صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة
(اضغط هنا للانتقال إلى صفحة الموسوعة الشاملة على الإنترنت)

الصفحة السابقة   //   الصفحة التالية
 

الكتاب : المدخل
مصدر الكتاب : موقع الإسلام
http://www.al-islam.com
[ الكتاب مشكول ومرقم آليا غير موافق للمطبوع ]

وانظر رحمك الله وإيانا إلى قوله عليه الصلاة والسلام لأصحابه لما أن خرج عليهم فقاموا إليه : لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا جمع عليه الصلاة والسلام فيه شيئين الأول النهي والثاني التعليل ، وهو كون القيام إذا وقع بنفسه يكون تعظيما ، ولولا ذلك لبين لهم كيفية القيام الجائز وأخبرهم بأن القيام إذا وقع ولم يكن بنية التعظيم كان جائزا ، وهذا وقت البيان وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بل لو كان يجوز على سبيل البر والإكرام ما احتاج عليه الصلاة والسلام إلى نهيهم عن ذلك لعلمه منهم بإكرامه وتبجيله وتوقيره ولعلمه منه أنهم ممتثلون أمر الله تعالى في ذلك .
ثم انظر أيضا إلى قوله عليه الصلاة والسلام : من سره أن يتمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار ، وقد تقرر عندنا من أصل الشرع والطبع والعادة والتجربة أن النفس في غالب الأمر غالبة مكارة خداعة متكبرة متجبرة منازعة للربوبية ، فالشيطان على ما جبل عليه من الشيطنة والتمرد والكفر والطغيان والمخالفة والعصيان لا ينازع الربوبية ، وهي تنازعها ، فإن شعرت من صاحبها أنه لا يكره منها ما تبديه من أحوالها السيئة رمته بالجميع وأظهرته لديه ، وإن شعرت منه أنه يردها عن أحوالها المستهجنة قل أن تظهر له شيئا من خباياها وبقيت تماري عليه في حظوظها وتزعم أنها طالبة للثواب والخير ، وهي طالبة لشهواتها وحظوظها خيفة منها إن أظهرت ما أكنته أن لا يمكنها

(1/280)


صاحبها من مرادها ، والغالب منها محبة الحظوة والشهرة والظهور على الأقران ، ومحبة الشرف والرفعة على الناس والكبر عليهم ، وذلك كله موجود في القيام إليها فأين النفس التي تقف لذلك ويحصل لها الانكسار والتذلل وتراه للبر والإكرام وتنويه على ما زعم هذا القائل ، والعجب من هذا السيد كيف نهى النبي صلى الله عليه وسلم هذا النهي الصريح المطلق العام ولم يقيده بقيد ولم يخصصه بحالة فقال : هذا يجوز بنية البر والإكرام ، وقد تقدم بيان هذا كله .
فإن قال القائل : إنما قال ذلك لورود الأحاديث المعارضة في فعل القيام .
فالجواب ما تقدم من الأجوبة عن القيام المذكور ما كان سببه وما جرى فيه من الكلام ولأي شيء كان وفيما وقع من الجواب مقنع مع الإنصاف ، وقد وقع لمالك رحمه الله تعالى في العتبية من كتاب النكاح أنه سئل عن الرجل تكون له المرأة الحريصة المبالغة في تأدية حقه فإذا رأته داخلا تلقته فأخذت عنه ثيابه ونزعت نعليه ولم تزل قائمة حتى يجلس فقال : أما تلقيها إياه ونزعها ثيابه ونعليه فلا أرى في ذلك بأسا ، وأما قيامها فلا أرى ذلك ، ولا أرى أن تفعله هذا من التجبر والسلطان فقلت والله ما ذلك من شأنه ، ولا يشتهي هذه الحالة ، ولكنها تريد إكرامه وتوقيره وتأدية حقه وأنه لينهاها عن ذلك ويمنعها منه فقال لي : كيف استقامتها في غير ذلك ؟ فقلت له : من أقوم الناس طريقة في كل أمرها ؟ فقال : تؤدي حقه في غير هذا ، وأما هذا فلا أرى أن

(1/281)


تفعله ، إن هذا من فعل الجبابرة ، وبعض هؤلاء الولاة يكون الناس جلوسا ينتظرونه فإذا طلع عليهم قاموا له حتى يجلس فلا خير في هذا ، ولا أحبه وليس هذا من أمر الإسلام ، فأرى أن تدع هذا وتؤدي حقه في غير ذلك وليس هذا من الذي أخبر الله تعالى عنه : هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر قال عمر بن الخطاب للدابة التي ركب ما نزلت عنها حتى تغيرت قال : قال مالك ولعمر فضله .
فانظر رحمك الله تعالى بعين الإنصاف إلى قول مالك رحمه الله مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال : لو كنت آمرا أحدا بالسجود لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها فانظر مع هذه الحرمة والحق الذي للزوج بنص صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم كره لها مالك القيام له لفهمه منع القيام مطلقا ، ولم يفرق بين القيام للبر والإكرام والاحترام والتعظيم من الأحاديث المتقدمة فهذا نص الإمام .
وانظر رحمك الله وإيانا إلى هذه المفسدة العظمى التي وقعت بسبب جواز هذا القيام كيف وقع بسببه ارتكاب ما نهينا عنه ، وهو هذا القيام الذي يفعله بعض الناس لليهودي والنصراني ، وقد تقدم أن في القيام إذلالا للقائم ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : الإسلام يعلو ، ولا يعلى عليه انتهى ، وقد علا هذا العدو الكافر على هذا المسلم في هذا الحال بسبب ما أجيز من القيام ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : المؤمن لا يذل نفسه أو كما قال فهو قد نهى أن يذل نفسه وإن كان مع مسلم فكيف يكون الأمر مع يهودي أو نصراني

(1/282)


أو منافق عدو من أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم فكيف يكون القيام إليه وكيف يكون الذل له ، فإنا لله وإنا إليه راجعون على عدم الحياء من الارتكاب لمثل هذه الأمور .
فإن قال قائل : إنما أجازوا ذلك إذا خافوا الفتنة منه .
فالجواب أن خيفة الفتنة إنما سببها استعمالنا نحن القيام حتى جعلناه بيننا شعيرة من شعائر الدين حتى لو تركه واحد منا لوجدنا عليه الوجد الشديد ، فلما أن ارتكبنا هذا الأمر بيننا واصطلحنا عليه من تلقاء أنفسنا طلبه اليهودي والنصراني منا ؛ لأن شهوات النفوس والحظوظ ؛ الناس الكل مشتركون في محبتها والقول بها إلا من عصم الله سيما من كان شاردا عن باب ربه معرضا عن مولاه ، فيكون ذلك في حقه أكثر من غيره ، وليس ثم شرود وإعراض أعظم وأدهى وأمر من المخالفة بالكفر وجحد الوحدانية ، فيكون محبة ذلك في حقهم أكثر وأكثر فلو وقفنا نحن عند حدود الشريعة المحمدية ولم نزد عليها شيئا ، ولا نستحسنه من تلقاء أنفسنا إلا ما استحسنه صاحب شريعتنا صلى الله عليه وسلم وأمضاه لنا ورآه مصلحة لنا لم يكن أحد من أهل الملل يخالطنا فيه ، ولا يطلبه منا ؛ لأنهم لا يقرون على اتباعه في أمر ما أبدا لكفرهم وطغيانهم .
ألا ترى أن السلام المشروع وما جعل الله عز وجل فيه من البركة والخير ظاهرا وباطنا حسا ومعنى كيف يتحاماه أهل الكفر والضلال عن آخرهم ، ولا يفعلونه مع أنفسهم ، ولا مع من يعاملونه من المسلمين ، فلو كان هذا

(1/283)


القيام مشروعا منه عليه الصلاة والسلام لتحاموه كما تحاموا السلام ؛ لأن كل ما شرع عليه الصلاة والسلام انتفت منه حظوظ النفس ، فليس لهم إليه سبيل ، وما يستعمل لحظوظ النفس هو الذي يشاركنا فيه أهل الملل ، فلو أنكرنا القيام ابتداء بعضنا لبعض ما طلبه أهل الملل منا ، وقد كان الأصل عدم القيام ألبتة ؛ لأن العرب كانت لا تعرفه ، ولا يعامل بعضهم بعضا به ، فلما أن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من فعل الأعاجم بان أمره واتضح وزال إشكاله ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قد نهى في غير هذا الحديث عن التشبه بالأعاجم ، وقد علله هاهنا بأنه فعل الأعاجم حتى نهى عنه ، وهذا واضح لا يخفى على ذي بصيرة .
وقد روى الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى الإشارة بالأكف انتهى .
وأعظم من هذا فتنة أن أكثرهم يجهلون الفتنة المخوفة ما هي ، ويظنون أنه لو تسبب الذمي في قطع رياستهم أو قطع منصب لهم أو قطع شيء من جامكيتهم أو عقد وجهه في وجوههم أو تكلم فيهم عند أستاذه بأمر ما كان ذلك عذرا لهم في جواز القيام لأهل الملل معاذ الله ، وإنما يجوز ذلك إذا وقع الخوف الشرعي وهو معلوم بين العلماء مشهور بينهم ليس على ما تسول لنا حظوظ أنفسنا ويزين لنا شيطاننا ويحملنا عليه قلة يقيننا ، وأعظم فتنة

(1/284)


وأدهاها وأمرها هذا الأمر المفظع الذي وقعنا فيه واصطلحنا عليه ، وهو أنا نرى ذلك كله جائزا أو مندوبا إليه معضلة عظيمة لا تستدرك ، ولا يمكن تلافيها لتعذر وقوع التوبة منها ؛ لأن التوبة لا تكون من الجائز ، ولا من المندوب ، وإنما تكون من المعاصي .
فالحاصل من أحوالنا فيه أعني في القيام أنا ارتكبنا به بدعة جرت إلى حرام متفق عليه ، وهو القيام لليهود والنصارى والمنافقين ، فإنا لله وإنا إليه راجعون على ارتكاب البدع ، والتسامح فيما لا ينبغي ، ومعذرة بعض علمائنا وتسامحهم وتغافلهم عن كل ذلك حتى ارتكب بسبب ذلك الكثير الكبير والله سبحانه وتعالى المسئول في التجاوز والعفو عما مضى ، والتدارك واللطف والإقامة مما بقي بمحمد وآله .
وقد وقع لغيره من المتأخرين أن هذا القيام يتعين اليوم لما يترتب على تركه من العداوة والبغضاء ، وقد أمرنا بترك ذلك فقال عليه الصلاة والسلام : لا تباغضوا ولا تدابروا الحديث .
فهذا الذي ذكره رحمه الله هو الذي يؤدي إلى ما احترز منه بيان ذلك أن الإنسان لا يخلو من أحد أحوال ثلاثة : إما أن يقوم لكل داخل عليه أو العكس ، وإما أن يقوم لبعض الناس دون بعض ، فإن كان الأول فهو مذهب لحرمة العلم والمروءة وقل أن يستقر له قرار في مجلس ويشتغل عن كل ضروراته لكل داخل صغيرا أو كبيرا .
وهذا شنيع ومع شناعته يمنع ما الإنسان قاعد إليه ويشتغل عنه مع ما في ذلك من مخالفة السنة والسلف الماضين .
وإن قام لبعض الناس دون

(1/285)


بعض فهو موضع الفتنة والتدابر والتقاطع فلم يبق إلا القسم الثالث ، وهو أن لا يقوم لأحد فيسلم الناس مما يقع بينهم وتنحسم مادة التدابر والتقاطع وتبقى حرمة العلم قائمة ، والمروءة موجودة ، وبركة الاتباع حاصلة ، ووجه آخر وهو أنه لو أجزنا ذلك لأجل ما يقع لبعض الناس من التغيير لكان ذلك يؤدي إلى نسخ الشريعة ؛ لأن العوام كلما أحدثوا حدثا في الدين إن لم نوافقهم عليه حفظا لخواطرهم المخالفة للشرع لأفضى ذلك إلى ما ذكر ، وهذا عكس ما كان عليه السلف رضي الله عنهم ؛ لأن عادتهم مضت أن العوام يحدثون والعلماء ينكرون ويزجرون فصار اليوم الحال بالعكس العوام يحدثون وبعض العلماء يتبعون وبعضهم لا ينكرون وهم يعلمون ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد أو كما قال .
وهذا عام في الواجب والمندوب والمباح .

