مستثنى مما قبل إلا وما قبل إلا منفي عنه القيام، وأن يكون ما بعده إن كان ما قبله مثبتا منفيا كقولهم: قام القوم إلا زيدا; فزيد منفي عنه القيام; ومعناه: إن زيدا لم يقم، القوم مثبت لهم القيام(إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء )، فقد أمنه الله بوعده الغفران والرحمة، وأدخله في عداد من لا يخاف لديه من المرسلين، فقال بعض نحويي البصرة: أدخلت إلا في هذا الموضع؛ لأن إلا تدخل في مثل هذا الكلام، كمثل قول العرب: ما أشتكي إلا خيرا، فلم يجعل قوله: إلا خيرا على الشكوى، ولكنه علم أنه إذا قال: ما أشتكي شيئا أن يذكر عن نفسه خيرا، كأنه قال: ما أذكر إلا خيرا.
وقال بعض نحويي الكوفة يقول القائل: كيف صير خائفا من ظلم، ثم بدل حسنا بعد سوء، وهو مغفور له؟ فأقول لك: في هذه الآية وجهان: أحدهما أن يقول: إن الرسل معصومة مغفور لها آمنة يوم القيامة، ومن خلط عملا صالحا وآخر سيئا فهو يخاف ويرجو، فهذا وجه. والآخر: أن يجعل الاستثناء من الذين تركوا في الكلمة، لأن المعنى: لا يخاف لدي المرسلون، إنما الخوف على من سواهم، ثم استثنى فقال:(إلا من ظلم ثم بدل حسنا ) يقول: كان مشركا، فتاب من الشرك، وعمل حسنا، فذلك مغفور له، وليس يخاف. قال: وقد قال بعض النحويين: إن إلا في اللغة بمنزلة الواو، وإنما معنى هذه الآية: لا يخاف لدي المرسلون، ولا من ظلم ثم بدل حسنا، قال: وجعلوا مثله كقول الله:(لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم ) قال: ولم أجد العربية تحتمل ما قالوا، لأني لا أجيز: قام الناس إلا عبد الله، وعبد الله قائم، إنما

(19/432)


معنى الاستثناء أن يخرج الاسم الذي بعد إلا من معنى الأسماء التي قبل إلا. وقد أراه جائزا أن يقول: لي عليك ألف سوى ألف آخر; فإن وضعت إلا في هذا الموضع صلحت، وكانت إلا في تأويل ما قالوا، فأما مجردة قد استثنى قليلها من كثيرها فلا ولكن مثله مما يكون معنى إلا كمعنى الواو، وليست بها قوله(خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) هو في المعنى. والذي شاء ربك من الزيادة، فلا تجعل إلا بمنزلة الواو، ولكن بمنزلة سوى; فإذا كانت "سوى"في موضع "إلا"صلحت بمعنى الواو، لأنك تقول: عندي مال كثير سوى هذا: أي وهذا عندي، كأنك قلت: عندي مال كثير وهذا أيضا عندي، وهو في سوى أبعد منه في إلا لأنك تقول: عندي سوى هذا، ولا تقول: عندي إلا هذا.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في قوله(إلا من ظلم ثم بدل ) عندي غير ما قاله هؤلاء الذين حكينا قولهم من أهل العربية، بل هو القول الذي قاله الحسن البصري وابن جريج ومن قال قولهما، وهو أن قوله:(إلا من ظلم ) استثناء صحيح من قوله( لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ) منهم فأتى ذنبا، فإنه خائف لديه من عقوبته، وقد بين الحسن رحمه الله معنى قيل الله لموسى ذلك، وهو قوله قال: إني إنما أخفتك لقتلك النفس.
فإن قال قائل فما وجه قيله إن كان قوله(إلا من ظلم ) استثناء صحيحا، وخارجا من عداد من لا يخاف لديه من المرسلين، وكيف يكون خائفا من كان قد وعد الغفران والرحمة؟ قيل: إن قوله:(ثم بدل حسنا بعد سوء ) كلام آخر بعد الأول، وقد تناهى الخبر عن الرسل من ظلم منهم، ومن لم يظلم عند قوله(إلا من ظلم ) ثم ابتدأ الخبر عمن ظلم من الرسل، وسائر الناس غيرهم، وقيل: فمن ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني له غفور رحيم.
فإن قال قائل: فعلام تعطف إن كان الأمر كما قلت ب(ثم) إن لم يكن عطفا على قوله:( ظلم ) ؟ قيل: على متروك استغني بدلالة قوله(ثم بدل حسنا بعد سوء ) عليه عن إظهاره، إذ كان قد جرى قبل ذلك من الكلام نظيره، وهو فمن ظلم من الخلق. وأما الذين ذكرنا قولهم من أهل العربية، فقد قالوا على مذهب العربية، غير أنهم أغفلوا معنى الكلمة وحملوها على غير وجهها من التأويل. وإنما ينبغي أن يحمل الكلام على وجهه

