صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)
الكتاب : مفهوم التفسير |
مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر (1/1)
د . مساعد بن سليمان الطيار
المقدمة
الحمد لله متم النعم على عباده، يعيد فضله عليهم كما يبديه لهم، وينشر لهم رحمته، وييسر لهم عبادته. والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله الطاهرين، وعلى صحبه الكرام، وعلى من تبعهم إلى يوم الدين.
أما بعد، فلقد كنت أحجم عن تحرير بعض المصطلحات خوف الوقوع في مشكلة تفلسف لا معنى لها، وكنت قد تتبعت بعض المصطلحات، فرأيت فيها خللا من جهة التعريف، أو خللا من جهة النتائج، كمصطلح التفسير، ومصطلح التفسير الموضوعي، ومصطلح الإعجاز العلمي(1)
__________
(1) لقد كتبت في هذا الموضوع رسالة أرجو أن ييسر الله أمرها، وقد كنت أتحاشى الكتابة في هذا الموضوع لما فيه من كثرة المطروح، وبعد أن قرأت في بعض هذه الكتب التي تتحدث عن الإعجاز العلمي، ظهر لي أن الأمر يحتاج إلى إيضاح لهذا الموضوع، وضبط لما يفسر به القرآن من هذه القضايا التي أنتجها البحث التجريبي المعاصر، وظهر لي أن في تسميته بهذا الاسم خللا، وأنه يصدق عليه أن يكون ((دلائل صدق القرآن))، وليس الإعجاز، كما أن التفسيرات غيره ليست علمية، مع ملاحظة أن هذه التسمية فيها آثار التغريب الذي يجعل العلوم الدنيوية توسم بالعلم، وغيرها من العلوم الأدبية والاجتماعية والشرعية على وجه الخصوص لا توسم بذلك، والموضوع ذو شجون، وإنما أشرت إليه هنا لأخلص إلى سؤالين طرحا علي بشأن مسألتين متعلقتين بما يسمى الإعجاز:
السؤال الأول: فيما ظهر لبعض الناس من توافق عددي بين ما حصل من الحدث العظيم الذي عاقب الله به الكفار في (2001:9:11)، مع آية في سورة التوبة، فقد ظهر لذلك القارىء أن الآية العاشرة بعد المائة (110) تشير إلى أحد البرجين الذي تتكون طوابقه من هذا العدد، وأن عدد السورة في ترتيب المصحف هي التاسعة تشير إلى الشهر الميلادي، وأن الجزء الذي فيه هذه الآية هو الحادي عشر تشير إلى اليوم الذي وقع فيه هذا الحدث، فزعم أن هذا من إعجاز القرآن، لأنه - بزعمه - أشار إلى هذا الحدث المستقبلي!.
ولا أدري لم لم ينظر إلى العد بالحساب القمري، ولا ذكر البرج الثاني الذي لا يتوافق مع العدد الذي ظهر له؟!.
وهذا بلا شك موافقة غير مقصودة، والآية نازلة في مسجد الضرار، وليس هنا علاقة بينها وبين ما حدث لا من قريب ولا من بعيد، ومن قال: إن هذا البرج من مباني الضرار، فأين موقع الآخر من الآية، وإذا كان يعد هذين البرجين من مباني الضرار، قياسا على مسجد الضرار، فإنه يدخل في الآية كل مباني الكفار التي يعملون بها ضد العالم، وضد المسلمين بالذات.
ثم ما الحاجة الداعية إلى هذا الربط الغريب العجيب، ومن ذا الذي يجزم بأن هذا مراد لله، إن هذا مما يدخل في الرأي المذموم، لأنه قول على الله بغير علم، ما أكثر ما يقع من أصحاب ما يسمى بالإعجاز العلمي، أو التفسير العلمي.
وهل يعتمد صاحب هذا القول على أن هذا الترتيب جاء بالتوقيف، أم يرى أنه على ما جاء من مصادقة الترتيب هذه.
فإن كان جاء مصادفة، فما أكثر المصادفات التي يمكن أن تظهر لك، فقد تظهر لك مصادفات متعلقة بالأرقام وأنت تقرأ كتاب تاريخ، أو غيره، فهل هذه المصادفات من قبيل الإعجاز؟!.
وإن كان يزعم أن هذا مراد، وأنه ليس من قبيل المصادفة، فقوله منقوض بأمور:
الأول: أن ترتيب الأجزاء من عمل المتأخرين، وليس فيه توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، فهو عمل اجتهادي.
الثاني: أن في ترتيب السور قولين: قيل: إنه اجتهادي، وقيل: إنه توقيفي، ولعل من ظهر له هذا التوافق العجيب لا يعلم بهذا، وإن علم فهل حرر مسألة التوقيف والاجتهاد في ترتيب السور ليجعل ما توصل إليه من هذا التوافق صحيحا.
الثالث: هل يعلم قائل هذا القول علما يسمى ((علم عد الآي))؟ وهل يعلم أنه مختلف في عدد آي هذه السورة على قولين:
الجمهور على أنها مائة وثلاثون آية، وفي العد الكوفي الذي عليه عد المصحف الذي بين يديك عدد آياتها مائة وتسع وعشرون آية. وعلى قول الجمهور ينتقض عدد الآية، لأنه يكون عددها على قولهم آية 111، فهل درى بهذا، وحرر هذه المسألة؟.
وكأني بك أيها القارىء الكريم تقول: قد أطلت في هذا، وهو مما لا يحتاج إلى إطالة في بطلانه، فأقول لك متعذرا: إن عصرك عصر يسود فيه من يأتي بالغرائب، ويبرز فيه من يحسن جلبها، فأحببت أن أرد من يتعرض لكتاب الله بما لا يقبله عقل العقلاء، ولكي يعلم أن العلم له باب من أراده من غير بابه خرج بما لا تقبله العقول، وجاء بما لا ينطلي إلا على قلوب الأغرار، ولو كانوا يعدون عند الناس من الكبار.
وإني أخبرك بأنك لست بحاجة لإثبات عظمة القرآن وصدقه إلى هذا السبيل، وهو ما يسمى بالإعجاز، إذ أنه ليس هو السبيل الوحيد لإثبات عظمة هذا القرآن، بل هو أحد هذه السبل، واعلم أن العلم وحده قد لا يكفي ما لم يكن له قوة تحميه، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فافهم عني ما قلت، والله الموفق إلى سواء السبيل.
السؤال الثاني: قال السائل سمعت في شريط الإعجاز العلمي للدكتور زغلول النجار حديثه عن ما يتعلق بقوله تعالى: ( وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ) [الحديد: 25]، وكان مما قاله في هذا ما نصه: ((كنت ألقي هذه المحاضرة في جامعة ملبورن في إستراليا من أربع سنوات، فوقف لي أستاذ كيمياء في الجامعة، وقال لي: يا سيدي، هل حاولت أن تقارن بين رقم سورة الحديد في القرآن الكريم والوزن الذري للحديد، ورقم الآية في السورة والعدد الذري للحديد؟.
قلت له: لا، موضوع الأرقام موضوع حرج للغاية، إذا لم يدخله الإنسان بحذر شديد يدمر نفسه.
قال: أرجوك، حينما تعود إلى بلدك أن تتحقق من هذه القضية...
أتيت بالمصحف الشريف، وبالجدول الدوري للعناصر وكتاب في الكيمياء غير العضوية، فأذهلني أن رقم سورة الحديد سبع وخمسون، والحديد له ثلاث نظائر (54، 56، 57) ورقم الآية في السورة (25)، والعدد الذري للحديد (26)، فقلت: إن هذا القرب الشديد لا بد أن له تفسيرا، فألهمني ربي آية قرآنية مبهرة، يقول فيها الحق تبارك وتعالى مخاطبا هذا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم... ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ) [الحجر: 87] ، فالقرآن بنصه يفصل الفاتحة عن بقية القرآن الكريم، ويعتبر الفاتحة مقدمة للقرآن، فقلت: إذا فصلنا الفاتحة عن بقية سور القرآن الكريم يصبح رقم سورة الحديد (56)، ولو بقيت (57)، ففيه نظير للحديد (57)، لكن أكثر النظائر انتشارا للحديد (56).
الآية رقمها (25)، والعدد الذري للحديد (26)، ووجدت القرآن الكريم يصف الفاتحة بأنها سبع من المثاني، وآياتها ست، فالبسملة آية من الفاتحة وآية من كل سورة قرآنية ذكرت فيها البسملة ما عدا سورة التوبة، فإذا أضفنا البسملة في مطلع سورة الحديد يصبح رقم الآية (26)، ويعجب الإنسان إلى هذه اللفتة المبهرة، من الذي علم المصطفى صلى الله عليه وسلم ذلك قبل ألف وأربعمائة سنة، لم يكن أحد يعلم شيئا عن الأوزان الذرية، ولا لأعدادها الذرية، ولكن هذه معجزة هذا الكتاب الخاتم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذه الومضات القرآنية المبهرة تبقى دائما شهادة صدق على أن القرآن كلام الله، وأن هذا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم كان موصولا بالوحي)) (محاضرة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، للدكتور زغلول النجار، تسجيلات أحد).
ولا أرى أنه يخفى على العامي قبل المتعلم ذلك التكلف الذي قام به الدكتور الفاضل لإثبات قضية لا شأن لها في ذاتها، فضلا عن أن تكون معجزة من معجزات القرآن، ولا يخفى على طالب العلم ما وقع له في تفسير الآية، ولا أدري هل يعرف الدكتور الفاضل التفسير النبوي لهذه الآية؟! فالوارد عنه صلى الله عليه وسلم يجعل السبع المثاني والقرآن العظيم وصفين للفاتحة، والعطف هنا من باب عطف الصفات لا عطف الذوات، فقد روى البخاري وغيره جملة من الأحاديث في هذا المعنى، ومنها: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أم القرآن: هي السبع المثاني والقرآن العظيم)). رواه البخاري برقم (4704)، وقال ابن كثير معلقا على هذه الروايات: ((فهذا نص في أن الفاتحة السبع المثاني والقرآن العظيم)). تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، تحقيق: سامي السلامة (547:1)، وما دام ثبت النص عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، فإن غيره من الأقوال تسقط، ويكون تفسير الآية ما قاله صلى الله عليه وسلم.
كما لا يخفى ما وقع منه في جزمه بأن البسملة آية من كل سورة، بلا تحقيق في هذه المسائل، ولا رجوع إلى أهل العلم الذين يعرف كلامهم فيها، بل اختار ما يناسب ما يريد أن يذهب إليه، وهو معرض عن ما لا يناسبه، بل تحقيق علمي، كما عوده البحث في العلوم التجريبية، وهل يصح هذا الاختيار بلا تحقيق؟!
وكذلك لا يسعفه علم عد الآي فعدد آيات السورة في العد الكوفي والبصري (29)، وفي عد الباقين (28)، وبهذا تكون الآية (24) بدلا من أن تكون (25)، ولو جعل البسملة آية على هذا القول، لصارت الآية (25)، ولا نتقض ما بناه أيضا.
وكل هذا التكلف في محاولة ربط مثل هذه القضايا بالقرآن إنما يصدر ممن يأتي إلى القرآن بمقررات سابقة ويريد أن يطوع القرآن لمقرراته، ضاربا بكل ما خالفها عرض الحائط، ولو كان ما خالف قوله هو العلم الصحيح، وفي هذه المحاضرة في الإعجاز العلمي أخطاء أخرى ليس هذا محل عرضها.
(ينظر في ما ذكر من عد الآي: كتاب البيان في عد أي القرآن، للداني، تحقيق: الدكتور غانم قدوري الحمد).
وغيرها. (1/2)
ورأيت أن بعضها بحاجة إلى تحرير، لأنها لم تحرر، كمصطلح المفسر، وكالفرق بين مصطلح علوم القرآن ومصطلح أصول التفسير، إلى غير ذلك من المصطلحات المنثورة في علوم القرآن(1).
وكنت أخشى أن لا يكون البحث فيها مجديا ولا مفيدا، وأن يكون الأمر من باب تسويد الورق بلا ثمرة علمية. ولكني رأيت أن بعضها يبنى عليه مسائل علمية، وأن تحرير هذه المصطلحات يفيد في أمور، منها:
بيان المصطلح بذاته.
عدم دخول ما ليس منه فيه.
التفريق بين ما يظن أنه من المترادفات في المصطلحات.
وقد كان من أكبر ما دعاني إلى خوض ذلك الغمار عدم وضوح بعض المصطلحات، أو تداخل بعضها ببعض، أو بناء نتائج علمية على تعريفات غير صحيحة لبعض هذه المصطلحات(2).
وقد رأيت أن أقدم لهذا الكتاب بتطبيق على مصطلح وقع فيه خلل، وهو مصطلح ((التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي))، ليتبين به أهمية البحث في هذه المصطلحات، وأسأل الله أن يوفقني فيما أقول، إنه هو المستعان، وعليه الاتكال.
تطبيق على مصطلح التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي
__________
(1) لم أكتب في هذا الكتاب سوى مصطلحات خمسة، وهي التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر، وذكرت في المقدمة تطبيقا على أثر الخطأ في المصطلح من خلال مصطلح التفسير بالمأثور وما يقابله من التفسير بالرأي، وما عداها فإني سأنشره لاحقا إن يسر الله.
(2) بعد كتابة هذه المقدمة اطلعت على مقالة مفيدة في المصطلحات، لمحمد الثاني بن عمر بن موسى بعنوان (التقليد والإيضاح لقولهم: لا مشاحة في الاصلاح)، تنظر في مجلة الحكمة (محرم 1422. عدد 22، ص: 281-317).
وانظر دراسة تطبيقية لأثر المصطلحات في بعض العلوم الشرعية في كتاب (المنهج المقترح لفهم المصطلح) للشريف حاتم بن عارف العوني.
إن مصطلح التفسير بالمأثور معروف عند العلماء السابقين، لكن تعريفه بأنه: تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسنة، وتفسير القرآن بأقوال الصحابة، وتفسير القرآن بأقوال التابعين = مصطلح معاصر. (1/3)
وقد جعل مصطلح التفسير بالمأثور هذا مقابلا للتفسير بالرأي، أي أن ما لم يكن من التفسير بهذه الأنواع الأربعة، فهو من التفسير بالرأي.
ومما بني على هذين المصطلحين من نتائج: تقسيم كتب التفسير على هذين المصطلحين.
وهناك غير ذلك مما ذكره من كتب في هذا المصطلح سيأتي ذكر بعضها أثناء الحديث عنه.
مناقشة هذا المصطلح:
أولا: في تحديد التفسير بالمأثور في هذه الأنواع الأربعة:
إن من جعل التفسير بالمأثور يشمل هذه الأنواع الأربعة، لم يبين سبب تحديد المأثور بها. وهذا التحديد اجتهاد، وهو قابل للأخذ والرد، كما هو الحال في غيره من المصطلحات العملية غير الشرعية.
وأقدم من رأيته نص على كون هذه الأربعة هي التفسير بالمأثور الشيخ محمد عبدالعظيم الزرقاني (ت: 1367)، حيث ذكر تحت موضوع (التفسير بالمأثور) ما يأتي: ((هو ما جاء في القرآن أو السنة أو كلام الصحابة تبيانا لمراد الله من كتابه)) (1).
ثم جاء بعده الشيخ محمد حسين الذهبي (ت: 1397)، فذكر هذه الأنواع الأربعة تحت مصطلح (التفسير المأثور)، فقال: ((يشمل التفسير المأثور: ما جاء في القرآن نفسه من البيان والتفصيل لبعض آياته، وما نقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وما نقل عن الصحابة رضوان الله عليهم، وما نقل عن التابعين، من كل ما هو بيان وتوضيح لمراد الله تعالى من نصوص كتابه الكريم)) (2).
__________
(1) مناهل العرفان (12:2)، ويلاحظ هنا أنه لم يدخل تفسير التابعين.
(2) التفسير والمفسرون، للذهبي (152:1).
ثم تتابع بعض المعاصرين على هذا المصطلح بتقسيماته الأربعة. لذا فإن كثرة وجوده في كتب علوم القرآن المعاصرة، أو غيرها من كتب مناهج المفسرين، أو مقدمات بعض المحققين لبعض التفاسير(1) = لا يعني صحته على الإطلاق، بل هؤلاء نقلوه عن كتاب ((التفسير والمفسرون)) بلا تحرير ولا تأمل فيه، إلا القليل منهم. (1/4)
إن المعروف من لفظة مأثور: ما أثر عن السابقين، وتحديد زمن معين إنما هو اصطلاح. وإذا كان ذلك كذلك، فكيف يكون تفسير القرآن بالقرآن مأثورا، وأنت ترى الله يمن عليك بتفسير آية بآية، فعن من أثرته؟!