(1/286)


( فصل ) وينبغي له أيضا أن لا يجلس على حائل مرتفع دون من معه ؛ لأن في ذلك صورة الترفع على غيره ، وليس ذلك من شيم العلماء إذ أن من شأن المدرس التواضع كما تقدم .
وقد سئل مالك رحمه الله عمن يجلس في المسجد على شيء مثل فروة ، أو بساط ، أو شيء يتكئ عليه فكره ذلك وعابه وقال : أتتخذ المساجد بيوتا ورخص ذلك للمريض ، فعلى هذا إن اضطر المدرس ، أو غيره إلى شيء يجعله تحته فليكن قدر الضرورة وليبين عذره لئلا يظن أن ذلك من شعائر الماضين من سلف الأمة ، وقد كان سيدي الشيخ الإمام أبو محمد المرجاني رحمه الله أصابه مرض فاتخذ الدرس في بيته في ناحية منه لأجل مرضه ، فلما أن كان من الغد خرج من تلك الناحية فقعد خارجا عنها فقيل له : هلا تقعد بموضعك بالأمس ؛ لأنه أكن لك لأجل مرضك فقال : إن ذلك الموضع فوق جلسائي وكان الموضع علوه عن أصحابه عرض أصبعين ، فقال له : يا سيدي هذا شيء يسير ، فقال : لو وجدت سبيلا أن أحفر حفرة تحت الأرض فأقعد تحت جلسائي لفعلت ذلك ، أو كما قال رضي الله عنه .
وما رأيت أحدا من علماء المغرب وفضلائهم يقعدون على حائل دون جلسائهم ، وقد كان سيدي أبو محمد رحمه الله يجلس إلى أخذ الدروس في المسجد على الحالة المذكورة ، ثم بعث له سيدي أبو محمد المرجاني رحمه الله سجادة من صوف فبقي يتعجب من أمره في إرسالها إذ أن السجادات لغير ضرورة شرعية بدعة ، ومثله بعيد أن يقع في مثل هذا ، ثم قال : ما أرسلها إلا

(1/287)


لحكمة فتركها في بيته لم يستعملها فما كان إلا قليل وأخذه مغص في فؤاده بسبب برودة البلاط التي تصعد من تحت الحصير فبقي يخرج بها إلى المسجد ويطويها حتى تكون على قدر جلوسه ليس إلا ويسجد على الحصير ، وكان يقول : هذه هي الحكمة التي لأجلها أرسلها هذا السيد ، فهذا دأب العلماء والصلحاء قديما وحديثا ، والعلماء أولى من يقتدى بهم ويقتفى آثارهم ويهتدى بهديهم

(1/288)


( فصل ) وينبغي له أيضا أن يتحفظ من هذه المراوح إن كان في المسجد إذ أنها بدعة ، وقد أنكر مالك رحمه الله الأشياء التي تعهد في البيوت أن تعمل في المساجد ؛ لأنها لم تكن من فعل السلف وإن كانت مباحة في غيره ، ويستحب استعمالها في المدارس لضرورة الحر والذباب ما لم يكن ثمنها من ريع الوقف ، أو يقطع بها حصر الوقف عند البحث والانزعاج عند إيراد المسائل ، ومن الطرطوشي قال مالك رحمه الله وأكره المراوح التي في مقدم المسجد التي يروح بها الناس قال : وما كان ذلك يفعل فيما مضى ، ولا أجيز للناس أن يأتوا بالمراوح يتروحون

(1/289)


( فصل ) وينبغي له أيضا أن يتحرز من هذه الحلقة التي تعمل له في كون الطلبة يبعدون عنه والسلف كانوا لا يبعدون بل تمس ثياب الطلبة ثياب المدرس لقربهم منه ، والخير كله في الاتباع فإن كان ذلك للرياسة فذمه أشد من الأول

(1/290)


فصل ) وينبغي له أيضا أن لا يكون في مجلسه مكان مميز لآحاد الناس بل كل من سبق لموضع فهو أولى به كما هو ذلك مشروع في انتظار الصلاة ، ولا يقام أحد من موضعه جبرا ويجلس فيه غيره للنهي من صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم عن ذلك حتى لو قام غير معرض عنه لضرورة وعاد كان به أحق أيضا اللهم إلا أن يكون الموضع معلوما عند الناس أنه لا يجلس فيه إلا فلان ، وهم محتاجون إليه في فتواه وعلمه ، فإن جلس في غيره لم يعلم مكانه أو يعلم بمشقة فهذا مستثنى مما نهي عنه ، فإن كان المسبوق صاحب علم وفضيلة فحيثما جلس كان صدرا ، وليست المواضع بالتي تصدر الناس ، ولا ترفعهم وإنما يرفع المرء ما هو حامله من علم وفضيلة ودين وتقوى ، وإنما وقع التخصيص لمن ذكر لاحتياجهم إليه في فتواه وعلمه ، وإن كان الدليل مقتضاه العموم فالضرورة خصصت الدليل العام ، وليس هذا بأول دليل خص وذلك كثير ، ولا بأس أن يوسع له في المجلس ما لم يؤد ذلك إلى الضرر لقوله عليه الصلاة والسلام : ولكن تفسحوا وتوسعوا

(1/291)


( فصل ) وينبغي له أيضا أن لا ينزعج على من آذاه ويجاهد نفسه لترتاض فيحسن له بالعفو والصفح عنه .
وكذلك لا يؤاخذ من تسلط عليه بالأذية وقلة الأدب ويواجهه بما يواجه به غيره من المحبين والمعتقدين من طيب القول وحسن العبارة وعدم الجفاء تقربا بذلك إلى ربه عز وجل ، ولا يقابل الشر بمثله ، فإن ذلك ليس من شيم العلماء ، وإنما شيمهم الحلم والإقالة والصفح والعفو ، ألا ترى إلى محمد بن سحنون رحمه الله وكان قاضي بلاد إفريقية فكان إذا قعد لأخذ الدروس أتاه إنسان لا يتخطى رقاب الناس حتى يصل إليه فيحدثه في أذنه ساعة ، ثم ينصرف ، فبقي كذلك مدة ، وكان إذا أقبل يقول القاضي لجماعته أفسحوا له فيأتي ويفعل العادة ، ثم انقطع بعد ذلك مدة فسأل عنه من حضره فقالوا لا نعرف خبره فقال اطلبوه فإذا وجدتموه فأتوني به فوجدوه فأتوا به إليه فأخذه وخلا به وقال له ما منعك من عادتك فقال له يا سيدي لي بنات قد كبرن واحتجن إلى التزويج وأنا فقير فقال لي بعض الناس إن أغضبت فلانا فنحن نزيل فقرك ونجهز بناتك ، أو كما قالوا فبقيت تلك المدة أجيء إليك فأقذفك وأشتمك وأفعل ما قد رأيت لعلك تغضب يوما ما ليحصل لي ما اتفقوا عليه فلما أيست من غضبك تركت ذلك إذ لا فائدة فيه فقال له لو أخبرتني كنت أقوم لك بضرورتك أعليك سفر فقال يا سيدي أي شيء أشرت به علي فعلته ، فأمر الكاتب أن يكتب له كتابا بالوصية عليه إلى نوابه بالبلاد وأنه يستحق ، وممن يعتني به

(1/292)


القاضي فسافر إلى البلاد ، ثم رجع ومعه من الأموال ما أزال فقره وجهز بناته .
فانظر رحمك الله وإيانا معاملته مع من شتمه وقذفه فيكون العالم يقتدي بهذا السيد ومن نحا نحوه في الأخلاق الحسنة والشيم الجميلة ، وقدوتهم في ذلك كله سنة نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم .
ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام تخلقوا بأخلاق الله انتهى .
فمن جملة أخلاقه سبحانه وتعالى العفو والصفح والمغفرة والثواب ، والعالم أولى بل أوجب من يبادر إلى ما أمر به وهو ممن يقتدى به ، وبالجملة فرتبته منيفة والصبر على الأذى أولها ، وفي الحقيقة الذي يؤذيك هو المحسن إليك .
وقد ورد عنه عليه أفضل الصلاة والسلام أنه قال : جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وإذا نظرت إلى الناس وجدتهم على قسمين : محسن ومسيء فالمحسن جبل قلبك على محبته ، وهذا المحسن إنما أحسن إليك بشيء يفنى ، وإذا نظرت إلى المسيء بعين التحقيق فهو محسن أكثر من الذي قبله ؛ لأنه أحسن إليك بالباقي إذ أنك تأخذ من حسناته إن كانت موجودة وإلا أخذ من سيئاتك ، وشأن أهل التوفيق اغتنام الباقي فينبغي لك أن تكافئه على إحسانه .
قال الله تعالى هل جزاء الإحسان إلا الإحسان .
وقد حكي عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله ما يبين هذا ويوضحه ، وهو أنه كان مارا بطريق فلقيه إنسان فصفعه ومر في طريقه فرآه جماعة على بعد منهم ، فلما أن مر بهم قالوا له : أتعرف من هذا الذي صفعته قال لا قالوا هو إبراهيم بن أدهم فرجع إليه

(1/293)


فطأطأ على قدمه فقبلها وقال والله يا سيدي ما عرفتك وسأله المحاللة فقال له والله ما ارتفعت يدك عني حتى سألت الله تعالى لك المغفرة فقال له وما حملك على ذلك فقال لأنك لما صفعتني علمت أن الله تعالى يثيبني على ذلك وما كنت بالذي توصل إلي خيرا فأوصل إليك شرا .
وانظر رحمك الله إلى قول بعضهم لو كنت مغتابا لأحد لاغتبت والدي ؛ لأنهما أحق بحسناتي فهم أبدا ينظرون إلى باطن الأمور وعواقبها ، وغيرهم إلى ضدها .
فانظر رحمك الله تعالى إلى هذا المقام الأسنى الذي يحصل لكاظم الغيظ إذ أن ذلك يدخله في قوله صلى الله عليه وسلم سلامة الصدر لا تبلغ بعمل فنفي عليه الصلاة والسلام أن تبلغ سلامة الصدر بالوقوف بعرفة وقيام ليلة القدر وغيرهما وهذا متحصل بما ذكر

(1/294)


( فصل ) وينبغي له أن يحذر من أن يتكئ على اليد اليسرى إذا جعلها من خلفه قليلا ويتكئ على شحمتي أصل كفه تلك لما ورد أن تلك الهيئة من فعل المغضوب عليهم ، ذكره أبو داود في سننه .