(19/433)


وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين (12)

من التأويل، ويلتمس له على ذلك الوجه للإعراب في الصحة مخرج لا على إحالة الكلمة عن معناها ووجهها الصحيح من التأويل.
وقوله:(ثم بدل حسنا بعد سوء ) يقول تعالى ذكره: فمن أتى ظلما من خلق الله، وركب مأثما، ثم بدل حسنا، يقول: ثم تاب من ظلمه ذلك وركوبه المأثم،(فإني غفور ) يقول: فإني ساتر على ذنبه وظلمه ذلك بعفوي عنه، وترك عقوبته عليه( رحيم ) به أن أعاقبه بعد تبديله الحسن بضده.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:(إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء ) ثم تاب من بعد إساءته(فإني غفور رحيم )
القول في تأويل قوله تعالى : { وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين (12) }
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيله لنبيه موسى:(وأدخل يدك في جيبك ) ذكر أنه تعالى ذكره أمره أن يدخل كفه في جيبه; وإنما أمره بإدخاله في جيبه، لأن الذي كان عليه يومئذ مدرعة من صوف. قال بعضهم: لم يكن لها كم. وقال بعضهم: كان كمها إلى بعض يده.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين قال ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:(وأدخل يدك في جيبك ) قال: الكف فقط في جيبك، قال: كانت مدرعة إلى بعض يده، ولو كان لها كم أمره أن يدخل يده في كمه.
قال: ثني حجاج، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه، عن عمرو بن ميمون قال: قال ابن مسعود: إن موسى أتى فرعون حين أتاه في ذر مانقة، يعني جبة صوف.

(19/434)


فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين (13)

وقوله:(تخرج بيضاء ) يقول: تخرج اليد بيضاء بغير لون موسى(من غير سوء ) يقول: من غير برص(في تسع آيات ) ، يقول تعالى ذكره: أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء، فهي آية في تسع آيات مرسل أنت بهن إلى فرعون; وترك ذكر مرسل لدلالة قوله(إلى فرعون وقومه ) على أن ذلك معناه، كما قال الشاعر:
رأتني بحبليها فصدت مخافة... وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق (1)
ومعنى الكلام: رأتني مقبلا بحبليها، فترك ذكر "مقبل"استغناء بمعرفة السامعين معناه في ذلك، إذ قال: رأتني بحبليها; ونظائر ذلك في كلام العرب كثيرة.
والآيات التسع: هن الآيات التي بيناهن فيما مضى.
وقد حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:(تسع آيات إلى فرعون وقومه ) قال: هي التي ذكر الله في القرآن: العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والطوفان، والدم، والحجر، والطمس الذي أصاب آل فرعون في أموالهم.
وقوله:(إنهم كانوا قوما فاسقين ) يقول: إن فرعون وقومه من القبط كانوا قوما فاسقين، يعني كافرين بالله، وقد بينا معنى الفسق فيما مضى.
القول في تأويل قوله تعالى : { فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين (13) }
__________
(1) سبق الكلام مفصلا على هذا الشاهد في الجزء (7: 113) وهو لحميد بن ثور الهلالي. وانظره في (اللسان: حبل) وفرق. وفي الأساس (روع). وفي معاني القرآن للفراء (الورقة 232) قال الفراء أراد رأتني أقبلت بحبليها: بحبلى الناقة، فأضمر فعلا، كأنه قال: رأتني مقبلا

(19/435)


وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين (14)

القول في تأويل قوله تعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين (14) }
يقول تعالى ذكره: فلما جاءت فرعون آياتنا، يعني: أدلتنا وحججنا، على حقيقة ما دعاهم إليه موسى وصحته، وهي الآيات التسع التي ذكرناها قبل. وقوله( مبصرة ) يقول: يبصر بها من نظر إليها ورآها حقيقة ما دلت عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(19/435)


*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج:(فلما جاءتهم آياتنا مبصرة ) قال: بينة(قالوا هذا سحر مبين ) ، يقول: قال فرعون وقومه: هذا الذي جاءنا به موسى سحر مبين، يقول: يبين للناظرين له أنه سحر.
وقوله:(وجحدوا بها ) يقول: وكذبوا بالآيات التسع أن تكون من عند الله.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج:(وجحدوا بها ) قال: الجحود: التكذيب بها. وقوله:(واستيقنتها أنفسهم ) يقول: وأيقنتها قلوبهم، وعلموا يقينا أنها من عند الله، فعاندوا بعد تبينهم الحق، ومعرفتهم به.
كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس:(واستيقنتها أنفسهم ) قال: يقينهم في قلوبهم.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله:(واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ) قال: استيقنوا أن الآيات من الله حق، فلم جحدوا بها؟ قال: ظلما وعلوا.
وقوله:(ظلما وعلوا ) يعني بالظلم: الاعتداء، والعلو: الكبر، كأنه قيل: اعتداء وتكبرا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، في قوله:(ظلما وعلوا ) قال: تعظما واستكبارا، ومعنى ذلك: وجحدوا بالآيات التسع ظلما وعلوا، واستيقنتها أنفسهم أنها من عند الله، فعاندوا الحق بعد وضوحه لهم، فهو من المؤخر الذي معناه التقديم.
وقوله:(فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ).
ويقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فانظر يا محمد بعين قلبك