عن من أثر ابن كثير (ت: 1393) في كتابه أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، عمن أثر تفسيراته القرآنية للقرآن؟!
وإذا كان ذلك واضحا لك، فكيف يكون اجتهاد المتأخرين والمعاصرين وأهل البدع الذين يحملون بعض الآي على بعض ويفسرونها بها، كيف يدخل كل هذا في المأثور عن الصحابة والتابعين؟!
__________
(1) من أمثلة الكتب التي سارت على هذا التقسيم: التبيان في علوم القرآن – للصابوني (ص: 63)، أثر التطور الفكري في التفسير في العصر العباسي د مساعد بن مسلم آل جعفر (ص: 72)، مدرسة التفسير في الأندلس لمصطفى إبراهيم المشني (ص: 127)، مكي بن أبي طالب ومنهجه في التفسير لأحمد حسن فرحات (ص: 231)، مقدمة تحقيق تفسير السمرقندي المسمى بحر العلوم، حققه الشيخ علي محمد معوض وزملاه (45:1).
ولا شك أن حمل معنى آية على آية هو من اجتهاد المفسر، سواء أكان المفسر من الصحابة، أم كان من التابعين، أم كان ممن جاء بعدهم، والاجتهاد عرضة للخطأ، ويوزن بميزان علمي معروف، ولا يقبل إلا إذا حفت به شرائط القبول، كأي اجتهاد علمي آخر(1). (1/5)
ومن هنا يجب أن تفرق بين كون القرآن مصدرا من مصادر التفسير، أو أنه أحسن طرق التفسير، وبين كون التفسير به يعد من التفسير بالمأثور، والفرق بين هذين واضح.
أين يقع تفسير أتباع التابعين في هذين المصطلحين، وما علة جعله مأثورا أو غير مأثور عند هؤلاء؟.
__________
(1) ليس الحديث هنا عن قبول التفسير بالقرآن وعدم قبوله، لكن ما ينبه عليه هنا أن بعض تفسير القرآن بالقرآن ما يمكن أن يدخل فيما أجمع عليه، لأنه لا يكاد يختلف فيه اثنان، وهذا إنما قبل من هذه الجهة فحسب، لا لكونه تفسير قرآن بقرآن فقط، ولا شك أن ما كان تفسيرا بالقرآن – إن صح – فإنه أولى ما يرجع إليه، كأن يكون تفسيرا واردا عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو يكون كمثل قوله تعالى: ( والسماء والطارق * وما أدراك ما الطارق * النجم الثاقب ) [الطارق: 1- 3]، فمن ذا الذي يمكنه أن لا يفسر الطارق بأنه النجم الثاقب. وهذا النوع أعلى التفاسير وأبلغها، لكن هناك كثير من تفسيرات للقرآن بآي من القرآن عليها ملاحظات، وفيها أخطاء، فلا يمكن أن يحكم لها بالصحة لأنها تفسير قرآن بقرآن.
لقد علل محمد حسين الذهبي (ت: 1397) لسبب إدخال تفسير التابعين في المأثور، فقال: ((وإنما أدرجنا في التفسير بالمأثور ما روي عن التابعين – وإن كان فيه خلاف: هل هو من قبيل المأثور أو من قبيل الرأي؟(1) – لأننا وجدنا كتب التفسير المأثور – كتفسير ابن جرير وغيره – لم تقتصر على ما ذكر مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة، بل ضمنت ذلك ما نقل عن التابعين في التفسير)) (2). (1/6)
وإذا تأملت هذه العلة التي ذكرها، وجدتها أنها تندرج على مفسري أتباع التابعين، كابن جريج (ت: 150)، وسفيان الثوري (ت: 161) وابن زيد (ت: 182) وغيرهم ممن ترى تفسيراتهم منثورة في كتب التفسير التي تعنى بنقل أقوال مفسري السلف – كتفسير الطبري (ت: 310) وابن أبي حاتم (ت: 327) وغيرهما – بل قد لا يوجد في مقطع من مقاطع الآية إلا تفسيرهم، فلم لم يعدها من التفسير بالمأثور؟!.
إن بيان أصل الخلط في هذا المصطلح يدل على عدم تحريره وصحته، فقد كان أصل النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728) في حديثه عن أحسن طرق التفسير، وهي تفسير القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بأقوال الصحابة، ثم بأقوال التابعين(3).
__________
(1) يظهر أنه نقله من الزرقاني، فقد قال في مناهل العرفان (13:2): ((وأما ما ينقل عن التابعين ففيه خلاف بين العلماء: منهم من اعتبره من المأثور، لأنهم تلقوه من الصحابة غالبا، ومنهم من قال: إنه من التفسير بالرأي)).
(2) التفسير والمفسرون (152:1).
(3) ينظر: مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، تحقيق: عدنان زرزور (ص: 93- 102).
ومما يبين أنهم اعتمدوا على ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728) وغيروا المصطلح من ((طرق التفسير)) إلى ((التفسير بالمأثور)) أنهم حكوا الخلاف في كون تفسير التابعين يعد من التفسير بالمأثور أو لا يعد، قال الزرقاني (ت: 1367): ((وأما ما ينقل عن التابعين ففيه خلاف بين العلماء: منهم من اعتبره من المأثور، لأنهم تلقوه من الصحابة غالبا، ومنهم من قال: إنه من التفسير بالرأي)) (1). (1/7)
وقال محمد حسين الذهبي (ت: 1397): ((وإنما أدرجنا في التفسير المأثور، ما روي عن التابعين – وإن كان فيه خلاف: هل هو من قبيل المأثور أو من قبيل الرأي؟ - لأننا وجدنا كتب التفسير المأثور – كتفسير ابن جرير وغيره – لم تقتصر على ما ذكر مما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة، بل ضمنت ذلك ما نقل عن التابعين في التفسير)) (2).
والأصل الذي نقلا منه – وهو رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728) – جاء فيه ما يأتي: ((وقال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حجة، فكيف تكون حجة في التفسير؟ يعني أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم. وهذا صحيح. أما إذا اجتمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون قول بعضهم حجة على بعض، ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن والسنة، أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك)) (3).
وإذا وازنت بين هذه النقول تبين لك أنهم تركوا مصطلح ((طرق التفسير)) إلى مصطلح أحدثوه بدلا عنه، وهو مصطلح ((التفسير بالمأثور))، ونزلوا ما ذكره شيخ الإسلام (ت: 728) في حديثه عن ((طرق التفسير)) على هذا المصطلح الذي اصطلحوا عليه.
ثانيا: علاقة المأثور بالرأي:
__________
(1) مناهل العرفان، للزرقاني (13:2).
(2) التفسير والمفسرون (152:1).
(3) مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، تحقيق: عدنان زرزور (ص: 105).
يفهم ممن جعل التفسير بالرأي قسيما للتفسير بالمأثور، أن التفسير بالرأي ما عدا الأربعة المذكورة في التفسير بالمأثور، وهذا فيه عدم تحرير، وقد ظهر من ذلك نتائج، منها: أن التفسير المأثور أصح من التفسير بالرأي، وأنه يجب الاعتماد عليه. (1/8)
وهذا الكلام من حيث الجملة صحيح، إلا أنه لم يقع فيه تحديد مصطلح الرأي، ومعرفة مستندات الرأي لكل جيل من العلماء، وإذا تبينت هذه الأمور بانت العلاقة بينهما، وإليك بيان ذلك باختصار.
إن تسمية هذه الأربعة بأنها مأثور جعل بعض الباحثين الذين اعتمدوا هذه المصطلح يغفل عن وقوع الاجتهاد في التفسير عند السلف، فإذا كان لهم اجتهاد، فهل هو تفسير بالرأي، أو يعد بالنسبة لهم مأثورا؟.
فإذا كان المفسر المجتهد من الصحابة، فهل يعد تفسيره مأثورا بالنسبة لغيره من الصحابة؟.
وإذا كان المفسر المجتهد من التابعين، فهل يعد تفسيره بالنسبة للصحابة مأثورا؟.
لا شك أن الجواب: لا، لا يعد مأثورا.
لكن تفسير الصحابة بالنسبة للتابعين وأتباعهم مأثور.
وتفسير التابعين بالنسبة لأتباع التابعين مأثور.
والمراد بالمأثور هنا مطلق المعنى اللغوي أو الاصطلاحي عند علماء مصطلح الحديث. ولا يعني وصفه بأنه مأثور مطلق القبول، وتقديمه على غيره، لأن في الأمر تفصيل ليس هذا محله ولا يمكن الخروج من هذه إلا إن قال من اصطلح على هذا المصطلح: أنا أريد بالرأي: الرأي المذموم، وهذا ما لم يشر إليه من درج على هذين المصطلحين.
ولبيان المسألة أكثر، أقول: بعد أن تشكل تفسير السلف، وتحدد في طبقاته الثلاث (الصحابة والتابعين وأتباع التابعين) كما هو ظاهر من نقول المعتنين بكتابة علم التفسير من علماء أهل السنة، الذين اعتمدوا النقل أو الترجيح بين الأقوال، صار التفسير المأثور عن السلف مصدرا يجب الرجوع إليه، والاعتماد عليه، وهذا ظاهر لا مشكلة فيه.
لكن هل يعني وصفه بأنه مأثور أنه لم يقع فيه تفسير بالرأي؟. (1/9)
إن التفسير بالرأي كان منذ عهد الصحابة الكرام، وكان لهم مستندهم في الرأي، من القرآن والسنة واللغة وأسباب النزول وشيء من مرويات بني إسرائيل، وأحوال من نزل فيهم القرآن... إلخ.
وجاء التابعون، وكان جملة كبيرة من تفسيرهم بالرأي، وكان لهم اختيار في التفسير قد يخالف اختيار أفراد الصحابة، وكانت مستندات الرأي عندهم ما كان عند الصحابة، وزاد في مصادرهم تفسير الصحابة، لأ،هم جاءوا بعدهم.
ثم جاء أتباع التابعين، وكان الحال كما كان في عهد التابعين، وعليهم وقف النقل في التفسير، كما هو ظاهر من كتب التفسير التي نقلت أقوال السلف.
وكان تفسير كل طبقة بالنسبة لمن جاء بعدهم مأثورا، لكنه لا يحمل صفة القبول المطلق لأنه مأثور فقط، لأن فيه جملة من الاختلاف التي تحتاج إلى ترجيح القول الأولى = بل له أسباب أخرى مع كونه مأثورا.
إذا تبين ما سبق، فإن التفسير المأثور عن السلف على قسمين:
القسم الأول: المنقول المحض الذي لا يمكن أن يرد فيه اجتهاد، ويشمل تفسيرات النبي صلى الله عليه وسلم وأسباب النزول وقصص الآي والغيبيات.
والقسم الثاني: ما كان لهم فيه اجتهاد، ويظهر فيما يرد عليه الاحتمال من التفسير.
وما دام في تفسيرهم رأي، فما نوع الرأي الذي عندهم، وما نوع الرأي الذي جاء بعدهم؟.
أما الرأي الوارد عنهم، فهو من قبيل الرأي المحمود، لأنهم لم يكونوا يقولون في القرآن بغير علم، كما لم يكن عندهم هوى مذهبي يجعلهم يحرفون معاني الآيات إلى ما يعتقدونه، فلما سلموا من هذين السببين اللذين هما من أكبر أسباب الوقوع في التحريف في التفسير، وكانوا يفسرون كلام الله على علم، كان رأيهم محمودا في التفسير.
ووجود قول ضعيف في تفسيرهم لا يعني أنه من الرأي المذموم، وما ورد من تفسيرات غريبة عن بعضهم، أعني بعض تفسيرات مجاهد (ت: 104) لمسخ بني إسرائيل قردة وخنازير، والميزان، والنظر إلى وجه الله = إنما هي أفراد في تفاسيرهم، وهي نادرة لا تكاد تذكر. (1/10)
وأما الرأي الذي جاء بعد تفسير السلف فهو على قسمين:
القسم الأول:
الرأي المحمود، وهو المبني على علم، وهو نوعان:
النوع الأول: الاختيار من أقوالهم بالترجيح بينها إذا دعا إلى ذلك داع، بشرط أن يكون المرجح ذا علم، ولا يختار من أقوالهم حسب هواه وميوله. ولا بد أن يكون المرجح على علم بأنواع ما يقع من الاختلاف عنهم، وهو قسمان:
الأول: أن يكون الخلاف راجعا إلى معنى واحد، ويكون الخلاف بينهم خلاف عبارة، ويدخل الرأي هنا في توجيه أقوالهم إلى كونها على قول واحد وأنه لا يوجد خلاف حقيقي ولا خلاف معتبر فيه بين هذه الأقوال.
الثاني: أن يكون الخلاف بينهم راجعا إلى أكثر من معنى، فتصحيح أقوالهم على أنها من اختلاف التنوع، أو اختيار أحد هذه المعاني من المفسرين الذين جاءوا بعدهم إنما يكون برأي واجتهاد، كما فعل الطبري (ت: 310).
النوع الثاني: الإتيان بمعنى جديد صحيح لا يبطل تفسير السلف، ولا يقصر معنى الآية عليه.
لا شك في أن المعاني تنتهي، ولكن هذا لا يعني أن تفسير القرآن قد توقف على جيل أتباع التابعين، وأنه لا يجوز لغيرهم أن يفسر القرآن.
نعم لا يعني هذا، ولكن لا بد من ضوابط في هذا، وهو ما يشير إليه عنوان الفقرة من أن يكون المعنى صحيحا واردا في اللغة، وأن يكون غير مناقض [أي: مبطل] لقول السلف، وأن لا يعتقد المفسر بطلان قولهم وصحة قوله فقط. فإذا حصلت هذه الضوابط = صح – والله أعلم – التفسير الجديد، وصار من التفسير بالرأي المحمود المعتمد على علم، والله أعلم.
القسم الثاني:
الرأي المذموم، وله عدة صور، ويغلب عليه أن يكون تفسيرا عن جهل أو عن هوى، وعلى هذا أغلب تفاسير المبتدعة من المعتزلة والرافضة والصوفية وغيرهم. (1/11)
وبعد هذا يتبين ما يأتي:
أن جعل التفسير بالمأثور مقابلا للتفسير بالرأي لا يصح.
أن تسمية الوارد عن السلف بأنه مأثور لا إشكال فيه، لكن لا يقابله غيره على أنه تفسير بالرأي، لأن في هذا نسيان للرأي الوارد عن السلف.
أن الحكم على التفسير المأثور بالقبول، يصح من حيث الجملة، لكنه لا يتلاءم مع الاختلاف المحقق الوارد عنهم، وفي هذه الحال لا بد من معرفة القول الأولى أو القول الصحيح في الآية، وهذا يحتاج إلى رأي جديد، فهل تقف عند الاختلاف بزعم قبول المأثور، أم ترجح ما تراه صوابا، فتكون ممن قال برأيه؟.
إن ما ورد عن الصحابة أو التابعين أو أتباعهم، فإنه مأثور، ولكنه لا يقبل لأجل هذه العلة فقط، بل هو درجات في القبول، كأن يكون إجماعا منهم، أو قول جمهورهم، أو غيرها من الأسباب.
هذا، ولقد تتبعت مصطلح ((مأثور)) و((المأثور))، فلم أظفر على هذا التقسيم الرباعي الذي ذكره هؤلاء، بل يطلقه العلماء على ما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو عن السلف، أو الصحابة، أو عن التابعين(1)، وأحسب أن هذه القضية ليست بحاجة إلى نقل لتدعيمها، لكثرة ما ترد في كتب اللغة، ومصطلح الحديث، وغيرها، فتجد المأثور في اللغة: ما نقله الخلف عن السلف، وقد يكون اصطلاحا عند بعضهم على ما أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو عن أصحابه أو عن التابعين، وهو في كل هذه الاصطلاحات لم يخرج عن المعنى العام للفظة. (1/12)
وقد يسمى المأثور عنهم بالتفسير المنقول، ويقسمون التفسير إلى نقلي واجتهادي، ولكن لا يعنون أن ما نقل عنهم لا يقع فيه اجتهاد، بل مرادهم اجتهاد المفسر في أي عصر كان(2).
__________
(1) على هذا المنهج سار السيوطي في كتابه: الدر المنثور في التفسير بالمأثور، وهذا هو المنهج الغالب على كل من كتب في التفسير ونقل مرويات السلف الكرام، وليس فيها تخصيص للقرآن بالقرآن بالذكر، بل تجده ضمن تفسير من فسر به، سواء أكان من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم، أم كان من تفسير من جاء بعده من الصحابة والتابعين وتابعيهم.