(1/295)


( فصل ) ويجب عليه أن لا يسمع من ينم عنده ، وكذلك من ينقل أخبار الناس وما جرى لهم مما لا يترتب عليه فائدة شرعية ؛ لأن للشيطان في هذا الباب مجالا كبيرا ؛ لأنه لا يأتي لأحد إلا من الباب الذي يعلم أنه يقبل منه فلا يمكنه أن يأتي للعالم ، أو العابد فيوسوس له بالزنا ، أو شرب الخمر ؛ لأنه قد أيس أن يقبل ذلك منه ولكنه يأتي بذكر شخص غائب فيذكر بخير فيقوم بعض من حضره ويستثني بقوله : إلا أن فيه كذا وأنه كذا ، فيترتب الإثم على جميع من حضر ، فلعل هذا هو المراد والله أعلم بما ، ورد أن الرجل من أهل النار ليتنفس فيحرق بنفسه جماعة كثيرة ، أو كما ورد وها هو ذا بين .
ألا ترى أن المستثني إذا استثنى ولم يرد عليه أحد من الحاضرين فقد باءوا جميعا بالإثم والعياذ بالله تعالى فيحتاج أن يتحرز من هذا جهده .

(1/296)


( فصل ) ويجب عليه أن يتحرز على نفسه وعلى من حضره من الغيبة ؛ لأنها مصيبة عظمى في الدين ولو لم يكن في التحذير عن ذلك إلا قوله تعالى ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ، وقد روى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله ما الغيبة قال ذكرك أخاك بما يكره فقال له رجل أرأيت إن كان في أخي ما أقول قال إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته وروي أيضا عن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت يا رسول الله حسبك من صفية قصرها قال لقد قلت كلمة لو مزج بها ماء البحر لمزجته قالت وحكيت له إنسانا فقال : ما أحب أني حكيت إنسانا ولي كذا وكذا ومن كتاب ابن رزين عن جابر وأبي هريرة رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا غيبة في فاسق ولا مجاهر وكل أمتي معافى إلا المجاهرون وروى الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه أنه قيل له : إن رجلا يرفع الحديث ، أو يمشي بالحديث إلى الأمير فقال له حذيفة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا يدخل الجنة قتات .
وروى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يبلغني أحد عن أحد من أصحابي شيئا فإني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر والأدلة من الكتاب والسنة على هذا وأشباهه كثيرة .
سمعت سيدي أبا محمد رحمه الله يحكي أنه اجتمع جماعة من المباركين بتونس فلما أن أرادوا الطعام أبطأ

(1/297)


واحد منهم فسألوا عنه فقال قائل منهم ما زالت عادته هكذا ، فقام سيدي حسن الزبيدي رحمه الله وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون اليوم لي سنة لم أسمع غيبة فسمعتموها لي اليوم ، والله لا أقعد في هذا المجلس وخرج من حينه ولم يتناول شيئا ، فقس على هذا وانظر بنظرك أي نسبة بيننا وبين هذه الأحوال السنية وما بالعهد من قدم اللهم إلا أن يكون مما رخص فيه العلماء ، وذلك في خمسة عشر موضعا : وهي غيبة الفاسق المعلن بفسقه ، وصاحب بدعة يدعو إليها ، وصاحب بدعة يخفيها ، فإذا ظفر بأحد ألقاها إليه ، والغيبة عند الحاكم لخصمه ، وإذا سأل الحاكم عن أحد فغيبته جائزة وعند العالم للفتوى ، وعند من يرجى تغيير ذلك على يديه ، وعند الخطبة ، وعند المرافقة في السفر ، وكذلك في التجارة للشركة ، وكذلك فيمن يشتري دارا فسأل عن جارها أو دكانا ، والتجريح عند الحاكم والمشاورة في أمر ما من أمور المخالطة ، أو المجاورة ، أو المصاهرة ، وتجريح المحدثين للرواة ، وذكر الرجل باسم قبيح يشتهر به كالأعمش والأعرج والأخفش فهذه المواضع المستثناة .
ومن ذلك أصحاب المكوس والظلمة وغيرهم من المنتصبين لظلم العباد وأذيتهم في العرض ، أو المال ، أو البدن ، ولا يعين بعض هؤلاء بالذكر إذا خشي الفتنة ، فإن أمن عين ، وإن لم يرجع المذكور ؛ لأن في ذلك منفعة للمسلمين فيحذرونه ويهجرونه ، ولا يتعاطون مثل فعله

(1/298)


( فصل ) وقد تقدم المنع من النعوت لما فيها من الكذب فمن باب أولى الكذب صراحا ، فيتحرز منه أن يقع في مجلسه ، فإن وقع فلينقم على فاعل ذلك ، أو يمنعه من حضور المجلس حتى يتوب إلى الله تعالى ويقلع على ما سبق من مراتب الإنكار وشروطه ، وإن لم يقدر على الإنكار إلا بقلبه قام وتركه ، ولا يكون منكرا بقلبه إن قعد ، ويأثم إلا أن يعجز عن الخروج لضرورة شرعية ، وليس هي الحياء وتعبيس وجه المنكر بل ما يعد إنكارا شرعيا .
وقد قال الشيخ الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتاب الأربعين له : كل من شاهد منكرا ولم ينكر وسكت عليه فهو شريك فيه ، فالسامع شريك المغتاب ويجري هذا في جميع المعاصي حتى في مجالسة من يلبس الديباج ويتختم بالذهب ويجلس على الحرير ، والجلوس في دار أو حمام على حيطانها صور ، أو فيها أوان من الذهب أو الفضة والجلوس في مسجد يسيء الناس الصلاة فيه فلا يتمون الركوع والسجود ، والجلوس في مجلس وعظ يجري فيه ذكر البدعة ، أو في مجلس مناظرة ، أو مجادلة يجري فيها الأذى ، أو الأبحاث بالسفه والشتم .
وبالجملة من خالط الناس كثرت معاصيه وإن كان تقيا في نفسه إلا أن يترك المداهنة فلا تأخذه في الله لومة لائم ويشتغل بالحسبة والمنع ، وإنما يسقط عنه الوجوب بأمرين : أحدهما : أن يعلم أنه لو أنكر لم يلتفت إليه ولم يترك المنكر ونظر إليه بعين الاستهزاء وهذا هو الغالب في منكرات يرتكبها الفقهاء ومن يزعم أنه من أهل الدين فها هنا يجوز

(1/299)


السكوت ولكن يستحب الزجر باللسان ، ويجب أن يفارق ذلك الموضع فليس يجوز مشاهدة المعصية بالاختيار ، فمن جلس في مجلس الشرب فهو فاسق وإن لم يشرب ومن جالس مغتابا ، أو لابس حرير ، أو آكل ربا ، أو حرام فهو فاسق وليقم من موضعه .
الثاني : أن يعلم أنه يقدر على المنع من المنكرات بأن يرى زجاجة فيها خمر فيكسرها ، أو يسلب آلة الملاهي من يد صاحبها ويضرب بها على الأرض ، وإن علم أنه يضرب ، أو يصاب بمكروه فها هنا يستحب الحسبة لقوله تعالى وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك .
ثم قال عمدة الحسبة شيئان : أحدهما : اللطف والرفق والبداءة بالوعظ على سبيل اللين لا على سبيل العنف والترفع والإدلال بدلالة الصلاح ، فإن ذلك يؤكد داعية المعصية ويحمل العاصي على المناكر وعلى الأذى ، ثم إذا آذاه ولم يكن حسن الخلق غضب لنفسه وترك الإنكار لله واشتغل بشفاء غليله منه فيصير عاصيا بل ينبغي أن يكون كارها للحسبة يود لو تركت المعصية بقول غيره ، وإذا أحب أن يكون هو المعترض كان ذلك لما في نفسه من دلالة الاحتساب وعزته قال صلى الله عليه وسلم : لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه حليم فيما يأمر به حليم فيما ينهى عنه فقيه فيما يأمر به فقيه فيما ينهى عنه ووعظ المأمون رحمه الله واعظ بعنف فقال يا رجل : ارفق فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني وأمره بالرفق فقال له فقولا له قولا لينا وروى أبو أمامة رضي

(1/300)


الله عنه أن غلاما شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أتأذن لي في الزنا فصاح الناس به فقال صلى الله عليه وسلم أقروه أقروه ادن مني فدنا منه فقال عليه الصلاة والسلام أتحبه لأمك فقال لا جعلني الله فداك فقال عليه الصلاة والسلام كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم ، ثم قال عليه الصلاة والسلام أتحبه لابنتك قال لا قال كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم حتى ذكر الأخت والعمة والخالة وهو يقول كذلك الناس لا يحبونه ، ثم وضع يده على صدره وقال اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه فلم يكن بعد ذلك شيء أبغض إليه من الزنا .
وقال بعضهم للفضيل إن سفيان بن عيينة قبل جوائز السلطان فقال ما أخذ منهم إلا دون حقه ، ثم خلا به وعاتبه بالرفق فقال يا أبا علي : إن لم نكن من الصالحين فإنا نحب الصالحين .
العمدة الثانية أن يكون المحتسب قد بدأ بنفسه فهذبها وترك ما ينهى عنه أولا .
قال الحسن البصري رحمه الله تعالى إذا كنت تأمر بالمعروف فلتكن مراعيا له قبل أخذ الناس به وإلا هلكت فهذا هو الأولى حتى ينفع كلامه وإلا استهزئ به ، وليس هذا شرطا بل يجوز الاحتساب للعاصي أيضا .
قال أنس قلنا يا رسول الله : لا نأمر بالمعروف حتى نعمل به كله قال بل مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله وانهوا عن المنكر وإن لم تجتنبوه كله ، وقال الحسن البصري يريد أن لا يظفر الشيطان منكم بهذه الخصلة وهو أن لا تأمروا بالمعروف حتى تفعلوا الأمر كله يعني أن هذا

(1/301)


يؤدي إلى حسم باب الحسبة فمن ذا الذي يعصم من المعاصي

(1/302)


( فصل ) وينبغي له أيضا أن يتحرز من المزاح المخرج عن حد الوقار وإن كان المزاح جائزا إذا كان على سبيل الصواب وإبقاء هيبة العلم ووقاره ألا ترى إلى واصف النبي صلى الله عليه وسلم في قوله وكان يمزح ، ولا يقول إلا حقا مثل قوله عليه أفضل الصلاة والسلام للذي سأله أن يحمله على جمل فقال له لا أحملك إلا على ولد ناقة ، أو كما قال عليه الصلاة والسلام فخرج إلى قومه فقال لهم سألت النبي صلى الله عليه وسلم أن يحملني على جمل فقال لا أحملك إلا على ولد ناقة فقالوا له وهل الجمل إلا ولد الناقة .
ومثل قوله عليه الصلاة والسلام للمرأة التي شكت زوجها فقال لها زوجها : هو الذي في عينيه بياض فأتت المرأة إلى زوجها فوجدته نائما فجعلت تفتح عينيه وتنظر البياض فاستفاق من نومه وسألها عن سبب ذلك فأخبرته بكلام النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها زوجها أما علمت أن كل إنسان في عينيه بياض ، إلى غير ذلك مما شرعه عليه الصلاة والسلام في هذا الباب تخفيفا لأمته ورحمة بهم صلى الله عليه وسلم ، فهذا هو توقير مجالس العلم لا بالقماش وحسن الملبس بل بحسن السمت واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقد صنف في ذكر الآداب سلف صالح منهم الإمامان الكبيران أبو طالب المكي وأبو حامد الغزالي وغيرهما من كبار الأئمة رضي الله عنهم وإنما ذكرت نبذا مما احتاج إليه الوقت في الأمر الظاهر ، ومن طلب زائدا على ذلك فليلتمسه في كتب الأئمة رضي الله عنهم