(19/436)


ولقد آتينا داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين (15) وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين (16)

كيف كان عاقبة تكذيب هؤلاء الذين جحدوا آياتنا حين جاءتهم مبصرة، وماذا حل بهم من إفسادهم في الأرض ومعصيتهم فيها ربهم، وأعقبهم ما فعلوا، فإن ذلك أخرجهم من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، إلى هلاك في العاجل بالغرق، وفي الآجل إلى عذاب دائم لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون. يقول: وكذلك يا محمد سنتي في الذين كذبوا بما جئتهم به من الآيات على حقيقة ما تدعوهم إليه من الحق من قومك.
القول في تأويل قوله تعالى : { ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين (15) }
يقول تعالى ذكره:(ولقد آتينا داود وسليمان علما ) وذلك علم كلام الطير والدواب، وغير ذلك مما خصهم الله بعلمه.(وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ) يقول جل ثناؤه: وقال داود وسليمان: الحمد لله الذي فضلنا بما خصنا به من العلم الذي آتاناه ، دون سائر خلقه من بني آدم في زماننا هذا على كثير من عباده المؤمنين به في دهرنا هذا.
القول في تأويل قوله تعالى : { وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين (16) }
يقول تعالى ذكره:(وورث سليمان ) أباه( داود ) العلم الذي كان آتاه الله في حياته، والملك الذي كان خصه به على سائر قومه، فجعله له بعد أبيه داود دون سائر ولد أبيه(وقال ياأيها الناس علمنا منطق الطير ) يقول: وقال سليمان لقومه: يا أيها الناس علمنا منطق الطير، يعني فهمنا كلامها; وجعل ذلك من الطير كمنطق الرجل من بني آدم إذ فهمه عنها.
وقد حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب:(وقال ياأيها الناس علمنا منطق الطير ) قال: بلغنا أن سليمان كان عسكره مائة فرسخ: خمسة وعشرون منها للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب; فيها ثلاث مائة صريحة، وسبع مائة سرية، فأمر الريح العاصف فرفعته، وأمر الرخاء

(19/437)


وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون (17)

فسيرته، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض: إني قد أردت أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت الريح فأخبرته. وقوله:(وأوتينا من كل شيء ) يقول: وأعطينا ووهب لنا من كل شيء من الخيرات(إن هذا لهو الفضل المبين ) يقول: إن هذا الذي أوتينا من الخيرات لهو الفضل على جميع أهل دهرنا المبين، يقول: الذي يبين لمن تأمله وتدبره أنه فضل أعطيناه على من سوانا من الناس.
القول في تأويل قوله تعالى : { وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون (17) }
يقول تعالى ذكره: وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير في مسير لهم، فهم يوزعون.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله(فهم يوزعون ) فقال بعضهم: معنى ذلك: فهم يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قال: جعل على كل صنف من يرد أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في المسير، كما تصنع الملوك.
حدثنا القاسم، قال: ثنا أبو سفيان عن معمر، عن قتادة في قوله:(وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون ) قال: يرد أولهم على آخرهم.
وقال آخرون: معنى ذلك فهم يساقون.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:(وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون ) قال: يوزعون: يساقون.
وقال آخرون: بل معناه: فهم يتقدمون.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان عن معمر، قال: قال الحسن:(يوزعون ) يتقدمون.