(2) ينظر على سبيل المثال: النكت والعيون للماوردي، تحقيق: السيد بن عبدالمقصود (21:1)، ومقدمة ابن خلدون، ط: دار القلم (ص: 439، 440).
ومما يذكر هنا أن بعض من رام التفريق بين التفسير والتأويل، يجعل التفسير للمنقول منه، والتأويل لما وقع من طريق الاستنباط، كالبغوي في تفسيره معالم التنزيل (35:1)، وليس هذا الفرق بصحيح، كما سيأتي في بيان هذين المصطلحين.
أو يسمى المنقول عنهم بالرواية، والمأخوذ من طريق الاجتهاد بالدراية(1)، ولكن يجب أن تنتبه إلى أن لهم في تفسيرهم دراية، ثم صار لمن بعدهم رواية. (1/13)
وأيا ما اصطلحت على المنقول عن السلف، فإنه يجب أن تتنبه إلى ورود الاجتهاد عنهم، وأنهم صاروا بعد ذلك مصدرا لمن جاء بعدهم، يعتمد عليهم، ويتخير من أقوالهم، أو يضيف ما صح من المعنى ولم يناقض أقوالهم.
ويمكن تلخيص هذا الموضوع فيما يأتي:
__________
(1) سار على هذه التسمية الشوكاني، وقد سمى تفسيره: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية، وقصد بالرواية ما نقل عن السلف، وقد اعتمد في أغلب ما ذكره عنهم على كتاب الدر المنثور للسيوطي (فتح القدير 13:1). لكنه في منهجه في ترتيب كتابه وقع في أمر غريب جدا، حيث جعل التفسير المنقول عن السلف بعد ما يذكره من التفسير بالدراية، ولم يخلط بينها ويمزجها، مع أنه في بعض المواضع يذكر معنى من المعاني، ويشير إلى أنه سيرد في المنقول عن السلف، ولم أجد من سبقه إلى هذه الطريق، ولا من لحقه بها، ولقد كان المهيع المسلوك هو مزج تفسير السلف بغيره مما يذكره المتأخرون. ولقد لاحظت أن عمله هذا أضعف جانب المنقول عنده، فقل من يعتني به من دارسيه، بل كانوا إذا وصلوا إلى قوله: ((وأخرج)) انتقلوا إلى ما بعدها من الآيات، وهذا من القصور الذي سببه هذا التقسيم من الشوكاني.
كما أن هذا التأخير للمنقول عن السلف، وعدم مزجه في التفسير يظهر عدم الاعتداد به، وأنه يمكن أن يغني عنه تفسير المتأخرين، وهذا قصور في النظر والتحقيق.
إن القرآن مصدر مهم من مصادر التفسير، ولا يقبل التفسير به لمجرد كونه تفسير قرآن بقرآن، بل لاعتبار آخر، كأن يكون من تفسير النبي صلى الله عليه وسلم، أو مما لا يمكن الاختلاف في كونه مفسرا بقرآن، أو مما يكون مجمعا عليه، أو بالنظر إلى علو مرتبة مفسره، أو غيرها من القرائن التي تدل على صحة التفسير به. (1/14)
وإذا كان التفسير بالقرآن ممن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم، فهو من اجتهاد المفسر به، لذا قد يختلف مفسر وغيره في حمل آية على آية، وإنما كان ذلك بسبب الاجتهاد.
إن إطلاق المأثور على المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم إطلاق صحيح.
إن الصحيح المروي من تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم المباشر حجة في تفسير الآية بلا خلاف.
إن هذا المأثور عنهم حجة من حيث الجملة، وهو – لمن جاء بعدهم – من أهم مصادر التفسير التي يجب الرجوع إليها.
إن جملة من التفسير المروي عن السلف معتمده النقل، وهو كسائر المنقولات من حيث اعتماد الصحيح منها، ويدخل في ذلك أسباب النزول وقصص الآي، وغيرها من المغيبات التي تفتقر إلى النقل.
وهذه المنقولات ترد عن الصحابة وعن التابعين وأتباعهم ويختلف قبولها بين هذه الطبقات، فالمروي عن صحابي ليس كالمروي عن تابعي، ولا عن تابع تابعي.
والمروي عن جماعة منهم، ليس كالمروي عن فرد منهم، وهكذا غيرها من القرائن التي تحف بقبول الأخبار.
إن جملة من تفسير السلف تفسير بالرأي المحمود، ولهم في ذلك معتمدات، كالقرآن واللغة، والعلم بأحوال من نزل فيهم الخطاب، والعلم بأحوال المصطفى صلى الله عليه وسلم، وغيرها.
إن التعامل مع تفسيرهم يختلف من مثال إلى غيره، فقد يكون في موطن لا يصح أن يتعدى ما قالوا، وفي بعض المواطن قد يجتهد المفسر ويختار من أقوالهم ما يراه الأصوب، وقد يجوز له في موطن غيره أن يزيد على ما قالوا من المعاني الصحيحة التي تحتملها الآية ولا تبطل ما قالوا. (1/15)
ثالثا: ما ترتب على مصطلح التفسير بالمأثور:
لقد ترتبت نتائج على مصطلح التفسير بالمأثور فيها خلل علمي، وسأذكر بعض هذه النتائج.
الأولى: الحكم على التفسير بالمأثور بأنه يجب الأخذ به.
قال مناع القطان: ((التفسير بالمأثور هو الذي يجب الأخذ به، لأنه طريق المعرفة الصحيحة، وهو آمن سبيل للحفظ من الزلل والزيغ في كتاب الله)) (1).
وهذا كلام ينقصه التحرير، من جانبين:
الأول: أن أغلب تفسير القرآن بالقرآن من قبيل الاجتهاد، وهو يدخل في التفسير بالرأي، وقبوله إنما يكون من جهة أخرى لا من جهة كونه مأثورا فقط، كما سبق بيانه.
الثاني: كيف يجب الأخذ بالتفسير الذي يقع فيه الاختلاف بين السلف؟.
هل يقبل الاختلاف على إطلاقه، أم في الأمر تفصيل؟ أما قبول الاختلاف على إطلاقه، فلا يتصور القول به.
وأما إذا رجع الأمر إلى اختيار القول الأولى أو الصحيح، فقد دخلت في التفسير بالرأي والاجتهاد، لأنك ترى أن هذا القول أولى من غيره.
وبهذا تكون قد خرجت عن التفسير بالمأثور على هذا الاصطلاح المذكور.
الثانية: افتراض وقوع الاختلاف بين المأثور والرأي.
جاء في كلام بعض من كتب في التفسير بالمأثور فرضيات عقلية لا تثبت أمام العمل التفسيري، ولم يعمل بها من قبل، ولا أخذ بها من بعد.
وسأذكر لك ما يدل على ما قلت لك، وهو من كلام من أصل هذا التقسيم وانتشر من بعده.
__________
(1) مباحث في علوم القرآن (ص: 350)، وينظر: لمحات في علوم القرآن، لمحمد الصباغ (ص: 180- 181).
عقد عبدالعظيم الزرقاني (ت: 1367) في كتابه مناهل العرفان مبحثا بعنوان (التعارض بين التفسير بالرأي والتفسير بالمأثور وما يتبع في الترجيح بينهما)، وقال فيه: ((ينبغي أن يعلم أن التفسير بالرأي المذموم ليس مرادا هنا لأنه ساقط من أول الأمر فلا يقوي على معارضة المأثور. (1/16)
ثم ينبغي أن يعلم أن التعارض بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي المحمود معناه: التنافي بينهما، بأن يدل أحدهما على إثبات والآخر على نفي، كأن كلا من المتنافيين وقف في عرض الطريق فمنع الآخر من السير فيه.
وأما إذا لم يكن هناك تناف، فلا تعارض، وإن تغايرا، كتفسيرهم الصراط المستقيم بالقرآن أو بالسنة أو بطريق العبودية أو طاعة الله ورسوله، فهذه المعاني غير متنافية وإن تغايرت...
إذا تقرر هذا، فإن التفسير بالمأثور الثابت بالنص القطعي لا يمكن أن يعارض بالتفسير بالرأي، لأن الرأي: إما ظني، وإما قطعي، أي مستند إلى دليل قطعي: من عقل أو نقل، فإن كان قطعيا، فلا تعارض بين قطعيين، بل يؤول المأثور، ليرجع إلى الرأي المستند إلى القطعي إن أمكن تأويله، جمعا بين الدليلين.
وإن لم يكن تأويله، حمل اللفظ الكريم على ما يقتضيه الرأي والاجتهاد، تقديما للأرجح على المرجوح.
أما إذا كان الرأي ظنيا، بأن خلا من الدليل القاطع، واستند إلى الأمارات والقرائن الظاهرة فقط، فإن المأثور القطعي يقدم على الرأي الظني ضرورة أن اليقين أقوى من الظن. هذا كله فيما إذا كان المأثور قطعيا، أما إذا كان المأثور غير قطعي في دلالته، لكونه ليس نصا، أو في متنه، لكونه خبر آحاد، ثم عارضه التفسير بالرأي فلا يخلو الحال: إما أن يكون ما حصل فيه التعارض مما لا مجال للرأي فيه، وحنيئذ فالمعول عليه المأثور فقط، ولا يقبل الرأي.
وإن كان للرأي فيه مجال، فإن أمكن الجمع فبها ونعمت، وإن لم يكن قدم المأثور عن النبي أو عن الصحابة، لأنهم شاهدوا الوحي، وبعيد عليهم أن يتكلموا في القرآن بمجرد الهوى والشهوة. (1/17)
أما المأثور عن التابعين، فإذا كان منقولا عن أهل الكتاب، قدم التفسير بالرأي عليه. وأما إذا لم ينقل عنهم، رجعنا به إلى السمع، فما أيده السمع، حمل النظم الكريم عليه، فإن لم يترجح أحدهما يسمع ولا بغيره من المرجحات، فإننا لا نقطع بأن أحدهما هو المراد، بل ننزل اللفظ الكريم منزلة المجمل قبل تفصيله والمشتبه أو المبهم قبل بيانه)) (1).
إنك في هذا النص أمام فرضيات مبنية على أن التفسير بالمأثور ليس فيه رأي، وأنه يمكن أن يناقضه التفسير بالرأي، ويظهر لي أن ههنا معركة دائرة بين أشياء متوهمة، لذا لم يذكر الزرقاني (ت: 1367) أمثلة لهذه الفرضيات التي استنتجها، وقد جاء بمصطلحات لا تستخدم إلا عند المتكلمين ممن كتب في علم الكلام أو في علم الأصول، وذهب يعمل بطريقة السبر والتقسيم في المحتملات التي يمكن أن ترد في التعارض المزعوم بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي.
ولعلك تلحظ فيه روح أحد علماء الكلام الذين يقدمون العقل على النقل في قوله: ((إذا تقرر هذا، فإن التفسير بالمأثور الثابت بالنص القطعي لا يمكن أن يعارض بالتفسير بالرأي، لأن الرأي: إما ظني، وإما قطعي، أي: مستند إلى دليل قطعي من عقل أو نقل، فإن كان قطعيا فلا تعارض بين قطعيين بل يؤول المأثور ليرجع إلى الرأي المستند إلى القطعي إن أمكن تأويله جمعا بين الدليلين)).
__________
(1) مناهل العرفان (2: 63- 65). ووازن هذا المنهج التفكيري بما طرحه الرازي في أساس التقديس (ص: 210)، وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا المنهج الذي يزعم تعارض العقل مع النقل في مؤلفه العظيم درء تعارض العقل والنقل.
وبهذا صار حظ التفسير بالمأثور أن يكون عرضة للعقول تؤوله على ما تراه مناسبا لها، وليس مقدما عليها. (1/18)
وأعيد فأقول: إن هذا الكلام لو خرج ممن لم يقرأ في التفسير، ولا كتب في علوم القرآن لما كان مستغربا، لكن أن يكون في كتاب من أهم كتب علوم القرآن المعاصرة، فهذا ما يعجب منه!.
وإني أظن أن قارئا لو أراد أن يطبق هذه الفرضيات التي ذكرها لظهر له زيفها وبعدها عن التحقيق، مع ما تتسم به – من أول وهلة – من النظر والتحرير والتقسيم والتحبير، لكنها في الواقع بعيدة كل البعد عن طريقة التفسير ومهيعه المعروف عند العلماء(1).
الثالثة: تقسيم كتب التفسير بين المأثور الرأي.
كان من أكبر نتائج مصطلحي المأثور والرأي أن قسمت كتب التفسير بين هذين النوعين، وليس هناك حجة واضحة في هذا التوزيع، ولا تكاد تجد حدا فاصلا في عد تفسير من التفاسير بأنه من المأثور أو من الرأي، ومن ذلك تقسيم محمد حسين الذهبي (ت: 1397)، فقد جعل كتب التفسير المأثور ما يأتي:
جامع البيان، لابن جرير الطبري (ت: 310)، وبحر العلوم، لأبي الليث السمرقندي (ت: 375)، والكشف والبيان عن تفسير القرآن، لأبي إسحاق الثعلبي (ت: 427)، ومعالم التنزيل، لأبي محمد الحسين البغوي (ت: 516)، والمحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، لابن عطية الأندلسي (ت: 542)، والجواهر الحسان في تفسير القرآن، لعبدالرحمن الثعالبي (ت: 876)، والدر المنثور في التفسير المأثور، للسيوطي (ت: 911) (2).
وجعل من كتب التفسير بالرأي المحمود:
__________
(1) في كلامه رحمه الله – وكذا عند الذهبي في كتاب التفسير والمفسرون – مغالطات فيما يتعلق بالتفسير المأثور عن السلف، أرجو أن ييسر الله لي الحديث عنها في مكان آخر، وهو الموفق.
(2) التفسير والمفسرون (1: 204).
مفاتح الغيب، للفخر الرازي (ت: 606)، وأنوار التنزيل وأسرار التأويل، للبيضاوي (ت: 685)، ومدارك التنزيل وحقائق التأويل، للنسفي (ت: 701)، ولباب التأويل في معاني التنزيل، للخازن (ت: 741)، والبحر المحيط، لأبي حيان (ت: 745)، وغرائب التنزيل ورغائب التأويل، للنيسابوري (ت: 728)، وتفسير الجلالين، والسراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الخبير، للشربيني (ت: 977)، وإرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، لأبي السعود (ت: 982)، وروح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، للآلوسي (ت: 1270) (1). (1/19)
ثم ذكر التفسير بالرأي المذموم، وذكر ضمنه بعض كتبه، ككتاب تنزيه القرآن عن المطاعن، للقاضي عبدالجبار (ت: 415)، وأمالي الشريف المرتضى (ت: 436) والكشاف، للزمخشري (ت: 538).
وإليك بعض الملحوظات على توزيعاتهم:
يعدون تفسير الطبري (ت: 310) من كتب التفسير بالمأثور، ويغفلون عن ذكر تعرضه لتوجيه الأقوال والترجيح بينها، وإذا كانت هذه طريقته، فلم لا يكون من التفسير بالرأي، وما الحد الفاصل في جعله من كتب التفسير بالمأثور لا من كتب التفسير بالرأي؟!.
فالتفسير ينسب إليه، وفيه آراؤه في التفسير، وفيه مصادره التي من أعظمها التفسير المأثور عن السلف، ومنها اللغة، ولو سلك من يكتب عن تفسيره الأسلوب الذي انتهجه هؤلاء في عدهم لتفسيره أنه من التفسير بالمأثور بسبب أسانيده ورواياته لتفسير السلف، لو عده من كتب التفسير اللغوي بسبب كثرة اعتماده عليها، لما أبعد في ذلك.
لكن النظر هنا إلى تحريراته في التفسير، لا إلى مصادره، وإذا كان النظر من هذه الزاوية – وهي الصحيحة لا غير – فهو من أعظم كتب التفسير بالرأي المحمود.
__________
(1) التفسير والمفسرون (1: 289).
يعدون تفسير الخازن المسمى (لباب التأويل في معاني التنزيل) من التفسير بالرأي(1)، مع أن مؤلفه نص في المقدمة على أنه ليس له في هذا التفسير سوى النقل، قال: ((...ولما كان هذا الكتاب كما وصفت [يعني كتاب معالم التنزيل للبغوي] أحببت أن أنتخب من غرر فؤائده، ودرر فوائده، وزواهر نصوصه، وجواهر فصوصه = مختصرا جامعا لمعاني التفسير، ولباب التنزيل والتعبير، حاويا لخلاصة منقوله، متضمنا لنكته وأصوله، مع فوائد نقلتها، وفرائد لخصتها من كتب التفاسير المصنفة في سائر علومه المؤلفة، ولم أجعل لنفسي تصرفا سوى النقل والانتخاب، وحذفت منه الإسناد، لأنه أقرب إلى تحصيل المراد...)) (2). (1/20)
يظهر من هذا النص أن الخازن (ت: 741) قد اختصر تفسير البغوي (ت: 516)، وأنه قد انتخب من غيره من التفاسير، وأنه ليس له فيها سوى النقل والانتخاب. وتراهم قد عدوا تفسير البغوي (ت: 516) من كتب التفسير بالمأثور(3)، فلم لم يجعلوا المختصر الخازني من كتب التفسير بالمأثور تبعا لأصله البغوي؟!