(1/303)


، ثم نرجع الآن إلى ما كنا بسبيله حين خروج العالم إلى المسجد وتحيته له ، فإذا فرغ منها وحضرت صلاة الفرض فإن كان العالم مشتغلا بإلقاء العلم إذ ذاك فليترك كل ما هو فيه هو وجلساؤه ويشتغلون به ، وهذا هو المراد بقول القائل ما هو فرض يترك لفرض فيقال هو طلب العلم يترك لأداء الصلاة ، وما تقدم من حكاية مالك مع ابن وهب رحمهما الله تعالى في قوله له ما الذي قمت إليه بأوجب عليك من الذي قمت عنه محمول على أنهما لم يكونا في المسجد إذ ذاك ، فإن كانت الصلاة لها ركوع قبلها فإن كانت الصبح صلى ركعتي الفجر وهي من السنن فإذا أراد أن يجعلهما فرضا فله ذلك ما تقدم وهو أن ينذرهما على نفسه عند التلبس بهما فتصير فرضا في سنة ، وكذلك في غيرهما ثم يصلي الفرض ، وقد تقدم ما يفعل فيه من استحضار الإيمان والاحتساب وغير ذلك مما ذكر قبل فإذا فرغ من صلاته ومن الآداب المندوب إليها بعدها فيتعين عليه النظر فيما يجب تقديمه ، أو يستحب وفيما يجب تأخيره ، أو يستحب ، ومن هذا الباب يقع كثير من الناس في تقديم ما يجب تأخيره ، أو تأخير ما يجب تقديمه فينظر في هذا الوقت المشهود وهو بعد صلاة الصبح وهو الذي يتكلم فيما يفعل فيه ما هو الأولى به فيه فيقدم فعله بالشروع فيه دون غيره .
وقد كان مالك رحمه الله إذا جاء أحد يسأله عن مسألة علم بعد صلاة الصبح وقبل طلوع الشمس يقول يأتي أحدهم في صفة شيطان ويسأل عن مسألة علم إنكارا منه رحمه الله الاشتغال بالعلم

(1/304)


في ذلك الوقت اقتداء منه بالسلف السابقين رضي الله عنهم وإيثارا منه اشتغال ذلك الوقت بالتوجه والعبادة وهذا ينبغي أن يكون محمولا على زمنه ؛ لأنهم كانوا راغبين في العلم ، فإذا طلعت الشمس انتشروا في طلب العلم والخير ، وأما اليوم إذا طلعت الشمس انتشروا في أسباب الدنيا والانهماك عليها غالبا فقل أن يتركوا ذلك ويأتوا المساجد لتعلم العلم ؛ لأن العالم الذي يعلم العلم فرض المسألة أنه في المسجد بعد الصبح ، وسيأتي إذا كان في المدرسة ، أو غيرها إن شاء الله ، فإذا كان الأمر كذلك من أحوالهم المذكورة آنفا فينبغي ، أو يجب إشغال هذا الوقت بالكلام في مسائل العلم ، وآكدها الفقه والكلام في أمر الطهارة والصلاة والحلال والحرام وما يجوز وما يكره وما يمنع لعلهم يسمعون ذلك ويتعلمون أحكام ربهم عليهم ولعل ذلك يدعوهم إلى الاشتغال بالعلم والإصغاء إلى فوائده ، فإنه أفضل الأعمال ، وعهدي من عادة كثير من علماء المغرب يأخذون الدروس بعد صلاة الصبح ويأتي العوام إليهم يتعلمون منهم في المساجد أمر دينهم ، وكان سيدي الشيخ الإمام أبو الحسن الزيات رحمه الله أحد شيوخ سيدي أبي محمد رحمه الله يأخذ الدرس في رسالة الشيخ أبي محمد بن أبي زيد رحمه الله ويلين عبارته ليوصل إلى العوام فهم العلم ، ولا يسمع سؤال طالب من الفقهاء ويقول لهم حتى يأتي درس كتاب التهذيب إن شاء الله تعالى ؛ لأني إذا اشتغلت بالبحث معكم فبأي شيء يقوم هؤلاء المساكين إلى أسبابهم

(1/305)


ودكاكينهم فهذه صفة العلماء المرجوع إليهم والمقتدى بهم رضي الله عنهم لا جرم أن العوام صاروا في دكاكينهم من أعرف الناس بعلم ما يحاولونه وما يحتاجون إليه ، وتجدهم يبحثون في دكاكينهم بعضهم مع بعض في المسائل حتى أن بعضهم ليوقف بعض الفقهاء في بعض المسائل ، فإذا طلعت الشمس فإن كان هو على وضوء فليركع ركعتي الإشراق وتجزئ عن الضحى إن نواها وإن أراد أن يجعلها فرضا فعل كما تقدم وهذا بشرط أن يكون فرغ من مجلس العلم عند الإشراق ، أو قبله وأما إن كان في أثنائه فلا يقطعه حتى يتمه فإذا فرغ منه وهو على طهارة فليركع كما سبق ، ثم ينصرف لسبيله ، فإذا خرج من المسجد فقد تقدمت الآداب في خروجه منه وينضاف إلى ذلك أن ينوي سرعة العود إلى المسجد لقوله عليه الصلاة والسلام : سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله وعد منهم ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه فإذا ذهب مارا إلى بيته فله في رجوعه إليه نيات عديدة تارة تكون على الوجوب وتارة تكون على الندب ، فأما الوجوب فهو أن ينوي الرجوع إلى أهله ليقوم بالحق الذي لهم عليه وأن يرشدهم في دينهم ويتفقد أحوالهم وما يتعاطونه في فرضهم وغيره من الأمور ؛ لأنهم من رعيته وهو مسئول عنهم لما ورد : كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته

(1/306)


( فصل ) وينبغي له أيضا أن يتحفظ على نفسه من مشي الناس معه ومن خلفه ومن وطء عقبه وتقديمهم نعله واتكائه على أحد إلا لضرورة شرعية فإن هذا كله مثاره من الكبر والخيلاء وقوة النفس غالبا ، وإن كان في نفسه متواضعا لكن ظاهر هذه الأفعال تنافي ذلك وتجر إلى المذموم إلا من رحم ربك وكفى به أنه مخالف للسلف رضي الله عنهم أجمعين .
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أضر ما على الإنسان وطء عقبه ، أو كما قال ووطء العقب هو المشي خلفه

(1/307)


( فصل ) وقد تقدم ما يجب عليه ، أو يندب له في الطريق حين خروجه فيفعل مثله في رجوعه

(1/308)


( فصل ) فإذا بدأ بدخول بيته قال : بسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله ويقدم اليمين ويؤخر الشمال كما ورد في خروجه منه بخلاف المسجد ، وقد ذكر فإذا دخل بيته فليسلم على أهله إن كانوا حضورا وإن كانوا في غير ذلك الموضع فليسلم على نفسه فيقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وينبغي له أن يقرأ عند دخوله قل هو الله أحد كاملة لما ورد في ذلك من الثواب الجزيل ، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو فيقول اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج بسم الله ولجنا وبسم الله خرجنا وعلى الله ربنا توكلنا لما جاء فيه أيضا

(1/309)


( فصل ) وينبغي له أن يركع في بيته قبل جلوسه لقوله عليه الصلاة والسلام : لا تتخذوا بيوتكم قبورا وإن شاء جعلها فرضا كما تقدم

(1/310)


فصل وينبغي له أن يتفقد أهله بمسائل العلم فيما يحتاجون إليه ؛ لأنه جاء من تعليم غيرهم طلبا لثواب إرشادهم فخاصته ومن تحت نظره آكد ؛ لأنهم رعيته ومن الخاصة به كما سبق " كلكم راع " الحديث ، فيعطيهم نصيبهم فيبادر لتعليمهم لآكد الأشياء في الدين أولا وأنفعها وأعظمها فيعلمهم الإيمان والإسلام ويجدد عليهم علم ذلك ، وإن كانوا قد علموه ويعلمهم الإحسان ويعلمهم الوضوء والاغتسال وصفتهما والتيمم والصلاة وما في ذلك كله من الفرائض والسنن والفضائل ، وكل ما يحتاجون إليه من أمر دينهم الأهم فالأهم سمعت سيدي أبا محمد رحمه الله يقول لما أن تأهلت قلت للزوجة لا تتحركي ، ولا تتكلمي بكلمة في غيبتي إلا وتعرضيها علي حين آتي لأني مسئول عن تصرفك كله ، كنت مسئولا عن نفسي ليس إلا وأنا الآن مسئول عن نفسي وعنك فأسأل عن عشر صلوات ، ثم كذلك في جميع المأمورات ، وكل ما أنا مطالب به من الفضائل وغيرها حتى بالغ معها بأن قال لها إن نقلت الكوز من موضع إلى موضع فأخبريني به قال وذلك خيفة من أن تتصرف في شيء تظن أنه لا يترتب عليه حكم شرعي ، وقد يكون ذلك فيه فبقيت تخبرني بكل تصرفها إلى أن طال عليها ذلك فبقيت تخبرني بما يظهر لها أن في ذكره فائدة وتسكت عن الباقي فوجدت نفسي قلقا خيفة أن يكون ما لم يظهر أن فيه فائدة قد يكون فيه ذلك فبقيت إذا دخلت البيت ينطق الله لي جدار البيت حين أدخل فيقول لي جميع تصرفها فأجلس فتعرض علي كل

(1/311)


ما تريده مما يظهر لها أن في ذكره فائدة كما تقدم فأقول لها هل بقي شيء فتقول على ما ظهر لها هو ذاك ، فأقول لها وفعلت كذا وكذا وأذكر لها بقية تصرفها فتقول : أوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الباب علي مغلقا ، ولا أجد معي في البيت أحدا ، وكل ذلك قد فعلته فمن أخبرك فما بقيت بعد ذلك تتحرك بحركة حتى تخبرني فانظر رحمك الله تعالى وإيانا كيفية نظرهم إلى تخليص ذممهم فهؤلاء هم الذين فهموا معنى قوله عليه الصلاة والسلام كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته وعملوا به نفعنا الله بهم وأعاد علينا وعلى المسلمين من بركاتهم بمنه لا رب غيره

(1/312)


( فصل ) ومن آكد الأشياء وأهمها تفقد القراءة إذ أن القراءة على ثلاثة أقسام واجبة وسنة وفضيلة فالواجبة قراءة أم القرآن على كل مصل بجميع حروفها وحركاتها وشداتها ؛ لأن من لم يحكم ذلك فصلاته باطلة إلا أن يكون مأموما والسنة سورة معها والفضيلة ما زاد على ذلك أعني في غير الفرائض ؛ لأن أفضلها طول القيام فيها .
ألا ترى إلى حديث ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتح بسورة البقرة ، ثم آل عمران ، ثم النساء ، ثم المائدة حتى سمعت هذا في ركعة واحدة والله أعلم حيث ركع .
وحديث عثمان بن عفان رضي الله عنه حيث كان يقرأ في ركعة الوتر الختمة كلها ، وكذلك يفعل في ولده وعبده وأمته اللهم إلا أن يكون في بعضهم عجمة بحيث لا يقدرون على النطق فلا حرج ، وقد ورد الحديث بالتصريح فيهم أنهم يقولون سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ويتعين عليه أن يعلم عبده وأمته الصلاة والقراءة وما يحتاجان إليه من أمور دين هما كما يجب ذلك عليه في زوجته وولده إذ لا فرق ؛ لأنهم من رعيته ، وقد كثر الجهل عند بعض الناس بهذا المعنى حتى أن بعضهم يرى أن العبد والجارية لا حظ لهما في تعليم ذلك حتى لقد بلغني أن بعضهم يذكر شيئا لو اعتقده لكان كفرا لا شك فيه ، وإن لم يعتقده فهو جهل وسخف وبدعة يجب عليه التوبة منه والإقلاع عنه وهو ما اصطلح عليه بعضهم