(19/438)


حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون (18)

قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معناه: يرد أولهم على آخرهم; وذلك أن الوازع في كلام العرب هو الكاف، يقال منه: وزع فلان فلانا عن الظلم: إذا كفه عنه، كما قال الشاعر:
ألم يزع الهوى إذ لم يؤات... بلى وسلوت عن ضلب الفتاة (1)
وقال آخر:
على حين عاتبت المشيب على الصبا... وقلت ألما أصح والشيب وازع (2)
وإنما قيل للذين يدفعون الناس عن الولاة والأمراء: وزعة: لكفهم إياهم عنه.
القول في تأويل قوله تعالى : { حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون (18) }
يعني تعالى ذكره بقوله:(حتى إذا أتوا على وادي النمل ) حتى إذا أتى سليمان وجنوده على وادي النمل(قالت نملة ياأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده ) يقول: لا يكسرنكم ويقتلنكم سليمان وجنوده(وهم لا يشعرون ) يقول: وهم لا يعلمون أنهم يحطمونكم.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن ويحيى، قالا ثنا سفيان، عن الأعمش، عن رجل يقال له الحكم، عن عوف في قوله:(قالت نملة ياأيها النمل ) قال: كان نمل سليمان بن داود مثل الذباب.
القول في تأويل قوله تعالى : { فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا
__________
(1) الوزع: كف النفس عن هواها. وزعه وبه يزع (بفتح الزاي وكسرها) وزعا كفه، ويؤات يوافق. قال في اللسان: واتاه على الأمر: طاوعه. والمؤاتاة: حسن المطاوعة وآتيته على ذلك الأمر مؤاتاه: إذا وافقته وطاوعته. والعامة تقول: واتيته. ولا تقل. واتيته. إلا في لغة لأهل اليمن ومثله آسيت، وآكلت، وآمرت وإنما جعلوها واوا على تخفيف الهمزة
(2) البيت للنابغة الذبياني من قصيدة يعتذر بها إلى النعمان بن المنذر (مختار الشعر لجاهلي شرح مصطفى السقا، طبعة الحلبي 156 وما بعدها) قال صحا: أفاق والوازع الكاف الزاجر عن اللهو والصبا الصبوة، والميل إلى التشبه بأعمال الصبيان من الطيش واللهو

(19/439)


فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين (19) وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين (20) لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين (21)

ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين (19) }
يقول تعالى ذكره: فتبسم سليمان ضاحكا من قول النملة التي قالت ما قالت، وقال:(رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي ) يعني بقوله(أوزعني ) ألهمني.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني علي، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله:(قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك ) يقول: اجعلني.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قول الله:(رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي ) قال: في كلام العرب، تقول: أوزع فلان بفلان، يقول: حرض عليه. وقال ابن زيد:( أوزعني ) ألهمني وحرضني على أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي.
وقوله:(وأن أعمل صالحا ترضاه ) يقول: وأوزعني أن أعمل بطاعتك وما ترضاه(وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ) يقول: وأدخلني برحمتك مع عبادك الصالحين، الذين اخترتهم لرسالتك وانتخبتهم لوحيك، يقول: أدخلني من الجنة مداخلهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:(وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ) قال: مع عبادك الصالحين الأنبياء والمؤمنين.
القول في تأويل قوله تعالى : { وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين (20) لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين (21) }
يقول تعالى ذكره:( وتفقد ) سليمان(الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد ). وكان سبب تفقده الطير وسؤاله عن الهدهد خاصة من بين الطير، ما حدثنا ابن عبد الأعلى،

(19/440)


قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت عمران عن أبي مجلز، قال: جلس ابن عباس إلى عبد الله بن سلام، فسأله عن الهدهد: لم تفقده سليمان من بين الطير فقال عبد الله بن سلام: إن سليمان نزل منزلة في مسير له، فلم يدر ما بعد الماء، فقال: من يعلم بعد الماء؟ قالوا: الهدهد، فذاك حين تفقده.
حدثنا محمد، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا عمران بن حدير، عن أبي مجلز، عن ابن عباس وعبد الله بن سلام بنحوه.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان سليمان بن داود يوضع له ست مائة كرسي، ثم يجيء أشراف الإنس فيجلسون مما يليه، ثم تجيء أشراف الجن فيجلسون مما يلي الإنس قال: ثم يدعو الطير فتظلهم، ثم يدعو الريح فتحملهم، قال: فيسير في الغداة الواحدة مسيرة شهر، قال: فبينا هو في مسيره إذ احتاج إلى الماء وهو في فلاة من الأرض، قال: فدعا الهدهد، فجاءه فنقر الأرض، فيصيب موضع الماء، قال: ثم تجيء الشياطين فيسلخونه كما يسلخ الإهاب، قال: ثم يستخرجون الماء. فقال له نافع بن الأزرق: قف يا وقاق، أرأيت قولك الهدهد يجيء فينقر الأرض، فيصيب الماء، كيف يبصر هذا، ولا يبصر الفخ يجيء حتى يقع في عنقه؟ قال: فقال له ابن عباس: ويحك إن القدر إذا جاء حال دون البصر.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه، قال: كان سليمان بن داود إذا خرج من بيته إلى مجلسه عكفت عليه الطير، وقام له الجن والإنس حتى يجلس على سريره، حتى إذا كان ذات غداة في بعض زمانه غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه، فتفقد الطير. وكان فيما يزعمون يأتيه نوبا من كل صنف من الطير طائر، فنظر فرأى من أصناف الطير كلها قد حضره إلا الهدهد، فقال: ما لي لا أرى الهدهد.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أول ما فقد سليمان الهدهد نزل بواد فسأل الإنس عن ماءه، فقالوا: ما نعلم له ماء، فإن يكن أحد من جنودك يعلم له ماء فالجن فدعا الجن فسألهم، فقالوا: ما نعلم له ماء وإن يكن