تصحيح المسار في مصطلح التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي
__________
(1) ذكر عبدالعظيم الزرقاني في مناهل العرفان أهم كتب التفسير بالرأي (2: 65)، وذكر منها تفسير الخازن (2: 66، 69)، وكذا القطان في مباحث في علوم القرآن (ص: 366).
(2) تفسير الخازن، بهامشه تفسير البغوي (1: 3).
(3) ينظر مثلا: مناهل العرفان (2: 30)، ومباحث في علوم القرآن للقطان (ص: 360).
ليكن قد خرج من ذهنك المقابلة المفتعلة بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي، فإذا كان، فإني سأرشدك إلى نظر آخر يبين لك ما يقع فيه الرأي وما لا يقع فيه بناء على ما ورد في كتب التفسير من المصادر التي اعتمدوها من تفسير للقرآن بالقرآن، وتفسير له بالسنة أو بتفسيرات النبي صلى الله عليه وسلم، أو تفسير بسبب نزول، أو تفسير لصحابي، أو لتابعي أو لتابع تابعي، أو لمن جاء بعدهم إلى أن تقوم الساعة، فما حركة التفسير التي نشأت ولا زالت حتى هذا اليوم؟. (1/21)
أولا: التفسير الذي لا يدخله الرأي:
يشمل التفسير الذي لا يدخله رأي نوعين:
الأول: ما لا يحتمل إلا معنى واحدا من التفسير، لأنه لو احتمل أكثر من معنى لكان اختيار أحد المعاني دون غيرها يعتمد على الرأي والاجتهاد.
الثاني: جملة من التفسير المنقول الذي ليس للمفسر فيه إلا النقل، كائنا من كان هذا المفسر، ويشمل هذا القسم:
التفسير النبوي الصريح.
أسباب النزول.
الأخبار الغيبية الواردة في الآيات من قصص وأوصاف للأشياء، وأسماء للمبهمات وغيرها.
والمقام هنا مقام وصف لا مقام ترجيح، فلو ورد سبب نزول صريح ضعيف، فإن الحكم عليه من حيث الوصف أنه مما لا يمكن أخذه إلا من طريق الرواية، لكن لا يلزم كونه كذلك أن يكون تفسيرا للآية، وهكذا غيره من المنقولات، لأنه يشترط فيها الصحة.
ثانيا: التفسير الذي يدخله الرأي:
يشمل هذا القسم كل التفسيرات التي فيها أكثر من احتمال في المراد من الآية، لأن الاحتمال عرضة للاختلاف والاجتهاد في معرفة أيها المراد.
وهذا يشترك فيه كل المفسرين من عهد الصحابة إلى يوم الدين، ولهم مصادر معروفة، وهي: التفسير المنقول الذي سبق ذكره، والقرآن، والسنة، واللغة، وهم يجتهدون على حسب ما عندهم من العلم.
والتابعون يزيد عندهم مصدر، وهو تفسير الصحابة، وكذا أتباع التابعين يزيد عندهم مصدر، وهو تفسير التابعين، وكذا من جاء بعدهم يكون تفسير السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم مصدرا لهم. (1/22)
وبعد هذا، فإن كل ما ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن السلف من تفسير القرآن، فإنه يصح أن يطلق عليه ((تفسير مأثور)) (1)، وهذا يعني كيفية الوصول إليه، فأنت لا تدرك هذه المنقولات عنهم بعقلك، بل لا بد من أن تأخذها عن طريق الأثر، لذا تذهب إلى من اعتنى بالمنقول عنهم، كعبدالرزاق (ت: 211)، والطبري (ت: 310)، وابن أبي حاتم (ت: 327)، وغيرهم، ثم تقرأ ما رووه عن السلف، وتعتبر ما جاء عنهم – من حيث الجملة – من أهم مصادر التفسير.
والحديث هنا – كما قلت لك – وصف للتفسير باعتبار مصادره، وليس حديثا عما يقبل وما لا يقبل من التفسير، فهذا له مجال آخر من الحديث.
وبعد هذا الحديث المفصل عن مصطلح التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي سأشرع في بيان المصطلحات التي عقد الكتاب من أجلها، وهذا أوانه، وبالله التوفيق.
مفهوم التفسير
__________
(1) يحسن أن تلاحظ الفرق بين جملة ((تفسير مأثور))، وجملة ((تفسير بالمأثور))، فالأولى تدل على وصف التفسير بأنه مأخوذ عن طريق الأثر، والثاني تعني أن المفسر فسر بما ورده عن السلف، ويحتمل تفسيره أمرين: الأول: أن لا يكون له رأي مطلقا بل هو مقلد لهذا التفسير، لأنه ورد عن السلف.
الثاني: أن يكون له رأي، وتراه يختار من المنقول عن السلف، ويرجح بين أقوالهم، ولا تكاد تراه يخرج عنها، فهذا مفسر يعتمد على المأثور ويستفيد منه، وليس جامدا عليه بلا اختيار ولا رأي، وعلى هذا سار إمام المفسرين ابن جرير الطبري.
تدور مادة ((فسر)) في لغة العرب على معنى البيان والكشف والوضوح(1)، ومما ورد في ذلك: فسرت الذراع: إذا كشفتها. وفسرت الحديث: إذا بينته. (1/23)
وقد زعم قوم أن ((فسر)) مقلوب من ((سفر)) (2)، وهذا القول ليس بسديد، لأن الأصل أن يكون للفظة ترتيبها، ودعوى القلب خلاف الأصل.
كما أنه يكون لها المعنى الخاصبها الذي تستقل به. واشتراكها مع غيرها في معنى أصل المادة لا يعني أنها مشتقة منها، ولو ادعي العكس لما كان هناك ما يبين صحة إحدى الدعويين.
قال الآلوسي (ت: 1270): ((والقول بأنه مقلوب السفر، مما لا يسفر له وجه)) (3).
والصحيح أنه كما بين المادتين تقارب في اللفظ، فكذلك بينهما تقارب في المعنى، كما قاله الراغب الأصفهاني (ت: بعد 400) (4).
هذا، وقد اختلفت عبارات العلماء في البيان عن معنى التفسير في الاصطلاح، وجاءوا بعبارات شتى، وقد اجتهدت في معرفة الصحيح منها في بيان مصطلح التفسير، ورأيت أن المراد بالتفسير بيان المعنى الذي أراده الله بكلامه، فانطلقت من المعنى اللغوي للفظة، وهو البيان أو الكشف أو الشرح أو الإيضاح، وجعلته أصلا أعتمده في تحديد المراد بالتفسير.
__________
(1) ينظر في ذلك: مقاييس اللغة، لابن فارس (4: 504). وينظر مادة ((فسر)) في معاجم اللغة.
(2) ينظر على سبيل المثال: مقدمتان في علوم القرآن (ص: 173)، والبرهان في علوم القرآن (2: 147)، والتيسير في قواعد علم التفسير (ص: 132).
(3) روح المعاني (1: 4).
(4) ينظر: مقدمة جامع التفاسير، للراغب، تحقيق: الدكتور أحمد حسن فرحات (ص: 47).
وظهر لي بعد ذلك أن تكون أي معلومة فيها بيان للمعنى، فإنها من التفسير، وإن كان ليس لها أثر في بيان المعنى فإنها خارجة عن مفهوم التفسير، وإنما ذكرت في كتبه، إما لقربها من علم التفسير بكونها من علوم القرآن، وإما لتفنن المفسر بذكر العلم الذي برز فيه، فجعل تفسيره للقرآن ميدانا لتطبيقات علمه، وإما لوجود علاقة أخرى بينها وبين ما يذكره المفسر، وإما أن لا يكون لها علاقة البتة، وإنما ذكرها المفسر بسبب المنهج الذي نهجه في تفسيره. (1/24)
وهذا البيان قد يكون بآية، وقد يكون بتفسير نبوي، وقد يكون بسنة عامة، وقد يكون بسبب نزول، وقد يكون باللغة، وقد يكون بذكر قصة الآية، وقد يكون بغيرها من المصادر التي هي من أنواع البيان عن معنى آي القرآن.
وهذا يعني أن المعلومات التي يذكرها المفسرون، وهي خارجة عن حد البيان للآيات = ليس من صلب التفسير، وذكرهم لها في تفاسيرهم ليس حجة في إدخالها، لهذا قد يذكر بعضهم اعتراضات على بعض المفسرين، أو يذكر تنبيها في عدم دخول بعض المعلومات في التفسير، ومن ذلك:
قال ابن عطية الأندلسي (ت: 542) في تفسير قوله تعالى: ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ) [الطلاق: 1]: ((وطلاق النساء حل عصمتهن. وصور ذلك وتنويعه مما لا يختص بالتفسير)) (1).
قال أبو حيان الأندلسي (ت: 745) في تفسير قوله تعالى: ( فأتوا بسورة من مثله ) [البقرة: 23]: ((وقد تعرض الزمخشري هنا لذكر فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سورا، وليس ذلك من علم التفسير، وإنما هو من فوائد التفصيل والتسوير)) (2).
__________
(1) المحرر الوجيز، ط: قطر (14: 489).
(2) البحر المحيط (1: 169).
قال الشوكاني (ت: 1250) في أول سورة الإسراء: ((واعلم أنه قد أطال كثير من المفسرين – كابن كثير والسيوطي وغيرهما – في هذا الموضع بذكر الأحاديث الواردة في الإسراء على اختلاف ألفاظها، وليس في ذلك كثير فائدة، فهي معروفة في موضعها من كتب الحديث، وهكذا أطالوا بذكر فضائل المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وهو مبحث آخر، والمقصود في كتب التفسير ما يتعلق بتفسير ألفاظ الكتاب العزيز وذكر أسباب النزول وبيان ما يؤخذ منه من المسائل الشرعية وما عدا ذلك فهو فضلة لا تدعو إليه حاجة)) (1). (1/25)
قال الطاهر بن عاشور (ت: 1393) في تفسير قوله تعالى: ( الذين يظاهرون منكم من نسائهم ) [المجادلة: 2]: ((ولم يشر القرآن إلى اسم الظهر، ولا إلى اسم الأم = إلا مراعاة للصيغة المتعارفة بين الناس يومئذ، بحيث لا ينتقل الحكم من الظهار إلى صيغة الطلاق إلا إذا تجرد من هذه الكلمات الثلاث تجردا واضحا.
والصور عديدة، وليست الإحاطة بها مفيدة، وذلك من مجال الفتوى، وليس من مهيع التفسير)) (2).
ولا شك أن أقوال هؤلاء تشير إلى ما ذكرته من وجود حد للتفسير، ووجود معلومات زائدة عن هذا الحد يذكرها المفسرون.
نظرة في المعلومات الواردة في كتب التفسير
لقد تأملت المعلومات الواردة في كتب التفسير، فوجدت منها ما ينطبق عليه حد البيان، ومنها ما لا ينطبق عليه حد البيان، أي أن عدم وجودها لا يؤثر في فهم المعنى وبيانه.
وقد قمت بترتيب هذه المعلومات الواردة في كتب التفسير على الشكل الآتي:
تفسير القرآن، أي: بيانه بيانا مباشرا.
__________
(1) فتح القدير (3: 208). وكتابه – رحمه الله – لم يسلم من هذه الفضلة التي لا تدعو إليها حاجة.
(2) التحرير والتنوير (28: 12).
ومن الأمثلة تفسير لفظ: ((البروج)) في قوله تعالى: ( والسماء ذات البروج ) [البروج: 1]، فقد فسر لفظ البروج بأنه النجوم، فيكون المعنى: يقسم ربنا تعالى بالسماء صاحبة النجوم. (1/26)
فإن قلت: ما الموقف من الوجوه التفسيرية، هل تعد من التفسير؟.
فالجواب: نعم.
واحتمال الآية لأكثر من وجه لا يعني خروج هذه الأوجه عن التفسير، بل هي منه، لأن في كل منها بيانا، وإن اختلفت في تحديده.
مثال ذلك، اختلافهم في معنى ((انكدرت)) من قوله تعالى: ( وإذا النجوم انكدرت ) [التكوير: 2]، فقد ورد فيها معنيان:
الأول: تناثرت، فجعله من الانكدار، أي: الانصباب، ويشهد له قوله تعالى: ( وإذا الكواكب انتثرت ) [الانفطار: 2].
الثاني: تغيرت، فجعله من الكدرة، وهي التغير بعد الصفاء، ويشهد له قوله تعالى: ( فإذا النجوم طمست ) [المرسلات: 8].
وفي كلا المعنيين بيان، فلو قلت بالقول الأول، لكان المعنى: ((وإذا النجوم تناثرت وسقطت)). وإذا قلت بالقول الثاني، كان المعنى: ((وإذا النجوم تغيرت وذهب ضوؤها)).
وهذا يعني أنك في هذه الخلافات التفسيرية لا ترى: هل وقع الخلاف في المعنى المراد أم لا؟.
وإنما الذي يعنيك فيها: هل هذه الأوجه التفسيرية المختلفة ينطبق عليها حد البيان أم لا؟.
معلومات تفيد في تقوية بيان المعنى، وبهذا تكون أقرب إلى علم التفسير من غيرها، والفرق بينها وبين سابقها: أن المعنى يكون قد اتضح وبان، وهذه المعلومات تزيده وضوحا وتقويه، بحيث لو جهلها المفسر، فإنها لا تؤثر على فهم المعنى المراد.
ومن أمثلته، ما لو قال من فسر البروج بالنجوم: أن مادة: ((برج)) في اللغة تدل على الظهور والبروز، كقولهم: تبرجت المرأة: إذا أظهرت زينتها ومحاسنها، ومنه كانت النجوم بروجا، لظهورها وبروزها للعيان، فيكون إطلاق البروج على النجوم من هذا الباب. (1/27)
لو كنت تفتقد هذه المعلومة بعد معرفتك أن البروج هي النجوم، لما أثر ذلك عليك في البيان عن المعنى المراد بالبروج. لكن ورود هذه المعلومة يقوي عندك هذا التفسير، ويبين لك أصله الذي صدر عنه، والله أعلم.
استنباطات عامة، في الآداب، والفقه، وغيرها.
ومن أمثلة هذه الاستنباطات ما ذكره السيوطي (ت: 911)، قال: ((قوله تعالى: ( وامرأته ) [المسد: 4]، استدل به الشافعي على صحة أنكحة الكفار)) (1).
والآية لم تأت لأجل هذا الحكم الذي استنبطه الإمام الشافعي (ت: 204).
والمراد بهذه الاستنباطات هنا ما كان وراء الأحكام الصريحة في الآية، لأن بيان الحكم الذي تدل عليه الآية صراحة = تفسير.
هذ، وسيأتي لاحقا مزيد بسط لموضوع الاستنباطات.
لطائف وملح تفسيرية(2).
ومن أمثلتها، ما ذكر من دلالة لفظ ((بعث)) في قوله تعالى: ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ) [الجمعة: 2]، أنه يفيد أن هؤلاء كانوا موتى باعتقاداتهم، فبعث الله لهم النبي صلى الله عليه وسلم ليحييهم.
وهذه اللطائف يختلف في استملاحها الناس، وليس لها ضابط يتفق عليه في استحسانها، لتعلقها – غالبا – بالأذواق، وأذواق المتذوقين تختلف.
__________
(1) الإكليل في استنباط التنزيل، للسيوطي (ص: 230).
(2) ذكر ابن عطية المحرر الوجيز، ط: قطر (1: 82) موقع هذه الملح من العلم، فقال: ((وهذا من ملح التفسير، وليس من متين العلم)).
معلومات علمية تتعلق بعلوم القرآن. (1/28)
لتعلق مسائل علوم القرآن والتفسير بالقرآن = يختلط الأمر على بعض الناس، فيعد بعض مسائل علوم القرآن من التفسير، وهي ليست كذلك، والضابط في ذلك أن أي معلومة من علوم القرآن لها أثر في فهم الآية، فإنها تعد من التفسير، أما إذا لم يكن لها أثر في الفهم، ولا يقوم عليها بيان المعنى، فإنها من علوم القرآن لا التفسير.
ومن الأمثلة على ذلك، ما ذكره ابن عطية (ت: 542) في أول تفسير سورة البقرة، قال: ((هذه السورة مدنية، نزلت في مدد شتى، وفيها آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) [البقرة: 281].