(1/313)


من قولهم : إن صلاة العبد وصومه وباقي عبادته كل ذلك لسيده ، أو لسيدته ، وكذلك الأمة وهذا لا قائل به من المسلمين أسأل الله العافية بمنه .
وكذلك يعلمهن ما يخصهن في أنفسهن من معرفة الحكم في الحيض ، فمن ذلك أن يعرفهن أن الحيض على ست مراتب : أوله أسود ، ثم حمرة ، ثم صفرة ، ثم غبرة ، ثم كدرة ، ثم قصة ، ثم ينقطع فتصير جافة ، فالخمسة الأول حيض والقصة والجفوف نقاء وكثيرا ما يتساهل اليوم في هذا الباب لقلة سؤالهن ومن يعلمهن ، فمنهن من ترى أن الوطء إنما يحرم في القسمين الأولين وأما الصفرة والغبرة والكدرة فلا بأس بالوطء فيها عندهم ، ومنهن من تعتقد أن الوطء إنما يمتنع في الثلاثة الأيام الأول وبعدها يجوز الوطء ومنهن من تعتقد أن مدة الحيض سبعة أيام فإن رأت الطهر قبل مضيها لم تعتد به وانتظرت تمامها دون غسل وصلاة وصوم ووطء ، وإن زاد عليها اغتسلت وصلت وصامت ووطئت مع وجود الحيض .
وقد روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد انتهى فيستحلون ما حرم الله عليهم بسبب العوائد الرديئة وتغفل الأزواج ، ثم يعلمهن أكثر مدة الحيض وأقلها وما بينهما ويعرفهن ما إذا رأت الطهر قبل غروب الشمس بقدر خمس ركعات إلى ركعة واحدة وهل يقدر لها قدر زمن الغسل بلا تراخ ، أو زمن الركعات ، وكذا إذا رأت الطهر

(1/314)


قبل طلوع الفجر بأربع ركعات إلى ركعة واحدة ، والصبح إلى أن يبقى لها مقدار ركعة واحدة قبل طلوع الشمس ويحقق لهن الطهر بماذا يكون ؛ لأن النساء يختلفن في هذا فواحدة يكون طهرها بالجفوف وأخرى يكون طهرها بالقصة البيضاء ، ويعلمهن أيضا موانع الحيض والنفاس وذلك خمس عشرة خصلة منها عشرة متفق عليها عند الجميع وهي : منع رفع حدثها من حيضتها .
ووجوب الصلاة صحة فعلها .
صحة فعل الصوم دون وجوبه .
مس المصحف .
دخول المسجد .
الاعتكاف والطواف بالبيت .
الطلاق في الحيض .
الوطء في الفرج .
ومنها خمسة مختلف فيها وهي : منع وطئها فيما تحت الإزار .
منع وطئها بعد النقاء وقبل الغسل المشهور المنع من ذلك .
الثالث منع رفع حدث غيرها .
منع استعمال فضل مائها .
قراءتها القرآن ظاهرا المشهور الجواز ، وليحذر من هذه البدعة المحرمة التي تفعل في زماننا هذا وهي أن تقعد المرأة بعد انقطاع دمها فتطلب الصابون في يوم وتغسل ثيابها في الثاني وتغتسل في الثالث وتصلي بعد ذلك ، فتقعد مدة بغير صلاة في ذمتها ، ثم ترتكب ما هو أعظم وهي أنها لا تصلي إلا ما أدركته بعد غسلها ، ولا تقضي ما فوتته بعد انقطاع حيضها .

(1/315)


وقد اختلف العلماء رضوان الله عليهم في تارك الصلاة متعمدا وهو قادر على أدائها حتى خرج الوقت هل عليه قضاء أم لا سبب الخلاف أنه هل هو مرتد ، أو مسلم فمن قال : إنه مرتد قال لا قضاء عليه ويعود إلى الإسلام ، والمشهور أنه مسلم مرتكب لكبيرة عظمى فيجب عليه أن يتوب ويقضي ما ترتب عليه في ذمته ، ولا تقبل شهادته إلا أن تظهر استقامته .

(1/316)


وكذلك ينبههن أيضا على ما إذا تمادى بها الدم وزاد على عادتها وانقطع ، وحكم ذلك مذكور في كتب الفقه ، وكذلك إن تمادى بها ولم ينقطع وهي المستحاضة ويتعين عليه أن ينبههن على ما يفعل بعضهن من أنهن إذا انقطع الحيض عن إحداهن خرجت إلى الحمام فتغتسل فيه ، وهي لا تدري أحكام الغسل وما يلزمها فيه بل تنظف جسدها وتقتصر عليه ، فلو صلت بهذا الغسل لم تصح صلاتها ، ولا يحل لزوجها وطؤها إذ أنها لم تغتسل بعد من حيضتها الغسل الشرعي ؛ لأن النية لم توجد فيه فيجب عليه أن يعلمها الحكم في ذلك وهو أن تغتسل بنية رفع الحدث من حيضتها ، أو جنابتها ، أو هما معا ، فإذا نوت النية المعتبرة فقد صح غسلها واستباحت الصلاة والوطء وكل ما كانت ممنوعة منه في حال حيضها سواء كان ذلك قبل إزالة الوسخ ، أو بعده ، بخلاف ما يفعله بعضهن من أن الغسل إنما هو بدخول الحمام والتنظف فيه من غير نية لجهلهن بالحكم في ذلك وينبههن على هذه البدعة التي يفعلها بعض النساء بل المحرمة وهي أنهن يعتقدن أن إحداهن لا تطهر حتى تدخل يدها في فرجها وتغسل داخله ، فإن لم تفعل ذلك فلا غسل لها فجرت هذه البدعة المحرمة إلى محرم أجمع الناس عليه وهو أنها إذا انقطع حيضها ولم تغتسل وكان ذلك قبل طلوع الفجر في رمضان فإنها يجب عليها صوم ذلك اليوم وهي لم تغتسل فتترك الغسل نهارا محافظة منها على صحة الصوم بسبب أنها تفطر بإدخال يدها في فرجها ، فلو أنها لم

(1/317)


تفعل هذا الفعل المحرم اغتسلت نهارا وحصل لها الصلاة والصوم معا على أنها لو اغتسلت نهارا لصح صومها في مذهب مالك رحمه الله مع فعلها هذا المحرم الشنيع ؛ لأنها لا تفطر بذلك عنده وينتقض به وضوءها دون غسلها ؛ لأن مالكا رحمه الله لما أن سئل عن المرأة تمس فرجها هل عليها وضوء أم لا فقال : إن ألطفت فعليها الوضوء قيل وما معنى ألطفت قال أن تفعل كما يفعل شرار النساء وهي أن تدخل أصبعها معها انتهى .
وسبب هذا عدم العلم وعدم الفهم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما رواه البخاري رحمه الله أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله كيف أغتسل من الحيض قال : خذي فرصة ممسكة وتوضئي ثلاثا ، ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم استحى وأعرض بوجهه ، أو قال توضئي بها .
قالت عائشة فأخذتها فجذبتها فأخبرتها بما يريد النبي صلى الله عليه وسلم انتهى .
وذلك أن دم الحيض أسود منتن له رائحة فقد يشمها الرجل فيكون سببا للفراق ، والوضوء مأخوذ من الوضاءة يقال : وجه وضيء أي حسن نظيف فالمراد بالوضوء المذكور في هذا الحديث إنما هو تنظيف المحل وتطييبه ، وصفة ما تفعل أن تأخذ شيئا من القطن ، أو غيره فتجعل عليه شيئا من المسك ولو قل ، أو غيره من الطيب إن تعذر المسك فترسله معها برفق وتلحم عليه بحفاض وتتركه حتى تظن أن ما في المحل قد تعلق به هكذا ثلاث مرات ، وليس هو غسل باطن الفرج بالماء كما يزعمن .
ومع ذلك

(1/318)


ففيه أذية لها وللزوج ؛ لأن الماء إذا وصل إلى باطن الفرج مع الأصابع أرخى المحل وبرده ووسعه لو لم يكن فيه إلا أنه مخالف للشرع فكيف مع وجود الضرر والإخلال بالفرض ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، والسنة في حقها أن تغسل المحل كما تغسله البكر سواء بسواء لا تزيد على ذلك ، ويجب عليه أن يعلم أهله وغيرهن ممن يتعين عليه تعليمهن بما أحدث بعض النساء في هذا الزمان ممن لها منظر وسمن فتخاف إن صامت أن يذهب بعض جمالها ، أو سمنها فتفطر خيفة من ذلك ، وهي لا تخلو من أحد أمرين إما أن تفعل ذلك استحلالا فتكفر بذلك ، وإن كان ذلك منها على اعتقاد التحريم فهي مرتكبة لمعصية كبرى يجب عليها ثلاثة أشياء : التوبة ، والقضاء والكفارة وتؤدب إن عثر عليها على ما هو معلوم فيحتاج العالم أن يتبتل لتعليم هذه الأحكام للكبير والصغير والذكر والأنثى قال الله تعالى إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات إلى قوله والذاكرين الله كثيرا والذاكرات وقال عليه الصلاة والسلام النساء شقائق الرجال فسوى بين الزوج والزوجة والولد والعبد والأمة في هذه الصفات الجميلة ، وما زال السلف رضوان الله عليهم على هذا المنهاج تجد أولادهم وعبيدهم وإماءهم في غالب أمرهم مشتركين في هذه الفضائل كلها .
ألا ترى إلى بنت سعيد بن المسيب رضي الله عنهما لما أن دخل بها زوجها وكان من أحد طلبة والدها فلما أن أصبح أخذ رداءه يريد أن يخرج فقالت له زوجته : إلى أين تريد

(1/319)


فقال : إلى مجلس سعيد أتعلم العلم فقالت : له اجلس أعلمك علم سعيد .
وكذلك ما روي عن الإمام مالك رحمه الله حين كان يقرأ عليه الموطأ فإن لحن القارئ في حرف ، أو زاد ، أو نقص تدق ابنته الباب فيقول أبوها للقارئ ارجع فالغلط معك فيرجع القارئ فيجد الغلط .
وكذلك ما حكي عن أشهب أنه كان في المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وأنه اشترى خضرة من جارية وكانوا لا يبيعون الخضرة إلا بالخبز فقال لها : إذا كان عشية حين يأتينا الخبز فائتينا نعطيك الثمن فقالت : ذلك لا يجوز فقال لها : ولم فقالت : لأنه بيع طعام بطعام غير يد بيد فسأل عن الجارية فقيل له إنها جارية بنت مالك بن أنس رحمه الله تعالى ، وعلى هذا الأسلوب كان حالهم وإنما عينت من عينت تنبيها على من عداهم ، وقد كان في زماننا هذا سيدي أبو محمد رحمه الله تعالى قرأت عليه زوجته الختمة فحفظتها .
وكذلك رسالة الشيخ أبي محمد بن أبي زيد رحمه الله ونصف الموطإ للإمام مالك رحمه الله تعالى .
وكذلك ابنتاها قريبان منها فإذا كان هذا في زماننا فما بالك بزمان السلف رضوان الله عليهم أجمعين .
والعالم أولى من يحمل أهله ومن يلوذ به على طلب المراتب العلية فيجتهد في ذلك جهده فإنهم آكد رعيته وأوجبهم عليه وأولاهم به فينبههم على ما تقدم ذكره .