(19/441)


أحد من جنودك يعلم له ماء فالطير، فدعا الطير فسألهم، فقالوا: ما نعلم له ماء، وإن يكن أحد من جنودك يعلمه فالهدهد، فلم يجده، قال: فذاك أول ما فقد الهدهد.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:(وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ) قال: تفقد الهدهد من أجل أنه كان يدله على الماء إذا ركب، وإن سليمان ركب ذات يوم فقال: أين الهدهد ليدلنا على الماء؟ فلم يجده؛ فمن أجل ذلك تفقده، فقال ابن عباس: إن الهدهد كان ينفعه الحذر ما لم يبلغه الأجل؛ فلما بلغ الأجل لم ينفعه الحذر، وحال القدر دون البصر، فقد اختلف عبد الله بن سلام والقائلون بقوله ووهب بن منبه، فقال عبد الله: كان سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه ليستخبره عن بعد الماء في الوادي الذي نزل به في مسيره، وقال وهب بن منبه: كان تفقده إياه وسؤاله عنه لإخلاله بالنوبة التي كان ينوبها، والله أعلم بأي ذلك كان إذ لم يأتنا بأي ذلك كان تنزيل، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح.
فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن سليمان أنه تفقد الطير، إما للنوبة التي كانت عليها وأخلت بها، وإما لحاجة كانت إليها عن بعد الماء.
وقوله:(فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ) يعني بقوله(ما لي لا أرى الهدهد ) أخطأه بصري فلا أراه وقد حضر أم هو غائب فيما غاب من سائر أجناس الخلق فلم يحضر؟.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه:(ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين ) أخطأه بصري في الطير، أم غاب فلم يحضر؟.
وقوله:(لأعذبنه عذابا شديدا ) يقول: فلما أخبر سليمان عن الهدهد أنه لم يحضر، وأنه غائب غير شاهد، أقسم(لأعذبنه عذابا شديدا ) وكان تعذيبه الطير فيما ذكر عنه إذا عذبها أن ينتف ريشها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(19/442)


ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال: ثنا الحماني، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، في قوله:(لأعذبنه عذابا شديدا ) قال: نتف ريشه.
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، عن شريك، عن عطاء، عن مجاهد، عن ابن عباس في:(لأعذبنه عذابا شديدا ) عذابه: نتفه وتشميسه.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:(لأعذبنه عذابا شديدا ) قال: نتف ريشه وتشميسه.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(لأعذبنه عذابا شديدا ) قال: نتف ريشه كله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:(لأعذبنه عذابا شديدا ) قال: نتف ريش الهدهد كله، فلا يغفو سنة.
قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة، قال: نتف ريشه.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:(لأعذبنه عذابا شديدا ) يقول: نتف ريشه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، قال: ثني ابن إسحاق، عن يزيد بن رومان أنه حدث أن عذابه الذي كان يعذب به الطير نتف جناحه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: قيل لبعض أهل العلم: هذا الذبح، فما العذاب الشديد؟. قال: نتف ريشه بتركه بضعة تنزو.
حدثنا سعيد بن الربيع الرازي، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن بشار، عن ابن عباس، في قوله:(لأعذبنه عذابا شديدا ) قال: نتفه.
حدثني سعيد بن الربيع، قال: ثنا سفيان، عن حسين بن أبي شداد، قال: نتفه وتشميسه(أو لأذبحنه ) يقول: أو لأقتلنه.

(19/443)


كما حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله:(أو لأذبحنه ) يقول: أو لأقتلنه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عباد بن العوام، عن حصين، عن عبد الله بن شداد:(لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه )... الآية، قال: فتلقاه الطير، فأخبره، فقال: ألم يستثن.
وقوله:(أو ليأتيني بسلطان مبين ) يقول: أو ليأتيني بحجة تبين لسامعها صحتها وحقيقتها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا علي بن الحسين الأزدي، قال: ثنا المعافى بن عمران، عن سفيان، عن عمار الدهني، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة.
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:(أو ليأتيني بسلطان مبين ) يقول: ببينة أعذره بها، وهو مثل قوله:(الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان ) يقول: بغير بينة.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا سفيان، عن رجل، عن عكرمة، قال: كل شيء في القرآن سلطان، فهو حجة.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عبد الله، بن يزيد، عن قباث (1) بن رزين، أنه سمع عكرمة يقول: سمعت ابن عباس يقول: كل سلطان في القرآن فهو حجة، كان للهدهد سلطان.
حدثنا الحسين، قال: ثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة:(أو ليأتيني بسلطان مبين ) قال: بعذر بين.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه:(أو ليأتيني بسلطان مبين ) : أي بحجة عذر له في غيبته.
حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:(أو ليأتيني بسلطان مبين ) يقول: ببينة، وهو قول الله(الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان ) بغير بينة.
__________
(1) قباث بوزن سحاب، ابن رزين اللخمي (ويقال: التجيبي). وقباث: اسم عربي.