ويقال لسورة البقرة: ((فسطاط القرآن))، لعظمها وبهائها، وما تضمنته من الأحكام والمواعظ.
وتعلمها عبدالله بن عمر رضي الله عنهما بفقهها وجميع ما تحتوي عليه من العلوم في ثمانية أعوام.
وفيها خمسمائة حكم، وخمسة عشر مثلا...)) (1).
ثم ذكر أحاديث في فضلها، ثم قال: ((وعدد آي سورة البقرة مائتان وخمس وثمانون آية، وقيل: وست وثمانون، وقيل: وسبع وثمانون)) (2).
وإذا فرزت هذه المعلومات، وجدت أنها من علوم القرآن، وأن جلها مما لا يفيد في بيان المعنى، سوى ما ذكر من مدنيتها، فإنه قد يحتاج إلى ذلك في بعض المواطن، كادعاء نسخ آية من آياتها بآية مكية، أو غير ذلك مما له أثر في البيان.
__________
(1) المحرر الوجيز، ط: قطر (1: 136).
(2) المحرر الوجيز، ط: قطر (1: 138).
ملعومات علمية عامة من شتى المعارف الإسلامية وغيرها، والغالب عليها أنها لا صلة لها بعلم التفسير، وإنما يكون المفسر ممن برز في علم من هذه العلوم، فيحشو تفسيره به، فالفقيه يورد مسائل علم الفقه، والنحوي يورد مسائل علم النحو، والمتكلم يورد مسائل علم الكلام، وهكذا غيرها من فروع العلوم، خصوصا العلوم الإسلامية. (1/29)
ويدخل في هذا القسم كثير من التفاسير التي اعتمدت مناهج مخالفة، كالتفاسير الصوفية، والباطنية، والفلسفية، وغيرها.
والأمثلة في هذا النوع تطول، وفي هذا من الوضوح ما ليس في سابقه، فمثلا: لأجل أن ابن كثير (ت: 774) محدث، فإنه يورد الحديث بعد الحديث من الأحاديث الكثيرة المتعلقة بالآية، وقد علق عليه الشوكاني (ت: 1250) في هذا الباب، فقال: ((واعلم أنه قد أطال كثير من المفسرين – كابن كثير والسيوطي وغيرهما – في هذا الموضع بذكر الأحاديث الواردة في الإسراء على اختلاف ألفاظها.
وليس في ذلك كثير فائدة، فهي معروفة في موضعها من كتب الحديث، وهكذا أطالوا بذكر فضائل المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وهو مبحث آخر، والمقصود في كتب التفسير ما يتعلق بتفسير ألفاظ الكتاب العزيز، وذكر أسباب النزول، وبيان ما يؤخذ منه من المسائل الشرعية، وما عدا ذلك فهو فضلة لا تدعو إليه حاجة)) (1).
وهذه الاستطرادات العلمية إنمنا يكون محلها كتب العلم الذي تنتمي إليه، فالاستطراد في المسائل الفقهية محله كتب الفقه، والاستطراد في المسائل النحوية محله كتب النحو، وهكذا.
__________
(1) فتح القدير (3: 208).
وبعد استعراض المعلومات التي في كتب التفسير، أعود فأقول: إن التفسير إنما هو شرح وبيان للقرآن الكريم، فما كان فيه بيان، فهو تفسير، وما كان خارجا عن حد البيان، فإنه ليس من التفسير، وإن وجد في كتب المفسرين. (1/30)
وبهذا الضابط يمكن تحديد المعلومات التي هي من التفسير، وليس بلازم هنا أن يذكر كل ما هو من التفسير، لأن المراد ذكر الحد الضابط، وليس ذكر منثورات هذا البيان.
وبهذا فتخصيص العام بيان، وتقييد المطلق بيان، وبيان المجمل بيان، وتفسير اللفظ الغريب بيان، وذكر سبب النزول بيان، وكل ما له أثر في فهم المعنى بيان، وهو التفسير.
تعريفات العلماء للتفسير
للعلماء في تعريف التفسير تعبيرات كثيرة، يطول المقام بسردها(1)، ولقد اطلعت على جملة من التعريفات، منها:
تعريف ابن جزي (ت: 741)، قال: ((معنى التفسير: شرح القرآن، وبيان معناه، والإفصاح بما يقتضيه بنصه أو إشارته أو نجواه)) (2).
__________
(1) ينظر في تعريف التفسير: التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي (1: 6)، البحر المحيط، لأبي حيان(1: 26)، والبرهان في علوم القرآن، للزركشي (1: 13)، (2: 149، 150)، وتفسير ابن عرفة، برواية الأبي (1: 59)، والتيسير في قواعد التفسير، للكافيجي (ص: 124- 125)، والإتقان في علوم القرآن، للسيوطي (4: 167- 169)، ومفتاح السعادة، لطاش كبري زاده (2: 530- 532)، وقد نقله من الإتقان. وأبجد العلوم، للقنوجي (2: 172- 177)، والتحرير والتنوير، للطاهر بن عاشور (1: 11)، ومناهل العرفان، للزرقاني (2: 3)، أصول في التفسير، لابن عثيمين (ص: 25).
(2) التهسيل لعلوم التنزيل، لابن جزي (1: 6).
وعرفه أبو حيان (ت: 745)، فقال: ((التفسير: علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حال التركيب، وتتمات ذلك. (1/31)
فقولنا: ((علم)): هو جنس يشمل سائر العلوم.
وقولنا: ((يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن)): هذا علم القراءات.
وقولنا: ((ومدلولاتها)) أي: مدلولات تلك الألفاظ، وهذا علم اللغة الذي يحتاج إليه في هذا العلم.
وقولنا: ((وأحكامها الإفرادية والتركيبية)): هذا يشمل علم التصريف وعلم الإعراب وعلم البيان وعلم البديع.
((ومعانيها التي تحمل عليها حال التركيب)): شمل بقوله: ((التي تحمل عليها)): ما دلالته عليه بالحقيقة، وما دلالته عليه بالمجاز، فإن التركيب قد يقتضي بظاهره شيئا، ويصد عن الحمل على الظاهر صاد، فيحتاج لأجل ذلك أن يحمل على غير الظاهر، وهو المجاز.
وقولنا: ((وتتمات ذلك)): هو معرفة النسخ، وسبب النزول، وقصة توضح ما انبهم في القرآن، ونحو ذلك(1).
وعرفه الزركشي (ت: 794) في موضعين من كتابه البرهان في علوم القرآن، فقال في الموضع الأول: ((علم يعرف به فهم كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان معانيه، واستخراج أحكامه وحكمه)) (2).
وعرفه في الموضع الثاني، فقال: ((هو علم نزول الآية وسورتها وأقاصيصها والإشارات النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها ومدنيها، ومحكمها ومتشابهها، وناسخها ومنسوخها، وخاصها وعامها، ومطلقها ومقيدها، ومجملها ومفسرها.
__________
(1) البحر المحيط، لأبي حيان (1: 26)، وقد نقل عنه – باختصار – الكفوي في الكليات، تحقيق: عدنان درويش، ومحمد المصري (ص: 260).
(2) البرهان في علوم القرآن، للرزكشي (1: 13).
وزاد فيه قوم، فقالوا: علم حلالها وحرامها، ووعدها ووعيدها، وأمرها ونهيها، وعبرها وأمثالها)) (1). (1/32)
وقال ابن عرفة المالكي (ت: 803): ((...هو العلم بمدلول القرآن وخاصية كيفية دلالته، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ.
فقولنا: خاصية كيفية دلالته: هي إعجازه، ومعانيه البيانية، وما فيه من علم البديع الذي يذكره الزمخشري، ومن نحا نحوه)) (2).
وقال الكافيجي (ت: 879) : ((وأما التفسير في العرف، فهو كشف معاني القرآن، وبيان المراد.
والمراد من معاني القرآن أعم، سواء كانت معاني لغوية أو شرعية، وسواء كانت بالوضع أو بمعونة المقام وسوق الكلام وبقرائن الأحوال، نحو: السماء والأرض والجنة والنار، وغير ذلك. ونحو: الأحكام الخمسة. ونحو: خواص التركيب اللازمة له بوجه من الوجوه)) (3).
تحليل هذه التعريفات:
أولا: أن بعض هذه التعريفات قد نص على مهمة المفسر، وضابط التفسير، وهي الشرح والبيان والإيضاح.
ثانيا: أن بعضها قد أدخل جملة من علوم القرآن في تعريف التفسير، وأنها قد جاءت في بعضها على سبيل المثال لا الحصر، وسبب ذلك: كثرة هذه العلوم، كتعريف أبي حيان (ت: 745) والزركشي (ت: 794).
ويظهر أن أصحاب هذه التعريفات لم يميزوا بين التفسير وعلوم القرآن، فأدخلوا في مصطلح التفسير ما ليس منه.
__________
(1) البرهان في علوم القرآن، للرزكشي (2: 148).
(2) تفسير ابن عرفة، برواية الأبي (1: 59).
(3) التيسير في قواعد التفسير، للكافيجي (124- 125).
ثالثا: أن بعضهم قد توسع في تعريفه، وجعل بعض العلوم التي ليست من علم التفسير، ولا من مهمة المفسر، جعلها من صلب تعريف التفسير، كابن عرفة (ت: 803) الذي جعل علم الإعجاز من علم التفسير، والكافيجي (ت: 879) الذي أدخل في تعريفه علم أصول الفقه. (1/33)
وهذا ليس بصحيح، ويظهر أن سبب ذلك، أنهم لم يحددوا مهمة المفسر، حتى أن بعض من تحدث عن العلوم التي تلزم المفسر ذكر جملة العلوم الإسلامية التي لو كانت في مفسر لكان مجتهدا مطلقا في الشريعة.
وهذه العلوم، وإن كان المفسر بحاجة شيء منها، إلا أن من ذكرها لم يذكر المقدار الذي يحتاجه المفسر من كل علم منها.
كما يظهر أن التخصص الذي يغلب على المفسر يجعله لا يرى أحدا أحق بالتفسير حتى يكتمل في العلم الذي برز هو فيه، لذا ترى الزمخشري (ت: 538) لا يرى المفسر مفسرا حتى يكون له نصيب من علم المعاني وعلم البيان (أي: علم البلاغة).
قال الزمخشري: (ت: 538): ((ثم إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح، وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح من غرائب نكت يلطف مسلكها، ومستودعات أسرار يدق سلكها = علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كل ذي علم، كما ذكر الجاحظ في كتاب نظم القرآن.
فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام، والمتكلم وإن بز أهل الدنيا في صناعة الكلام، وحافظ القصص والأخبار وإن كان من ابن القرية أحفظ، والواعظ وإن كان من الحسن البصري أوعظ، والنحوي وإن كان أنحى من سيبويه، واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه = لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن، وهما علم المعاني وعلم البيان، وتمهل في ارتيادهما آونة، وتعب في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله، بعد أن يكون آخذا من سائر العلوم بحظ، جامعا بين أمرين: تحقيق وحفظ...)) (1). (1/34)
وإذا تأملت هذا العلم الذي نص عليه الزمخشري (ت: 538) – أي: علم البلاغة – وجدت أنه إنما يحتاجه من كان عمله زائدا عن مهمة التفسير، كمن يريد بيان إعجاز القرآن الكريم ببلاغته، فإنه لا شك بحاجة إلى التبحر في علم البلاغة ليبين البلاغة القرآنية، ولكن هذا ليس من مهمة المفسر، والله أعلم.
ولو جرد التفسير من كثير من هذه المعلومات، لتقاربت مناهج المفسرين، ولكان جل الخلاف بينهم في وجوه التفسير، وترجيح أقوال المتقدمين.
ولا شك أن هذا لو كان، لما كان هناك معلومات كثيرة ومفيدة مما يرى الآن في التفاسير، ولذا فإن هذه المرحلة المهمة – وهي بيان القرآن – يحسن أن تبرز ويعتنى بها، ثم يمكن أن يؤتى بعد ذلك بالمعلومات التي ليست من صلب التفسير.
__________
(1) الكشاف (1: 15- 17).
ولو أخذت مجموعة آيات، وقرأتها في عدد من التفاسير، فإنك ستجد اتفاقها في المعلومات المتعلقة بالبيان، وإن اختلفت في طريقة عرضها لها، وفي تحديد الوجه المراد بالآية، وطريقتها في الترجيح. (1/35)
ثم ستجد أن كل تفسير يتميز بمعلومات لا تجدها عند الآخر، وهذه المعلومات لا حصر لها، فقد تكون في علم اللغة، أو علم النحو، أو علم الصرف، أو علم البلاغة، أو علم الفقه، أو علم الحديث، أو علوم أخرى.
كما ستجد تميزا في ذكر بعض فوائد الآي والاستنباط منها، فقد يذكر بعضهم فوائد مستنبطة لا يشير إليها غيره، كقول ابن كثير (ت: 774) في تفسير قوله تعالى: (كرام بررة ) [عبس: 16]، قال: ((وقوله: ( كرام بررة ) [عبس: 16]، أي: خلقهم كريم حسن شريف، وأخلاقهم وأفعالهم بارة طاهرة كاملة [يعني: الملائكة]. ومن ها هنا ينبغي لحامل القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد)) (1).
ولما كان المقصد من التعريف تحرير المراد بالعلم، كان ما ذكرت لك من نقد بعض التعريفات، أما ما سلكه بعض العلماء من منهج في كتابة تفاسيرهم، فهذا لا يوجه إليه النقد من هذه الجهة، لأنه أراد أن يكون في تفسيره مثل هذه المعلومات الفقهية أو النحوية أو الأصولية أو غيرها، لكن إن جعلت هذه المعلومات التي هي خارجة عن حد البيان من صلب التفسير، فها هنا يكون النقاش وتحرير المراد بمصطلح التفسير.
والمصطلح الذي ذكرته بضابطه – وهو بيان القرآن – أقرب إلى منهج تفسير السلف، إذ لا تجد عندهم في تفاسيرهم تلك الاستطرادات التي عند المتأخرين.
__________
(1) تفسير ابن كثير، تحقيق: سامي السلامة (8: 321).
وقد كان الطبري (ت: 310) يحرص على بيان المعنى – الذي هو التفسير -، وقد يذكره بعد جملة الآيات التي يفسرها، وقد يذكره في ترجيحاته. (1/36)
زيادات المتأخرين في كتب التفسير:
قد تأملت ما يكون من الزيادات التي زادها المتأخرون على تفاسير السلف، فظهر لي الآتي:
تقوية ما ورد عن السلف من اختيارات تفسيرية، وزيادة الاحتجاج لها، سواء اختار إحدى هذه التفسيرات أم لم يختر.
ذكر معلومات قرآنية لا علاقة لها بتفسير الآية مباشرة، وإن كانت تتعلق بالآية من وجه آخر، وهو كونها من علوم القرآن.
التوسع في العلم الذي برز فيه المؤلف، والاستطراد في ذكر تفاصيل مسائله، حتى يكاد أن يخرج بتفسيره من كونه كتابا في التفسير إلى كونه كتابا في ذلك العلم الذي برع فيه.
ويظهر على بعض هذه العلوم أنها مما زاده المتأخرون في التفسير على ما ورد عن السلف، كعلم الإعراب والتفصيلات الواردة فيه، والتوسع في المسائل اللغوية والتصريفية والاشتقاقية، والتفصيل في وجوه الأداء في القراءة، وبيان مواطن البلاغة القرآنية للدلالة على إعجازه، والتفصيل في الأحكام الفقهية التي لم يرد النص عليها في القرآن، وغيرها من العلوم التي حدثت وضبطت مسائلها بعد جيل السلف.
ذكر أوجه تفسيرية جديدة عما هو وارد عن السلف.
ذكر جملة من الاستنباطات الفقهية والأدبية، والاستدلال للمسائل العقدية، وغيرها.
ويمكن أن تظهر لك هذه النقاط بتأمل سورة من السور، وعرضها – على سبيل المثال – على تفسير الطبري (ت: 310)، وتفسير القرطبي (ت: 671)، وتفسير أبي حيان (ت: 745)، وتفسير الطاهر بن عاشور (ت: 1393)، وسيظهر لك هذا جليا بإذن الله.
تطبيق على سورة الكوثر
قوله تعالى: ( نا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر * إن شانئك هو الأبتر ) [الكوثر: 1- 3]. (1/37)
أولا- التفسير:
يخبر ربنا تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك النهر العظيم في الجنة الذي اسمه الكوثر، وهو جزء من الخير الكثير الذي أعطاه إياه.
ثم أمره الله بأن يؤدي شكر هذه النعمة بأن تكون الصلاة والذبح له سبحانه لا كما يفعل المشركون الذين يذبحون للأصنام.