(1/320)


فصل في آداب الأكل ويتحرز من هذه البدعة التي أحدثت وهي أن يكون للرجل طعام خاص به وزبدية خاصة به وكوز خاص به ألا ترى حديث عائشة رضي الله عنها قالت كنت أشرب من الإناء فيأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشرب منه فيضع فاه في موضع في انتهى .
وهذا تشريع منه عليه الصلاة والسلام لتغتنم أمته بركة بعضهم لبعض وتكون منفعتهم عامة بعضهم لبعض .
وانظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام سؤر المؤمن شفاء فيحرم المسكين هذه البركة بسبب هذه البدعة التي أحدثت وانظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام المؤمن يأكل بشهوة عياله انتهى فإذا كان له طعام خاص به فهو يأكل بشهوة نفسه فكيف بالعالم الذي هو إمامهم وقدوتهم وهذه دسيسة من دسائس إبليس دسها على المسلمين بواسطة النساء ؛ لأنهن يجدن السبيل إلى إطعام الرجل ما يخترن من السحر وغيره لنقصان عقلهن ودينهن إذ أنهن مصائد الشيطان وغيرتهن تحملهن على ذلك ، فلو كان يشاركهن في الأكل ما وجد إبليس لفتح هذا الباب من سبيل .
فانظر رحمنا الله وإياك إلى شين البدعة كيف تجر إلى محرمات ، وأقل ما في ذلك أن فاعله متصف بالكبر ، والعالم أولى الناس بالتواضع واتباع السنة والمبادرة إليها وينبغي له أيضا أن يتحرز من الأكل وحده لما ورد شر الناس من أكل وحده وضرب عبده ومنع رفده انتهى اللهم إلا أن يكون معذورا في ذلك بسبب حمية ، أو مرض ، أو صوم ، أو وصال ، أو غير ذلك من الأعذار الشرعية وهي

(1/321)


كثيرة متعددة قد خرج هذا عن هذا الباب إلى باب أرباب الأعذار ، ومع ذلك فلا يخلى من أتاه بطعام أن يذيقه منه شيئا ما وانظر إلى قوله عليه الصلاة والسلام : إذا أتى أحدكم خادمه بطعام فليناوله لقمة أو لقمتين ، أو أكلة ، أو أكلتين ؛ لأنه ولي علاجه انتهى .
وما ذاك إلا لقوة باعث الشهوة على الخادم ، ولا فرق على هذا التعليل بين الخادم وغيره ممن يباشر ذلك ، أو يراه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل والعينان تنظران حتى لو نظر إليه هر ، أو كلب فقد جعله العلماء داخلا في النهي وينبغي له أن يجلس معه من عمل له الطعام ، فإن لم يجلسه فليناوله كما تقدم ، ويكون ما يناوله من أوله لا من فضلته وينبغي له أن يتحرز من الأكل وأحد قائم على رأسه إذ ذاك فإنه من البدع والتشبه بالأعاجم قل إن سلم من وجود الكبر ، وكثير من يفعل اليوم هذا سيما إذا كان الذباب كثيرا فيقوم شخص على رءوس الآكلين فينش عليهم ويروح وهذا من البدع ، فإن اضطر إلى ذلك فليكن فاعله جالسا حتى يسلم من التشبه بالأعاجم ومن الخيلاء والكبر ، ولا فرق بين أن يكون القائم عبده ، أو أمته ، أو كائنا من كان

(1/322)


( فصل ) فإذا أراد أن يأكل فلا يخلو إما أن تكون يده نظيفة أم لا ، فإن كانت نظيفة فهو مخير في الغسل ، أو الترك ، والغسل أولى إلا أن التزامه أعني المداومة عليه بدعة فإن كان على يده شيء ، أو حك بدنه ، أو مس عرقه فلا بد من غسلها .
وقد ورد في الحديث الغسل قبل الطعام ينفي الفقر وبعده ينفي اللمم يعني الجنون وينوي بغسله اتباع السنة ، وهذا فيما كان له من الطعام دسم ، فإن يكن لا بأس بترك الغسل ، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمندلون بأقدامهم وفيه منفعة لها وهذا دليل واضح على ترفيعهم لنعم الله تعالى إذ أنه لو بقي في اليد شيء من أثر الطعام ما تمندلوا بالأقدام ، يؤيد ذلك أمره عليه الصلاة والسلام بلعق اليد بعد الأكل ، أو يلعقها أخاه ، وقد أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه قصعة بقي لعاقها قال فلعقتها فشبعت ، وقد قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله في سراج المريدين له ، وقد روى إسماعيل بن أبي أويس عن مالك أنه دخل على عبد الملك بن صالح يسلم عليه فجلس ساعة ، ثم دعا بالطعام ودعا بالوضوء لغسل يده فقال عبد الملك ابدءوا بأبي عبد الله يغسل فقال مالك إن أبا عبد الله لا يغسل يده فاغسل أنت يدك فقال له عبد الملك لم يا أبا عبد الله فقال له ليس هو من الأمر الأول الذي أدركت عليه أهل بلدنا وإنما هو من زي العجم ، وقد بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول إياكم وزي العجم

(1/323)


وأمورها ، وكان عمر بن الخطاب إذا أكل مسح يده بظهر قدميه فقال له عبد الملك أفترى لي تركه يا أبا عبد الله قال : إي والله فما عاد عبد الملك إلى ذلك انتهى .

(1/324)


فإذا حضر الطعام بين يديه فيحتاج فيه إلى آداب منها أن يشعر نفسه فينظر فيما حضره كم من عالم علوي وسفلي خدمه فيه لما قيل : إن الرغيف لا يحضر بين يدي آكله حتى يخدم فيه ثلثمائة وستون عالما على ما نقله ابن عطية رحمه الله في كتاب التفسير له فإذا أشعر نفسه بذلك فيعلم قدر نعم الله تعالى عليه في إحضار هذا الرغيف بين يديه فيقدر شكرها بأن يعلم ما لله تعالى عليه من النعم وعجزه عن شكرها .
ثم الأكل في نفسه على خمس مراتب : واجب ومندوب ومباح ومكروه ومحرم ، فالواجب ما يقيم به صلبه لأداء فرض ربه ؛ لأن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب ، والمندوب ما يعينه على تحصيل النوافل وعلى تعلم العلم وغير ذلك من الطاعات ، والمباح الشبع الشرعي والمكروه ما زاد على الشبع قليلا ولم يتضرر به ، والمحرم البطنة وهو الأكل الكثير المضر للبدن ورتبة العالم التخيير بين الأكل المباح والمندوب ، وقد سبق حدهما فإذا أراد أن يأكل فليقل عنده بسم الله اللهم بارك لنا فيه وينوي مع ذلك اتباع السنة وينبغي له أن يستحضر قبل التسمية أو معها كيفية السلوك إلى الله تعالى بأكله فينوي أن يستعين بأكله ذلك على طلب العلم لقوله عليه الصلاة والسلام : من سلك طريقا يطلب به علما سهل الله له طريقا إلى الجنة انتهى .
ويضيف إلى ذلك نية الافتقار والحاجة والإضرار والمسكنة مع نية الوجوب والندب المتقدمي الذكر في التقسيم ، ونوع من الاعتبار والتعلق بمولاه

(1/325)


والشكر والرجوع إليه في أكله وفي تخليصه من آفة أكله فإن له ملكا موكلا بالطعام وآخر بالشراب فإذا أخذ لقمة سوغها له الملك ومثله في الشراب ، فإذا قدر أنه يشرق تخلى عنه الملك بإذن ربه حتى ينفذ فيه ما قدر عليه فيحتاج أن يعرف قدر نعم الله تعالى عليه في تسويغ هذه اللقمة والشربة فكيف بجميع ما يحتاجه من ذلك ويفكر في حاله حين الأكل إذ أنه متوقع للموت في كل لقمة وفي كل شربة ، وكثير من جرى له ذلك .
ألا ترى إلى ما جرى في مجلس الحسن البصري رحمه الله تعالى حين قال : إن الله إذا أراد أن يقتل بالنعم قتل بالنعم ولو كان ما كان ، أو كما قال فقال له رجل أيقتل بالزبد فقال نعم فلما أن خرج الرجل من المجلس قال : ما أتغدى اليوم إلا بالزبد حتى أرى ما قاله الحسن أأحد يموت بالزبد فأخذ خبزا وزبدا وجاء إلى بيته فرفع لقمة فأكلها فشرق بها فمات نسأل الله تعالى السلامة بمنه .
وقد قال عليه الصلاة والسلام لما أن طلب أهل الكتاب للمباهلة فامتنعوا والذي نفسي بيده لو فعلوا لمات كل واحد منهم بريقه ، أو كما قال : فإذا كان الموت متوقعا معه في حال بلعه ريقه فما بالك باللقمة ، أو الشربة ، والموت متوقع معه في حال طلبه للحياة ، ألا ترى أن الأكل والشرب في غالب الحال لا يطلبهما الناس إلا للحياة ، وقد يموت بهما فنفس سبب الحياة يخاف منه الموت وهذا دليل على عظيم قدرة الله تعالى ، ثم إن الملك الذي يتناول اللقمة والآخر الذي يتناول الشربة

(1/326)


وظيفتهما التسويغ ليس إلا وله ملك آخر موكل بالغذاء فيقسم قوته على البدن فيرسل لكل عضو وجارحة وعرق ما يصلح له ويحتمله بعد تصفيته فيعطى اللطيف لطيفا والكثيف كثيفا قدرة قادر ، وملك آخر يأخذ ما لا قوت فيه وهو الفضلة فيرسله للمصران فلو بقي معه ذلك الثفل لمات به ، أو زاد خروجه على العادة لمات فهو عبد مفتقر مضطر محتاج إلى شيء يأكله وإلى من يسوغه له وإلى من يدفعه عنه .
فينبغي للعبد أن يترقب الموت عند كل نفس ؛ لأن أنفاسه عليه معدودة .
قال الله تعالى إنما نعد لهم عدا قال ابن عباس رضي الله عنهما نعد عليهم الأنفاس فتصير كما حكي عن بعضهم أنه جاء إلى شيخه ليزوره قال فدخلت عليه فوجدته يصلي فأوجز في صلاته وقال لي ما حاجتك فإني مشغول فقلت له وما شغلك ؟ قال أبادر خروج روحي وقال غيره جئت إلى شيخي لأسلم عليه فخرج فسلمت عليه فرأى في كسائي عقدة فقال ما هذه فقلت أخي فلان أعطاني لويزات عزم علي أن أفطر عليها فقال لي وأنت تظن أنك تعيش إلى المغرب والله لا كلمتك بعدها أبدا ، أو كما قال .
وكما حكي عن بعضهم أنه دخل عليه فوجدوه يتلفت يمينا وشمالا فقالوا له لمن أنت تتلفت قال لملك الموت أنظر من أي ناحية يأتي لقبض روحي

(1/327)


ولمصالح الإنسان ملائكة عديدة غير ما تقدم ذكره لحفظه وحراسته والاعتناء به ، ألا ترى أنه إذا نام فهو محروس من الخشاش والجان وغير ذلك وما ذاك إلا لحراسته بالملائكة الموكلين به ، وإن أراد الله تعالى به أمرا تخلوا عنه كما تقدم دليل ذلك قوله تعالى له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ومن مسند ابن قانع عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال وكل الله بالعبد ستين وثلاثمائة ملك يذبون عنه من ذلك بالبصر سبعة أملاك ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين انتهى .
فإذا نظر العبد إلى هذه الحكم تبين له قدر نعم المولى سبحانه وتعالى عليه إذ أن الملائكة تحفظه في حال الحياة وتحرسه بعد الممات كما ورد في الخبر أن الحفظة تصعد إلى الله عز وجل فتقول يا ربنا وكلتنا بعبدك فلان ، وقد مات وأنت أعلم ، أو كما قال فما نفعل فيقول الله عز وجل انزلا إلى قبره واعبداني واكتبا له ذلك في صحيفته إلى يوم القيامة فانظر إلى هذه المنة العظمى والكرم الشامل اللهم لا تحرمنا ذلك يا ذا الفضل العظيم وينبغي له أن يعتبر في حال أكله وكيفية أمره فيكون مشغولا بذلك التفكر ، وإذا كان ذلك كذلك فيجيء ما قاله بعضهم أن هؤلاء بقي أكلهم أكل المرضى ونومهم نوم الغرقى فيكون مشعرا نفسه بذلك متهيئا في تلك الحالة وغيرها .