(19/444)


فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين (22)

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:(أو ليأتيني بسلطان مبين ) قال: بعذر أعذره فيه.
القول في تأويل قوله تعالى : { فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين (22) }
يعني تعالى ذكره بقوله:(فمكث غير بعيد ) فمكث سليمان غير طويل من حين سأل عن الهدهد، حتى جاء الهدهد.
واختلف القراء في قراءة قوله:( فمكث ) فقرأت ذلك عامة قراء الأمصار سوى عاصم: "فمكث" بضم الكاف، وقرأه عاصم بفتحها، وكلتا القراءتين عندنا صواب؛ لأنهما لغتان مشهورتان، وإن كان الضم فيها أعجب إلي، لأنها أشهر اللغتين وأفصحهما.
وقوله:(فقال أحطت بما لم تحط به ) يقول: فقال الهدهد حين سأله سليمان عن تخلفه وغيبته: أحطت بعلم ما لم تحط به أنت يا سليمان.
كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:(أحطت بما لم تحط ) قال: ما لم تعلم.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه:(فمكث غير بعيد ) ثم جاء الهدهد، فقال له سليمان: ما خلفك عن نوبتك؟ قال: أحطت بما لم تحط به.
وقوله:(وجئتك من سبإ بنبإ يقين ) يقول: وجئتك من سبإ بخبر يقين.
وهو ما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه:(وجئتك من سبإ بنبإ يقين ) أي أدركت ملكا لم يبلغه ملكك.
واختلفت القراء في قراءة قوله:(من سبإ ) فقرأ ذلك عامة قراء المدينة والكوفة(من سبإ ) بالإجراء. المعنى أنه رجل اسمه سبأ. وقرأه بعض قراء أهل مكة والبصرة(من سبأ ) بترك الإجراء، على أنه اسم قبيلة أو لامرأة.
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان، وقد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب; فالإجراء في سبأ، وغير الإجراء صواب، لأن سبأ إن كان رجلا كما جاء به الأثر، فإنه إذا أريد به اسم الرجل

(19/445)


أجري، وإن أريد به اسم القبيلة لم يجر، كما قال الشاعر في إجرائه:
الواردون وتيم في ذرا سبإ... قد عض أعناقهم جلد الجواميس (1)
يروى: ذرا، وذرى، وقد حدثت عن الفراء عن الرؤاسي أنه سأل أبا عمرو بن العلاء كيف لم يجر سبأ؟ قال: لست أدري ما هو; فكأن أبا عمرو ترك إجراءه إذ لم يدر ما هو، كما تفعل العرب بالأسماء المجهولة التي لا تعرفها من ترك الإجراء، حكي عن بعضهم: هذا أبو معرور قد جاء، فترك إجراءه إذ لم يعرفه في أسمائهم. وإن كان سبأ جبلا أجري؛ لأنه يراد به الجبل بعينه، وإن لم يجر فلأنه يجعل اسما للجبل وما حوله من البقعة.
__________
(1) استشهد المؤلف بهذا البيت مرة قبل هذه في (الجزء 14: 117) وهو من شواهد الفراء في معاني القرآن (الورقة 172). ثم استشهد المؤلف به هنا مرة ثانية، على أن كلمة "سبأ" إن كان اسم قبيلة من اليمن، فهو ممنوع من الصرف، للعلمية والتأنيث. وإن لوحظ فيه أصله، وهو اسم أبي القبيلة، فهو مذكر مجرى.