ثم أخبره أن مبغضه هو المنقطع عن كل خير، بخلافك أنت فيما أعطاك الله من الخير.
وجوه التفسير في السورة:
ليعلم أن المراد هنا ذكر وجوه التفسير الذي وردت في هذه الكتب، وليس المراد تصحيح هذه الوجوه أو تضعيفها، لأن المقام مقام بيان كونها تفسيرا فحسب، وإليك ألفاظ الآية وما ورد فيها من وجوه.
الكوثر:
الوجه الأول: الكوثر: الشيء الكثير، ويكون المعنى: إن وهبناك شيئا كثيرا، وهذا يشمل كل خير أعطاه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم من خير الدنيا والآخرة، من النبوة، والقرآن، وكثرة الأتباع، والشفاعة، والحوض، وغيرها.
الوجه الثاني: الكوثر: النهر الذي أعطيه في الجنة، ويكون المعنى: إنا وهبناك نهر الكوثر الذي في الجنة.
وفي الكوثر غير هذه الأقوال، قال أبو حيان معلقا عليها: وينبغي حمل هذه الأقوال على التمثيل)) (1).
الصلاة والنحر:
الوجه الأول: الصلاة والنحر على عمومهما، فيشمل كل صلاة وكل نحر، ويكون المعنى اجعل صلاتك كلها، وذبائحك كلها لله ربك ... .
الوجه الثاني: صل يوم النحر صلاة العيد لأجل ربك، واذبح أضحيتك بعدها.
الوجه الثالث: اجعل صلاتك لله ربك، واجعل يديك على صدرك، قريبا من نحرك.
الوجه الرابع: اجعل صلاتك لله ربك، وارفع يديك عند الافتتاح للصلاة إلى نحرك.
__________
(1) البحر المحيط (10: 555).
الوجه الخامس: اجعل صلاتك لله ربك، واستقبل القبلة بنحرك. (1/38)
الشانىء الأبتر:
لم يقع خلاف في معنى الشانىء الأبتر، وأن معناه: إن مبغضك هو المقطوع، أي: عن الخير.
وما ورد من تحديد بعض الأعيان الذين نزل فيهم الخطاب لا يعني أن هذه التحديدات أقوال أخرى، بل هي أمثلة لمن يتصف بأنه مبغض للرسول صلى الله عليه وسلم، وأن هذا المبغض هو الذليل المقطوع عن كل خير.
ثانيا- المعلومات التي تأتي بعد التفسير:
بعد هذه المعلومات التي سبقت في التفسير ووجوهه، فإن الغالب عليها أنها تكون خارجة عن حد البيان، ومن هذه المعلومات:
حكاية مناسبة السورة لما قبلها، قال أبو حيان (ت: 745): ((ولما ذكر فيما قبلها [أي: سورة الماعون] وصف المنافق بالبخل وترك الصلاة والرياء ومنع الزكاة، قابل في هذه السورة البخل بـ ( إنا أعطيناك الكوثر ) [الكوثر: 1]، والسهو في الصلاة بقوله: ( فصل )، والرياء بقوله: ( لربك )، ومنع الزكاة بقوله: ( وانحر )، أراد: تصدق بلحم الأضاحي، فقابل أربعا بأربع)) (1).
وهذا الذي ذكره أبو حيان (ت: 745) من ملح التفسير، وغالب علم المناسبات من باب الملح واللطائف، لأن معرفتها لا تؤثر بالتفسير، وفقدها لا ينقص من معرفته.
ذكر الظاهر بن عاشور (ت: 1393) ما يتعلق بتسمية السورة، وأورد الآثار في ذلك(2).
وتسمية السورة والاختلاف فيها لا أثر له في تفسير الآيات، بل هو من علوم القرآن.
__________
(1) البحر المحيط (10: 556).
(2) مما يتميز به تفسير التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور أنه يذكر في مقدمة كل سورة الآثار الواردة في تسمية السورة، وسبب تسميتها بهذه الأسماء الواردة، وهو من المباحث النادرة في كتب علوم القرآن. بله كتب التفسير.
ذكر الطاهر بن عاشور (ت: 1393) عدد آياتها(1)، وأنها أقصر سور القرآن. وكل هذا لا أثر له في التفسير، وهو من علوم القرآن. (1/39)
ذكر الطاهر بن عاشور (ت: 1393) أغراض السورة، وهي جملة الموضوعات التي طرحتها السورة(2). وهذا من علوم القرآن، لأنه لا أثر له في بيان الآيات.
حكاية قراءة من قرأ ((أعطيناك))، قرأها: ((أنطيناك))، وهما بمعنى، وقد ذكروا شاهدا لغويا لهذه القراءة(3)، وهذا لا أثر له في التفسير، وهو من علم القراءة المحض.
وذكروا معنى الكوثر في اللغة وشواهده، وأنه بناء مبالغة من الكثرة. وفي هذا تقوية لتفسير معنى الكوثر بالشيء الكثير، وبيان لوجه كون غيره من الأشياء يطلق عليها مسمى الكوثر، لأن فيها أصل معنى هذا اللفظ، فبيان المعنى قد تم بعد معرفة مدلول اللفظ، وما يذكر بعد ذلك من المعاني فهي من باب تقوية التفسير وتأييده.
ذكر الطاهر بن عاشور (ت: 1393) بعض النكات البلاغية، فقال: ((افتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام بالخبر. والإشعار بأنه شيء عظيم، يستتبع الإشعار بتنويه شأن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ) [القدر: 1]. والكلام مسوق مساق البشارة وإنشاء العطاء لا مساق الإخبار بعطاء سابق.
وضمير العظمة مشعر بالامتنان بعطاء عظيم)) (4).
__________
(1) كذا ذكر القرطبي أيضا في الجامع لأحكام القرآن (20: 216).
(2) هذا المبحث، وهو أغراض السورة مما يتميز به تفسير الطاهر بن عاشور، فهو يقدم لكل سورة أغراضها التي تشتمل عليها.
(3) ينظر مثلا: المحرر الوجيز، ط: قطر (15: 582)، والجامع لأحكام القرآن (20: 216)، والبحر المحيط (10: 555- 556).
(4) التحرير والتنوير (30: 572).
وهذا كله خارج عن حد التفسير، لأنه لا أثر له في بيان المعاني، وإن كان من العلوم المتعلقة بالآية مباشرة. (1/40)
وذكر مناسبة ذكر الصلاة والشكر إلى قوله: ( الأبتر )، والعدول عن الضمير إلى الاسم الظاهر في قوله: ( فصل لربك )، وفائدة إضافة اسم الرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكل هذا من علوم الآية التي تتعلق ببلاغتها، وجهلها لا يؤثر في فهم المعنى العام الذي هو التفسير.
وقس على ذلك غيرها من الفوائد التي ذكرها الطاهر بن عاشور (ت: 1393) مما هو خارج عن حد بيان المعنى المراد بالآية.
أشار القرطبي (ت: 671) إلى عدة مسائل فقهية، وفصل في بعضها، وهذه المسائل تتعلق بأحكام الأضحية، - ووضع اليمين على الشمال في الصلاة، والموضع الذي توضع عليه اليد في الصلاة، وأحوال رفع اليدين، فقال: ((الثانية: قد مضى القول في سورة الصافات في الأضحية وفضلها ووقت ذبحها فلا معنى لإعادة ذلك، وذكرنا أيضا في سورة الحج جملة من أحكامها.
قال ابن العربي: ومن عجيب الأمر أن الشافعي قال: إن من ضحى قبل الصلاة أجزأه، والله تعالى يقول في كتابه: ( فصل لربك وانحر )، فبدأ بالصلاة قبل النحر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري وغيره عن البراء بن عازب قال: ((أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر من فعل فقد أصاب نسكنا ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء))، وأصحابه ينكرونه وحبذا الموافقة.
الثالثة: وأما ما روي عن علي عليه السلام ( فصل لربك وانحر )، قال: وضع اليمين على الشمال في الصلاة خرجه الدارقطني، فقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال:
الأول: لا توضع فريضة ولا نافلة لأن ذلك من باب الاعتماد، ولا يجوز في الفرض ولا يستحب في النقل.
الثاني: لا يفعلها في الفريضة ويفعلها في النافلة استعانة، لأنه موضع ترخص. (1/41)
الثالث: يفعلها في الفريضة والنافلة، وهو الصحيح، لأنه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده اليمنى على اليسرى من حديث وائل بن حجر وغيره.
قال ابن المنذر: وبه قال مالك وأحمد وإسحاق، وحكى ذلك عن الشافعي، واستحب ذلك أصحاب الرأي، ورأت جماعة إرسال اليد، وممن روينا ذلك عنه ابن المنذر والحسن البصري وإبراهيم النخعى، قلت: وهو مروي أيضا عن مالك.
قال ابن عبدالبر: إرسال اليدين ووضع اليمنى على الشمال كل ذلك من سنة الصلاة.
الرابعة: واختلفوا في الموضع الذي توضع عليه اليد، فروي عن علي بن أبي طالب: أنه وضعهما على صدره. وقال سعيد بن جبير وأحمد بن حنبل: فوق السرة، وقال: لا بأس إن كانت تحت السرة، وروي ذلك عن علي وأبي هريرة والنخعي وأبي مجلز، وبه قال سفيان الثوري وإسحاق.
الخامسة: وأما رفع اليدين في التكبير عند الافتتاح والركوع والرفع من الركوع والسجود فاختلف في ذلك. فروى الدارقطني من حديث حميد عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع يديه إذا دخل في الصلاة وإذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا سجد، لم يروه عن حميد مرفوعا إلا عبدالوهاب الثقفي. والصواب: من فعل أنس.
وفي الصحيحين من حديث ابن عمر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى تكونا حذو منكبيه، ثم يكبر، وكان يفعل ذلك حين يكبر للركوع، ويفعل ذلك حين يرفع رأسه من الركوع، ويقول: سمع الله لمن حمده، ولا يفعل ذلك حين يرفع رأسه من السجود.
قال ابن المنذر: وهذا قول الليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، وحكى ابن وهب عن مالك هذا القول، وبه أقول، لأنه الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقالت طائفة: يرفع المصلي يديه حين يفتتح الصلاة، ولا يرفع فيما سوى ذلك، هذا قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي. (1/42)
قلت: وهو المشهور من مذهب مالك لحديث ابن مسعود، خرجه الدارقطني من حديث إسحاق بن أبي إسرائيل قال: حدثنا محمد بن جابر، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبدالله قال: ((صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر وعمر رضي الله عنه، فلم يرفعوا أيديهم إلا أولا عند التكبيرة الأولى في افتتاح الصلاة)).
قال إسحاق: به نأخذ في الصلاة كلها.
قال الدارقطني: تفرد به محمد بن جابر، وكان ضعيفا عن حماد عن إبراهيم. وغير حماد يرويه عن إبراهيم مرسلا، عن عبدالله من فعله، غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الصواب.
وقد روى يزيد بن أبي زياد، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى، عن البراء: ((أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، ثم لم يعد إلى شيء من ذلك حتى فرغ من الصلاة)).
قال الدارقطني: وإنما لقن يزيد في آخر عمره: ((ثم لم يعد)) فتلقنه. وكان قد اختلط.
وفي (مختصر ما ليس في المختصر) عن مالك: لا يرفع اليدين في شيء من الصلاة.
قال ابن القاسم: ولم أر مالكا يرفع يديه عند الإحرام. قال: وأحب إلي ترك رفع اليدين عند الإحرام)) (1).
وكل هذا محله كتب الفقه، لا كتب التفسير، وهو من التوسع بسبب بروع القرطبي (ت: 671) في علم الفقه، ولأجل أنه قصد إبراز ما يتعلق بالآية من أحكام فقهية من أي وجه كان هذا التعلق، ولا يلزم من هذا أن يكون كل ما ذكره من مسائل الفقه هو من التفسير، والله أعلم.
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (20: 220- 222).
وبعد هذا التطبيق، أرجو أن أكون قد وفقت لتحديد مفهوم التفسير، وإن اختلفت معي في مثال من الأمثلة التي أخرجتها من صلب التفسير، فأرجو أن تكون موافقا لي في مفهوم التفسير. (1/43)
تنبيهان:
الأول: لا يعني حديثي هنا عن تحرير مصطلح التفسير أن المفسر يجب أن يقف على التفسير، دون الشروع فيما يتعلق بالآية من علوم أخرى، وإنما مرادي هنا تحرير المصطلح فقط، فليفهم هذا.
الثاني: أنه لا يعترض على المفسرين الذين أدخلوا ما ليس من التفسير في تفاسيرهم، لأنه كان من منهجهم في كتبهم هذه أن يذكروا هذه المعلومات، لكن يعترض عليهم إن جعلوا أن التفسير لا يتم إلا بها.
فائدة معرفة مفهوم التفسير :
الفائدة الأولى: معرفة أول ما يجب أن يعرفه من قرأ في التفسير، وهو بيان المعنى الجملي، لأنه إذا صح له المعنى صار أصلا صحيحا يعتمد عليه في الاستنباط وغيره.
الفائدة الثانية: معرفة علاقة المعلومات التي يذكرها المفسرون في كتبهم بمفهوم التفسير، وبهذا يستخلص الأصل الذي سبق ذكره في الفائدة الأولى.
الفائدة الثالثة: معرفة العلوم التي يجب على المفسر معرفتها، ومعرفة العلوم التي يحتاجها من أراد الزيادة على التفسير.
وقد كتب في موضوع العلوم التي يحتاجها المفسر بعض العلماء، لكنهم توسعوا في طلب هذه العلوم، وجعلوا فيها جملة العلوم الشرعية وعلوم الآلة وغيرها مما يزيد عن حاجة المفسر، وهي إنما يحتاجها من أراد الزيادة عن التفسير، والدخول في التدبر والاستنباط.
ومن أول من بين هذه العلوم الراغب الأصفهاني (ت: بعد: 400)، فقد ذكرها تحت عنوان: ((بيان الآلات التي يحتاج إليها المفسر))، وقد جعلها عشرة علوم، وهي علم اللغة، والاشتقاق والنحو، والقراءات، والسير، والحديث، وأصول الفقه، وعلم الأحكام، وعلم الكلام، وعلم الموهبة(1).
__________
(1) مقدمة جامع التفاسير، تحقيق: أحمد حسن فرحات (ص: 94- 96).
وزاد من جاء بعده بعض العلوم، كعلوم البلاغة الثلاثة: المعاني والبيان والبديع، وجعلها ثلاثة علوم مستقلة(1). (1/44)
وإذا كانت مهمة المفسر بيان معاني القرآن، فإنه عند تأمل هذه العلوم، وفحصها سيظهر ما يأتي:
أن بعضها لا يلزم المفسر معرفتها، كعلم البلاغة وعلم أصول الفقه.
وأن بعضها يكفيه منها مبادىء العلم دون الدخول في تفصيلته، كعلم النحو.
وأن بعضها يحتاج منه جزءا معينا، كمعرفة دلالة الألفاظ من علم اللغة.
ولا شك أن من حصل هذه العلوم كان أوسع بحثا وتقريرا في تفسيره، لكنه فيما يكون خارج حد البيان عن معاني القرآن، والله أعلم.
مفهوم التأويل
تدور كلمة ((أول)) في اللغة على معنى الرجوع(2).
وهذا يعني تأويل الكلام هو الرجوع به إلى مراد المتكلم، وهو على قسمين:
__________
(1) ينظر: التيسير في قواعد علم التفسير، للكافيجي، تحقيق: ناصر المطرودي (ص: 144- 147)، وقد ذكر المحقق ممن حصرها في الخمسة عشر علما شمس الدين الأصفهاني في مقدمات تفسيره، وقد ذكرها كذلك السيوطي في الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: أبو الفضل إبراهيم (4: 185- 188).
(2) جعل الراغب (ت: بعد 400) في مفردات ألفاظ القرآن (ص: 99) التأويل من الأول، أي: الرجوع إلى الأصل، وجعل ابن فارس (ت: 395) في مقاييس اللغة (1: 158) مادة ((أول)) ترجع إلى أصلين: ابتداء الأمر، وانتهاؤه)). ويظهر أنهما يشتركان في معنى الرجوع الذي نص عليه الراغب (ت: بعد 400)، ولو جعل أصلا واحدا لكان أولى. فالأول من الأشياء يرجع إليه ما بعده مما تأخر عنه. وآل الرجل: عشييرته التي يرجع إليها، وآل جسم الرجل: إذا نحف، كأنه يرجع إلى هذه الحالة، والإيالة: السياسة، لأنها مرجع الرعية، والموئل: للموضع الذي يرجع إليه، وكذا غيرها مما في هذه المادة فإنه يرجع إلى هذا الأصل.