(1/328)


وقد ذكر بعضهم أنه يسمي عند كل لقمة وهذا الذي قاله وإن كان حسنا فالاتباع أولى ؛ لأنه لم يكن من فعل من مضى ، ولا يسمي عند كل لقمة إذ أن ذلك بدعة فنحن متبعون لا مشرعون اللهم اجعلنا من المتبعين ، وكذلك لا يقول بسم الله الرحمن الرحيم لأنه لم يرد ذلك وإنما ورد بسم الله وإن كان ذلك حسنا .
وكذلك ينبغي أن لا يفعل ما قاله بعضهم أنه يقول في أول لقمة بسم الله وفي الثانية بسم الله الرحمن وفي الثالثة بسم الله الرحمن الرحيم ، ثم يسمي بعد ذلك في كل لقمة وهذا مثل ما سئل عنه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى حين قيل له كيف نقول في الركوع سبحان ربي العظيم ، أو سبحان ربي العظيم وبحمده فقال : أما أنا فلا أقول وبحمده تحفظا منه على الاتباع ولم يتعرض إلى ما زاد على ذلك إذ أنه ذكر حسن لكن الاتباع لا يفوقه غيره أبدا ، وينبغي له أن لا يأكل وهو قائم ، أو ماش بل حتى يجلس وينبغي له أن يحسن الجلوس إلى الطعام على الهيئة الشرعية وهو أن يقيم ركبته اليمنى ويضع اليسرى من غير أن يجلس عليها والهيئة الثانية الشرعية أن يقيمهما معا والهيئة الثالثة الشرعية أن يجلس كجلوسه للصلاة ، وأما جلوس المتربع والجالس على ركبتيه الكاب رأسه على الطعام فهاتان منهي عنهما وإنما كره أن يكب رأسه لئلا يقع شيء من فضلات فمه في الطعام سيما إذا كان سخنا فيعافه هو في نفسه ويعافه غيره سيما إن كانت العمامة كبيرة فيكون ذلك سببا لمنع غيره

(1/329)


من مد يده للمائدة ، أو حصرها وكفى بهاتين الهيئتين أنه مخالف للسنة فيهما .
وقد روى البخاري وأبو داود عن أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أنا فلا آكل متكئا ) قال الخطابي رحمه الله يحسب أكثر العامة أن المتكئ هو المائل المعتمد على أحد شقيه لا يعرفون غيره ، وكان بعضهم يتأول هذا الكلام على مذهب الطب ودفع الضرر عن البدن إذ كان معلوم أن الآكل ماثلا على أحد شقيه لا يكاد يسلم من ضغط يناله في مجاري طعامه ، ولا يسيغه ، ولا يسهل نزوله إلى معدته .
قال الخطابي وليس معنى الحديث ما ذهبوا إليه وإنما المتكئ ها هنا هو المعتمد على الوطاء الذي تحته وكل من استوى قاعدا على وطاء فهو متكئ والاتكاء مأخوذ من الوكاء ووزنه الافتعال ومنه المتكئ وهو الذي أوكأ مقعدته وشدها بالقعود على الوطاء الذي تحته ، والمعنى إني إذا أكلت لم أقعد متكئا على الأوطئة والوسائد فعل من يريد أن يستكثر من الأطعمة ويتوسع في الألوان ولكني آكل علقة وآخذ من الطعام بلغة فيكون قعودي متوفزا له .
وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقعد مقعيا ويقول : أنا عبد آكل كما يأكل العبد انتهى .
قال الشيخ الإمام النووي المقعي هو الذي يلصق أليته بالأرض وينصب ساقيه انتهى ، والسنة أن يأكل بيده ، ولا يدخل أصابعه في فمه ، ثم يردها إلى القصعة فإنه يصيبها شيء من لعابه فيعافه هو في نفسه ، أو يعافه غيره ممن يراه فإن فعل ذلك

(1/330)


جاهلا ، أو ناسيا فليغسل يده وحينئذ يعود إن لم يكن اكتفى من الطعام ؛ لأن لعق الأصابع إنما شرع بعد الطعام خوفا من الاستقذار وحفظا لنعم الله تعالى أن تمتهن وطردوا ذلك حتى في التمر قالوا : إنه إذا أكل التمر يأخذ نواة التمر على ظهر يده فيلقيها ، أو يلقيها بفيه خيفة من أنه إذا أخذ النواة من فيه بباطن أصابعه أن يتعلق لعابه بالتمرة التي يرفعها ثانيا ، وكذلك الزبيب ، وكذلك كل ما له نوى وينبغي له أن لا يأكل حتى يمسه الجوع ، ولا يأكل بالعادة دون أن يجده ، وعلامة ذلك أن يطيب له الخبز وحده .

(1/331)


وينبغي له أن لا يذم طعاما لما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذم طعاما قط إن أعجبه أكله وإلا تركه وينبغي أن لا يستعجل على الأكل إذا كان الطعام سخنا لما ورد في الحديث رفعت البركة من ثلاث الحار والغالي وما لم يذكر اسم الله عليه ولقوله عليه الصلاة والسلام : إن الله لم يطعمنا نارا وينبغي له أن لا يأكل بهذه الملاعق ، ولا بغيرها وذلك لثلاثة أوجه : أحدها : مخالفة السلف في ذلك .
والثاني : أنه يدخل ذلك في فمه ، ثم يرده إلى الطعام ، وقد تقدمت علة المنع .
والثالث : فيه نوع من الرفاهية اللهم إلا أن يكون له عذر فأرباب الأعذار لهم حكم خاص بهم معلوم وينبغي له أن لا يترك الحديث على الطعام فإن تركه على الطعام بدعة ، ولا يكثر منه فإن الإكثار منه بدعة أيضا ولأنه قد يشغل غيره عن الأكل وينبغي أن يستدعي صاحب المنزل الكلام ، فإن الأنس بالكلام جانب قوي من القرى .
وينبغي له أن لا يمزح على الأكل خيفة أن يشرق هو ، أو غيره ، أو يشتغل عن ذكر ما تقدم من استحضار ذكر الله وشكر النعم وذكر الموت وغير ذلك .
وينبغي له أنه مهما قدر على تكثير الأيدي على الطعام فعل لما ورد أن خير الطعام ما كثرت عليه الأيدي ولقوله عليه الصلاة والسلام أجمعوا طعامكم يبارك لكم فيه ولما روي من أكل مع مغفور غفر له وهذا فيه وجهان من الفوائد : أحدهما : بركة اتباع السنة .
والثاني : كثرة البركة لوجود الملائكة ؛ لأن البركة تحصل في الطعام إذا حضره

(1/332)


واحد من المباركين ، أو أكل منه فكيف إذا اجتمع جماعة ولكل واحد من الجماعة ملائكة معه فبقدر عدد الجماعة تتضاعف الملائكة ومهما كثر عليه من ليس له ذنوب كانت البركة فيه أكمل .
وينبغي له أن يكون أكله من الطعام ثلث بطنه وللماء الثلث وللنفس الثلث فهو من الآداب المطلوبة في الشرع الشريف وينبغي له أن يلعق الإناء إذا فرغ الطعام منه لما ذكر أن القصعة تستغفر للاعقها اللهم إلا أن يكون قد شبع الشبع الشرعي فإنه يترك ذلك إلى أن يجوع فيلعقها ، أو يأتي غيره محتاجا فيلعقها ، وقد تقدم حديث أبي هريرة في هذا المعنى وينبغي له أن لا يخلي نفسه من أن يلقم زوجته اللقمة واللقمتين ، وكذلك من حضره من عبيده وإمائه وأولاده وخدمه ومن حضره من غير هؤلاء أصهارا كانوا ، أو ضيوفا ، أو أصدقاء إن أمكن ذلك فأما الزوجة فلقوله عليه الصلاة والسلام حتى اللقمة يضعها في في امرأته فقد حصل له الثواب مع أن وضع اللقمة في في امرأته له فيها استمتاع فغيرها من باب أولى الذي هو مجرد عن ذلك إلا لله خالصا ، وينبغي له أن يحتسب في ذلك كله أعني إحضار الطعام والإطعام لقوله عليه الصلاة والسلام : إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو له صدقة ومعلوم بالضرورة أن الواجب فيه الثواب ابتداء لكن لما أن زاد هذا نية الاحتساب جعل له في مقابلة الاحتساب صدقة ، فإن استحضر مع ذلك الإيمان كان له في مقابلته مغفرة ما تقدم كما مر .

(1/333)


وينبغي له أن يصغر اللقمة ويكثر المضغة للسنة في ذلك .
وينبغي له في أول اللقمة أن يبدأ في مضغها بناحية اليمين ؛ لأن تلك هي السنة لقوله عليه الصلاة والسلام ألا فيمنوا ألا فيمنوا ألا فيمنوا وهذا عام في الحركات والسكنات إلا ما استثني على ما تقدم وبعد ذلك يأكل كيف شاء .
وقد حكي عن بعضهم أن شابا جاء لزيارته فقدم له شيئا للأكل فابتدأ الأكل بجهة اليسار فقال له من شيخك فقال له يا سيدي إن ناحية اليمين توجعني فقال له كل رضي الله عنك وعمن رباك ، ولأجل هذا المعنى يقال : إن الشخص إذا ورد يعرف في تصرفه من هو فإن كانت حركاته وسكناته على السنة عرف أنه متبع وإن كان على غير ذلك علم أنه من العوام ، ومن هذا الباب قول علي رضي الله عنه لما أن سئل في كم يعرف الشخص قال إن سكت فمن يومه وإن نطق فمن حينه وما ذاك إلا لما ذكر ، وينبغي له أن لا يأكل إلا مما يليه اللهم إلا أن يكون الأكل مع أهله ، أو هو الذي أنفق عليهم فله أن يجول بيده حيث شاء .
وكذلك في الفاكهة والتمر عموما مع الأهل وغيرهم سواء .