(19/446)


إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم (23) وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون (24)

القول في تأويل قوله تعالى : { إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم (23) وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون (24) }
يقول تعالى مخبرا عن قيل الهدهد لسليمان مخبرا بعذره في مغيبه عنه:(إني وجدت امرأة تملكهم ) يعني تملك سبأ، وإنما صار هذا الخبر للهدهد عذرا وحجة عند سليمان، درأ به عنه ما كان أوعد به؛ لأن سليمان كان لا يرى أن في الأرض أحدا له مملكة معه، وكان مع ذلك صلى الله عليه وسلم رجلا حبب إليه الجهاد والغزو، فلما دله الهدهد على ملك بموضع من الأرض هو لغيره، وقوم كفرة يعبدون غير الله، له في جهادهم وغزوهم الأجر الجزيل، والثواب العظيم في الآجل، وضم مملكة لغيره إلى ملكه، حقت للهدهد المعذرة، وصحت له الحجة في مغيبه عن سليمان.
وقوله:(وأوتيت من كل شيء ) يقول: وأوتيت من كل شيء يؤتاه الملك في عاجل الدنيا مما يكون عندهم من العتاد والآلة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

(19/446)


ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون (25) الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم (26)

*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي عبيدة الباجي، عن الحسن، قوله:(وأوتيت من كل شيء ) يعني: من كل أمر الدنيا.
وقوله(ولها عرش عظيم ) يقول: ولها كرسي عظيم. وعني بالعظيم في هذا الموضع: العظيم في قدره، وعظم خطره، لا عظمه في الكبر والسعة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله:(ولها عرش عظيم ) قال: سرير كريم، قال: حسن الصنعة، وعرشها: سرير من ذهب قوائمه من جوهر ولؤلؤ.
قال: ثني حجاج، عن أبي عبيدة الباجي، عن الحسن قوله:(ولها عرش عظيم ) يعني سرير عظيم.
وقوله:(وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله ) يقول: وجدت هذه المرأة ملكة سبأ، وقومها من سبأ، يسجدون للشمس فيعبدونها من دون الله. وقوله:(وزين لهم الشيطان أعمالهم ) يقول: وحسن لهم إبليس عبادتهم الشمس، وسجودهم لها من دون الله، وحبب ذلك إليهم(فصدهم عن السبيل ) يقول: فمنعهم بتزيينه ذلك لهم أن يتبعوا الطريق المستقيم، وهو دين الله الذي بعث به أنبياءه، ومعناه: فصدهم عن سبيل الحق(فهم لا يهتدون ) يقول: فهم لما قد زين لهم الشيطان ما زين من السجود للشمس من دون الله والكفر به لا يهتدون لسبيل الحق ولا يسلكونه، ولكنهم في ضلالهم الذي هم فيه يترددون.
القول في تأويل قوله تعالى : { ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون (25) الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم (26) }
اختلف القراء في قراءة قوله(ألا يسجدوا لله ) فقرأ بعض المكيين وبعض المدنيين والكوفيين "ألا" بالتخفيف، بمعنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا، فأضمروا "هؤلاء"اكتفاء

(19/447)


بدلالة "يا"عليها. وذكر بعضهم سماعا من العرب: ألا يا ارحمنا، ألا يا تصدق علينا; واستشهد أيضا ببيت الأخطل:
ألا يا اسلمي يا هند هند بني بدر... وإن كان حيانا عدا آخر الدهر (1)
فعلى هذه القراءة اسجدوا في هذا الموضع جزم، ولا موضع لقوله "ألا"في الإعراب. وقرأ ذلك عامة قراء المدينة والكوفة والبصرة(ألا يسجدوا ) بتشديد ألا بمعنى: وزين لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا لله "ألا" في موضع نصب لما ذكرت من معناه أنه لئلا(ويسجدوا) في موضع نصب بأن.
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار قد قرأ بكل واحدة منهما علماء من القراء مع صحة معنييهما.
واختلف أهل العربية في وجه دخول "يا" في قراءة من قرأه على وجه الأمر، فقال بعض نحويي البصرة: من قرأ ذلك كذلك، فكأنه جعله أمرا، كأنه قال لهم: اسجدوا، وزاد "يا" بينهما التي تكون للتنبيه، ثم أذهب ألف الوصل التي في اسجدوا، وأذهبت الألف التي في "يا"؛ لأنها ساكنة لقيت السين، فصار ألا يسجدوا. وقال بعض نحويي الكوفة: هذه "يا"التي تدخل للنداء يكتفى بها من الاسم، ويكتفى بالاسم منها، فتقول: يا أقبل، وزيد أقبل، وما سقط من السواكن فعلى هذا.
ويعني بقوله:(يخرج الخبء ) يخرج المخبوء في السموات والأرض من غيث في السماء، ونبات في الأرض ونحو ذلك.
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وإن اختلفت عبارتهم عنه.
__________
(1) البيت: نسبه في (اللسان: عدا) إلى الأخطل التغلبي الشاعر الأموي. قال: وقد جاء في الشعر العدى: بمعنى الأعداء. وقال ابن الأعرابي في قول الأخطل: "ألا يا اسلمي.." البيت: العدى: التباعد. وقوم عدى: إذا كانوا متباعدين لا أرحام بينهم ولا حلف. وقوم عدى: إذا كانوا حربا. وقد روى البيت بالكسر والضم، مثل سوى وسوى. الأصمعي: يقال: هؤلاء قوم عدى مقصور، يكون للأعداء وللغرباء. ولا يقال: قوم عدى (بضم العين) إلا أن تدخل الهاء، فتقول: عداة، في وزن قضاة. قال أبو زيد: طالت عدواءهم، أي تباعدهم وتفرقهم. وشاهد المؤلف في هذا البيت: أن حرف النداء يا، داخل على منادي محذوف. تقديره: ألا يا هذه اسلمي. وهو نظير قول الله عز وجل: "ألا يا اسجدوا" تقديره: ألا يا هؤلاء اسجدوا. فأضمر هؤلاء، اكتفاء بدلالة "يا" عليها.