الأول: بيان مراد المتكلم، وهذا هو التفسير. (1/45)
الثاني: الموجود الذي يؤول إليه الكلام، أي ظهور المتكلم به إلى الواقع المحسوس.
فإن كان خبرا، كان تأويله وقوع المخبر به، كمن يقول: جاء محمد، فتأويل هذا الكلام مجيء محمد بنفسه.
وإذا كان طلبا (أي: أمرا أو نهيا)، كان تأويله أن يفعل هذا الطلب.
وهذان المعنيان هما الواردان في القرآن والسنة وتفسير السلف واللغة.
ما الفرق بين معنيي التأويل؟
الفرق بين معنيي التأويل السابقين: أن تفسير الكلام ليس هو نفس ما يوجد في الخارج، بل هو بيانه وشرحه وكشف معناه. فالتفسير من جنس الكلام، يفسر الكلام بكلام يوضحه.
وأما التأويل الذي هو فعل المأمور به، وترك المنهي عنه، وكذا وقوع المخبر به، فليس هو من جنس الكلام(1).
ومثال ذلك:
قال الطبري (ت: 310) حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد عن قتادة ( جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب ) [ص: 11]، قال: ((وعده الله وهو بمكة يومئذ أنه سيهزم جندا من المشركين، فجاء تأويلها يوم بدر)) (2).
وقال حدثنا ابن عبدالأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن أيوب، قال: لا أعلمه إلا عن عكرمة: أن عمر قال: ((لما نزلت ( سيهزم الجمع ) [القمر: 45]، جعلت أقول: أي جمع يهزم. فلما كان يوم بدر، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، ويقول: سيهزم الجمع ويولون الدبر)) (3).
آثار في إطلاق التأويل على التفسير:
كثر في كلام العلماء إطلاق التأويل على التفسير من لدن عهد الصحابة، ومن الآثار الواردة في ذلك:
__________
(1) ينظر: تفسير سورة الإخلاص، لابن تيمية، تحقيق: عبدالعلي عبدالحميد حامد (ص: 167- 168).
(2) تفسير الطبري، ط: الحلبي (23: 130).
(3) تفسير الطبري، ط: الحلبي (7: 108).
قول الرسول صلى الله عليه وسلم في ابن عباس (ت: 68): ((اللهم فقه في الدين، وعلمه التأويل))، أي: تفسير القرآن الكريم. (1/46)
قال الطبري (ت: 310): ((وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((وعلمه التأويل))، فإنه عنى بالتأويل: ما يؤول إليه معنى ما أنزل الله تعالى ذكره على نبيه صلى الله عليه وسلم من التنزيل، وآي الفرقان، وهو مصدر من قول القائل: أولت هذا القول تأويلا، وأصله من آل الأمر إلى كذا، إذا حملها على وجه جعل مرجعها إليها تأويلا.
ومن قولهم: أول فلان له كذا على كذا، قول أعشى بني قيس بن ثعلبة، لعلقمة بن علاثة العامري:
وأول الحكم على وجهه ليس قضائي بالهوى الجائر
يعني بقوله: وأول الحكم على وجهه: وجهه إلى وجهه الذي هو وجه الصواب)) (1).
وفي تفسير قوله تعالى: ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) [البقرة: 195]، قال أبو عمران التجيبي(2): ((كنا بمدينة الروم(3)، فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم، فخرج إليهم من المسلمين مثلهم أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى الجماعة فضالة بن عبيد، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس، وقالوا: سبحان الله يلقي بيده إلى التهلكة.
__________
(1) تهذيب الآثار، للطبري، تحقيق: محمود شاكر، مسند ابن عباس، السفر الأول (ص: 183).
(2) أسلم بن يزيد، أبو عمران التجيبي المصري، مولى عمير بن تميم بن جد التجيبي المصري، تابعي ثقة. تهذيب الكمال، للمزي (1: 210).
(3) يعني: القسطنطينية.
فقام أبو أيوب، فقال: أيها الناس، إنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل، وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام، وكثر ناصروه، فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام، وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها. (1/47)
فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم يرد علينا ما قلنا ( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) [البقرة: 195]، فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها، وتركنا الغزو)) (1).
ومنه قول الشافعي (ت: 204) في أكثر من موطن من كتاب الأم: ((وذلك _والله أعلم_ بين في التنزيل، مستغنى به عن التأويل...)) (2).
وفي قوله: ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ) [البقرة: 130]، قال الأخفش (ت: 215): ((فزعم أهل التأويل أنه في معنى: سفه نفسه)) (3).
وقال ابن الأعرابي (ت: 231): ((التفسير والتأويل والمعنى واحد)) (4).
وأسند النحاس (ت: 338) إلى أحمد بن حنبل (ت: 242)، قال: ((بمصر كتاب التأويل عن معاوية بن صالح، لو جاء رجل إلى مصر، فكتبه، ثم انصرف به، ما كانت رحلته عندي ذهبت باطلا)) (5).
__________
(1) سنن الترمذي (5: 212، رقم الحديث: 2972).
(2) كتاب الأم (7: 319)، وينظر: (2: 28)، (4: 242).
(3) معاني القرآن، للأخفش، تحقيق: هدى قراعة (1: 157).
(4) تهذيب اللغة (12: 407).
(5) الناسخ والمنسوخ، للنحاس، تحقيق: الدكتور سليمان اللاحم (1: 462)، وهذا الكتاب هو رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
وعن شمر بن حمدويه (ت: 255) (1) أنه قال: ((وروي لنا عن ابن المظفر(2)-ولم أسمعه لغيره- ذكر أنه يقال: أدرك الشيء: إذا فني(3). وإن صح، فهو في التأويل(4): فني علمهم في معرفة الآخرة)) (5). (1/48)
وأشهر من أطلقه على التفسير، محمد بن جرير الطبري (ت: 310) في كتابه جامع البيان عن تأويل آي القرآن، وقد كان يطلق مصطلح ((أهل التأويل))، ويصدر تفسيره للآي بقوله: ((القول في تأويل قوله تعالى)).
وجاء التأويل في تسميات كثير من كتب التفسير مرادا به التفسير، كتفسير ابن جرير الطبري (ت: 310),
ونصوص العلماء في إطلاق التأويل مرادا به التفسير كثيرة جدا، لا تكاد تنحصر، وما ذكرته، فإنه على سبيل المثال، والله الموفق.
آثار في إطلاق التأويل على ما تؤول إليه حقيقة الشيء:
التأويل بمعنى: ما تؤول إليه حقيقة الكلام، هو الغالب على معنى لفظ التأويل في موارده في القرآن، وقد ورد في تأويل الرؤى ثمان مواضع من سورة يوسف(6).
__________
(1) شمر بن حمدويه، أبو عمرو الهروي اللغوي، لقي ابن الأعرابي وغيره، وروى الدواوين، كتب في اللغة كتابه الجيم، وهو كتاب أودعه فوائد جمة، ولكنه ضاع ولم يبق منه إلا اليسير، توفي سنة (255). ينظر: تهذيب اللغة (1: 12)، إنباه الرواة (2: 77- 78).
(2) هو الليث.
(3) في كتاب العين (5: 328): ((الإدراك فناء الشيء، أدرك هذا الشيء: فني)).
(4) يريد تفسير قوله تعالى: ( بل ادارك علمهم في الآخرة ) [النمل: 66]، وهي في قراءة ابن كثير وأبي عمرو: ( ادارك ). انظر: إعراب القراءات السبع (2: 161).
(5) تهذيب اللغة (10: 114).
(6) ينظر الآيات (6، 21، 36، 37، 44، 45، 100، 101) من سورة يوسف.
وورد في سورة الكهف موضعان في قصة الخضر وموسى عليهما السلام، وهما قوله تعالى: ( سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ) [الكهف: 78]، وقوله تعالى( ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) [الكهف: 82]، والمعنى: سأنبئك بحقيقة ما رأيت من الأمور العجيبة التي لم تصبر عليها. (1/49)
وورد قوله تعالى: ( هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق ) [الأعراف: 53]، وقوله تعالى: ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ) [يونس: 39]، وهو بمعنى الحقائق التي أخبر بها من الثواب والعقاب.
وورد التأويل في موضعين بمعنى العاقبة في قوله تعالى: ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) [النساء: 59]، وقوله تعالى: ( وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا ) [الإسراء: 35].
وأما موضع سورة آل عمران، فسيأتي الحديث عنه لاحقا.
هذا، ومما ورد في الآثار من معنى التأويل: ما تؤول إليه حقيقة الكلام، ما يأتي:
أورد البخاري (ت: 256) تحت تفسير قوله تعالى: ( فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ) [النصر: 3]، عن عائشة قالت: ((كان رسول الله يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)) (1).
تعني بقولها: يتأول القرآن: يعمل ويطبق ما أمر به من التسبيح والتحميد.
__________
(1) ينظر: فتح الباري، ط: الريان (8: 605).
وعن سعيد بن جبير، عن ابن عمر: أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ويتأول هذه الآية: ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) [البقرة: 115] (1). (1/50)
وفي موطأ مالك (ت: 197) عن كعب الأحبار: ((أن رجلا نزع نعليه، فقال: لم خلعت نعليك، لعلك تأولت هذه الآية: ( إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى ) [طه: 12]، قال: ثم قال كعب للرجل: أتدري ما كانت نعلا موسى، قال مالك: لا أدري ما أجابه الرجل، قال كعب: كانتا من جلد حمار ميت)) (2).
وروي عن الثوري: أنه بلغه أن أم ولد الربيع بن خثيم قالت: كان إذ جاءه السائل، يقول لي: يا فلانة، أعطي السائل سكرا، فإن الربيع يحب السكر.
قال سفيان: يتأول قوله عز وجل: ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) [آل عمران: 92](3).
عن قتادة، عن أبي مارن الأردي، قال: ((انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة، فإذا قوم من المسلمين جلوس، فقرأ أحدهم هذه الآية: ( عليكم أنفسكم ) [المائدة: 105]، فقال أكثرهم: لم يجيء تأويل هذه الآية اليوم)) (4).
وكذا فسر مكحول (ت: 113) هذه الآية، قال: ((إن تأويل هذه الآية لم يجيء بعد)) (5).
__________
(1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (2: 530).
(2) الموطأ، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي (2: 916).
(3) الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (4: 133).
(4) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (11: 140)، وانظر بعده آثار فيها لفظ التأويل بهذا المعنى.
(5) تفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد محمد الطيب (4: 1227).
وعن أبي العالية (ت: 93) في قوله: ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون ) [المائدة: 105]، قال: ((كانوا عند ابن مسعود جلوسا، فكان بين رجلين ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبدالله: ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟. (1/51)
فقال رجل آخر إلى جنبه: عليك بنفسك، فإن الله يقول: ( عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) [المائدة: 105].
قال: فسمعهما ابن مسعود، فقال: مه، لما يجيء تأويل هذه بعد. إن القرآن أنزل حيث أنزل، ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، ومنه آي وقع تأويلهن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومنه آي وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه آي يقع تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من الساعة، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار.
فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة، لم تلبسوا شيعا، ولم يذق بعضكم بأس بعض، فأمروا وانهوا. فإذا اختلفت القلوب والأهواء، وألبستم شيعا، وذاق بعضكم بأس بعض، فامرؤ ونفسه، فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية)) (1).
المصطلح المتأخر في مفهوم التأويل:
__________
(1) تفسير الطبري، تحقيق: شاكر (11: 143- 144)، وتفسير ابن أبي حاتم، تحقيق: أسعد محمد الطيب (4: 1227).
لقد كان المعنيان السابقان في مفهوم التأويل هما اللذان سار عليهما متقدمو الأمة من الفقهاء والمفسرين واللغويين(1)، ولم يرد عنهم غير هذين المعنيين، حتى ظهر اصطلاح ثالث حادث على اللغة ومصطلح القرآن، وقد صار المراد بالتأويل مشكلا بسبب بروز هذا المصطلح الحادث. (1/52)
والتأويل بالاصطلاح الحادث: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى مرجوح لقرينة تدل عليه.
وممن ورد عنه ذلك، ابن حزم (ت: 456)، قال: ((التأويل: نقل اللفظ عما اقتضاه ظاهره وعما وضع له في اللغة = إلى معنى آخر، فإن كان نقله قد صح ببرهان، وكان ناقله واجب الطاعة = فهو حق. وإن كان نقله بخلاف ذلك، أطرح ولم يلتفت إليه، وحكم لذلك النقل بأنه باطل)) (2).
وأبو الوليد الباجي (ت: 474)، قال: ((التأويل: صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله)) (3).
__________
(1) لقد دخل هذا الاصطلاح الحادث في بعض كتب اللغة المتأخرة، وستجده في مادة (أول) في كتاب لسان العرب نقلا عن ابن الأثير، وفي كتاب تاج العروس نقلا عن صاحب جمع الجوامع وابن الكمال وابن الجوزي، وهذا النقول ليست من تحرير مدلول اللفظ في اللغة، بل هي ذكر لما استقر عليه مصطلح الأصوليين لمعنى التأويل، لذا لا يغتر بذكرهم له في كتب اللغة، والله الموفق.
(2) الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم (1: 43).
(3) الحدود، للباجي (ص: 48).
وقال ابن الزاغوني (ت: 527) (1): ((نقل الكلام عن وضعه وأصله السابق إلى الفهم من ظاهره في تعاريف اللغة والشرع أو العادة = إلى ما يحتاج في فهمه والعلم بالمراد به إلى قرينة تدل عليه لعائق منع من استمراره على مقتضى لفظه، وهو مأخوذ من المآل، ومن ذلك ما وقع الخطاب فيه على سبيل المجاز، ولم يكن يراد به الأصل في الحقيقة، ومنه قوله تعالى: ( وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ) [البقرة: 93]، أراد: حب العجل، لأنه لو أراد حمل الكلام على حقيقته لكان العجل يكون في بطونهم لا في قلوبهم، لأن الأعيان إنما تنتقل إلى البطن لا إلى القلب...)) (2). (1/53)
وقال ابن الجوزي (ت: 597): ((التأويل: العدول عن ظاهر اللفظ إلى معنى لا يقتضيه، لدليل عليه)) (3).
مثال لأثر هذا المصطلح في حمل كلام الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم عليه:
إن من العجيب أن يجعل هذا المصطلح المتأخر أصلا يعتمد في تفسير القرآن وشرح السنة، ولقد حصل بسببه انحراف كبير في ذلك.
ومن أمثلة ذلك ما وقع من شرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه لابن عمه عبدالله بن العباس: ((اللهم فقه في الدين، وعلمه التأويل)).
قال ابن الجوزي (ت: 597): ((قوله: وعلمه التأويل: فيه قولان:
أحدهما: أنه التفسير.
والثاني: أن التأويل: نقل الظاهر عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ، فهو من آل الشيء إلى كذا أي صار إليه)) (4).
__________
(1) أبو الحسن علي بن عبدالله بن الزاغوني، نسبة إلى قرية زاغينا من قرى بغداد.
(2) نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر (ص: 217).
(3) نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر (ص: 216).
(4) غريب الحديث، لابن الجوزي (1: 37).
وقال ابن الأثير (ت: 606): ((وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)): هو من آل الشيء يؤول إلى كذا، أي: رجع وصار إليه. (1/54)
والمراد بالتأويل: نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك يتأول القرآن)): تعني أنه مأخوذ من قوله تعالى: (( فسبح بحمد ربك واستغفره ) [النصر: 3](1).
ومنه حديث الزهري، قال: ((قلت لعروة: ما بال عائشة تتم في السفر – يعني: الصلاة – قال: تأولت كما تأول عثمان، أراد بتأويل عثمان: ما روي عنه أنه أتم الصلاة بمكة في الحج، وذلك أنه نوى الإقامة بها)) (2).
فكيف يحمل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على مصطلح حدث بعده بمدة طويلة؟!.
إن مما تقع فيه الغفلة أن تحكم مصطلحات متأخرة في الظهور على ألفاظ الشرع، أو كلام السابقين، فيقع بذلك التحريف أو التخطئة للعلماء، وهذا مبحث مهم من مباحث العلم تحتاج إلى تجلية ليس هذا محلها، ولعل في هذا المثال غنية وبيانا عن هذه الفكرة، والله الموفق.
تنبيه:
من الملاحظ أن صاحب لسان العرب نقل كلام ابن الأثير، لأن كتاب ابن الأثير أحد مصادر ابن منظور، فلا يحتج بهذا أنه وارد في معاجم اللغة، وكذا الحال في تاج العروس، فقد نقله ونقل أقوال غيره، وهذا مما دخل في هذه المعاجم اللغوية، وليس له أصل في لغة العرب(3).