(1/334)


وينبغي له أن لا يأكل من وسط القصعة ، ولا أعلاها بل من جانبها على ما تقدم ، وإذا وقعت منه اللقمة أماط عنها الأذى وأكلها .
وينبغي له أن لا يقرن في التمر وما أشبهه لما فيه من مخالفة السنة .
وينبغي له أن لا يأخذ لقمة حتى يبتلع ما قبلها فإن أخذها من قبل ذلك من الشره والبدعة وينبغي له أن لا ينظر إلى الآكلين اللهم إلا أن يخاف على أحد منهم أن يؤثر غيره ويترك نفسه بغير شيء ، فلهذه المصلحة يتفقد من هذه صفته فيأمره بالأكل وينبغي له أن لا يصوت بالمضغ ، فإن ذلك بدعة ومكروه كما لا يصوت بمج الماء من المضمضة حين الوضوء فإنه بدعة ومكروه أيضا .

(1/335)


وينبغي له أن يعلمهم عدم الرياء في الأكل ؛ لأن من راءى في أكله لا يؤمن عليه أن يرائي في عمله ، وقد حكي عن بعضهم أن أصحابه أثنوا على شخص بين يديه مرارا وهو ساكت لا يرد جوابا فسألوه عن سبب سكوته فقال : رأيته يرائي في أكله ومن راءى في أكله لا يؤمن عليه أن يرائي في عمله .
وينبغي له إذا أخذ لقمة لا يرد بعضها إلى الصحفة خيفة من إصابة لعابه كما تقدم .
وينبغي له أن لا يأكل من ألوان الطعام ؛ لأن ذلك ليس من السنة وإن كان جائزا ولكنه قد تقدم أن للعالم في الأكل رتبتين قد ذكرناهما قبل فإذا كانت الألوان استدعى ذلك إلى الزيادة على رتبتيه ؛ لأن لكل لون شهوة باعثة غالبا فإن كان عمل الألوان لأجل شهوة عياله ، أو غيرهم فله أن يجيبهم إلى ذلك على غير هذه الصفة وهو أن يعمل لهم في كل يوم لونا واحدا من الطعام فيجمع بين الاتباع وبين شهوة من طلب ذلك منه .
وقد حكي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قدم إليه ألوان طعام ففرغ الجميع في صحفة واحدة ، ثم خلطها ، ثم بعد ذلك أكل تحفظا منه رضي الله عنه على الاتباع للسنة وينبغي له أن يقابل الأطعمة فيأكل ثقيلا بخفيف ورطبا بيابس وحارا ببارد .

(1/336)


وينبغي أن يقسم الصائم أكله بين الفطور والسحور فيسلم من الشبع ويقوى على الصوم وينبغي له أن لا يتابع الشهوات إلا أن يكون ضعيفا .
وينبغي له أن لا يسرف في الأكل ، وعلامته أن يرفع يده وهو يشتهيه .
وينبغي له أن لا ينهش البضعة ويردها في القصعة ؛ لأن كل ذلك مستقذر وينبغي له أن يأكل على حائل عن الأرض ، ولا يأكل على هذه الأخونة وما أشبهها ؛ لأنها من البدع وفيها نوع من الكبر .
وقد نقل الشيخ الجليل أبو طالب المكي رحمه الله في كتاب القوت له أن أول ما حدث من البدع أربع وهي المنخل والخوان والأشنان والشبع انتهى .
أما المنخل فإن كان الشيء المطحون باليد ، أو برحى الماء فلا شك أن المنخل بدعة إذ لا ضرورة تدعو إليه إلا من باب الترفه ، وإن كان الطحين بالدواب فلا شك أن المنخل يتعين إن أصابه شيء من روث الدواب ، وأما الخوان فلا ضرورة تدعو إليه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل على الأرض في بعض الأحيان وفي بعضها يأكل على سفرة .
وفيه تنبيه على أن الخوان من فعل الأعاجم ، وقد نهينا عن التشبه بهم وهو على أي صفة كان جنسه من نحاس ، أو خشب ، أو غيره ، وقد رأيت بعض المتبعين إذا جاءته زبدية لها قعر مرتفع يكسر قعرها وحينئذ يأكل منها ويقول أخاف أن يكون خوانا لعلوها عن الأرض فنقع في التشبه بمن تقدم ذكره ، وأما الأشنان فلا يخلو أن يكون في أرض مصر ، أو غيرها فإن كان في غيرها فلا شك أنه بدعة ؛ لأن لحومها ليست فيها ذفرة

(1/337)


بل لها رائحة عطرية كالحجاز والعراق وبلاد المغرب وغيرها ، وإن كان في ديار مصر فينبغي له أن ينظف يديه من ذفر لحومها ، ولكن لا يتعين الأشنان فيستغني بغيره ما استطاع تحفظا على السنة فإن اضطر إلى غسله به فعل ، وأما الشبع فقد تقدمت مراتب الأكل وهذا كله إذا كان العالم في بيته مع أهله

(1/338)


، فإذا أكل مع الضيف فله زيادة آداب منها أن يخدم الضيف بنفسه إن استطاع وينوي بذلك اتباع السنة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تولى أمر أصحاب النجاشي بنفسه الكريمة فقيل له ألا نكفيك فقال خدموا أصحابي فأريد أن أكافئهم فينبغي على هذا أن يتولى بنفسه صب الماء على يد الضيف حين غسل يديه ، ويقدم له ما حضر وليحذر التكلف ؛ لأنه سبب إلى التبرم بالضيف ، وذلك ليس من شيم الكرام بل هو قبيح من الفعل ، وينبغي إذا حضر من دعا أن يقدم لهم ما عنده معجلا ، ولا يبطئ ليتكثر ، وينبغي أن لا يتخير المدعو على الداعي إنما يأكل ما حضر وينبغي إن خير المدعو أن لا يتشطط اللهم إلا أن يعلم أنه ليس في ذلك تكلف ويدخل السرور على من خيره ، والتكلف هو أن يأخذ عليه شيئا بالدين ، وليس له جهة يعوض منها ، أو يكون الذي يأخذ منه الدين متكرها لما يبذل له ، أو يكون المتداين يصعب عليه أن يبذل وجهه في أخذ الدين ، فهذا وما أشبهه هو التكلف الممنوع ، وأما إن كان الذي يؤخذ منه الدين يسر بذلك والآخر يدخل عليه السرور مع كون الوفاء يتيسر عليه فهذا ليس من التكلف في شيء ، وما أعزه إذا كان لله خالصا بل هذا النوع مفقود في زماننا هذا .

(1/339)


وينبغي للمدعو أن لا يعطي من الطعام لأحد شيئا إلا بإذن صاحب المنزل .
وينبغي له أن يحذر مما يفعله بعض من لا خير فيه من أنهم يأخذون بعض ما تيسر لهم أخذه فيختلسونه ويجعلونه تحتهم حتى إذا رجعوا إلى بيوتهم أخرجوه ، وهذا من باب السرقة وأكل أموال الناس بالباطل .
وينبغي إذا حضر من دعي وأحضر الطعام فلا ينتظر من غاب وينبغي له أن يحضر ما أمكنه من الطعام من غير أن يجحف بأهله وإن كانت ألوانا ؛ لأن الضيف له حكم آخر غير حكم أهل البيت إذ أن أهل البيت يمكنهم أن يأكلوا الألوان في عدة أيام بخلاف الضيوف فقد لا يقيمون ، ولأنه قد تكون شهوة بعض الضيوف في لون ، وآخر شهوته في آخر ، فإذا كانت الألوان لهذا الغرض فهو صحيح وله في ذلك جزيل الثواب ؛ لأن في ذلك إدخال السرور على الجميع وفي إدخال السرور على المسلمين ما قد علم .
وقد كان بعض السلف إذا جاءه الأضياف يقدم لهم في وقت واحد ما يقوم بنفقته شهرا ، أو نحوه فيقال له في ذلك فيقول : قد ورد أن بقية الضيف لا حساب على المرء فيها فكان لا يأكل إلا فضلة الضيوف لأجل ذلك .
وينبغي أن يروح عليهم صاحب البيت ، أو من يقوم مقامه ، وكذلك ينش ، ولا يفعل ذلك قائما ؛ لأنه من زي الأعاجم ، وقد تقدم ما فيه من الكراهة .

(1/340)


وينبغي لمن دخل عليهم وهم يأكلون أن لا يسلم عليهم لما قاله علماؤنا رحمة الله عليهم أن أربعة لا يسلم عليهم ، فإن سلم عليهم أحد فلا يستحق جوابا .
الآكل والجالس لحاجة الإنسان والمؤذن والملبي وزاد بعض الناس قارئ القرآن .

(1/341)


وينبغي لصاحب البيت ، أو من يقيمه مقامه أن يبدأ بالأكل إيناسا للضيوف فيؤاكلهم ، ولا يمعن في الأكل حتى إذا شبع الأضياف ، أو قاربوا حينئذ يأكل بانشراح ويعزم عليهم بالأكل خوفا من أن يكون بقي بعضهم بدون شبع ، وقد كان بمدينة فاس رجل من التجار فكان يعمل الطعام الشهي في بيته ويجمع الفقراء فيصب الماء على أيديهم حتى غسلها ، ويقدم لهم الطعام ، فإذا شبعوا قعد يأكل ويسألهم أن يأكلوا معه ويقول لهم اشتهت نفسي هذا الطعام فجعلت كفارة شهوتها أن تأكلوه قبلي فإذا فرغ من غسل أيديهم وقف لهم على الباب ودفع لكل واحد شيئا من الفضة .
وينبغي له أن يقدم الخبز قبل الأدم ، ثم يأتي بالأدم بعده .
وينبغي له أن تكون نفسه غير متطلعة لشيء يبقى بعد الأضياف ؛ لأنه ليس من شيم الناس .
وينبغي له أن لا يصف طعاما للحاضرين ، وليس عنده ؛ لأنه قد يدخل التشويش بذلك على بعضهم .
وينبغي للمدعو إن كان عنده الخبر بالدعوة أن يصبح مفطرا فهو أفضل وذلك فقه حال ، فإذا حضر المدعو ولم يتقدم عنده الخبر وكان صائما فليدع .
وينبغي للمدعو أن لا يستحقر ما دعي إليه وإن قل لما ورد في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال لو دعيت إلى كراع لأجبت ولو أهدي إلي ذراع لقبلت وينبغي له أن يتفقد الضيف في أثناء أكله ويجعل خيار الطعام بين يديه ، ولا يحوجه أن يمد يده إليه ؛ لأنه قد يستحي من ذلك اللهم إلا أن يكون الضيف فيه من الإدلال ما يحمله على ذلك

(1/342)


فلا بأس بتركه ، وقد روي أن الحسن البصري وفرقدا رحمهما الله تعالى حضرا على طعام فكان فرقد يلتقط اللباب من الأرض ويأكله ، ولا يأكل من الصحفة شيئا ، وكان الحسن ينظر إلى أطيب الطعام فيأكله ، فلما أن خرجا جاء إنسان من الحاضرين إلى فرقد فسأله عن سبب ما رأى منه فقال : له أغتنم بركة سؤر الإخوان ولأكرم نعمة الله تعالى ؛ لأني إن لم ألتقط ذلك قد يقع على الأرض فتدوسه الأقدام ، ثم راح إلى الحسن فسأله كما سأل فرقدا فقال له الحسن : رضي الله عنه إني ما أجبته حين دعاني إلا لأدخل السرور عليه وكيفما بالغت في الأكل وتناولت أطايب الطعام الذي انتخبه ففيه إدخال السرور عليه أكثر فينبغي له أن يتفقد من كان حاله كحال فرقد في أكله فيؤكد عليه ومن كان حاله كحال الحسن في ذلك فيسر به ويشكره على ذلك .

(1/343)


الصفحة السابقة   //   الصفحة التالية