(19/448)


*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا ابن المبارك، عن ابن جريج، قراءة عن مجاهد:(يخرج الخبء في السماوات ) قال: الغيث.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:(يخرج الخبء ) قال: الغيث.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:(الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ) قال: خبء السماء والأرض ما جعل الله فيها من الأرزاق، والمطر من السماء، والنبات من الأرض، كانتا رتقا لا تمطر هذه، ولا تنبت هذه، ففتق السماء، وأنزل منها المطر، وأخرج النبات.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن حكيم بن جابر، في قوله:(ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ) ويعلم كل خفية في السموات والأرض.
حدثني محمد بن عمارة، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا أسامة بن زيد، عن معاذ بن عبد الله، قال: رأيت ابن عباس على بغلة يسأل تبعا ابن امرأة كعب: هل سألت كعبا عن البذر تنبت الأرض العام لم يصب العام الآخر؟ قال: سمعت كعبا يقول: البذر ينزل من السماء ويخرج من الأرض، قال: صدقت.
قال أبو جعفر: إنما هو تبيع، ولكن هكذا قال محمد: وقيل: يخرج الخبء في السموات والأرض، لأن العرب تضع "من" مكان "في" و "في" مكان "من" في الاستخراج(ويعلم ما تخفون وما تعلنون ) يقول: ويعلم السر من أمور خلقه، هؤلاء الذين زين لهم الشيطان أعمالهم والعلانية منها، وذلك على قراءة من قرأ ألا بالتشديد. وأما على قراءة من قرأ بالتخفيف فإن معناه: ويعلم ما يسره خلقه الذين أمرهم بالسجود بقوله: "ألا يا هؤلاء اسجدوا". وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي: "ألا تسجدوا لله الذي يعلم سركم وما تعلنون".
وقوله:(الله لا إله إلا هو ) يقول تعالى ذكره: الله الذي لا تصلح العبادة إلا له، لا إله إلا هو، لا معبود سواه تصلح له العبادة، فأخلصوا له

(19/449)


قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين (27) اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون (28)

العبادة، وأفردوه بالطاعة، ولا تشركوا به شيئا(رب العرش العظيم ) يعني بذلك: مالك العرش العظيم الذي كل عرش، وإن عظم، فدونه، لا يشبهه عرش ملكة سبأ ولا غيره.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد; في قوله:(أحطت بما لم تحط به ) إلى قوله(لا إله إلا هو رب العرش العظيم ) هذا كله كلام الهدهد.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلمة، عن ابن إسحاق بنحوه.
القول في تأويل قوله تعالى : { قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين (27) اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون (28) }
يقول تعالى ذكره:( قال ) سليمان للهدهد:( سننظر ) فيما اعتذرت به من العذر، واحتججت به من الحجة لغيبتك عنا، وفيما جئتنا به من الخير( أصدقت ) في ذلك كله(أم كنت من الكاذبين ) فيه(اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون )
فاختلف أهل التأويل في تأويل ذلك; فقال بعضهم: معناه: اذهب بكتابي هذا، فألقه إليهم، فانظر ماذا يرجعون، ثم تول عنهم منصرفا إلي، فقال: هو من المؤخر الذي معناه التقديم.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: فأجابه سليمان، يعني أجاب الهدهد لما فرغ:( سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ) وانظر ماذا يرجعون، ثم تول عنهم منصرفا إلي. وقال: وكانت لها كوة مستقبلة الشمس، ساعة تطلع الشمس تطلع فيها فتسجد لها، فجاء الهدهد حتى وقع فيها فسدها، واستبطأت الشمس، فقامت تنظر، فرمى بالصحيفة إليها من تحت جناحه، وطار حتى قامت تنظر الشمس.
قال أبو جعفر: فهذا القول من قول ابن زيد يدل على أن الهدهد تولى إلى سليمان راجعا بعد إلقائه الكتاب، وأن نظره إلى المرأة ما الذي ترجع وتفعل كان قبل إلقائه كتاب سليمان إليها.

(19/450)


الصفحة السابقة   //   الصفحة التالية