سبب ظهور هذا المصطلح الحادث:
__________
(1) أين نقل اللفظ عن وضعه الأصلي هنا؟! إن المسألة ظاهرة، وهي أنه يطبق ما أمر به من التسبيح والاستغفار.
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر (1: 80- 81).
(3) ينظر نقلهما في مادة (أول) من كتابيهما.
كان سبب ظهوره –فيما يبدو- نشوء القول بالمجاز الذي يقابله مصطلح الحقيقة عند من اعتمده. (1/55)
فحقيقة اللفظ: ما وضع له أصلا، فالحمار: اسم للدابة المعروفة، إذ لا ينصرف الذهن إلى غيره عند إطلاق هذا اللفظ.
ومجاز اللفظ: ما أريد به غير المعنى الموضوع له في أصل اللغة، كإطلاق الحمار على الرجل البليد.
والتأويل بالاصطلاح الحادث: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى مرجوح لقرينة تدل عليه.
ومن ثم، فإن كل استعمال للمجاز تأويل، لأنه يترك ما يدل عليه ظاهر اللفظ إلى ما يسميه مجازا.
قال ابن حزم (ت: 456): ((...فقد بان بما ذكرنا: أن نقل الأمر عن الوجوب، والفور إلى الندب والتراخي = هو باب واحد مع نقل اللفظ عما يقتضيه ظاهره إلى معنى آخر، وهذا الباب يسمى في الكلام وفي الشعر الاستعارة والمجاز، ومنه قوله تعالى: (( ذق إنك أنت العزيز الكريم ) [الدخان: 49]، ومثل هذا كثير)) (1).
والمجاز هو آلة المؤول التي يستخدمها لصرف اللفظ عن ظاهره إلى باطن لا يدل عليه اللفظ في سياقه.
وهنا تعلم أن مصطلح التأويل الحادث ومصطلح المجاز لا يكادان ينفكان.
هل هناك فرق بين التفسير والتأويل؟
كان من آثار هذا المصطلح الحادث أن طلب بعض العلماء فروقا بين التفسير والتأويل، وليس المقصود هنا استقصاء هذه الفروق التي ذكروها، ولكن سأذكر بعضها ليتبين مدى تأثير المصطلح الحادث على الفرق بين هذين المصطلحين.
قال الشريف الجرجاني (ت: 816) (2) في شرح مقدمة الكشاف: ((التفسير: علم يبحث فيه عن أحوال كلام الله المجيد من حيث دلالته على مراده، وينقسم:
__________
(1) الإحكام في أصول الأحكام (3: 386).
(2) هو علي بن محمد بن علي، المعروف بالشريف الجرجاني، صاحب كتاب التعريفات.
إلى تفسير، وهو ما لا يدرك إلا بالنقل، كأسباب النزول والقصص، فهو ما يتعلق بالرواية. (1/56)
وإلى تأويل، وهو ما يمكن إدراكه بالقواعد العربية، وهو ما يتعلق بالدراية.
فالقول في الأول بلا نقل خطأ، وكذا القول في الثاني بمجرد التشهي، وإن أصاب فيهما.
وأما استنباط المعاني على قوانين اللغة، فمما يعد فضلا وكمالا)) (1).
قال صديق حسن خان (ت: 1307): ((واختلف في التفسير والتأويل فقال أبو عبيد وطائفة: هما بمعنى وقد أنكر ذلك قوم(2).
وقال الراغب: التفسير أعم من التأويل، وأكثر استعماله في الألفاظ ومفرداتها، وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل، وأكثر ما يستعمل في الكتب الإلهية.
وقال غيره: التفسير: بيان لفظ لا يحتمل إلا وجها واحدا، والتأويل: توجيه لفظ متوجه إلى معانن مختلفة إلى واحد منهما بما ظهر من الأدلة.
وقال الماتريدي: التفسير: القطع على أن المراد من اللفظ هذا، والشهادة على الله سبحانه وتعالى أنه عنى باللفظ هذا، والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة.
وقال أبو طالب الثعلبي: التفسير: بيان وضع اللفظ إما حقيقة أو مجازا، والتأويل: تفسير باطن اللفظ، مأخوذ من الأول، وهو الرجوع لعاقبة الأمر، فالتأويل: إخبار عن حقيقة المراد، والتفسير إخبار عن دليل المراد، مثاله: قوله سبحانه وتعالى: ( إن ربك لبالمرصاد ) [الفجر: 14]، وتفسيره: أنه من الرصد، مفعال منه، وتأويله: التحذير من التهاون بأمر الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) الكشاف مع حاشية الجرجاني وابن المنير (1: 15).
(2) هذا الإنكار باطل، لأنه قد ثبت عن العلماء المتقدمين من مفسري السلف واللغويين، وهم الحجة في إثبات مثل هذا، فكيف ينكره هؤلاء القوم؟!.
ومن أين سيأخذون معاني الألفاظ إن لم يأخذوها من هولاء؟!.
وقال الأصبهاني: التفسير: كشف معاني القرآن، وبيان المراد أعم من أن يكون بحسب اللفظ أو بحسب المعنى، والتأويل أكثره باعتبار المعنى، والتفسير: إما أن يستعمل في غريب الألفاظ أو في وجيز يتبين بشرحه، وإما في كلام متضمن لقصة لا يمكن تصويره إلا بمعرفتها، وأما التأويل فإنه يستعمل مرة عاما، ومرة خاصا، نحو: الكفر المستعمل تارة في الجحود المطلق، وتارة في جحود الباري خاصة، وإما في لفظ مشترك بين معان مختلفة. (1/57)
وقيل: يتعلق التفسير بالرواية، والتأويل بالدراية.
وقال أبو نصر القشيري: التفسير: مقصور على السماع والاتباع. والاستنباط فيما يتعلق بالتأويل.
وقال قوم: ما وقع مبينا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يسمى تفسيرا، وليس لأحد أن يتعرض إليه باجتهاد، بل يحمل على المعنى الذي ورد، فلا يتعداه. والتأويل: ما استنبطه العلماء العالمون بمعنى الخطاب، الماهرون في آلات العلوم.
وقال قوم – منهم البغوي والكواشي -: هو صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وبعدها، تحتمله الآية، غير مخالف للكتاب والسنة، من طريق الاستنباط. انتهى.
ولعله هو الصواب. هذا خلاصة ما ذكره أبو الخير في مقدمة علم التفسير)) (1).
__________
(1) أبجد العلوم للفتوجي (2: 141- 142).
وقال الآلوسي (ت: 1270): ((وعندي أنه إن كان المراد الفرق بينهما بحسب العرف، فكل الأقوال فيه ما سمعتها وما لم تسمعها مخالفة للعرف اليوم، إذ قد تعارف من غير نكير(1) أن التأويل: إشارة قدسية، ومعارف سبحانية تنكشف من سجف العبارات للسالكين، وتنهل من سحب الغيب على قلوب العارفين، والتفسير غير ذلك(2). (1/58)
وإن كان المراد الفرق بينهما: يحسب ما يدل عليه اللفظ مطابقة، فلا أظنك في مرية من رد هذه الأقوال.
أو بوجه ما، فلا أراك ترضى إلا أن في كل كشف إرجاعا، وفي كل إرجاع كشفا فافهم)) (3).
وهذه النقول تدل على وجود إشكال عند هؤلاء العلماء في الفرق بين التفسير والتأويل، والذي يظهر عليها كلها أنه تخصيصات لا دليل عليها، وتفريقات لا يستقيم لها وجه، فكل واحد منهم يرى ما لا يراه الآخر، وتراهم لم يثبتوا على قول سوى وجود الفرق، ثم اختلفوا في بيانه.
وتحقيق الأمر في ذلك كما يأتي:
بعد أن تبين أن التفسير يتعلق ببيان المعنى، وأن التأويل له مفهومان صحيحان: أحدهما يوافق معنى التفسير، والآخر يراد به ما تؤول [أي: ترجع] إليه حقيقة الشيء، أي: كيف تكون، فإن ملاك القول في ذلك أن يقال:
إن لهذه الفروق احتمالين:
الاحتمال الأول: أن ترجع الفروق إلى أحد هذه المعاني الصحيحة المذكورة في مصطلح التأويل.
__________
(1) هذا من غرائب الآلوسي عفا الله عنه – فمن أين له أنه قد تعورف على هذا من غير نكير ؟!.
(2) كأنه يجعل التأويل الإشارات التي يفسر بها المتصوفة كلام الله سبحانه، وهذا غير سديد، وليس عليه دليل أنه هو التأويل لا من نقل ولا عقل.
(3) روح المعاني (1: 5).
فإن رجعت إلى أحد هذه المعاني المذكورة، فإنها تقبل، ولكن لا تكون هي حد الفرق، بل هي جزء من الفرق لا غير، وهذا يعني أنه قد يكون غيرها صحيحا، لأنها تذكر فرقا آخر صحيحا، وهو مندرج في المعاني المذكورة في المراد بالتفسير والتأويل. (1/59)
ولأضرب لك مثالا بأحد ما ذكر من الفروق، قال أبو منصور الماتريدي (ت: 330): ((التفسير: القطع على أن المراد من اللفظ هذا، والشهادة على الله سبحانه وتعالى أنه عنى باللفظ هذا، والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة)).
إذا فسرت قوله تعالى: ( واليوم الموعود ) [البروج: 2] بأنه يوم القيامة، لإجماع المفسرين على ذلك، وقطعت بهذا المعنى، أليس هذا تفسيرا، أليس هذا تأويلا بمعنى التفسير.
فإذا قلت: معنى قوله: ( واليوم الموعود ) [البروج: 2]، أي اليوم الذي وعد الله عباده بأن يبعثهم فيه، وهو يوم القيامة.
أو قلت: تفسير قوله تعالى...
أو قلت: تأويل قوله تعالى...
فالتعبير عن بيان كلام الله بهذه العبارات – كما ترى – مؤداه واحد – ويفهم منه معنى واحد.
وإذا جئت إلى قوله تعالى: ( فلا أقسم بالخنس ) [التكوير: 15]، ورأيت أن للمفسرين أقوالا:
الأول: أن المراد بالخنس: النجوم والكواكب.
والثاني: أن المراد بها بقر الوحش والظباء.
فهذه محتملات في التفسير، واخترت أن المراد بالخنس النجوم والكواكب، وعللت لذلك الاختيار بأمرين:
موافقة السياق، حيث ذكر في لحاقها آيات كونية، والنجوم والكواكب آيات كونية، فالنجوم والكواكب أنسب لهذا المعنى اللحاقي من أن تكون بقر الوحش والظباء.
وأنها أظهر وأشهر للخلق من بقر الوحش والظباء، فلا أحد يخفى عليه معرفة النجوم، وإن خفي عليه معنى الخنوس والجريان والكنوس فيها، أما بقر الوحش والظباء فإن بعض الناس قد لا يعرفها وكثير منهم لا يعرف أمر خنوسها وجريانها وكنوسها. (1/60)
فإذا اخترت هذا المحتمل فأنت مؤول عند الماتريدي (ت: 330).
لكن هل تسمية هذا الأسلوب – وهو ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة – تأويلا = صحيح؟.
ألست قد فسرت وبينت المعنى المراد، فأنت – إذا – باختيارك هذا المعنى دون غيره لو قلت: تأويل هذه الآية كذا، أو تفسير هذه الآية كذا، لكان الأمر واحدا ولا فرق.
وبهذا يظهر أنك سواء قطعت أو لم تقطع، فأنت مؤول، أي: مفسر، ولا معنى لتخصيص التأويل بأنه ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة على الله أنه عنى باللفظ هذا، والله أعلم.
الاحتمال الثاني: أن لا يرجع شيء من هذه الفروق إلى هذه المعاني الصحيحة، ومن ثم، فإنه قول غير مقبول، لأنه مخالف لمصطلح القرآن، ومصطلح السلف واللغة. ولأنه لا دليل عليه من نقل ولا عقل.
وبهذا يكون ما ورد في بيان مصطلح التفسير والتأويل الوارد عن السلف وأهل اللغة أصلا يقاس عليه ما يذكره المتأخرون من فروق.
مسألة: هل في مصطلح التأويل الحادث حظ من الصحة في تطبيقه على بعض الأمثلة؟
إنه إذا علم أن المتكلم أراد المعنى الذي يقال: إنه خلاف الظاهر، فإنه إما أن يكون من بيان كلام المتكلم، فيكون من باب التفسير، وإما أن يكون هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام، فإذا كان ذلك كذلك كان تأويلا صحيحا مندرجا تحت هذين النوعين، وإن سمي بهذا الإسم، لأن العبرة بصحة المعنى المذكور.
وإذا ظهر أن المفسر أخرج الكلام عن مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كان ذلك تحريفا، وإن سمي تأويلا، لأن النظر هنا إلى خطأ المعنى المذكور، فيكون من التفسير الباطل. (1/61)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728) : ((وأما التأويل، بمعنى: صرف اللفظ عن مفهومه إلى غير مفهومه، فهذا لم يكن هو المراد بلفظ التأويل في كلام السلف، اللهم إلا أنه إذا علم أن المتكلم أراد المعنى الذي يقال أنه خلاف الظاهر، جعلوه من التأويل الذي هو التفسير، لكونه تفسيرا للكلام وبيانا لمراد المتكلم به، أو جعلوه من النوع الآخر الذي هو الحقيقة الثابتة في نفس الأمر التي استأثر الله بعلمها، لكونه مندرجا في ذلك، لا لكونه مخالفا للظاهر.
وكان السلف ينكرون التأويلات التي تخرج الكلام عن مراد الله ورسوله التي هي نوع تحريف الكلم عن مواضعه، فكانوا ينكرون التأويل الباطل الذي هو التفسير الباطل، كما ننكر قول من فسر كلام المتكلم بخلاف مراده(1).
ولأضرب لك مثالا يتضح به هذا المقال:
في المراد بالشاهد في قوله تعالى: ( قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين) [الأحقاف: 10]، قولان عن السلف:
الأول: أن الشاهد عبدالله بن سلام، وهو الوارد عن سعد بن أبي وقاص (ت: 55) وعبدالله بن سلام (ت: 43)، وابن عباس (ت: 68)، ويوسف بن عبدالله بن سلام، ومجاهد (ت: 104)، والضحاك (ت: 105)، وقتادة (ت: 117)، وابن زيد (ت: 182).
__________
(1) الصفدية (1: 291).
الثاني: أن الشاهد موسى عليه السلام، وهذا قول مسروق بن الأجدع (نحو: 63) والشعبي (ت: 103)، واحتجا بأن السورة مكية، وشأن عبدالله بن سلام (ت: 43) كان بالمدينة، وإنما هي محاجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه. (1/62)
وإذا تأملت هذا الخلاف وجدت أن قول مسروق (ت: نحو: 63) والشعبي (ت: 103) أنسب للسياق، وهو الأولى لأنه يجعل الآية مكية في سورة مكية، ولا يخرج عن هذا إلا بدليل، وهذا يجعلك تميل إلى هذا القول. لكن يصرفك عنه أن قول الجمهور على خلافه، وفيهم ثلاثة من الصحابة، وهو أعلم بتأويل معاني القرآن، وفيم نزل، فتختار هذا القول لهذه العلة، وهذا ما فعله ابن جرير الطبري (ت: 310) عند هذا الاختلاف، فقال:
((والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الذي قاله مسروق في تأويل ذلك أشبه بظاهر التنزيل، لأن قوله: ( قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ) في سياق توبيخ الله – تعالى ذكره – مشركي قريش، واحتجاجا عليهم لنبيه، وهذه الآية نظيرة سائر الآيات قبلها، ولم يجر لأهل الكتاب ولا لليهود قبل ذلك ذكر، فتوجه هذه الآية إلى أنها فيهم نزلت، ولا دل على انصراف الكلام عن قصص الذين تقدم الخبر عنهم معنى.
غير أن الأخبار قد وردت عن جماعة من أصحاب رسول الله بأن ذلك عنى به عبدالله بن سلام، وعليه أكثر أهل التأويل، وهم كانوا أعلم بمعاني القرآن، والسبب الذي فيه نزل، وما أريد به.
فتأويل الكلام إذ كان ذلك كذلك: وشهد عبدالله بن سلام، وهو الشاهد من بني إسرائيل على مثله، يعني: على مثل القرآن وهو التوراة، وذلك شهادته أن محمدا مكتوب في التوراة أنه نبي تجده اليهود مكتوبا عندهم في التوراة كما هو مكتوب في القرآن أنه نبي)) (1).
__________
(1) تفسير الطبري، ط: الحلبي (26: 12).